العطالة البشرية

 

أنس ناصيف

 

يقول العلم بمبدأ العطالة الذي يسري على كافة مكونات عالمنا، إذ تميل جميع العناصر إلى حالة من الاستكانة والركون والتعطل، إلا أنَّ فهمنا لهذا التعطُّل قد اختلف بتطور العلم، فمع فيزياء نيوتن كانت العطالة ميل المادة إلى السكون واللاحركة، ومع الفيزياء الكمومية أصبحت الميل إلى العشواء. فبهذا المعنى يتخذ مبدأ العطالة بعدًا جديدًا يعطي لكلمة "عطالة" معنى يخالف الفهم الأولي لها، ولهذا الفهم أثره المعرفي العميق عندما نقوم بسحب هذا المبدأ على الحياة المعرفية البشرية ومحاولة فهم ما سنطلق عليه اسم "العطالة البشرية". ومع تطور العلم تغير فهمنا لطبيعة هذا المبدأ. وتبدو العطالة البشرية واضحةً إذا أمعنا النظر في تاريخ المعرفة الإنسانية، إذ تركن المجتمعات الإنسانية إلى معرفة معينة تتعطل عندها وتبني صروح أحكامها ومقولاتها الراسخة على هذه المعرفة المؤقتة بطبيعتها، وقد تقصر المدة الزمنية لهيمنة هذه المعرفة أو تطول، وفي كلتا الحالتين يشهد التاريخ مفصلاً يكون نهاية استكانة وبداية أخرى، ولعل هذه الظاهرة أكثر ما تتجلى في مجال المعرفة العلمية والتي ستكون مثالنا لرصد العطالة البشرية.

طالما ترافق ظهور معرفة بشرية جديدة بإنجازٍ ما على المستوى العلمي، فكما أسلفنا يركن البشر إلى حالة من الاستكانة المعرفية تنتهي في وقتٍ معين، ومن الممكن إيجازًا أن نعتبر ظهور عالمٍ ما باكتشاف علمي جديد النقطة الفاصلة بين الاستكانتين، إذ ينقض المعرفة القديمة أو يعدلها ليقدِّم معرفة جديدة، وبذلك يقوم بما تسميه الإبستمولوجيا بـ"القطيعة الإبستمولوجية". ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى تاريخ الإنسان كتاريخ من العطالات البشرية اللاحقة لأي معرفة جديدة، ويبقى الثابت الوحيد في هذه العملية هو بحث الإنسان عن "الحقيقة" والاستكانة لما يرتضي أن يطلق عليه الحقيقة. وظاهرة الحقيقة في تاريخ الإنسان تبدو كمشكلة يمكن إرجاعها إلى أسلوب التفكير الشائع الذي يعتقد بوجود حقيقة موضوعية منفصلة عن الإنسان، أي حقيقة المنظومة وعناصرها، حقيقة الكل وأجزائه. هذا الكل الذي ما انفكَّت البشرية تسعى جاهدةً إلى الوصول إلى حقيقة عنه تكون قادرة على تفسير ظواهره كافة. وفي سياق هذه المحاولات اشتدَّت مساعي العلماء في العقود الأخيرة للوصول إلى ما يدعونه "نظرية كل شيء". وهذه المساعي تؤكد أنَّ أسلوب تفكير الإنسان إلى حد هذه اللحظة ينظر إلى الحقيقة الموضوعية بوصفها إمكانًا قابلاً للتحقيق، وهذه الجهود إلى حد هذه اللحظة تبوء بالفشل، والسؤال هنا: هل يمكن أن تنجح في المستقبل؟

بدايةً علينا أن نفهم بأن البحث عن نظرية كل شيء، وعدى عن أنه بحثٌ عن عطالةٍ جديدة، هو ميلٌ إلى الاختزال والواحدية. وهنا لبعض الإبستمولوجيين رأيٌ بأنَّ الميل إلى الاختزال نتيجة طبيعية لعجز العقل عن التعامل مع الكثرة فيحيل الكثرة إلى الواحد. وفي الآتي محاولة للفهم بشكل مختلف:

بإمكاننا إسناد إشكال الوعي البشري مع الكثرة إلى أنَّنا ننظر إليها بعين الاختزال، ننظر إليها على أنَّها مجموعة من الوحدات المنفصلة المرتبطة بمجموعة علاقات لا تشكل جوهر الكثرة، هذا على الرغم من أنَّ الفيزياء الحديثة تتعامل مع الكون كجملة من العلاقات وليس كجملة من الأحداث التي ننظر إلى كلٍّ منها باستقلال عن علاقته بالبقية، فمازالت الكثرة في ذهن الإنسان مجموعة من الاختزالات، مجموعة من الوحدات المختزلة، وحداتٌ عقلُنا من قام باختزالها. وبهذا المعنى لا تكون الكثرة بوصفها منظومة علاقات هي التي تحيلنا إلى الواحد وإنما المفهوم الذي اختزلنا الكثرة فيه بوصفها وحدات وأحداث هو من يقودنا إلى الواحدية. فعندما ننطلق من الاختزال نصل إلى الاختزال وعندما ننطلق من الواحد نصل إلى الواحد. ولا يقوم ذهننا بذلك إلا لأنه لم يعي الكثرة بوصفها جملة علاقات مُتَضمِّنَةً الإنسان نفسه. وهنا لابدَّ من القول بأن الاختزال يسيطر على أسلوب تفكيرنا فيما يخص الكثرة والواحد على حدٍ سواء، فنحن نختزل أيضًا الواحد كحدث منفصل ولا ننظر إليه كطرف في العلاقة، وهذا الاختزال يسري أيضًا على علاقتنا مع أنفسنا.

ما أريد قوله بهذا الخصوص هو أنَّ عجز العقل عن التعامل مع الكثرة مردُّه إلى الاختزال لا إلى الكثرة، وعجزه الذي ينبع من الاختزال يدفعه من جديد إلى: الاختزال، أي أنَّ الاختزال يسبب نفسه بهذا المعنى:

اختزال عجز في التعامل مع الكثرة اختزال

وهنا لا يسعنا القول إلا أنَّ الاختزال والواحدية والسببية والمفاهيم أيضًا ما هي إلا عقبات إبستمولوجية.

وعلى هذا لا يصح مبدأ العطالة بشكله الأوَّلي أو ما يمكن أن نطلق عليه "العطالة الاختزالية" إلا عند رصد الجزء وتجريده من علاقته مع الكل ومع الأجزاء الأخرى. ولكن في الحقيقة لا يوجد في الكون جزء معزول، إذ أنَّ هوية الجزء تصيغها العلاقة والمنظومة والعلاقات في المنظومة، فبهذا تكون هوية الجزء هي العشواء، فتكون العطالة هي العشواء. إذًا فهوية الجزء تتعدَّى الجزء لتشمل علاقته مع الكل، أي أنَّ هوية الجزء يصيغها الكلُّ. وبهذا نرى بأنَّ عطالة الإنسان الاختزالية لا تتوافق مع العطالة في الكون لأن العطالة في الكون هي عطالة تتجه إلى العشواء كما تقول الفيزياء الحديثة وليس إلى الاختزال. وبما أنَّ هناك تناقض بين الواحدية والعشواء، لماذا يتجسد ميلنا إلى العطالة بالركون إلى الواحدية وليس إلى العشواء، بالركون إلى الحدث وليس إلى العلاقة؟ وكيف نستطيع إيجاد نظرية كل شيء التي تريد تفسير الكون وظواهره وآلية تفكيرنا التي تقودنا إلى هذا المسعى هي آلية اختزالية؟ إذًا، كيف يكون ذلك وهوية العالم هوية عشوائية وهويتنا المعرفية مازالت هي العطالة الواحدية الاختزالية؟ وهنا السؤال هل الإنسان مفطور على الاختزال أم أنَّه فقط تعوَّد عليه؟ وهل يمكن أن يُفطر الإنسان على شيء يخالف الطبيعة؟ وبما أنَّ هوية الجزء يصيغها الكل، هل يستطيع أن يمارس هذا الجزء [الإنسان] الكل أم يستطيع فقط أن يمارس جزئيَّتهُ بوعي كلِّي؟ والجواب يجب أن يأخذ بعين الإعتبار أن الوعي الجزئي وعي اختزالي، والاختزال عقبة ابستمولوجية.

مراجعة وتدقيق: غيث الحركي

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود