الفرديَّة: استقلاليَّة الحي

 

فرانسيسكو فارِلا

 

عُقد في العام 1985 في روايومون Royaumont (فرنسا) مؤتمرٌ عن "الفرد"، تمَّ التعرضُ فيه لأسئلة عديدة في هذا الخصوص، نذكر منها: ما هو الفرد؟ متى وكيف ظهر هذا المفهوم وكيف تطور؟ ما الصورة التي يمتلكها الفردُ عن ذاته وما علاقته بالمجتمع؟ متى يظهر لدى الطفل وعيُ الهوية المستقلة؟ كيف تفسِّر العلوم، وخاصة البيولوجية منها، الفردية؟ إلخ. وقد نُشِرَتْ بعض المداخلات التي طُرِحَتْ في المؤتمر في كتابين صدرا لدى دار Seuil (باريس)، وهما: عن الفرد والفرد والعدالة الاجتماعية.

فرانسيسكو فارِلا (1946-2001)

وقد اخترنا هنا لقراء معابر جزءًا من مداخلة البيولوجي التشيلي الأصل فرانسيسكو فارِلا Francisco Varela الذي كان يُعَد إبان حياته واحدًا من ألمع منظِّري البيولوجيا الحديثة، باعتماده مفهوم الانتظام الذاتي auto-organisation. وقد عمل فارِلا أستاذًا في جامعة سانتياغو وفي مختبر الأبحاث حول المخ. كما عمل أستاذًا لعلوم الاستعراف sciences cognitives في المدرسة الپولتكنيكية École Polytechnique المرموقة في باريس.

سمير كوسا

***

 

1

طُلِبَ مني أن أجيب على السؤال التالي: "ما هي الجذور البيولوجية للفردية؟"

مما لا جدال فيه أن الكائن البشري الذي يمتلك مشروعًا تاريخيًّا واستقلاليةً في فعله هو فرد. لكن يمكن لنا أن نسأل جديًّا فيما إذا كان حيوانٌ أو خليةٌ "فردًا" بحسب هذا المعنى للمصطلح (أو بحسب معنى قريب منه).

لن أهتم في هذا العرض سوى بمَعْلَم واحد من معالم هذه المسألة المعقدة. فهدفي هو أن أقترح منظورًا معينًا، وليس استخلاص نتائج دقيقة. أود أن أبين كيف أن الاستقلالية – السِّمَة المميِّزة للفرد – راسخةٌ عميقًا في التاريخ الطبيعي لتنظيم الحي le Vivant. وسأحاول في الواقع تبيانَ أن الاستقلالية ليست سِمَةً مميزة للفرد فقط، بحسب المعنى الدارج للمصطلح، بل كذلك للتنظيم البيولوجي على مستوياته كلِّها، ابتداءً بالخلية.

2

إن الروابط بين فرد بشري وطبيعته ككائن حي روابط عميقة. ولا يمكن لنا في الواقع التعريف بالفردية البيولوجية من دون تعريف الحياة. وإن أفضل طريقة نتَّبعها لذلك تكمن في القيام بتحليل جليٍّ لتنظيم الحي، تحليلٍ إحدى نتائجه الطبيعية جدًّا هي الاستقلالية.

لكن حتى نشرع في هذا التحليل تلزمنا بعض المفاهيم الجوهرية ذات المعنى الملتبس جدًّا، بحيث إنه لا بدَّ لنا من شيء من الصحة الدلالية sémantique. الفكرة الرئيسية الأولى هي التالية: عندما نتحدث عن الأفراد (سواء كان ذلك وفقًا للمعنى البشري–الاجتماعي الدارج أو لم يكن) فإننا نتَّكئ تلقائيًّا على معايير تسمح بتمييز الكيان أو المنظومة المدروسة.

بمجرد افتراض منظومة système، يجوز لنا تقسيمها إلى عناصرها المركِّبة بافتراض مميزات جديدة. لكن كلَّ تحليل من هذا النوع يتطلب وصفين متكاملين: يوجد من طرف ما يبقى ثابتًا، ومن طرف آخر المتحول الذي يسمح هكذا برؤية ما يبقى ثابتًا: سأبقى أنا نفسي بعد فراغي من كتابة هذه الجملة، وذلك مع أنني تغيرت (صرتُ أسنَّ بدقيقتين، وقد تجدَّد قسمٌ من كرياتي اللمفاوية، وهلم جرا). سأسمي تلك الروابط اللازمة بين العناصر المركِّبة، التي تضفي على منظومة ما هويتَها الثابتة، تنظيم المنظومة؛ وسأسمي ما يتغير، مع بقائه خاضعًا للتنظيم، بنية المنظومة.

3

حتى نعرف ما هو الكائن الحي، يلزم تميُّز لتنظيمه وليس لبنيته. يبين تمكُّننا من الحديث عن البكتيريا وعن الكلاب على أنها كلها كائنات حية أنه يمكن لنا وصف تنظيم كهذا. ومن البديهي أنه لدى قيامنا بذلك لا نستند إلى بُناها الخاصة، المختلفة جدًّا، بل إلى ما يميِّزها كصنف: التنظيم الحي.

منذ بضع سنوات، اقترحنا أنه يمكن توضيح التنظيم الأصغري المميِّز لكلِّ منظومة حية انطلاقًا من المنطق الأساسي الذي يسمح لخلية بإنتاج ذاتها. وقد بيِّن بيولوجيو الخلية إبان العقود الأخيرة أن ما يجعل الخلايا فريدةً (وما يعطي مفتاح أصلها) هو شبكة تحولاتها الكيميائية أو الأيْض (الاستقلاب) الخلوي métabolisme. تتميز هذه الشبكة بـ"انطوائها" على ذاتها: إنها تنتج بذاتها مركِّباتها الخاصة وتُولِّد هكذا وحدةً متميزة تقبل الفصل عن الخلْفية الكيميائية. تسمح الحلقةُ التالية بتصوير هذه الخاصية:

وليس الغشاء "منتوجًا" بسيطًا للأيض الخلوي. فبمقاومته للانتثار، وبجعله تفاعلاتٍ موضعيةً أمرًا ممكنًا، يعزل الغشاءُ الخلوي الشبكةَ الكيميائية التي تُنتجه عزلاً فعَّالاً. الشكل الآخر الذي تظهر فيه خاصيةُ العزل الذاتي هذه هو العلاقة بين الأحماض النووية (الجينوم Génome) التي تحدد البروتينات المركِّبة للخلية والبروتينات ذاتها التي تؤثر على الأحماض النووية. وقد جعلتْ في الواقع نتائجُ حديثةٌ التمييزَ بين البروتينات البنيوية والبروتينات المُعدِّلة قليل الوضوح، بحيث صارت الفكرةُ الشعبيةُ القائلة بأن الجينوم هو على هذا النحو "البرنامج" الذي يُسيِّر الخلية فكرةً غير مناسبة تمامًا. يؤثر كلٌّ من الجينوم والسيتوپلاسما معًا واحدهما على الآخر. إذن يجب أن يمتلك تنظيمُ منظومة حية أصغرية، في الوقت ذاته، الخاصيتين التاليتين:

1.    شبكةً من السيرورات تنتج وتدمِّر مركِّبات، تجدِّد بدورها الشبكةَ التي تنتجها تجديدًا مستمرًّا؛ و

2.    حاجزًا بنيويًّا يتألف من عناصر تُنتجها الشبكةُ وتجعل ديناميةَ الشبكة ذاتها ممكنةً.

لاحظوا أننا لسنا في صدد تعريف بنية، بل علاقات يجب تحقُّقها وحسب. سنسمي هذا التنظيم الخاص بـ"صنع الذات" Autopoièsis (من المصطلح اليوناني الذي يعني "الإنتاج الذاتي"). لا ينتج تنظيمٌ ذاتي الصنع شيئًا يختلف عن تنظيمه الخاص؛ وهو، بالتالي، حصيلة تفرُّد ذاتي. ونحن نعتقد أن صنع الذات يمثل الشكل الأصغري لتنظيم المنظومات الحية.

4

اقترحنا فيما سبق، إذن، تمييزًا جليًّا لآلية تشكُّل هوية منظومة حية أولية، وهي عبارة عن العلاقات اللازمة التي توجد المنظومةُ بواسطتها. ويختلف هذا التمييز كثيرًا عن التمييزات التقليدية للمنظومات الحية التي تترك في الظل آليةَ تشكُّل الهوية. إنها، في اختصار شديد، تنضوي تحت ثلاث فئات مختلفة:

أ‌.       قائمة الخواص: هذه القائمة هي قائمة مركِّبات حقيقية (كربون، بروتينات، أحماض نووية)، لكن يمكن أن تَرِدَ كذلك عناصر وظيفية، كالتكاثر مثلاً. إنه التمييز الذي تقترحه غالبيةُ الكتب الدراسية، وهو غير ملائم من حيث الوضوح: لا نعرف أبدًا إذا اكتملت قائمةُ الخواص، وتوجد لكلِّ خاصية من خواص القائمة منظوماتٌ غير حية تتصف بها.

ب‌.  السيبرنتيكا cybernétique: يستلزم هذا النوع من التمييز خاصياتٍ وظيفية، كالضبط الذاتي (أو التعديل الذاتي autorégulation). وبالطبع فإن هذه الخاصيات تجلٍّ للمنظومات الحية، لكنها لا تكفي لتمييزها، لأنه ما من واحدة منها تختص به المنظوماتُ الحية حصرًا. في عبارة أخرى، كما في الحالة أ، تنقصنا هنا آليةٌ بيِّنة، وليس بُعدٌ واحد من أبعاد تجلِّيها.

ت‌.  البُنى المبدِّدة structures dissipatives: في هذه الطريقة الأحدث، يتم اقتراح آلية هوية مبنية على ترموديناميكا المنظومات البعيدة عن التوازن. المزعج هنا هو كثرة المنظومات غير الحية المبدِّدة، علاوة على أن خلق النظام بالتقلُّب هو شرط ضروري للحياة، لكنه غير كافٍ.

5

لننتقل الآن إلى المرحلة التالية من محاكمتي:

بعد تعيين هوية (وبالتالي تشكيل منظومة)، يصبح تتبُّع تاريخ التفاعلات ممكنًا. وستتوقف طبيعةُ تاريخ التفاعلات هذا على نوع هوية المنظومة. فمثلاً، إذا كانت هويةُ المنظومة معطاةً بواسطة تابع نقل، كما في النظرية التقليدية للمنظومات، فإن تاريخ التفاعلات هو قائمة بعلاقات الـ"دخول/خروج". أما في خصوص منظومة ذات هوية مستقلة، فإنه، على العكس، سيتم من جانبها إدراكُ كلِّ تفاعل كأنه اضطراب من أصل غير محدَّد، وستوازِنه المنظومةُ إما بتغيير بنيتها ومتابعة تاريخها وإما بتفككها. في عبارة أخرى، تُنتِج سلسلةُ المُوازَنات المستمرة التي تقوم بها المنظوماتُ تاريخَ تقارنات؛ وتاريخ التقارنات هذا، الفريد بالنسبة لكلِّ فرد، هو التعبير عن الوجه النشيط من هويته، نشاطه المنظم، سلوكه. يمكن وصف ذلك بالمخطط التالي:

هكذا يشبه تاريخ التقارنات لمنظومة مستقلة (بمعنى المنظومة التي تتصف ببنية ذاتية الصنع) مشروعًا داخليًّا تبديه المنظومةُ حيال اضطرابات الوسط. إنه طريق غير مسبَّق الإعداد، بل تُبرِزه المنظومة بنفسها.

يميِّز هذا الترابطُ المزدوج بين الهوية الذاتية الصنع وتاريخ التقارنات الصفتين الأساسيتين في المنظومات الحية. وهو يفسر كذلك كيف يمكن لكلِّية طبيعية أن تتبع مشروعًا غير منصوص عليه أو غير محدد سلفًا، يُفهَم فقط عبر تخلُّقها التاريخي المتعاقب. تسلك المنظومات الحية، حتى على أبسط المستويات، كما لو أنها تمتلك مشروعًا خاصًّا بها.

6

التحليل الذي جئنا على تطبيقه على المنظومات الحية الأصغرية ينسب استقلالَها إلى تنظيم بيِّن وإلى نشاط مُنظَّم خاص بها. ويمكن تطبيق التحليل ذاته على مستويات معقدة أبعد من المستوى الذاتي الصنع تستخدم واحداتٍ ذاتية الصنع. وتاريخ الحياة هو تاريخ التركيب دائم التجدد لواحدات عنصرية من أجل تشكيل متعضِّيات organismes، إيكولوجيات (أوساط)، مستعمرات، وهلم جرا. ويمكن تطبيق المحاكمة ذاتها على كلٍّ من هذه الواحدات (وتتطلب كلُّ واحدة معيار تمييز جديد). وعند كلِّ مستوى محرقي من التحليل والوصف، تُظهِر كلُّ واحدة درجةَ استقلالية (أو تنظيم ذاتي).

يستند هذا النشاط المستقل إلى نشاط مركِّبات المستوى الأدنى، وتحد منه عوامل تحدِّد مجموعةَ الاضطرابات (راجع المخطط في نهاية الفقرة). وفي هذه المجموعة المحدودة من الاضطرابات الممكنة، تدرك المنظومةُ المحرقيةُ تاريخَ تقارناتها كتجلٍّ لمشروعها الخاص.

إنني أعرف أنه يجب المرافعة عن وجهة النظر هذه بتفصيل أكبر يبيِّن كيفيةَ امتلاك كلِّ منظومة حية هامة فعليًّا قدرةً مستقلة (أو مُنظَّمة ذاتيًّا) وماهيةَ التنظيم الذي يجعل ذلك ممكنًا. لكن في حدود هدفي المتواضع هنا، لا يبدو لي أن تعميم ما ذكرناه على مستوى الخلية اقتراحٌ صادر بلا تروٍّ.

7

بذلك يكون برهاني قد اكتمل الآن. ويمكن تلخيصه كما يلي:

نجد الخواص الأكثر جوهرية للفرد، بحسب المعنى البشري–التاريخي للمصطلح، في العالم الحي كلِّه. وفي الواقع، يمثل التنظيم الذاتي الصنع، الكامن عند منابع الحياة ذاتها، بدايةً لشكل من الفردية تنضوي تحتها هويةٌ مستقلة تتطلب رؤيةً مختلفة لتاريخها الذاتي، رؤيةً تُظهِر الخواص الذاتية للمنظومة. نجد هذه الاستقلالية تحت أنماط مختلفة (أي في تنظيمات مختلفة) في منظومات محرقية مختلفة. وفي إيجاز: بقدر ما أن الفردية هي تجلٍّ مستقل لمشروع شمولي فهي حاضرة عند أصول الحياة ذاتها وتظهر في مستويات محرقية مختلفة من النسيج المعقد الذي ينطلق من الخلية إلى المجتمعات.

*** *** ***

ترجمة: سمير كوسا

تنضيد: نبيل سلامة

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود