french arabic

فضاء زياد دلُّول المفتوح على اتِّساعه

مالك علولة

مالك علولة

 

"لا بدَّ دومًا من الاعتذار عند الكلام على الرسم."

پول فاليري (متحدثًا عن كورو)

 

1

كلُّ عمل من أعمال الرسام، حينما ينبسط على جدار معرض، – مبيحًا نفسَه للنظر، في تنوعاته وتلاوينه وتناغماته المختلفة، مقترحًا في صمت على مُشاهِده مَسارًا مُشَخْصَنًا دومًا، يكاد أن يكون حميمًا، مجيزًا له أن يتحادث معه وأن يستكْنِهَه، – كل عمل، أقول، يبدو لي شديد التحريك للمشاعر، إذ يبدو لي عندئذٍ أنه، فيما يعرض نفسه في عريه الهش، لا يقامر بمعناه وحسب، بل وبوجوده برمته أيضًا. إذ ذاك يكفي أن يتحول النظرُ عنه أو ينزلق على سطحه لامباليًا حتى تقع الفاجعةُ إلى الأبد، فيبدأ هذا الازدراءُ الجلي بتفجير النسيان، لا بل الموت.

كيف لي ألا أتذكر ذلك اللقاء غير المتعمَّد مع أعمال زياد دلول وذلك الفرح الباهر والمستديم الذي قُيِّض له أن ينتج عنه؟ كيف لي ألا أوْسِع مكانًا لهذه الرغبة القاهرة في متابعة مقاربتها، لا لكي أستنفد معانيها، – وهو رهان متعذر، بما أنها أعمال مازالت مفتوحة، – بل لكي أعمِّق فيَّ أصداءَها الباقية؟ كيف لي ألا أتكئ أيضًا على هذه الرغبة بعينها بغية استكمال ألفةٍ وإيجاد شروطِ مراوَدةٍ أكثر مثابرةً وثباتًا من التي تتيحها المعارضُ النادرة والعَرَضية.

وإذن، فأنا أتذكَّرها في دقة شديدة، تلك الرسوم، الحاضرة في قوة. أسترجع نفسي وأنا أراها، أتفرس فيها، في ذلك اللقاء الافتتاحي النَّضِر. أستعيد كل ما جرى خلاله وينبغي عليَّ أن أكتبه الآن، متكلمًا عنه عِبْرَ هذا التقهقر الطفيف الذي يتطلبه التجميد العابر والمؤقت جدًّا لانفعالي الأصلي، الضعيف التكيف مع متطلبات هذا التمرين. لذا فإن كلامي لن يكون كلامَ ناقد الفن أو المختص. أتخيل له بالحري مسارًا مزاجيًّا، يكاد أن يكون فوضويًّا، حميمًا، مهتمًّا بالمشاركة وباسترجاع انفعالات واستطارات صادقة.

2

دنوُّ المرء من أعمال دلول هو، ابتداءً، شقُّ درب مباشر لنفسه إلى خبرة تصويرية أصيلة. فبالفعل، فور دخوله اللعبة، يجد المرءُ المبادئ الأساسية التي تحكُم خياراتِ الفنان الجماليةَ معلَنةً إعلانًا واضحًا.

أول هذه الأعمال حصرًا، أظهَرُها للعيان مباشرةً وأكثرُها حسمًا، يتعلق بالإرث التصويري الكلاسيكي. وأعمال دلول، على كونها أعمالاً حداثيةً قطعًا ومندرجة في زمانها تمامًا، ما كانت لتفعل غير الاضطلاع بصون هذا الإرث. ذلكم إعلان استهلالي، تقال فيه من جديد، بلا مواربة، استعادةٌ واستمرارية – تخليدٌ وتشييع، إذا جاز القول. إن دلول، من غير أن يُبطِل أيَّ شيء من هذا الموروث التصويري التاريخي الكبير، يتخذه بالحري موضوعًا مفضلاً للتدبُّر والتأمل، مكانًا لـ"رياضته الروحية".

فكأنما الفنان يسأل نفسه، مرة أخرى، دائمًا، تلك الأسئلة الأولية المعذِّبة، من نحو: "ما هو الرسم؟"، "ما معنى أن ترسم؟" أسئلة مكرَّرة إلى ما لانهاية، حتى الدوار، لأنها أسئلة لا جواب عنها، خارج ما يُظهِرُها، كتحصيل حاصل، إظهارًا عيانيًّا: وجود لوحات دلول هذه نفسها، مرئيةً في مكانها.

وهل لنا إلا أن نقول بأن الرسم لا يمكن له أن يولد إلا من الرسم؟ بأن فعل الرسم لا يمكن له إلا أن يستعيد تاريخَ هذه الحركة إياها كلَّه ممتدةً نحو الخامة؟ وهذا هو الجميل والجدير بالإعجاب في آنٍ معًا في هذه المغامرة الإنسانية.

تقيُّد المرء بهذا الموروث المُغرِق في القِدَم والحي هو، في الآن نفسه، إظهارٌ لإرادته أن يقيس عملَه هو إليه، بقصد أن تطمح أعمالُه إلى شرعيةٍ ونَسَبٍ حقيقيين، وفي الوقت ذاته، أن تطالِب بالحُكم عليها بالمقياس الصحيح. بهذا يضع الفنانُ في القلب تمامًا من أعماله، في الأصل من تصورها، من تكوينها، أعلى المقتضيات الممكنة. وهذه ليست من مرتبة جمالية وحسب، بل تترتب عنها وقفة أخلاقية، تُلزِم الفنانَ أن يراهن على القيمة وحدها التي تستحق في نظره المراهنةَ عليها: الرهان على عمل عتيد أن يُبنى.

زياد دلول، "غرافيك" (1986).

بامتلاكه تصويريًّا هذا الإرثَ العالمي، يكون في مستطاع الرسام أن يتعرف فيه إلى قيمه الخاصة: هاتيك القيم التي نشأ عليها هو نفسه والتي يحملها. وهذه القيم، إذ أصبحت عابرةً للثقافات تمامًا، لا يسعها إلا أن تفيض عن إطار التمييزات الزائفة والاختزالات المفرطة. إن هذا المسعى الراسخ، بوصفه محاولةً تأليفيةً فسيحة لا مندوحة عنها، لهو في الآن نفسه فريد، شخصي جزمًا، وحيوي أيضًا – فالمسألة مسألة وجود العمل.

إن تمثلاً مسبقًا كهذا يقوم على استكشاف منهجيٍّ وصبور لتاريخ الرسم والفن، في صحبة الوجوه والحركات الكبرى التي بثت الحياةَ فيه وغذَّتْه، كما وفي صحبة الأعمال المرموقة التي خطَّتْ معالمَ طريقه. تلك العودة التدبُّرية والتأملية والمفعمة بالتواضع مورست طوال الطريق، في أقسى أنواع الوحدة إكراهًا. وفي النهاية، يتم الاعتراف والاضطلاع بـانتماء، وحده الذي يهم دلول والذي سيتكرس بواسطة هذا الخيار التصويري الذي شرع فيه من غير ندم ولا تردد.

 

زياد دلول

كذلك من دون عودة ولا انقطاع – فنحن أمام استمرارية متناغمة – نجده يؤْثِر هذا اللاتشخيص، حيث يمكن لنا، من الآن فصاعدًا، أن نتعرف في تلك الأعمال التي تتحضَّر في تؤدة إلى أسلوب، لوح ألوان، حبكة، توزيع في الفضاء، "إخراج"، تحمل جميعًا سِمَتَها ويصح قولُنا إنها كانت دومًا موجودة فيها.

حسبنا الآن أن نجيل البصرَ فيما تعرضه علينا جدرانُ المعرض من هذا العمل لتقييم مقدار اندماج هذه الأعمال في النسيج الحميم للرسم، وكذلك مقدار هذا الدأب المنهجي، على تخوم الإيمان.

بالطبع، لم يكن الأمر، في نظر دلول، مجرد مراكَمةِ معرفة موسوعية أو تقنية. أميل، بالحري، إلى أن أرى في هذا المسعى آثارَ نضوج تدبُّ فيه في بطء رغبة في الرسم – رغبةٌ حيوية قابلة للإرجاع إلى الحاجة لِلُغة شخصية، غير ملتبسة ولا قابلة للاختزال إلى لغة أخرى.

3

كلُّ معرض يراعي، بفضل تلاصُق السطوح المثبَّتة في مكان واحد، في حذاء بعضها بعضًا، إمكانيةَ نسج روابط خفية بين القطع الشريكة. (أتخيل حينئذٍ، وأنا أمام لوحات دلول، أن اللوحات المجموعة تعقِد وتُواصِل فيما بينها مؤتمرًا سريًّا، بوشر منذ قديم الزمان، أي منذ أن وُجِدَ الرسم – أتخيل ذلك لأنه يجب الاعتراف بأن العمل ينطق.)

زياد دلول، "من دفاتر أبي" (1987).

كذا فإن المعرض، بذلك حصرًا، يقدم ميزةً لا تقدر بثمن: ميزةَ إعطائنا، في كلِّ كرَّة ودُفعةً واحدة، على نحو مكثفٍ وتأليفيٍّ، المكافئَ لرؤية مكتملة للأعمال وناجزة. ومع أن هذه مافتئت قيد الصيرورة، كما هي عليه الحال الآن، نجدنا نحيط بها في مجموعها إحاطةً حدسية – وهو مجموع ليس مغلقًا ولا متناهيًا أبدًا، بل مفتوح على اتساعه دومًا. كأنما، بفضل ذلك، تظهر للعيان، في هذا الاجتماع من اللوحات والمحفورات، "الموزعة وفقًا لترتيب معين"، حقيقةٌ غير مدرَكة، اتساقٌ خفي، وضرورةٌ كذلك – كل ما يساهم في صنع ثمنها الحقيقي، قيمتها الجوهرية التي لا تقدَّر.

زياد دلول، "دمشق"، من كتاب المدن لأدونيس (1999).

عن أعمال زياد دلول، الفائقة التنوع في "هنيهاتها" (من حيث تنوُّع الثيمات والمواضيع، تنوُّع الحوامل، الأبعاد، التقنيات، إلخ، التي تستعملها)، أريد أن أقول، ابتداءً، أنها تتصف بخاصية جعل بصرنا يلمس مَلأً، وأن هذا "الملأ" هو في آنٍ معًا فيها وخارجها: ما يوجد فيها هو ما تكشفه كلُّ لوحة عن أستاذية دلول في التصوير؛ وما هو خارجها هو ما تقوله لنا هذه اللوحة إياها عن رسوِّه العميق في تاريخ الرسم الطويل.

أتذكر أن ردة فعلي العفوية، وقد أوقِفتُ للمرة الأولى في حضرتها، كانت أن جال في خاطري وهمستُ لنفسي: "هو ذاك!" في هذه العبارة المقتضبة، التي قد يصعب عليَّ جدًّا شرحُ مضمونها الدقيق أو مُضمَراتها الكامنة، لا مبرِّر لاسم الإشارة إلا الشعور الفوري بألفة كبيرة سيطرت على هذا اللقاء الأول. فما تُراه مصدر هذا الإحساس باليقين المتأثر والمسجَّل على هذا النحو، اللهم إلا اندراج هذه الأعمال رأسًا في سياق ما أسهم في تكوين حساسيتنا حيال الرسم، في تشكيل شعورنا الجمالي، كما والخواطر والتصرفات التي تتفرع من هذا التعلُّم؟

زياد دلول، "البتراء"، من كتاب المدن لأدونيس (1999).

"الحب هو التعرف." ولعل العكس صحيح أيضًا. وإننا لـ"نتعرف" في رسوم دلول هذه إلى عناصر تصويرية، منثورة ومبعثرة وغزيرة، تُبَلْوِرُ معنًى ويفعل كلُّ منها، في الوقت نفسه، فعلَ إشارة محرضة للانفعال والمسرَّات الجمالية. هي الوسائل التي لا غنى عنها لتجلِّي الجمال، لطُروئه المهلِّل الوئيد، لتخليده الهش لحظة اكتشافه.

4

أتوغل الآن في عالم تصويريٍّ وَجَدَ أساسه، بل قوانينه في التكوين الحقيقية وغير الملموسة. لقد بات الآن، وقد وُهِبَ الاستقلالية، لا يقل حيويةً عن جسم يسكنه فكرٌ ومعنى/اتجاه وغائية. هذا "العالم"، بكلِّ ما ينطوي عليه المصطلح، بات قابلاً للتعرف إليه، موقَّعًا. فالفنان وضع "بصمتَه" على المادة، – لأن المادة هي مناط الرسم دومًا، – لكنها مادة "مُرَوْحَنَة"، إذ أكبَّ الرسمُ على تحويلها.

دلول، في أعماله، هو هذه المادة المرسومة، التي يطيب لي أن أجد فيها مجددًا – كي أورِدَها، مأخوذةً من غير ترتيب في نوع من الجذل الوصفي – الخطوطَ السود العمودية الدكناء، الأضواءَ الشفافة، الألوانَ السائلة والمتبرعمة، مرتعشةً من فرط شفوفها، مجعدةً أيضًا، مثلها كمثل حرائر نفيسة مرمية في سخاء على الأرض. إن هذا كلَّه، لا محالة، هو ما ينبثق، يصلني، متقلبًا، مصطخبًا ونَزِقًا في آن، فضفاضًا (لكنه أيضًا ساكن، معلَّق)، أو حتى جاريًا في اتجاه السافلة هذه، حيث أقف سعيدًا وممتنًّا/متعرِّفًا.

ما يتيحه زياد دلول لبصرنا، أود أن أحاول الآن ترتيبَه، تطويقَه، لا بهدف اختزال مدى الأعمال المختلفة بتجميعها وتنسيقها تحت عناوين بعينها، بل، على العكس، لأتذوق مزيدًا من اللذائذ المقتطَعة من تفكُّر يشرد، يستلهم، مواصلاً أحلام يقظته، متجاهلاً قيود المُحاجَجة والمنطق الصارم.

أتخيل، إذن، في هذه الأعمال، الممثَّلة هنا تمثيلاً جزئيًّا، نوعًا من المسار، الموجَّه والمتدرج، أتَّبعه من غير أيِّ شكل آخر من الاحتراس، بعد أن قمت بترسيمه ترسيمًا مبهمًا نوعًا ما. وإذ أنطلق بالفعل من الطبائع الصامتة والمَشاهِد الداخلية، سوف أتجه نحو المَشاهِد الطبيعية والخارجية، كما لو أنني أريد، لكي أغذ السير، أن أتخذ لنفسي أشواطًا غير محتمَلة، وقفاتٍ، وخطَّ سير متخيَّلاً هو الآخر.

وبعد أن أفعل هذا، أبدأ بالتمييز، أولاً، بين ما أسميه، لأجل استعمالي الشخصي، "الموائد العامرة" – هذه الموائد الموضوعة، الممدودة، الفريدة في جلائها المركزي الجميل. (على أنه يجب الاحتياط مسبقًا بالاقتراب من اللوحة وقراءة الرقيم المرفق بها – كي تسترجع الأشياءُ ما يشبه الألفة.) حضور هذه الموائد القوي، إشعاعها، يثير الاستغراب، يستوقف النظر، ويعلِّق لِلَحظة التقييمَ، إطلاقَ الحكم.

المعالجة التصويرية التي يكبِّدها دلول لهذه الموائد تنتهي إلى تضليل الناظر، تتويهه. فالأمر ليس عبارة عن مجرد قطعة أثاث مفردة أو محاطة بالكراسي. إنها ليست من ذلك النوع من الموائد التي يمكن لها أن تغطَّى بشرشف وتحمل مأكولاتٍ، فاكهةً، أطعمةً، وأشياء أخرى، أو أن يشار إليها كموائد صباحية أو موائد مخصصة للولائم. هاهنا ليست مهمةً الوظيفةُ النفعيةُ التي خُصِّصَت لها هذه الموائد، كما وفكرتا التعايش والمشاركة التي تستدعيها في صورة "طبيعية" للغاية. فها هي ذي كيفيات تمثيلها تضعها أبعد من مدى كلِّ ترميز أو إحالة دلالية أو قصد سردي. لا سرد ثمة، ولا نكتة. إنها هنا، في حدِّ ذاتها، لأجل ذاتها، فردية في كل مرة، وحيَّة بصفة خاصة، لأنها تتعدى ما يعرِّف بها ويحدُّ من هالتها أو يعزل كيانها. هنا صارت موضوعًا لتحوُّل جذري – ذلك الذي تَرِثُه من الفضاء الذي يوجِده الرسمُ لها وتستمد منه أنفاسَها، فتحيا.

أستعيد لوحةَ الغطاء الكبير الجليلة هذه ذات اللونين الأرجواني والذهبي، التي تجعلها ثنياتُها المائلة تبدو وكأنها مجهزة بأشرعة نورانية مشدودة تسمح لها بالإبحار إلى لقاء هؤلاء المدعوين غير المتوقعين دومًا – ونحن منهم. أستعيد أيضًا مائدة الصباح هذه، المعتمة جدًّا، حتى تكاد تكون سوداء، ضخمةً ومنكفئةً على تكويناتها نفسها، مدوَّرة كالكرة لترسو رسوًّا أفضل على الأرض، فتقاوم. متكورة كالقنفذ، غير قابلة للتحريك، كحجر رحى مظلم/مغمور وُضِعَ أمام إضاءة متصاعدة.

في هذه الأماكن الداخلية، تظهر قطعُ أثاث أخرى، مثل الأسرَّة والأرائك والكراسي، ظهورًا جبهيًّا أو مأخوذةً عِبْرَ منظور قصير موروب. ودلول يقاربها المقاربةَ نفسها، ويستعين بالطريقة نفسها لتناوُلها، ورؤيتها، ورسمها، وتقديمها إلينا.

بهذا الخصوص، أجازف بطرح الفرضية التالية: كل شيء في نظر الفنان يبدو أنه يحدث كما لو أن هذه الأشياء هاهنا – الأشياء كلها في الواقع – يراها، كلَّ مرة، للمرة الأولى. ولا يمكن للأمر أن يكون غير ذلك، بما أنها يجب أن تُرسَم. مكابدةُ الدهشة، الشعور بها، هي عاقبةُ معاينةٍ متكررة دون انقطاع على دلول أن يقوم بها: هذه الأشياء موجودة، كائنة، ناطقة. (من هنا، إلا إذا لجأنا إلى اصطلاح لغوي غير ملائم، لا نستطيع أن نتكلم، فيما يتعلق بها، عن طبيعة "صامتة"!)

هي كذلك واحدة من الأسباب التي تحدوني للتفتيش – ويكاد ذلك يكون من أجلها ذاتها – عن عناوين الأعمال تلك التي تعلن لنا أنه هنا يُقام الاحتفاء بالزيتون، وهناك يوجد كرسي ثانٍ، وفي مكان آخر تؤدى مقطوعة ليلية لأربع رمانات – عناوين تستدعي كلها تشخيصَ أشياء والإعلان عن فرادتها.

5

حتى أواصل كلامي، فأدفعه قُدُمًا إلى الأمام قليلاً، أظنني أستطيع تأكيد أنه إذا كانت مَشاهِد زياد دلول الطبيعية تُواصِل، دون قطع للاستمرارية، ما بدأتْه أماكنُه الداخلية، فتكون الامتدادَ المحسوسَ لها، فذلك لأنها موجودة هنا أصلاً، منذ البداية. فالفضاء في الواقع هو الفضاء الواحد المفتوح نفسه الذي يضمها جميعًا، فيضفي عليها شكلاً ووجودًا في الوقت نفسه. وبالفعل، فإن الموائد والأرائك والكراسي والأقمشة كانت موجودة مسبقًا ومن زمان تحت الأشجار؛ أو لعل هذه نَمَتْ في غرف النوم، على مقربة من الأسرَّة، وراء السجف. ترتيب الأحداث لا يعنينا. فالنتيجة تظل هي هي، دون تسلسل زمني دقيق ولا مكان محدد يمكن التعرف إليه.

زياد دلول، "ستارة نورانية" (2001).

في أثناء الطريق، لا بدَّ أننا عاينَّا أن المَشاهِد الداخلية، عند دلول، تتصف بأنها ليست أبدًا منغلقة على نفسها، موصَدة. إنها "تتشرب النهار" وتحوي جميعًا، دون استثناء، مهربًا، شرخًا، ثلمة، تتواصل من خلالها مع الخارج، مع العالم الطبيعي المحيط، تتحرك نحوه وتندغم فيه في حميمية. كذلك فإن التحديد الصارم لـداخل وخارج، بالمعنى الذي عودتْنا حواسُنا أن نميز، لا بل أن نقابل فيما بينها، لا يصير شاقًّا وإشكاليًّا وحسب، بل يتبين لنا أنه مصطنع، وفي غير محلِّه بصفة خاصة.

من بين لوحات أخرى عديدة، تبدو لي لوحةٌ بعنوان مقطوعة ليلية شاهدًا مثاليًّا على هذا اللاتمييز المكاني المحيِّر والشاعري الذي يَسِمُ فنَّ دلول خصوصًا. هو ذا، بالفعل، فيما يمكن له في نظري أن يمثل غرفة، – غرفة نوم تفضيلاً، وهو ما يفرضه المجاز، – نهرٌ مضيء، مولودٌ من منبع قصيٍّ، قد شرع في التدفق، معربدًا في طلاقة، في جيشان عظيم، يغادر "سريرَه" لكي يغمر، في حركة عرضانية هوجاء، أسفل سجف ثقيلة معتمة، تذكِّر بشجرة حور أو صفصاف متوحدة على الضفة. اتجاه المشهد الشفقي بالطبع ليس جامدًا البتة. إنه بالأحرى يهاجر، في اللوحة نفسها، على إيقاع حركة جريان الماء الموروبة، أو بالأصح الجريان الموروب لضوء لا مبتدأ له ولا منتهى.

إذ ذاك فقط نتبين أن الخلفيات والعمق، في لوحات زياد دلول، معالَجةٌ معالجةً معقدة للغاية، حاذقة، تستحق المزيدَ من إنعام النظر والتفكر. وبذا يبدو لي أن لغياب أيِّ منظور، مع نقطة تلاقي المنظور في الأفق، ولِلامحدوديةِ العمق نتيجةً ملموسةً هي التحريض، على سطح اللوحة، لحركةٍ جامحة نحو الأمام، وكذلك لتكثيفٍ للمشهد الذي يتحرك فيه الموضوعُ المرسوم.

زياد دلول، "كرسي".

الحضور البصري الكبير جدًّا لسلسلة "الموائد العامرة" – الوليمة، مائية، الغائبون، سرير، وغيرها كثير من اللوحات – هي النتيجة لهذه الخيارات الجمالية، هي التعبيرُ المقصود عن رؤية لا تغيب عنها السماءُ أبدًا. إن لطمس هذا البُعد الناظم للفضاء المرسوم أثرًا فوريًّا يتمثل في إعادة العالم إلى نواحينا، في جعله ملموسًا. فالنظرة، إذ تعود إلى ما هو هنا، في المتناوَل، تعيِّن مكانًا لعله مكانُ حميميةٍ ممتدة على طبيعة كلِّية الحضور، لا بل صارت "حلولية".

اختيار أسماء مثل أفق صاعد، طبيعة صامتة/مشهد طبيعي، كرسي قرمزي، عند أسفل شجرة، إلخ، كافي البلاغة لتُستدعى بواسطتها، دون أي لَبْس، التقاطيعُ المحسوسةُ لتجربة جمالية أصيلة. إن هذه التجربة، إذ ترتبط على هذا النحو بمادة مفعمة حياةً إلى حدِّ الاستغناء عن الواقعية الصارمة، تلامس الماهيةَ الشعريةَ لما يحيط بنا من جمالها.

6

من رسم دلول هذا، القليل التشخيص إلى هذا الحد والمفعم بالأشكال الموحية – خطوط أولية على حافة الانمحاء والتواري – يبقى أن نذكر مظهرًا جديدًا نوعًا ما: عودة ظهور الشخوص البشرية، المستبقاة مرارًا على الحياد، التي اقتصر تمثيلُها على بضع لوحات صغيرة الأبعاد (57×77 سم).

اعتبارًا من الآن، تخصِّص لوحتان كبيرتان، مرسومتان في العام 2005 ومعنونتان مطلع صباحي وخماسي نهري، على التوالي، للشخوص البشرية دخولاً أقل ما يقال فيه إنه ملحوظ – حيث الأبعاد الجديدة (130×162 سم) تزيل عنها كلَّ تخفٍّ وتضفي على هذه العودة للثيمة فيضًا من المعنى.

هذه الصور لنساء، ممثَّلات وهنَّ واقفات، كما كنَّ أصلاً في الرسوم الصغيرة الأبعاد، تظهرن، في المساحة المعاد تنظيمها من اللوحة، كأنهن يستأنفن تحركاتهن المحيِّرة المتوقفة، رقصاتهن الطقسية الصامتة.

في مطلع صباحي، ثمة هيئتان، يكاد المرء لا يتميَّزهما، تقفان جنبًا إلى جنب في ما قد يكون مدخل مغارة أو تجويف معتم. إنهما تديران لنا ظهريهما وتبدوان وكأنهما تُواصِلان مُسارَرة لا تنتهي. أما "فعل" خماسي نهري فيدور في صحن دار مفتوح أو في فناء واسع. أربع نساء، أشبه بالكارياتيد[1]، مجتمِعاتٌ، مثنى مثنى، عند كلِّ طرف من طرفَي المساحة التي تحدِّدها اللوحة، يُواصِلن حوارًا متعدد الأصوات، تتقاطع آراؤه فوق الحيز المنبسط عند أقدامهن والفاصل بينهن.

أغرب ما في الأمر، سواء في المطلع أو في الخماسي، هو ظهور الشخص الغامض نفسه، مسربلاً بالبياض، جالسًا على مقعد ومنتبذًا مكانًا على هامش "المشهد" الرئيسي، لا يشارك فيه إلا مشاركة موارِبة. الظهور المتكرر لهذا "الشاهد الصامت"، الذي يُقارَن حضورُه الغامض بحضور سفنكس[2] لا يرحم، يشحن المشهدين شحنًا دراميًّا، مفاقِمًا، إن أمكن، الارتياباتِ الكامنةَ المقيمةَ فيهما.

هو ذا يبدو لي أني أتعرف فيهن تعرفًا تامًّا لا يساوره تردُّد إلى اللواتي أسمِّيهن، استسهالاً، "طالبات الأحجية". ذكراهن المغرقة في القِدَم تسكنني. أعود فأراهن كما هن مصورات هنا. إنهن نساء من بلدي [الجزائر]، شقائق نساء بلد دلول [سورية]. لا أملك أن أشك في صدق ذكرياتي: أتعرف إلى هؤلاء النسوة من وقفتهن المتميزة جدًّا، من ترتيب أثوابهن الفضفاضة، من تصفيف شعورهن، من أصباغ الأقمشة التي يرتدينها. أتعرَّف حتى إلى ملامح إيماءاتهن المتوقفة.

ها هن يؤدين طقسًا نذريًّا مكرسًا لوليٍّ شفيع، يستقبلن بعضهن بعضًا صديقات أو قريبات، يشرعن ربما في بضع خطوات راقصة في أمسية، أو يتنادين كجارات... كل الأشياء التي تجعلهن مقربات في نظري ومؤثِّرات في آن. إني أسمعهن، أرقبهن، أشاهدهن يتحركن. إنهن، في نظري، موهوباتٌ تلك الجلالةَ التي تتصف بها الكائناتُ التي صارت أبعد من المتناول، قصية. وها هو ذا أيضًا يسهر عليهن – ذلك الظل الأبيض الذي لا أعرف من نواياه أو مقاصده شيئًا.

ذلكم مكمن السرِّ كلِّه – سرِّ هاتيك النسوة اللواتي دعاهن دلول من أجلنا، واللواتي تَرَكَهُن يسرحن في فضاءاته المفتوحة على اتساعها في لوحاته.

باريس، كنوكِّه 2006

*** *** ***

ترجمة: غايا جيجي

مراجعة: ديمتري أفييرينوس


[1] تماثيل تقوم مقام الأعمدة في العمارة الإغريقية؛ أشهرها كارياتيد معبد الإرخثيون الست في أكروپول أثينا.

[2] وحش أسطوري جسمه جسم أسد مجنح ورأسه رأس إنسان؛ يرتبط في الميثولوجيا الإغريقية بقصة أوديپ.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود