english

مقدِّمة إلى الأخلاق البيئية

 

إرنست پارتردج

 

1

لقد طفح بك الكيل!

الرسائل إلى الكونغرس لن تجدي نفعًا. فعلى الرغم من رسائلك، ومن ألف رسالة سواها، يبدو أنهم سوف يُصدِرون، مع ذلك، إجازاتٍ للمزيد من المنصَّات البحرية على مبعدة من ساحل كاليفورنيا. لذا فقد نظَّمتَ وأصدقاءك مظاهرةً في واشنطن أمام بناء مكتب دار ريبورن، بينما في الداخل تقوم اللجنة الداخلية للدار باستعراض أخير للقضية. في تلك اللحظة، يجري الاستماع إلى الشهادات دعمًا لإقامة المنصَّات، يقدِّمها مراوِضون[1] عن شركات النفط.

وفجأة، يغادر وازِعٌ[2] من غرفة اللجنة من الباب الأمامي ويومئ إليك بالاقتراب منه. يقول لك بأن رئيس اللجنة سأله أن يختار أحد المتظاهرين عشوائيًّا وأن يدعوه إلى الداخل حتى تتمكَّن اللجنةُ من سماع وجهة نظر المحتجين. وبمحض المصادفة تمَّ اختيارُك.

بعيد ذلك بقليل، تُدعى إلى الجلوس في غرفة اللجنة. يسأل الرئيس: "لماذا يجب علينا عدم الاستمرار في استخراج النفط على مبعدة من شاطئ كاليفورنيا؟" تجيب بأن القيام بذلك من الكبائر الخُلُقية. إذ ذاك تُسأل: "طيب جدًّا، بأيِّ معنى تعتقد أن ذلك من الكبائر؟ هل لك أن تدافع عن موقفك من فضلك – أي، هل لك أن تقدِّم للَّجنة أسبابًا توجِب عليها أن تتفق معك؟"

بِمَ سوف تجيب حينئذٍ؟ هل سيكون ما سوف تقوله جديدًا، أم سيكون مما سبق للَّجنة أن سمعتْه كله (من غير طائل، على ما يبدو)؟ هل سيكون دفاعُك عن قضيتك قويَّ الحجة، منطقيًّا؟ واسع الاطِّلاع؟ مقنعًا؟ وحين يُطلَب منك أن تتفوَّه بشهادتك، هل ستفعل من غير أن تتروَّى فيما تقول؟ الكثيرون منكم تنتابهم، ولا ريب، مشاعرُ قلق على مستقبل البيئة الطبيعية ومصيرها. [...] ولكن هل أنتم على استعداد للدفاع عن هذه المشاعر؟

في يوتاه، حيث أقمت سنين عديدة، سيخبركم غالبيةُ المواطنين هناك بأن بحيرة پاول "تحسين" رائع على مشهد طبيعة يوتاه الجنوبية. ففي حين أن بضع عشرات من المخيِّمين وراكبي السيول البواسل وحسب شاهدوا غلين كانيون المحبوس ماؤه الآن، يستطيع عشرات ألوف ركَّاب الزوارق والصيادين والمتزلِّجين على الماء أن يتمتعوا به. يبدو أن الأرقام صحيحة، ولكن هل هذا يسوِّغ حَبْس الماء في غلين كانيون؟ – "المكان الذي لم يكن يعرفه أحد". إذا كنت تعتقد بأنه لا يسوِّغه، هل أنت مستعد لتقول لماذا لا يسوِّغه؟

يمكن كذلك في سهولة إيراد المزيد من الحالات:

-       قطَّاعو الخشب سيقولون لكم أنه إذا أجيز لهم أن يجتثوا أواخر الغابات الشمالية الغربية القديمة، قبل أن ينتقلوا إلى اجتثاث غابات ألاسكا وسيبيريا، فإن بيوتكم سوف تكلِّف أقل بما لا يستهان به.

-       أنصار الطاقة النووية سوف يقولون إنهم إذا بنوا مصانعهم فإن فواتير كهربائكم سوف تنخفض.

-       شركات النفط سوف تزعم بأن انسفاحات النفط، على كونها تدعو للأسف، خسائر لا مناص منها، لكنها مقبولة، لشرطنا الحضاري.

-       المستثمرون سيقولون لكم بأن بناء سدود جديدة على جبال سييرا الشمالية سوف يفيد اقتصاد ولاية كاليفورنيا برمَّتها.

-       الجميع سوف يزعمون بأنه إذا أجيز لهم أن يمرِّروا مشاريعهم فإن أناسًا أقل سوف يتعطَّلون عن العمل والناتج القومي الإجمالي سوف يستمر في النمو.

هَبْ أنهم على حق! هل لديكم جواب عن مُقارَبة "الكلفة–الفائدة" هذه إلى صنع السياسة البيئية؟ هل يمكن لكم أن تقترحوا مُقارَبةً مختلفة إلى تحليل السياسة وأن تدافعوا عنها؟ فالقرارات البيئية يجب أن تُتَّخذ على كلِّ حال. فإذا كانت قواعد اتخاذ القرار الحالية ومناهجه غير ملائمة، ما هي البدائل التي يمكن لنا تقديمُها؟ هل درستم حجج المستثمِر؟ هل تقوم هذه الحجج على افتراضات غير مفحوص عنها، لكنها مع ذلك مريبة للغاية؟ ما هي هذه الافتراضات ولماذا هي مريبة؟ هل أنتم مسلَّحون لدحضها؟

لا تستهينوا بقوة إقناع حجج "المعارَضة"! فمَن يحاججون لصالح "النمو المستمر" و"التنمية" و"إخضاع الطبيعة" يدافعون عن مواقفهم انطلاقًا من مزاعم ومن وجهة نظر لطالما سيطرت على معتقدات الثقافة الغربية ومواقفها. فهذه المعتقدات والمواقف الراسخة المتعلقة بموضع الإنسان في العالم الطبيعي (الذي كثيرًا ما يُرى بوصفه "موضع الطبيعة في عالم الإنسان") هي من عمق التغلغل في نسيج ثقافتنا بحيث إن غالبية جيراننا، بل ونحن أنفسنا (ولنقر بذلك!)، نقبلها من غير نقد، وحتى من غير وعي. فأية معتقدات وأية مواقف؟

إنها، من حيث الأساس، معتقدات ومواقف تنطلق من وجهة نظر تُجِلُّ قَدْرَ قيمة نوع واحد – الإنسان العاقل – في الجملة الطبيعية، وتؤكِّد حقَّ هذا النوع في فَرْض إرادته على المتبقي من المسكونة الطبيعية. وهي وجهة نظر لا تحصر المصالح في أفراد النوع البشري وحسب، بل، أكثر من ذلك، تحصر اهتماماتها الزمنية في عمر جيل المرء وحده، أو، في أحسن الأحوال، في عمر المرء وعمر أولاده. فالميراث من الماضي فصاعدًا إلى المستقبل البعيد "مستهان به".

إذا شعرنا بأن نظرةً بشريةَ التمركُز إلى الطبيعة هي نظرة حسيرة وغير ملائمة وزائفة، هل نحن على استعداد لتبيان كيفية ذلك؟ هل لدينا نظرة أفضل في خصوص مسؤولية الإنسان عن الطبيعة؟ هل نحن على استعداد لشرح هذا الخُلُق البيئي "الأفضل" وللدفاع عنه؟ وفيما نحن نسعى إلى القيام بذلك، أقترح أننا قد نجد بأن خُلُقًا بيئيًّا متسقًا ومعقولاً يجب أن يقوم على بعض المقدِّمات والمنظورات المنطقية التي لسنا على إلمام بها. غير أن الجمهور أو "أصحاب النفوذ" أقل إلمامًا بهذه المُقارَبات المختلفة جذريًّا إلى قضية مسؤولية الإنسان عن الطبيعة. وهذا لمما يعقِّد مهمتَنا تعقيدًا جديًّا.

2

الفلسفة الخُلُقية والأخلاق البيئية

الفلاسفة هم أولئك الأفراد المزعجون الذين "يسألون السؤال التالي". إنهم يبحثون عن المفاهيم والافتراضات "المسلَّم بها" عمومًا، ومن بعدُ يفحصون عنها فحصًا نقديًّا. يطرح الفلاسفة أسئلةً مزعجةً من قبيل: "ما الذي تعنيه بذلك؟"، "كيف ذلك؟"، و"ماذا بعد؟" (اختصار لـ"ماذا ينتج عن تأكيدك؟")؛ والأكثر إقلاقًا من بينها جميعًا هو السؤال: "لِمَ ينبغي عليَّ أو عليك أو على أيِّ شخص أن يعتقد بذلك؟" إن المهمة الأولى للفيلسوف هي طرح الأسئلة، وليست الإجابة عنها: مهمته لا تتمثل في أن يريح القَلِق، بل في أن يُقلِق المرتاح.[3]

كثيرًا ما تمَّ – في برود شديد – تجاهُل محاولات الفلاسفة لإيقاظ الآخرين من "سُباتهم العقائدي" (كما عبَّر كانط عن ذلك). وفي بعض الأحيان، كانت محاولات الفلاسفة في تحريض التفكير الفعَّال تنجح (كما في حالة سقراط).

وضمن الحقل العام للفلسفة، تقع الأخلاق والفلسفة الخُلُقية – أي الدراسة الفلسفية للقيم ("الحسنات" و"السيئات") التي ينهض لها، إلى حدٍّ ما على الأقل، شخصٌ أو أشخاصٌ يتحلون بالمسؤولية والعقلانية والقدرة على المداولة. تبحث "الأخلاق" ethics في مفاهيم عامة من قبيل الإلزام والعدالة والحقوق والواجبات والفضيلة والانتفاع إلخ؛ وتبحث "الفلسفة الخُلُقية" moral philosophy، عمومًا، في تقييم الأفعال والسلوك والبواعث والتدابير الشخصية.

منظورًا إليها وصفيًّا، تتأسَّس "الخُلُقية" morality اجتماعيًّا من حيث الأصل والتوجه، وتكون "منظومية" systemic من حيث الجوهر. وتنشأ الدساتير الخُلُقية، كما هي حال المنظومات الاقتصادية، من خلال التنافس والتعاون: التنافس في سبيل الخيرات والخدمات وإشباع الحاجات وضمان المصالح الشخصية العزيزة المنال؛ والتعاون في سبيل كَسْب الرفاه والأمن المتبادلين وتعزيزهما. بذلك، تصف الفلسفة الخُلُقية وتوصي بضوابط وحريات (واجبات وحقوق) تنتظم الحياة الاجتماعية، بحيث يسهم الجميع إسهامًا مقبولاً في التوزيع العادل للمنافع على كلِّ فرد وفي إشباع حاجاته إلى الحدِّ الأقصى.

إن مفهوم "الشخص" person مركزي في الفلسفة الخُلُقية: ففي الوقت الذي تكون فيه قائمة المعايير التي تعرِّف بـ"الشخصية" موضع جدال وخلاف، إلا أن أغلب الفلاسفة الخُلُقيين سوف يضيفون أغلب (إن لم يكن جميع) الخصائص التالية في تعريفهم للشخصية[4]:

-       القدرة على الإحساس sentience، أو القدرة على الشعور بالألم

-       الوعي بالموضوعات والأحداث الخارجية

-       المحاكمة العقلية، القدرة على حلِّ المشكلات

-       النشاط ذاتي الدافع

-       القدرة على التواصل عبر استخدام منظومة تركيبية مكتملة من الرموز الدالَّة (لغة، مثلاً)

-       مفهوم للذات (أو للنفس) بوصفها مستمرة عبر الزمن

-       القدرة على صياغة مفاهيمية لمستقبَل بديل والاختيار فيه بين الاحتمالات المتاحة

-       القدرة على العمل وفقًا لمبدأ – أي القدرة على التروِّي في السلوك تبعًا لقواعد

-       الاعتراف بشخصية الأشخاص الآخرين.

إن السبب الذي يجعل هذا التعريف جوهريًّا للفلسفة الخُلُقية هو أنْ وحده مثل هذا الكائن الذي وصفناه أعلاه يمكن أن يقال عنه إنه "مسؤول خُلُقيًّا" أو "مكلَّف أخلاقيًّا" (على اعتبار أن الأطفال والحيوانات، مثلاً، ليسوا مكلَّفين). وبما أن "الأشخاص" الوحيدين الذين نعرفهم هم كائنات بشرية، فإن ثمة إغراءً كبيرًا في أن نتعامل مع مصطلحَي "شخص" person و"كائن بشري" human being كمترادفين. تقود هذه المساواة المتعجِّلة في المعنى إلى كمٍّ كبير من التشويش والإرباك في الحجج الخُلُقية، وخصوصًا منها تلك المتعلقة بمسائل من نحو الإجهاض والقتل الرحيم والأخلاق البيئية. ويمكن لنا أن نقيم تمييزًا سهلاً بين الشخص (كمفهوم خُلُقي) والكائن البشري (كمفهوم بيولوجي) إذا ما أوردْنا قضايا متعارضة. مثلاً، في المسلسل التلفزيوني Star Trek ["رحلة نجم"] يصوَّر شبيه الرجل Data الآلي، كما وعدد كبير من المخلوقات "الغريبة" aliens، بوصفهم أشخاصًا غير بشريين، مثلهم كمثل الغريب (؟) المحبَّب “E.T.” في فيلم [شپيلبرغ] السينمائي الذي يحمل العنوان نفسه. قد تُعتبَر الدلافين أيضًا أشخاصًا، على الرغم من أننا لم نقرِّر إن كان الأمر كذلك. من جهة ثانية، فإن الكائن البشري الذي تعرَّض لأذية دماغية خطيرة أو لسبات دماغي غير قابل للشفاء لا يُعتبَر شخصًا.

إن للتساؤل حول ما إذا كان كائنٌ ما شخصًا أم لا تأثيرًا أساسيًّا على سلوكنا الخُلُقي نحوه. يتحلَّى "الأشخاص" بالكرامة، ويستحقون الاحترام، ويلتزمون واجباتٍ ومسؤوليات، ويتمتعون بحقوق إلى درجة لا يصل إليها غير الأشخاص. بذلك، إذا اتفق لنا أن نجد أن الدلافين هي، في الواقع، أشخاص، فإن مواقفنا تجاهها سوف تتغيَّر حالاً، وسوف (على سبيل المثال) نطلب، بواسطة القانون، من صيادي التونة أن يعتنوا أكثر بالسلامة "الشخصية" للدلافين! لقد طُبِّقت مفرداتُ الفلسفة الخُلُقية ومبادئُها تقليديًّا على مجتمع الأشخاص البشريين. لذلك فإن محاولة توسيع البحث الأخلاقي فيما يتعدى السياقات البشرية لتشمل مجتمعات الحياة (المنظومات الإيكولوجية ecological systems، مثلاً) يطرح مشكلاتٍ عميقةً، مفاهيمية ومنهجية. إن الباحث الأخلاقي الإيكولوجي الذي يتجاهل هذه المشكلات يجازف، إذ يفعل ذلك، بأن يجعل نظريته الأخلاقية مبتذلة، وحتى باطلة.

يقود مفهوم "الشخص" مباشرة إلى التمييز بين القيمة الخُلُقية والقيمة غير الخُلُقية. فـ"القيمة الخُلُقية" هي قيمة تنعكس على جدارة الشخص (أو بعبارة أخرى، تنعكس على "فضيلته الخُلُقية"). "العمل الصالح خُلُقيًّا" هو ذلك الفعل الذي تستحثه إرادةٌ شخصية جديرة بالتقدير؛ بينما ينطبق مصطلح "قيمة غير خُلُقية" على أيِّ شيء آخر يمكن أن "يُفرَز" (يوصف بالصالح أو بالطالح). وهذا الفرز يتضمن السعر (للبضائع وللخدمات)، والجَمال (للأعمال الفنية أو للمناظر الطبيعية)، والوظيفة (للآلات)، وقابلية الحياة (للأنواع أو للأحياء)، والاستقرار (للمجتمعات أو للمنظومات الإيكولوجية)، بل وحتى التمتع – وإنْ يكن ذلك على نحو ملتبس – (بخبرات الحياة)[5] – باختصار، أية قيم لا تنعكس على جدارة الأشخاص. الأكسيولوجيا axiology [علم القيمة] هو ذلك الفرع الفلسفي الذي يعالج القيم عمومًا؛ بينما الأخلاق، كمبحث فرعي من الأكسيولوجيا، تهتم بالقيم الخُلُقية، أو بالقيم غير الخُلُقية في صلتها بالقيم الخُلُقية.

ينصب اهتمام الأخلاق البيئية على قضية السلوك الشخصي المسؤول ذي الصلة بالمواقع الطبيعية والموارد والأنواع والأحياء غير البشرية. وبالطبع، فإن السلوك المتصل بالأشخاص هو محل الاهتمام المباشر للفلسفة الخُلُقية. (بدقة أكثر، يمكن تأويل "الأخلاق البيئية" تأويلاً أوسع بحيث تشتمل على أسئلة حول المسؤولية عن البيئات الاصطناعية؛ لكن مثل هذا التأويل ليس موضع اهتمامنا المباشر، ولذلك سوف نقصر انتباهنا على القضايا ذات الدلالة الخُلُقية التي تتعلق بالبيئات الطبيعية.)

تستلزم "المسؤولية الخُلُقية" في الحالة السوية المعرفةَ والمقدرةَ والاختيارَ والدلاليةَ القِيَمية؛ أي أنه، عندما يكون شخصٌ ما مسؤولاً عن القيام بعمل ما، فهذا يعني أنه:

أ‌.       يعرف هذا المطلب؛

ب‌.  قادر على أدائه؛

ت‌.  يستطيع أن يختار اختيارًا حرًّا أداءه أم عدم أدائه؛ ويعني أن

ث‌.  أداءه هذا العمل يؤثر على صلاح الكائنات الأخرى أو على حريتها أو على كليهما معًا.

وبما أن استجابة المرء لهذه المطالب تعكس قيمتَه كشخص، نقول إن لهذه الاستجابة "دلالةً خُلُقية". ربما يساعدنا هذا التحليل للـ"مسؤولية الخُلُقية" على تعليل كون "الأخلاق البيئية" جذبتْ انتباهَ فلاسفة الأخلاق واهتمامَهم مؤخرًا وحسب. ببساطة تامة، وحتى وقت متأخر، كانت تأثيراتُنا على البيئة الطبيعية تُعتبَر "محايدة أخلاقيًّا" morally neutral، من حيث إن الطبيعة، كما افترضنا دومًا، لاشخصية، من جهة، كما أنها، من جهة أخرى، أضخم وأفسح من أن تتأذى عِبْرَ تدخلاتنا (أو على الأقل، لم نكن قادرين مطلقًا على التنبؤ بالأذى الناجم عن تعاملنا مع الطبيعة). الآن، بالطبع، نمتلك معرفة أكثر حول الموضوع: نحن نعلم أننا قد نتسبَّب في أضرار دائمة وهائلة للمواقع الطبيعية وللموارد وللمنظومات الإيكولوجية؛ ولا نعلم فقط أننا قد نتسبَّب في هذه الأذيات، بل نعلم أيضًا كيف نتسبِّب فيها، وكيف يمكن لنا أن نحول دونها أو نعالجها. إن معرفة ذلك كلَّه تقتضي منَّا الالتزام الخُلُقي بأن نعمل في حَذَرَ ونفاذ بصيرة، وأحيانًا، في رِفْقٍ وتمالُكٍ للنفس. نحن، في اختصار، مدعوون، في تعاملنا مع البيئة الطبيعية، إلى أن نتفكر ونعمل، أو ربما أن نحجم عن العمل، بأسلوب يشهد لجدارتنا كأشخاص وكثقافة – وبكلمة واحدة، أن نستجيب خُلُقيًّا. لذلك، قد تشتمل الأخلاق البيئية على قضايا من قبيل ما يلي:

-       لماذا نعتني بالطبيعة "لذاتها" مادام الناس هم فقط مَن "يستحقون الاهتمام"؟ وإذا كان المرء ينكر أن "الناس وحدهم يستحقون الاهتمام"، إذ ذاك على أية أسُس يمكن الدفاع عن ذلك؟ (وفي النهاية، إذا لم يكن ثمة مَن يشعر بالأسف، فما المشكلة إذا ما تعرَّض نوعٌ حي، أو وادٍ نهري، أو حتى كوكب، للتدمير؟ إذا كان الناس يفضِّلون تدمير المواقع والأشياء الطبيعية، إذ ذاك، ما المشكلة؟ ولم لا يكون ذلك؟)

-       عندما تدمَّر الأنواعُ الحية أو المواقع الطبيعية أو المناطق البرية، إذ ذاك، ما هو المضيَّع قِيَميًّا بالنسبة للنوع الإنساني؟

-       هل "ستفتقد" الأجيالُ القادمة ما "انتزعنا منها"؟ (كيف تفعل إذا لم تعرف أبدًا ما قد "فقدت"؟)

-       "هل يجب أن تكون للأشجار منزلةٌ قانونية؟" (كما يجادل بذلك كريستوفر ستون) وإذا لم يكن ذلك لصالح البشرية، فعلى أية أسُس إذًا؟

-       هل تحمل "ملكية الأرض" معنى أخلاقيًّا؟ أم أنها مفهوم سخيف ومنفِر خُلُقيًّا في الثقافة الغربية (كما يزعم سكان أمريكا الأصليون).

-       هل ثمة حاجة إلى الطبيعة لدى الكائنات البشرية تقتضي إلزامًا بالحفاظ عليها؟ وما البرهان على ذلك؟

-       ما هي الأسُس النهائية للتوكيد على حماية البيئة؟ هل هي عقلانية؟ لاعقلانية؟ صوفية؟

-       ما الخطأ، من حيث الأساس، في علم أخلاق الأرض النفعي والمتمركز بشريًّا anthropocentric؟ لم لا نتعامل مع الأرض كـ"سلعة" بدلاً من اعتبارها "مجتمعًا"؟

-       إذا كان 500 فقط من المخيِّمين وراكبي السيول يتمتعون بغلين كانيون قبل العام 1962، بينما يستطيع خمسون ألفًا من ركَّاب الزوارق الآلية والمتزلِّجين على الماء أن يتمتعوا به الآن، إذ ذاك، لِمَ لا تكون لنا بحيرة پاول هناك؟

-       هل لأجيال المستقبل (مع العلم أنهم غير موجودين حاليًّا) "حق" الآن في بيئة طبيعية ونظيفة عندما يحين أوانهم؟

-       هل في إمكان الإنسان أن "يحسِّن" الطبيعة؟ وما المقصود بـ"التحسين"؟

-       هل لحقائق علم البيئة مضامين خُلُقية؟

-       هل الكائنات البشرية مؤهَّلة نفسيًّا للعناية بالطبيعة وبأجيال المستقبل؟ وإذا كانت لديها هذه الأهلية، هل نحن ملزَمون خُلُقيًّا بتعزيزها؟

-       إلى ما هنالك...

إن إحدى أكثر المشكلات التي تواجه الحركة البيئية اليوم جديةً تتمثل في موقفها الخُلُقي البعيد عن الاتساق والمربَك في الدفاع عنه – إنه موقف يتم عِبْرَ "الإحساس" أكثر مما يتم عِبْرَ الفكر. وهدفنا هنا أن نسدَّ هذا النقص.

3

الأخلاق البيئية: الوصفية والمعيارية والنقدية

وَجَدَ فلاسفة الأخلاق أنه من المفيد التمييز بين ثلاثة "مستويات" للبحث في ميدان الأخلاق. "المستوى" الأول هو "الأخلاق الوصفية" descriptive ethics، ويتكوَّن من أوصاف لما يعتبره الناسُ أو ثقافتُهم أو كليهما، في الواقع، ذا قيمة. لنتخيل، على سبيل المثال، أن مَسْحًا افتراضيًّا للرأي العام أُجْرِيَ في كاليفورنيا وبيَّن أن 55% من السكان يفضِّلون إجراءاتٍ استثنائية ومُكْلِفَة لحماية غاباتهم الشمالية وصونها، وأن 30% يعارضون مثل هذه الإجراءات، وأن 15% متردِّدون في إبداء رأيهم. بما أن المَسْح ينقل الآراء الخُلُقية لعيِّنة من السكان دون أن يقدم حُكمًا خُلُقيًّا على هذه الاعتقادات،[6] فإن الاستبيان يُعَدُّ إحدى ممارسات الأخلاق الوصفية. وفي شكل مشابه، يُعَدُّ تقرير أنثروپولوجي عن إجلال القبيلة البدائية الفلانية لصيد رؤوس الأعداء وصفًا لقِيَم هذه القبيلة. لذا، يمكن اعتبار الأخلاق الوصفية كنمط متخصِّص من العلم الاجتماعي.

المستوى الثاني، "الأخلاق المعيارية" normative ethics (وتدعى أيضًا "الوصايا الأخلاقية" prescriptive ethics)، تبحث القضايا الأخلاقية بالمعنى التقليدي للمصطلح – أي مسائل الصواب والخطأ، الواجبات والحقوق، العدالة والظلم، الفضيلة والرذيلة، وهلم جرا. على هذا المستوى من الخطاب الخُلُقي، تُبنى أحكامٌ ويُدافَع عنها وفقًا للقيمة الخُلُقية للأفعال والبواعث والسياسات، أو للأشخاص أو الجماعات المسؤولة عنها. كذلك، في حالات خاصة، تقدَّم توصيات حول النهج "الأفضل" خُلُقيًّا في الفعل أو السلوك. لذلك، تكون الاستجابة المعيارية في ذلك الاستبيان الافتراضي حول غابات شمال كاليفورنيا من قبيل: "كم هو مزعج أن نجد اهتمام مواطنينا بميراثهم الحيوي على هذه الدرجة المتدنِّية!" أو، من ناحية أخرى: "أنا سعيد لرؤيتي أن مواطنينا عادوا أخيرًا إلى صوابهم الخُلُقي واعترفوا بأن الكائنات البشرية أهم من حزمة الأشجار!" على نحو مشابه، قد يدين المرءُ معياريًّا ممارسةَ صيد الرؤوس التي يصفها الأنثروپولوجي وصفًا دقيقًا.

أما الفيلسوف، المعتاد على "طرح السؤال التالي"، فلا يكتفي بسماع الرأي المعياري. إنه يلح على تعبير واضح ودقيق عن معاني المفاهيم المستخدَمة في ذلك الرأي. عندما يلتمس الفيلسوفُ توضيحَ معنى المصطلحات المعيارية أو الفحص عن بنية الحجج المعيارية وأسُسها ومبرِّراتها، فإنه حينئذٍ يمارس "الأخلاق النقدية" critical ethics أو "الميتاأخلاق" meta-ethics. لذا فإنه، بمعنى ما، شاهدٌ عقلي على الحكم المعياري. إنها مهمة الفيلسوف الخُلُقي النقدي أن يُدخِل في الحسبان منطقَ ولغةَ ومنهجَ الفكر المعياري وحججه. بذا، عندما يدين المفكر الخُلُقي عقوبةَ الإعدام بوصفها "غير عادلة" أو صيدَ الرؤوس بوصفه "همجية"، فإن الفيلسوف الميتاأخلاقي سوف يتساءل عن معنى "العدالة" و"الهمجية" في ذينك السياقين. كما أنه سوف يبحث في طبيعة الحجج المقدَّمة دفاعًا عن هذه المزاعم المعيارية (أي الأخلاقية) وفي تماسُكها.

يمكن للفشل في التمييز بين المستويات الثلاثة للبحث الأخلاقي أن يؤدي إلى التباس وغلط كبيرين. إذ يمكن لفشل في التمييز بين الأخلاق الوصفية والمعيارية، على سبيل المثال، أن يجرَّ المرءَ إلى "نسبوية ثقافية" cultural relativism ساذجة ("آه طيب، إذا كانت قبيلة وادجاكالِّم تمارس صيد الرؤوس، فالأمر يصلح لهم، على ما أظن!")، أو حتى إلى "نسبوية ذاتية" subjective relativism ("إذن فأنت قاتل تسلسلي! طيب، ما الذي يدفعك إلى ذلك، يا ولد!"). كذلك، يمكن للفشل في تمييز الأخلاق المعيارية عن النقدية أن يقود إلى استنتاجات خُلُقية متهورة. على سبيل المثال، عندما نؤكِّد (ميتاأخلاقيًّا) أن لأجيال المستقبل "حقوقًا"، لا يستتبع ذلك أن لهم (معياريًّا) الحقَّ في أن يصاحبوا الطائر آكل البزَّاق أو أن يجدوا المنطقة المائية الحدودية المخصَّصة للزوارق في حالة طبيعية. علاوة على ذلك، عندما يحاجج امرؤ ما (معياريًّا) بأن كبَّ النفايات النووية في المحيط هو عمل "غير عادل صميميًّا"، فلا يجوز لنا أن نقبل دعواه ولا أن نرفضها قبل أن نقرِّر (ميتاأخلاقيًّا) ما نعنيه بعبارة "غير عادل صميميًّا"، وقبل أن نفحص عن بنية حجته ومقدِّماتها وعن وجهة النظر التي حاجج بالاستناد إليها.

لنقم الآن بتطبيق هذه المستويات الثلاثة للبحث الأخلاقي على الأخلاق البيئية. أولاً، إن الأخلاق البيئية الوصفية ليست مشكلة هامة في الأخلاق البيئية، وذلك لسبب بسيط هو أن "الأخلاق الوصفية"، بالدقة، ليست حقًّا جزءًا من الفلسفة الخُلُقية أصلاً. الأصح أن يقال، لأنها "وصفية"، أنها حقًّا نمطٌ من العلم الاجتماعي. عندما نسأل: "ما الذي يعتقده "الشعب الأمريكي" حول حدائقه الوطنية؟ هل يعتقد أن هذه الحدائق "قيِّمة" وأنها تستحق تكلفة الحفاظ عليها؟" إن أسئلة من هذا القبيل يمكن الإجابة عليها عبر تقنيات الاستبيان الاختصاصية.

عندما نحكم على القيم البيئية لغالبية الأمريكيين بأنها "يُرثى لها" (وهذا حكم معياري)، ومن ثمَّ نشعر بالباعث نحو "عمل شيء حيالها"، عندئذٍ ربما حاولنا أن نغيِّر هذه المواقف. وبذلك ندخل إلى حقل التربية البيئية والتربية الخُلُقية. ولكن ما هي منهجيات التعليم الأكثر تأثيرًا في إنتاج الموقف الذي نستحسنه؟ هذا أيضًا سؤال وصفي؛ وهو، بصفة خاصة، سؤال في علم النفس التربوي.

تبحث الأخلاق المعيارية في "عصب" المسألة الأخلاقية، وأعني السؤال التالي حصرًا: "ماذا يجب أن نفعل؟" بذا تبدو الأخلاق البيئية المعيارية بارزةً في مناقشات الكونغرس حول السياسة [البيئية] والتمويل. مسألة من هذا النحو مثلاً: ما هو الاستخدام الأمثل لهذا الوادي النهري أو هذه الغابة أو تلك الصحراء؟ كيف يجب أن نتعامل مع هذه المساحة الطبيعية؟ نستهلكها؟ نحميها؟ نحفظها في حالة سليمة؟ أي "خير" ينطوي عليه نوعٌ "غير نافع" معرَّض لخطر الانقراض؟ كم من الجهد والكلفة ينبغي أن نكرِّسه لحمايته؟ ما هو الضرر على البيئة وما هي المخاطرة المقبولة، بالنسبة لأجيال المستقبل، في مقابل تطوير مصادر الوقود المتعددة والطاقة النووية؟

تُعنى الأخلاق النقدية ("الميتاأخلاق") بمعاني المفاهيم الأخلاقية وبتسويغ الدعاوى المعيارية. بذا، تجلب الميتاأخلاق البيئية إلى النقاش السياسي والتشريعي أسئلةً من قبيل: ما هي المزاعم الخُلُقية غير المُعلَنة التي تستند إليها المواقفُ المتناوئة (على سبيل المثال، موقفا نصير "التنمية" ونصير "المحافظة")؟ ما هي معاني المفاهيم الأساسية في النقاشات – مفاهيم من قبيل: "الاستخدام الحكيم" [للموارد]، "المحافظة" [على البيئة]، "التكامل والاستقرار الإيكولوجيَيْن"، "الغنى الإنساني"، "الحقوق والواجبات"، إلخ. ما هي ضروب الحجج التي تقدَّم دفاعًا عن الدعاوى القِيَمية المتنافسة؟ هل هي حجج أخلاقية مقنعة، تبرِّر النتائج المستخلَصة منها؟ هل نستطيع أن نستخلص أية نتائج من مثل هذه الحجج؟ أم أن الخلافات حول "الاستخدام الأمثل" للطبيعة أو حول "واجب الحفاظ على البرية والتعلق بها" يمكن إرجاعها حصرًا إلى فوارق في المشاعر أو الذوق أو الانحياز الثقافي؟ وإذا كان الأمر كذلك، أليست هذه الخلافات، من حيث الأساس، ذاتية أو مستعصية على الحل؟ (هذا هو الموقف "غير المعرفي" في الميتاأخلاق.) من جهة أخرى، هل يمكن تسوية مثل هذه الخلافات بالاحتكام إلى الوقائع والمنطق، بحيث يمكن لاثنين من المتنازعين العقلانيين وغير المتحيِّزين من ذوي الاطلاع الجيد في مسألة من مسائل السياسة البيئية أن يتوصلا، من حيث المبدأ على الأقل، إلى اتفاق في وجهات نظرهما المعيارية بخصوص تلك السياسة؟ (كما هي الحال، مثلاً، في تسوية الخلافات العلمية بالاحتكام إلى البرهان بواسطة المنهج العلمي.) إن النظرة الميتاأخلاقية التي ترى أنه يمكن، من حيث المبدأ، تسوية الخلافات الأخلاقية بالتحليل العقلاني الموضوعي تُدعى "المذهب المعرفي الخُلُقي" moral cognitivism.

نحن الآن مستعدون لتوضيح فرق جوهري: "الأخلاق البيئية" التي يعرِّف بها الكاتب في هذه المقدمة، كما وفي إسهاماته الأخرى بوصفها مصطلحًا ميتاأخلاقيًّا، يشير إلى أيِّ موقف أخلاقي يعبِّر عن وجهة نظر تهتم بمسؤولية الإنسان عن الطبيعة. من جهة أخرى، تعرِّف "الأخلاق الإيكولوجية" بأخلاق بيئية معيارية، خاصة عند كتَّاب من أمثال ألدو ليوپولد، يرون الإنسان كجزء من مجتمع الطبيعة ولديه واجبات الاحترام حيال المجتمع والرفق به.

لعل أكثر المشكلات التي يواجهها الأخلاقيُّ الإيكولوجي جوهريةً وأساسيةً تتمثل في السؤال الميتاأخلاقي التالي: "هل تنطوي حقائقُ الإيكولوجيا على مضامين أخلاقية؟" بعبارة أخرى: "هل دراسة مجتمع الحياة المتكامل للطبيعة، المتواصل والمتطور على كرِّ الزمن، تسهم في تنويرنا أخلاقيًّا؟" يبدو أن معظم الأخلاقيين الإيكولوجيين يؤكدون هذه الدعوى. لكنهم بذلك يعتنقون موقف المذهب المعرفي الخُلُقي – وهو الموقف الميتاأخلاقي الأكثر إثارة للجدال. وقد لا نبالغ إذا ما افترضنا أنه ما لم تقدِّم الأخلاق البيئية حلاً مقنعًا لمشكلة المعرفة الأخلاقية (أي مشكلة تبرير الدعاوى المعيارية بتقديم وقائع موضوعية وحجج عقلانية في آنٍ معًا)، وإلى أن تقدِّم هذا الحلَّ، فإن الأخلاق البيئية لن تتلقَّى – والأسوأ أنها لن تستحق حتى – أيَّ اهتمام جدِّي من قبل فلاسفة الأخلاق.

نظرًا للمشكلات العميقة والملحَّة من هذا القبيل، يعتقد الكثير من الفلاسفة البيئيين (بِمَن فيهم الكاتب) أن الانتباه الأكثر إلحاحًا في الأخلاق البيئية ينبغي أن يخصَّص للقضايا الميتاأخلاقية – ليس لأن الأسئلة البيئية المعيارية ("ماذا يجب أن نفعل؟") ليست ذات أهمية، بل لأن هذه القضايا المعيارية غير معرَّف بها تعريفًا واضحًا، ولأننا لسنا جاهزين جيدًا للشروع في مهمة حَسْمِها. بذا، بغية إيجاد حلول لهذه الأسئلة المعيارية، يجب أن نبدأ أولاً في حلِّ بعض المشكلات المسبَّقة حول المعنى والتبرير الأخلاقيين، أي مشكلات الميتاأخلاق.

وهكذا، فحتى بعض العبارات البديعة والباقية في مجال الأخلاق البيئية المعيارية، مثل أخلاق الأرض لألدو ليوپولد، أو والدن لهنري د. ثورو، تتركنا مفتقرين إلى حلٍّ نهائي. نقرأ، على سبيل المثال، مثل هذه المشاعر المعيارية الملهِمة بقلم ألدو ليوپولد: "يكون الشيء صحيحًا عندما ينزع إلى صون تَكامُل المجتمع الحيوي واستقراره وجماله؛ ويكون خاطئًا عندما ينزع إلى غير ذلك." (أخلاق الأرض) لكن، في الوقت الذي قد يقرأ الكثيرون هذا الكلام بقبول حماسي وتأكيد متَّقد، هل ندرك المعنى الكامل لهذه الدعوى؟ وهل نحن مستعدون، بعد قراءة مقالة ليوپولد، لتقديم دفاع دقيق ومتماسك ومطَّلع عن هذه القاعدة في السلوك؟ بل هل نعلم ما الذي سيتألَّف منه هذا الدفاع المفحِم عن "أخلاق الأرض"؟ إنني أؤكد أنه، في أغلب الأحوال، ليس المدافعون عن موقف ليوپولد مستعدين جيدًا للاستجابة لهذه التحديات، ليس لأنهم رومانسيون ومحازِبون مهمِلون أو لاعقلانيون أو متحيِّزون، بل لأن القضايا الميتاأخلاقية ذات المَتات إلى المعنى والتبرير تنبثق من بعض مشكلات الفلسفة الأخلاقية الأعمق والأكثر إبهامًا واستعصاءً وتعالجها. ومع ذلك، فإن نوعًا من الاستجابة المطَّلعة والمتأنية والنقدية للقضايا الميتاأخلاقية للأخلاق البيئية ضروريٌّ إذا كان لهذا الحقل الجديد في ميدان الأخلاق أن يتلقَّى الانتباهَ الأكاديميَّ الذي يحتاج إليه إلحاحُه المعياري.

4

الأخلاق البيئية والتقاليد الفلسفية

في الوقت الذي أرغب فيه أن أعلن أن احترافي للفلسفة يرشدني بوضوح إلى مهمة إيجاد قواعد للسلوك حيال البيئة الطبيعية وتبريرها، إلا أنه ينبغي عليَّ، بكلِّ أسف، أن أعلن أن كثيرًا من التقاليد المشرَّفة الحصينة، وكذلك الافتراضات والطرائق الفلسفية، بل وحتى في الثقافة العلمية والدراسات الإنسانية، قد تكون جزءًا من المشكلة أكثر من كونها جزءًا من الحل. وفقًا لذلك، ربما نكتشف أننا، إذا حاولنا اشتقاق علم أخلاق بيئي مقنع حقًّا ومتسق وبعيد النظر، متأصل في النظرية والرؤية الإيكولوجية، فإن مثل هذا العلم قد يجد لزامًا عليه أن يدافع عن نفسه بلغة لا يألفها أغلبُ المتعلِّمين، بل والكثيرُ من الفلاسفة؛ بمعنى أن هذه اللغة تتنافى مع العوائد أو التقاليد الثقافية الحالية. وعلى الأخص، ربما كان يجب على الأخلاق البيئية الجديدة أن تتحدى أربعة تقاليد أساسية:

أ. المركزية البشرية Anthropocentrism: لقد اعتدنا على تعريف القيم والأخلاق ونحن نضع الكائنات البشرية في مركز مخطَّطنا النظري للأشياء. لذلك تُعتبَر الأفعال والسياسات "خيِّرة" إذا نفعت أفراد البشر ومجتمعاتهم. (قد تضع نظرةٌ أنبل مخلوقاتٍ غير بشرية، إنما حاسَّة، على "ضواحي" اهتمامنا الأخلاقي.) كبديل لذلك، تعتبر نظرياتٌ خُلُقية أخرى أن "الخير" يتمثل في تلك الأفعال والسياسات التي يستحثها احترامُ "كرامة الشخصية" للكائنات البشرية. في هذه النظرة، لا تشارك "الكائنات الأدنى" ولا الطبيعية ذاتها في مثل هذه "الكرامة". على العكس مما تقدَّم، يكون الأخلاقي الإيكولوجي أمْيَل لرؤية البشرية ليس في المركز من العالم الأخلاقي، بل كأحد مقوِّمات مجال الأخلاقيات (على الرغم من التسليم بأنها مقوِّم ضروري)، خصوصًا عندما تتعلق الأخلاقية بالمسؤولية عن الطبيعة.

ب. التحليل الاختزالي Reductive Analysis: لقد اعتدنا، عِبْرَ تقاليدنا التعليمية، أن ننتقل من المعرفة الموثوقة إلى التخمين غير الموثوق. ونحن نفعل ذلك باكتسابنا المعرفةَ قِطَعًا صغيرة، ثم تكديسها قطعة قطعة، إلى أن ينبثق كلٌّ ما من الأجزاء. يسهل، انطلاقًا من مثل هذا التقليد، أن نستنتج أنه، لكي نفهم شيئًا ما أو نحلَّ مسألة ما، يجب أولاً أن نعيِّن الأجزاء، ومن بعدُ قواعد تركيبها. تُدعى المُقارَبة التي تعيِّن الأجزاءَ بغية إدراك الكل بـ"التحليل الاختزالي". تقلب وجهةُ النظر الإيكولوجية هذه المقاربةَ. يقترح الإيكولوجي ما يلي: "أحِطْ بالكل – فكِّر كالجبل – ومن بعدُ سوف يفسِّر الكلُّ الأجزاءَ." (المذهب الكلاني Holism) (لكنْ حذارِ! إذ إن الإصرارَ المتهوِّر على الكلانية ومُقْتَ التحليل قد يحدُّ أيضًا من فهمنا.) إن مؤرِّخًا أو فيلسوفًا للعلم فطينًا هو مَن يقرُّ بالحاجة إلى توازن ديناميٍّ بين الإحاطة بكلٍّ من الأجزاء والكل وبين تطبيقها في النظرية والممارسة العلمية.)

ج. منظور مركزية الأنا Egocentric Perspective: تُفضي الطريقةُ الفلسفية في "التحليل الاختزالي"، في شكل يكاد ألا يقاوَم، إلى "وجهة نظر مركزية الأنا". بذلك، وباتِّباع التقليد الفلسفي الذي أيَّده ومثَّل له هيوم وديكارت، ألحَّ الفلاسفةُ على أن البحث الفلسفي "يبدأ" بالمعطيات "الصلبة" و"الموثوقة" للخبرة والوعي المباشرين، ومن بعدُ "يتحرك"، في حَذَرٍ وتروٍّ، نحو تخمينات حول "العالم الخارجي" و"العقول الأخرى"، وهكذا دواليك. ليس من الصعب أن نفهم لماذا ثمة، في مثل هذا التقليد الاستقصائي، إهمالٌ عام للسؤال عن المسؤولية الأخلاقية للإنسان عن الطبيعة. يتصور الإيكولوجيُّ "الطبيعةَ"، كما سنبيِّن لاحقًا، كمنظومة معقدة من الأجزاء المتفاعلة. إن مثل هذا المفهوم ليس، حتى اليأس، في متناول منهجية methodology "تبدأ" بالخبرة والوعي الذاتيين "المباشرين". لذا فإن طريقة كثير من الفلاسفة عينها – أي أسلوبهم المفضَّل في إنجاز عملهم – أبقتْهم غير منخرطين في مسائل الأخلاق البيئية. علاوة على ذلك، فإن وضع النوع الإنساني في المركز من نظرية المعرفة يقود كثيرًا من الفلاسفة نحو استنتاج غير مؤكَّد بأن البشرية هي مركز الطبيعة أيضًا. (وبذلك بقي الفلاسفة، في أغلب الأحيان، "مفتونين" بوجهات نظرهم المناهجية المفضَّلة.) يتبنَّى الأخلاقيُّ الإيكولوجي منظورًا مختلفًا بالطبع، وذلك باعتباره الإنسانَ عضوًا في مجتمع الطبيعة، وليس سيده أو المبرِّر لوجوده.

د. "الفجوة بين الواقع والقيم" “Fact/value Gap”: (نعود هنا إلى مسألة المذهب المعرفي الخُلُقي.) طوال قرون، جادل كثيرٌ من الفلاسفة في قوة بأنه ما من كمٍّ من المعلومات الواقعية يمكن لها أن تستلزم منطقيًّا نتائج قِيَمية. ومن المحتمل أن المبدأ القائل بأن "لا "وجوب" من "الوجود"" (أو "لا قيم من الوقائع") مسلَّم به افتراضًا بين فلاسفة أيامنا هذه. والأكثر إزعاجًا في هذا المبدأ أنه من المحتمل، لدى توخِّي الدقة، أن يكون صحيحًا.

وفقًا لذلك، مهما كانت التطورات القادمة في العلم البيئي والإيكولوجيا هائلةً، فإن علمًا أخلاقيًّا بيئيًّا مقنعًا لن ينبثق كنتيجة مباشرة لها. هل هذا مثبط للهِمَم؟ ليس بالضرورة؛ إذ إنه حتى الآن قد تكون لحقائق الإيكولوجيا (وكذلك علم النفس ونظرية المنظومات وفروع معرفية أخرى) تأثيراتٌ ذات دلالة على البحث عن أخلاقيات بيئية. المنطق الصوري يجيز نتيجتين اثنتين فقط: صواب وخطأ؛ بينما تقبل المعرفةُ العلمية والعملية درجاتٍ من التوكيد. وبذلك، حتى لو أن الحقائق لا تتضمن قِيَمًا بالمعنى الصحيح، إلا أنها، مع ذلك، قد تقدِّم توكيدًا قويًّا للدعاوى الخُلُقية. ففي البحث الخُلُقي، كما هي الحال في العلم التجريبي، قد يكون "التقريب" وافيًا بالغرض؛ حيث إن طريقة العلم التجريبي ذاتها، كما برهن ديفيد هيوم في مهارة، ليست صحيحة صوريًّا. لكن هذا لا يدحض قيمةَ الاستقصاء العلمي وضمانتَه، ولا ينبغي له أن يدحض.

يلح أتباعُ مذهب المعرفة الخُلُقية أنه قد عُوِّل كثيرًا على "الفجوة" بين التوكيدات الواقعية والدعاوى الخُلُقية. ولئن صحَّ، من وجهة نظر صورية، أنه يجب الإتيان ببعض الافتراضات القِيَمية إذا ما أردنا استخلاصَ نتيجة قِيَمية، قد يصح كذلك أن هذه المقدِّمات القِيَمية يمكن لها أن تُرى على أنها أساسية جدًّا و"بديهية"، بحيث تحكم فعليًّا التصديقَ العام: مرة أخرى، يقدِّم العلم التجريبي مقايَسةً منوِّرة: العلم، على ما يبدو، يستند إلى افتراضات "غير مبرهَن عليها" من نحو:

-       الطبيعة متجانسة uniform، وسوف تسلك في المستقبل وفقًا للقوانين الكونية ذاتها التي حكمتْها في الماضي. (يتأسَّس على هذا الافتراض "مبدأ الاستقراء" principle of induction، وبالتالي، العلم التجريبي بأكمله. لكنْ، لسوء الحظ، كما أشار ديفيد هيوم، فإن "مبدأ تجانس الطبيعة" هذا مؤسَّس هو الآخر على الاستقراء – وهذه حالة واضحة من مغالطة الدائرية fallacy of circularity.)

-       هنالك عقول أخرى إلى جانب عقلي الخاص. (لكن من الواضح أن عقلي هو الوحيد الذي أستطيع معرفته مباشرةً، والباقي كله من قبيل الظن.)

-       إلى جانب العقول الأخرى وأفكارها، ثمة أشياء وأحداث توجد في العالم الفيزيائي، وتبقى غير ملحوظة، ويسبق وجودُها نشوءَ الحياة الحاسَّة والمُدرِكة. (إن كلَّ التخمينات من هذا القبيل تتأسَّس على الاستقراء، الذي يتأسَّس، بدوره، كما بينَّا أعلاه، على مغالطة.)

على نحو مقايِس، قد تتضمن النواةُ الأكسيوماتية [البديهية] للأخلاق افتراضاتٍ "بيِّنة"، لكنْ غير مبرهَن عليها بعدُ (ولعلها غير قابلة للبرهان عليها)، من نحو:

-       الصحة أفضل من المرض.

-       احترام الذات بالقدر المعقول أمرٌ جدير بالكفاح من أجله.

-       إشباع الرغبة والطموح، في حدِّ ذاتهما، كما يبدو للوهلة الأولى، أفضل من الإحباط وإنكار الذات.

-       السعادة مفضَّلة على البؤس.

-       حتى إذا لم نستطع تعريف "السعادة" تعريفًا تامًّا وصريحًا، إلا أننا جميعًا نعلم متى نكون سعداء ومتى لا نكون كذلك.

-       عندما نستطيع، ببذل الجهد ذاته، تعزيز سعادة الآخرين أو أذيتهم، فإن الواجب يُلزِمنا على اختيار الأول.

-       العالم بأشكال حياة قابلة للتفتح عليه مفضَّل على عالم من دونها؛ ومن الأفضل أكثر لو أن مجتمع الحياة مستقر ومتنوع؛ والأفضل من ذلك كلِّه لو أن بعض أشكال الحياة يعي ويفكِّر (أي أن توجد كائنات أخلاقية أو "أشخاص").

إذا كان هذا هو نوع "النواة الأكسيوماتية" التي ينبغي على الفيلسوف الخُلُقي أن "يقبلها كمُعطى"، إذ ذاك على أكثر الأفراد عملية أن يرضَوا. يبدو مثل هذه النواة القِيَمية قويًّا بما يكفي كي يخدم كأساس لنظرية خُلُقية. فإذا أضفنا إليها حقائقَ الإيكولوجيا والطبيعةَ البشرية والنفسانيةَ الخُلُقية ومنطقَ نظرية المنظومات، عندئذٍ ربما تتوفر لدينا ضمانةٌ أكثر من كافية كي نتفكَّر ونتبنَّى جملةً موثوقة وآمنة من الخطوط الإرشادية العامة للسلوك (أي إلزامات خُلُقية) والقواعد المحدِّدة للمسؤولية (أي واجبات خُلُقية) تخص تَعامُل النوع البشري مع الطبيعة وأجيال المستقبل.

أما بخصوص تلك "الافتراضات الخُلُقية غير المبرهَن عليها"، فقد تكون، في معظمها، من ذلك الضرب من النوافل الذي يشغل بال الفلاسفة الأكاديميين ويسلو عنهم (على نحو موحٍ في بعض الأحيان) في مجلاتهم وحلقات بحثهم. أما البقية، بِمَن فيهم الفلاسفة الهواة، فيستطيعون، كما فعل ديفيد هيوم نفسه، أن يتركوا هذه المحيِّرات خلفهم باطمئنان، كما حاولنا نحن، وكما ينبغي علينا، كي يعالجوا المشكلات عمليًّا وكي يتصرفوا بمسؤولية في العالم الطبيعي من حولنا.

لقد أوردتُ، فيما سبق، أربعة تقاليد بارزة في الفلسفة الغربية، وفي الفروع المدرسية الأخرى إلى حدٍّ ما، مما تميل إلى إعاقة وتعقيد محاولات صياغة منظور إيكولوجي وقواعد إيجابية للمسؤولية عن العالم الطبيعي والدفاع عنها. فهل تشكِّل هذه المناهج ووجهات النظر التحليلية للفلسفة الأخلاقية "الشرعية" أسُسًا تتيح لنا الاستغناءَ عن عون الفلاسفة أو تَجاهُلَ تقاليدهم بالكامل؟ البتة. ففي المقام الأول، ينبغي ألاَّ يفوتنا الانتباهُ إلى أن كثيرًا من الفلاسفة (سپينوزا ووايتْهِد على نحو ملحوظ) كانوا "على تناغم" كبير مع وجهة النظر الإيكولوجية. أما فيما يخص البقية، فليس الجواب في أن نهجر الفلسفة الخُلُقية، بل في أن نصلحها. إذ ينبغي ألا نلقي جانبًا في تهوُّر هذا التراث من الفكر المنضبط العقلاني النقدي. على الأخلاقيِّ الإيكولوجي أن يتعلَّم الكثير من الفلاسفة، وهو يحتاج إلى النقد المثابر والمنضبط الذي يمارسه الفلاسفة. وإذا أخفق الفلاسفة – عمومًا – في التأثر بالإيكولوجيين تأثرًا مواتيًّا، إذ ذاك فإن ردَّ الفعل الأفضل على الفلسفة الضيقة وغير الملائمة يكون بالتفلسف تفلسفًا أفضل.

5

لماذا الأخلاق البيئية؟ ولماذا الآن؟

لماذا؟ لأننا لا نستطيع البقاء غير مبالين! إن حالة "عدم القرار" فيما يخص قضايا الأخلاق البيئية هي، في حدِّ ذاتها، "قرار" لصالح استمرار الوضع الحالي ولصالح استمرار وضع "العمل كالمعتاد". لكن كوكبنا البائس والمنهوب والمرجوم والملوَّث لا يطيق استمرار حالة "العمل كالمعتاد" أكثر من ذلك. لقد أحرزنا، في القرنين الماضيين، فطنةً فاقت حكمتَنا بما لا يُعقَل. فالنمو الانفجاري للمعرفة العلمية، الذي تَبِعَه بعد مدة وجيزة نموٌّ موازٍ في البراعة التقنية، قد أوجد "نموًّا انفجاريًّا" في المشكلات الخُلُقية، وبعضها غير مسبوق في تاريخ البشر.

الأخلاق همٌّ إنساني قديم جدًّا (لعلَّه أقدم من الفلسفة ذاتها). ومع ذلك، فإن الأخلاق البيئية حديثة العهد جدًّا. وبالنظر إلى النموِّ المثير الأحدث عهدًا في المعرفة والتكنولوجيا، لن يصعب علينا أن ندرك لِمَ الأمر كذلك. فالأخلاق تتعامل مع ميدان السلوك الإنساني القابل للتخيُّل الذي يقع بين المستحيل والمحتوم – أي في نطاق المقدِرة والاختيار الإنسانيين. والآن، حتى إبان عمرنا الحالي (وحتى أكثر مع كلِّ سنة تمر)، اكتسبنا مقدراتٍ، وبالتالي، نواجه اختياراتٍ لم تُواجَه من قبل أبدًا في سياق تاريخ البشر – وبالفعل، نحن نواجه كثيرًا من المقدِرات والاختيارات التي لم يكن من الممكن أبدًا توقعُها أو حتى تخيلُها من قبل. وهذه تتضمن خياراتِ الولادة والحياة والموت لنوعنا البشري وللأنواع الحية الأخرى – خياراتٍ تغيِّر بسرعة المشهدَ الحيَّ إلى الأبد.

عندما لم تكن المنظومة الإيكولوجية ecological system مفهومة، أو حتى مميزة أو مقدَّرة كمنظومة، وعندما كان يُعتقَد أن الأرض وبرِّيتها أضخم من أن يُضِرَّ بها الاختيارُ الإنساني المقصود – في مثل ذلك الزمن لم يكن ثمة أخلاق بيئية. لكننا، في عصرنا الحالي، أعدنا المصداقية لأسطورة التكوين؛ إذ إنه في هذا العصر، مع صيرورة المعرفة سلطة، فبوجود كلٍّ من المعرفة والسلطة، فَقَدْنا براءتنا.

بالطبع، تعود هذه المعرفة وهذه السلطة إلى الثورة العلمية. وهاهنا يكمن لغزٌ ومفارقة: إذ يزعم العلماء، في ثبات وتدقيق، أن منهجهم ومضمونَه "محايد قيميًّا". بالمعنى الضيق، هم على حق: فالعلم، كمنهجية، خالٍ من القيم حصرًا، ويجب عليه أن يكون خاليًا من القيم (وهذا تفكير قيمي، كما يلاحَظ). لكن هذه المنهجية "الخالية من القيم حصرًا" أتت بحشد مُربِكَ من المقدرِات والخيارات لنا، نحن المخلوقات القِيَمية. ونحن لسنا مزوَّدين بالبصيرة الأخلاقية والضوابط الخُلُقية الضرورية للتعامل في حكمة وبشكل ملائم مع هذه الخيارات. غير أن الخيارات أمامنا، ولن نستطيع التملُّص منها: "عدم القرار قرار."

إن قضايا الأخلاق البيئية خطيرة وحيَّة واضطرارية ولم يُبَت فيها بعد (إذا ما استعرنا مصطلحات وليم جيمس)؛ وهذا يعني أن هذه القضايا تتضمن خياراتٍ خُلُقيةً ذات شأن كبير نستطيع أن نجترحها، بل يجب أن نجترحها حتى. إن مسؤوليتنا الخُلُقية عن الطبيعة والمستقبل ذات أهمية وإلحاح لم نعهدهما من قبلُ؛ وهي مسؤولية لا يمكن لنا التهرُّب منها. ففي أيدينا الجامحة واللامبالية حتى الآن، يكمن مصيرُ بيئتنا الطبيعية والأنواعُ الحية الشقيقة والأجيالُ التي ستأتي بعدنا.

هاهنا يكمن تحدينا المرعب الذي لا مفرَّ منه – ومسؤوليتنا الرهيبة.

*** *** ***

ترجمة: معين شفيق رومية[7]

تنضيد: نبيل سلامة


 

[1] مفردها "مراوِض"، وهو شخص مكلَّف من قِبَل جماعة لها مصلحة للتأثير في رأي نائب (أو نواب) في مجلس تشريعي. (عن المغني الأكبر)

[2] حافِظ النظام في محكمة أو مجلس نيابي. (عن المغني الأكبر)

[3] أعتقد بأن هذه العبارة البديعة هي إما لكلارنس دارو أو هـ.ل. مِنْكِن.

[4] المعايير الخمسة الأولى منقولة بتصرف عن ورقة ماري آن وارِّن "في المنزلة الخُلُقية والشرعية للإجهاض"، بينما المعايير الثلاثة الأخيرة هي إضافاتي على قائمة وارِّن.

[5] كيف ذلك؟ لأن خبرات الشخص ليست هي الشخص؛ هي شيء لدى الشخص. فلخبرات الشخص قيمة في معزل عن قيمة الشخص. بذا يمكن لشخص فاضل أن يكابد تجربة سيئة (كألم في الأسنان)، كما يمكن لشخص شرير أن يعيش تجربة طيبة (كشعور بالإنجاز).

[6] بالطبع فإن رأيًا يتعلق بمصير نسر الكوندور الكاليفورني قد ينطوي على مكوِّنات غير خُلُقية – أحكام جمالية أو اقتصادية، مثلاً.

[7] باحث من سورية، مهندس في كلِّية الهندسة المدنية، جامعة تشرين، اللاذقية.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود