أي إواليَّة للتغيير؟

من خارج الأنظمة أم من داخلها؟

 

منى فياض

القاهرة

 

نمرُّ في مخاض عسير، وكأننا نولد مرة ثانية. بل ربما كان من الأجدى لنا أن نولد هذه "المرة الثانية"، علَّنا نتخلَّص من كلِّ ما علق بنا من مساوئ تاريخنا الراهن. يتكاثر الجدل والنقاش واللقاءات؛ وهذه علائم صحة، شرط وجود النخبة المسؤولة الفاعلة، ونوع من التقبل عند "جماهيرنا"، وأن نعرف كيفية الاستماع بعضنا إلى بعض، وقبول الرأي الآخر المختلف، والقدرة على التحاور معه، من دون نبذه وشتمه وتحقيره أو المزايدة عليه.

والذي يدعوني إلى هذه المقدمة مقاطعة البعض للمؤتمر الذي عُقِدَ في القاهرة بين 1 و3 تموز 2003 تحت عنوان: "الثقافة العربية من تحديات الحاضر إلى آفاق المستقبل: نحو خطاب ثقافي جديد". فلقد اعتقد بعض المثقفين بضرورة الامتناع عن المشاركة في تظاهرة ثقافية يدعو إليها نظامٌ هو نفسه موضع تساؤل. وهي وجهة نظر جديرة بأن نأخذها في الاعتبار، لكن علينا نقاشها جديًّا، وعلى مستوى واسع، وبحث حسناتها وسيئاتها، وذلك من ضمن نقاشنا مسألة التغيير التي باتت تفرض نفسها: كيف نغيِّر؟ وأي نوع من التغيير نرغب في بلادنا؟ هل هو ذلك التغيير الصادم والمفاجئ – ولن استخدم تعبير "الثوري" هنا! – الذي دأبنا على التشدق به طويلاً؟ أم أن من الأنسب، من الآن وصاعدًا، أن نعمل على بناءٍ دؤوبٍ وبطيء، يطاول أسُس مجتمعنا، بما فيها القيم والأفكار والممارسات التي يمكن أن تساعدنا على تدعيم شروط الديموقراطية البسيطة، من مثل الحقِّ في إبداء الرأي بحرية، والحقِّ في انتخاب من يمثِّلنا حقيقة، والحقِّ في العيش في بلاد يخضع فيها الحاكم قبل المحكوم لسيادة القانون، أو ما يُسمَّى احترام شرعة حقوق الإنسان؟ هل الأجدى المشاركة في كلِّ أنواع المؤتمرات والاجتماعات والنقاشات من أجل إسماع صوتٍ بديل وإبداء آرائنا بكلِّ حرية – وبالطرق السلمية – من دون التعرُّض للعقاب أو المساءلة أو المقاطعة، أم أن الأفضل عدم المشاركة في مثل هذه النشاطات؟

لقد حرص جابر عصفور، منذ الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، على التأكيد على الحرية التامة للقول، من دون أية رقابة. وفي مناسبات كثيرة لم نوفِّر انتقاد جميع الأنظمة العربية ووصفها بالمستبدة، وإنْ على درجات متفاوتة؛ كما ناقشنا، وإنْ في جلسات خاصة، وظيفة هذه الندوات ودورها كعامل تنفيس soupape لهذه الأنظمة نفسها. وهنا نعود إلى ضرورة نقاش إواليات التغيير وطرقه: هل علينا العمل على المدى الطويل والعميق، أم العمل بطريقة مختلفة؟ ثم ما هي شروط التغيير وكيف؟

يصعب نقل وقائع ما جرى في القاهرة في مؤتمر المثقفين العرب (أو بعضهم من أجل الدقة)، وذلك بسبب العدد الكبير من الفعاليات والنشاطات في الوقت نفسه. فهناك ثلاث فترات عمل؛ وفي كل مرة تتوزع الأنشطة على ثلاث قاعات مختلفة، مما يحدُّ من قدرة المشارك على معرفة ما يجري في الأماكن الأخرى. لكن يمكن القول عمومًا إنه بَرَزَ تياران كبيران، عبر الاستماع إلى بعض الجلسات: تيار تقليدي، يعيد الخطاب القديم نفسه، ويكرِّر مقولات تستخدم ما يمكن أن نطلق عليه "اللغة الخشبية". (وأتعرف على صاحب هذه اللغة من عدم قدرتي الفعلية على سماعه: أصغي بكل جوارحي، ولكني "لا أفهم ما يريد قوله" فعلاً.) وتيار آخر يتعرَّف أصحابُه بعضهم على بعض من بضع جمل، وبحسب حساسية جديدة يحملها هذا الخطاب، وطريقة مختلفة في التفكير. (ويشدني الاستماع إلى مثل هذه الآراء، وأتعرف إليها من استمتاعي بالإصغاء ورغبتي في سماعي المزيد من هذا الكلام.) وسوف أنقل بعض ما دار من نقاش، أي ما لفت نظري، حول إحدى الطاولات المستديرة – وكان موضوعها: "حرية الإبداع" – كي نحكم على جدوى المشاركة في مثل هذه التجمعات.

استهل أدونيس الجلسة، مشيرًا إلى أن الحرية هي نفسها ليست مسلَّمة، واستخدم تعبير "ليست معطاة"؛ فالحرية تتطلب النضال. وليس هناك من حرية كاملة في العالم كلِّه؛ كما أن لا تلازم بين الحرية والإبداع: فهناك بلاد حرة من دون إبداع، وهناك بلدان، مثل أمريكا الجنوبية، حيث الإبداع الأكثر غنى وتنوعًا يترافق مع الطغيان. فالطغيان في بلد ما لا يعني، بالضرورة، ضمور الإبداع فيه. كما ارتأى أنه يجدر التركيز في المجتمعات العربية على مستوى آخر، على النشأة في إطار ثقافي يقيني بشكل كامل، أي الوحي والدين أساسًا. فالحرية ليست سياسية فحسب، بل هي ثقافية كبرى وحضارية، تتصل برؤية العربي إلى العالم والأشياء. هناك، في عالمنا، مبالغة في التركيز على الجانب السياسي فقط، الذي ينقلب إلى حجاب، وعدم قدرة على إضافة أيِّ شيء إلى "الكلام–الخاتمة"، أي كلام الله الذي أعطى آخر ما لديه.

لذا، هناك يقينية مطلقة ننشأ فيها: نعرف كلَّ شيء، نصلِّي ونعبد ونعرف المصير وما في الجنة... وعندما نسلك طريقًا غير مستقيمة نعرف أن النار في انتظارنا. هناك اطمئنان وثقة تامة من دون تساؤلات. ويتابع أدونيس: على المستوى العملي، لا يحق لي التراجع عن هذا اليقين؛ ليس أمامي، إذا كان عندي مشكلات كبرى، سوى الحديث مع مصدر هذه المشكلات: الله. لا يحق لي أن أتراجع عن إيماني وان أكون لامتديِّنًا. فلماذا يُعَدُّ التديُّن فطرة، وليس اللاتديُّن فطرة أيضًا؟ وهذا ليس مقتصرًا على الثقافة العربية.

وحتى عندما ألوِّح بفكرة "التسامح"، أي عندما "أتسامح" مع أحدهم، يكون الحق المطلق معي: أتسامح معك في التعبير عن أفكارك الخاطئة. ويستنتج أدونيس: لذلك أنا، جوهريًّا، ضدَّ فكرة التسامح، ومع أن أكون، كيانيًّا وأساسًا، مع أيِّ إنسان في العالم؛ ضد التسامح ومع الوحي الإنساني: نحن بشر متساوون في جميع الحقوق والواجبات.

أدَّتْ اليقينية إلى غياب أيِّ حدٍّ مشترك بين مَن يدافعون عن الحرية والإبداع وبين مَن يطالب بالحرمان والسجن لِمَنْ يطالب بهذه الحرية. هناك انحيازية عربية تستهدف الحرية: كل يوم نجد اصطفاف مبدعين ضدَّ مبدعين، وكتَّابًا ضدَّ كتَّاب. وهذه حياتنا منذ قرن كامل، ولا تزال قائمة هي نفسها. هذا عدا الرقابة، حيث المراقِب هو المبدع أيضًا. أتمنى أن يرفض المبدع أية وظيفة رقابية!

نحن عراة! لا أحد يحمي حريتنا (وبالتالي إبداعنا): لا القانون يحميها، ولا المجتمع. وإذا قارنتَ بين مبدع عربي ومبدع غربي، وقِسْتَ المسافة التي يتحرك فيها غير العربي، تجد أن المسافة التي يتحرك فيها العربي لا تزيد عن الفتر، بينما مسافة الغربي هي الفضاء كلُّه. كتابة العربي هي نوع من الرقص في السلاسل. يتطلب الإبداع والحرية نضالاً مزدوجًا: ليس فقط نضالاً ضدَّ الخارج، بل ضدَّ الذات أيضًا. في كلٍّ منا رقيب ساهر؛ والتحرر هو من الداخل قبل التحرر من الخارج.

هكذا تكلَّم أدونيس. لكن الطيب صالح، الذي بدا تعبًا وملولاً (وربما من أجل ذلك ارتأى ضرورة التصالح مع الذات ومع هذا العالم العربي)، بدأ مداخلته بأننا بخير، وبأن الإبداع بخير. ما يُسمَّى الإبداع في الغالب هو الذي يحلُّ المشاكل، ويطوِّع العقد المنطقية والعقلانية. وهو يعتقد أننا، في عالمنا العربي، نمتلك خاصية تحويل المشاكل إلى قضايا، حتى تكبر القضية وتستعصي على الحل. عندنا مشاكل محدَّدة، علينا أن نعمل على حلِّها. أكبر مشكلة هي التي أسبغت على تاريخنا هذه القتامة: مشكلة فلسطين عملناها قضية. هناك أناس أتوا، أخذوا هذه الأرض؛ والمشكلة في استردادها. إنه صراع territorial، وليس قضية فلسفية وجودية، تضطرنا أن نعيد تقويم حاضرنا وماضينا، مع كلِّ احترامي لأدونيس، والنظر إلى العقيدة، وهل عند الله كلام آخر يقوله، أم أنه صَمَتَ.

ويجد الطيب صالح أن هذه سمة يتَّصف بها أهل بلاد الشام، أي الانزلاق في تحويل المشاكل إلى قضايا. فكيف يمكن الخروج منها عندئذٍ؟ ويتابع مؤكدًا: أنتمي إلى البراغماتيين والوضعيين: الإنسان لا يسير إلى الوراء، بل إلى الأمام، بتقديري المتواضع. من هنا ضرورة التعرف إلى وجوه النواحي الإيجابية، لتؤكد ثقتنا بأنفسنا.

لكن مداخلة جابر عصفور أعادتنا إلى "القلق" الذي حاول الطيب صالح تبديده ولم ينجح، فارتأى أن ما يُسمَّى مشكلة حرية الإبداع لا تظهر سوى في البلدان المتخلفة التي تتحالف فيها أنظمة ذات سلطة استبدادية تغيِّب فاعلية الدستور ومبدأ الفصل بين السلطات، وحيث تتحالف مع هذه السلطة الاستبدادية سلطةٌ دينية تتمتع بالاستبداد هي نفسها. وهي ليست بالضرورة مؤسَّسية، بل تعبِّر عن حالات شعبية وأهلية، وتكون أقوى في أبعادها وممارساتها القمعية من السلطة الرسمية (مثال اغتيال فرج فودة ومحاولة قتل نجيب محفوظ...). التحالف الخطِر، إذن، هو الذي يتم بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني؛ وهذا ما تقوله أحداث التاريخ. والمثال على ذلك ما حَدَثَ لطه حسين وعلي عبد الرازق في العشرينات: تعرَّض علي عبد الرازق لتعطيل عالميَّته الدينية بسبب التحالف بين السياسة والدين. لكن عند صدور كتاب طه حسين، بعد ذلك بعام واحد، قامت الدنيا ولم تقعد. ولكن لم يحدث له ما حدث لعبد الرازق؛ ذلك أن العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية كانت قد تفكَّكتْ. إن التلازم الخطِر بين هاتين السلطتين هو ما يجب أن نضعه في اعتبارنا. إنه استبداد متبادل؛ وينبغي مواجهة المنتفعين منه، وليس الخوف منه. فعلى الخائف أن يترك القلم. إن تضحيات رجال مبدعين هي التي أوصلتنا إلى هذه القاعة كي نناقش الحرية والإبداع.

وهذا رأي صلاح عيسى أيضًا. فثقافة الاستبداد تسكن النخاع الشوكي للأمة، وهي شديدة التجذُّر. ومن التبسيط القولُ إن الموضوع هو موضوع أنظمة؛ فكما تكونون يُوَلَّى عليكم. لقد سبق وقيل كثيرًا إن الشعب العراقي لا يحكمه إلا شخص مثل صدام حسين. لنتأمل في فكرة الردَّة مثلاً. تكثر استخدام عبارات "خائن"، "عميل"، "مرتد"، "كافر"، إلخ على ألسنة مختلف الفئات السياسية – لا فرق هنا بين القومية والماركسية و... الأصولية. المطلوب التقدم خطوة في إطار الاعتراف المتبادل، مع الاحتفاظ بحقِّ الاختلاف، والبحث عما هو مشترك، والدفاع عن الحقِّ في التواجد سوية. فكلُّ رأي هو اجتهاد قابل للموافقة أو المعارضة، وليس قابلاً للاجتثاث أو العدوان أو الإقصاء – وهذا يتطلب مجهودًا كبيرًا. أنا مع البراغماتية التي أشار إليها الطيب صالح، والابتعاد عن فكرة هدم العالم وقلبه. ويُعَدُّ هذا خطوة إلى الأمام.

لكن فتحي عبد الفتاح، الصحافي والمناضل الذي قضى نصف حياته في السجون، يتفق مع أدونيس في إعلانه مجيء أوان نقاش "التابوهات"، ويختلف مع الطيب الصالح وبراغماتيَّته، ليس انتقاصًا من البراغماتية، ولكن لأننا نعاني برأيه منذ 50 عامًا: عند أيِّ نقاش، يقال لنا "الثوابت"، وتُفتَح السجون لكلِّ من يخالف هذه الثوابت. ليس هناك من فكرة خطِرة، مادامت تطرح نفسها للمناقشة. الخطر – كل الخطر – أن هناك من يتكلِّم باسم الله، وباسم الربِّ، وباسم الدين، وباسم الوطن. ليس هناك من فكرة خطِرة مادمت لا أدَّعي أنني أمتلك الحقيقة المطلقة. ولقد عانت أوروبا طويلاً من المؤسَّستين المهمتين: المؤسَّسة الدينية والمؤسَّسة العسكرية. وبما أني قد سُجِنْتُ، أعتقد أن قهر المواطنين هو الذي يفتح الباب أمام القهر الاستعماري. شعار أمن السلطة فوق أمن المجتمع غير طبيعي؛ الطبيعي أن السلطة تستمد أمنها من أمن المجتمع.

ولم ينسَ نبيل سليمان أن يشير إلى معضلة الرقيب الفني ودوره في الحياة الإبداعية والثقافية عامة. وهو متجسد في سلوك وفي مؤسَّسات ومنظمات؛ ومنها، مثلاً، نموذج اتحادات الكتَّاب العرب. وارتأى أن هذه الهيئات تحتاج إلى تفكيك بعدما طال تأبيدها (ففي سوريا لا يزال يرأس اتحاد الكتاب الشخص نفسه منذ 27 عامًا متواصلة!). وقد تساءل: إلى متى يدوم هذا الوضع؟ إلى متى يُحشَر جميع الكتَّاب بإمكاناتهم في هذا المحشر الآتي من محشر المنظمات الشعبية؟ في بلد مثل سوريا يقوم الاتحاد بالرقابة على الكتب المترجمة والموضوعة، وبواسطة إوالية: "أنتم الكتَّاب، راقبوا بعضكم بعضًا"! المفروض إلغاء هذه الرقابة (الذي يتطلب تدخلاً مباشرًا من رئيس الجمهورية)؛ وعند تعذر ذلك، إلغاء الرقابة المسبقة للطباعة على الأقل. فهناك رقابتان: واحدة للطباعة والأخرى للتوزيع.

والحقيقة أنْ ليس الكتب وحدها الخاضعة للرقابة في بلادنا، بل الموسيقى أيضًا. تأسفت سمحة الخولي، بعد أن قدِّم صلاح فضل رأيه بأن الموسيقى لا تخضع للرقابة، أنها، على العكس، صارت تخضع للرقابة، وصارت ممارستها حرامًا، حيث غابت التربية الموسيقية عن المدارس. وأسباب غيابها تسرُّب فكرة أن الموسيقى "حرام". والموسيقى، التي تساهم في خلق مواطن سوي، بفضل تنميتها للجانب الروحي في شخصيته، تغيب عن المجال التربوي بفضل الرقابة الدينية. (ونذكِّر هنا بأن هناك رقابة رسمية، وأخرى أهلية أو شعبية.)

سمير فريد أجاب عن تساؤل سمحة الخولي، عند تعجُّبها من إعجاب الجماهير بالمطرب شعبان عبد الرحيم، فقال إنه أثار هذا الإعجاب بسبب أنه قال: "أنا بكره إسرائيل"، وعلَّق أن أحدًا لم يبن شيئًا من الكراهية. وأعطى أمثلة من العشرينات، عندما طُلِبَ من يوسف وهبي أن يجسِّد دور النبي في فيلم ألماني، ودُفِعَ له حينذاك 10 آلاف مارك. وعندما نُشِرَ الخبر في الصحف، طُلِبَ منه عدم التمثيل فيه "لصعوبة تجسيد الدور، ولصعوبة تمثيل الإسراء والمعراج، وأنه سوف يكون غير ناجح"؛ أي استُخدِمَتْ الحجة المنطقية والجمالية والتقنية، وليس أي شيء آخر. ورفض يوسف وهبي العرض، وذلك في إشارة إلى الرحابة التي عرفتْها تلك الفترة مقارنةً مع هذه الحقبة الراهنة. وقد طالب بنزع السقف أمام الحرية، وعلَّق على بيت شعر "السيف أصدق أنباء من الكتب"، وأكَّد أن الكتب هي التي أصدق أنباء من السيف. فالذي يقدر على التغيير هو الكلمة، وليس السيف.

أخيرًا ختم ناصيف نصار هذا النقاش بتعريفات فلسفية. فالإبداع، في نظره، هو الإيجاد من دون مثال سَبَق. في الفنِّ وفي الفكر والفلسفة عبارات تستحق التفكير، منها شرعية الإبداع. وتساءل عن معنى شرعية الإبداع؟ فذلك يعني أننا نطلُّ عليه من زاوية حُكم القيمة والمعيارية، ما يأخذنا إلى الشرعية والدينية منها. وهو يعتقد أن هذه المقاربة تفخِّخ الموضوع من أساسه: فهل الدين هو المرجع للحكم على الإبداع وتقرير مكانته؟ هل الوحي هو مصدر الشرعية دون سؤال؟ إن الوحي هو أيضًا قابل للسؤال. نحتاج إلى ثقافة السؤال، إلى الدهشة والقلق؛ ومن لا يعاني من ذلك لا يبدع. لماذا يبدع مادامت الثقافة العربية ثقافة أجوبة، ولا تشجع على الإبداع؟ بعض المفكرين واجهوا الفكر الديني فنالوا التكفير. أقصى ما تمَّ التوصل إليه حرية الاجتهاد. وتابع: أنا كفيلسوف لا أعترف بالاجتهاد، لأنه لا يوجد نصٌّ مقدس عندي ومرجع مطلق. أبحث عن أسئلة وأجوبة، إلى ما لا نهاية.

وارتأى أخيرًا أن شرط تغذية الإبداع جعله معيارًا خاصًّا من معايير التعليم – وإلا فلن تتوصل إلى جعله سمة عامة: التربية على الإبداع والاهتمام الجدي كي نتوصل إلى التعبير. ومَن يقرُّ ذلك نظم تعليمية ونظام سياسي...

هذا بعض ما دار في هذا المؤتمر التي ترتفع أصواتٌ شاجبة له ومعترضة على مشاركة المثقفين فيه.

***

السؤال مرة أخرى: هل الأجدى لنا الاجتماع في ما بيننا للمداولة في هذه الأفكار والجهر بها عاليًا، حتى من على منابر الأنظمة، مادام ذلك ممكنًا بحرية؟ أم المقاطعة؟ إلى متى سوف نظل نعزف على نغمة "المقاطعات"، ذات الطابع السلبي، المتعددة والمتناسلة؟ وهل هي الطريقة الأجدى في المقاومة؟ إلى متى "سياسة الكرسي الفارغ"؟

لا أدَّعي أن اجتماع بعض مثقفين عرب سوف يغيِّر الأوضاع ويقلبها؛ ولكنها محاولة للتصدي – ربما – للخطاب السائد الذي يضطلع به مثقفون ودعاة من أشباه محمد عمارة الذي لا يزال يدعو إلى القتل والتدمير. ولقد نقل أدونيس بعض آراء محمد عمارة الذي كتب في صحيفة يوميات الأخبار (الجمعة 4 تموز 2003) ما خلاصته:

1.    "خاض [صلاح الدين] معركة كبرى وطويلة على الجبهة الفكرية والثقافية ليحلَّ الفكرُ السُّني محلَّ المذهبية الإسماعيلية–الباطنية"، وذلك من أجل "توحيد الأمة على المذهب السُني قبل البدء في معركته الفاصلة لتحرير القدس".

2.    بلغ من التزام صلاح الدين وتشدُّده في هذا الأمر الحدَّ الذي أغلق فيه الأزهر ذا المناهج الشيعية، حتى تغيَّرتْ مناهجُه إلى الفكرية السُّنية. ومع الدولة والعلم والفكر والتعليم تحوَّل القضاءُ إلى المذاهب السُّنية أيضًا".

3.    "وتحصينًا للجبهة العامة المكرِّسة كلَّ طاقاتها وإمكاناتها [كذا – وهي عربية بالغة الرداءة] وجمع ثغورها لتحقيق استراتيجيا التحرير، بلغ صلاح الدين حدَّ التشدُّد ضدَّ كلِّ الفكريات والفلسفات والإيديولوجيات المخالفة للسُّنة، عقيدة الغالبية وإيديولوجيتها، فقضى على دعاة الإسماعيلية الباطنية، وأمر ابنه حاكم حلب بإعدام فيلسوف الغنوصية الإشراقية السهروردي (1154-1191 م)، لما أثاره في مناظراته مع الفقهاء من بلبلة فكرية كانت تخلط الأوراق بين الحضارات والثقافات، فتضع زرادشت وأفلاطون مع نبي الإسلام، وتخلط محاورات أفلاطون مع الوحي الكلداني بالقرآن الكريم، الأمر الذي يميِّع الجبهة الفكرية باعتماد منهاج "الأشباه والنظائر"، في وقت يحتاج فيه الصراع مع الآخر إلى اعتماد منهاج "الفروق" للتميُّز عن الآخر، ولملء الوجدان بالكراهة له، كشرط من شروط التعبئة والانتصار".

انتهى كلام "الدكتور".

يكتب أدونيس ويتابع: "إنه يقول لأولي الأمر في الإسلام اليوم أن عليهم، إذا شاؤوا تحرير القدس والانتصار على العدو، أن يبدأوا أولاً بتحصين الجبهة الداخلية، أي بقتل الشيعة، وإبادة الفكر الشيعي! وكان على هذا الدكتور أن يضيف إلى استراتيجيا صلاح الدين تلك المقابر الجماعية التي أقامها للكتب الإسلامية الشيعية، آمرًا بتحويلها إلى "حطب" يُحرَق في البيوت والشوارع لتدفئة العقول الباردة، وأن يربطها، تحية واعتبارًا بـ"حفيداتها" – المقابر الجماعية للبشر في العراق، التي "حصَّنتْ" الجبهة العراقية الداخلية، ومهَّدتْ لانتصار ذلك "البطل" الآخر، "الحفيد" المقدام، صدام! أليس في ما يقوله هذا الدكتور إهانة لعقل هذه "الغالبية" التي يتكلَّم باسمها؟ أليس فيه تحريض، باسم الدين، لقتل جميع الذين يخالفونها الرأي؟ – خصوصًا أن هذا القتل شرط ضروري لانتصار هذه "الغالبية" على إسرائيل وأمريكا. وكيف يمكن محاربة الاستعمار "الخارجي" بمثل هذه العقلية التي يمثِّلها هذا الدكتور، وهي النموذج الأكمل لأبشع أنواع الاستعمار "الداخلي" – استعمار الحقيقة والعقل والمنطق، إضافة إلى الدين؟ أليس هذا "الاستعمار الداخلي" هو الحليف الأول لذلك "الاستعمار الخارجي"؟"

أما عن العراق في المؤتمر، ربما لم يحصل نقاش مباشر ومفصَّل لما حصل ويحصل في العراق؛ ولكن "زلزال" العراق كان المحرِّك والخلفية والماثل في الذهن عبر مجريات المؤتمر كلِّها. وكان التأكيد على ضرورة إحداث التغيير الجذري في الأنظمة السائدة، التي أكَّد الكثيرون على طابعها الاستبدادي والقمعي – وإنْ على درجات متفاوتة – من أجل جعلها دستورية وممثِّلة وضامنة لحرية الرأي والمعتقد، أو ما يُسمَّى الإبداع بكلِّ أشكاله، بما هو التعبير الأمثل عن فشل هذه الأنظمة الذريع في كلِّ الأهداف التي كانت قد أعلنتْها كبرنامج أو هدف. ألا يعني ذلك أن هذه الأنظمة نفسها وُضِعَتْ موضع التساؤل؟ لكن، كالعادة في كلِّ المجتمعات والمؤتمرات و...، هناك فئة المحافظين الذين يتمسَّكون بما هو مقدَّس في نظرهم، وبما يسمونه رموز الهوية العربية – تلك الرموز التي بَنَتْ عليها أنظمةُ الاستبداد (ولو على درجات متفاوتة) "شرعيتها".

ومَن يعتقد منَّا أننا سوف نحلُّ مشاكلنا بمجرد عقد مؤتمر أو إصدار بيان عنه؟ لكن لا شكَّ أن هذا التجمُّع الثقافي القاهري شكَّل بداية لحوارات لا بدَّ من استمرارها وتكاثرها على مستوى النخب العربية في جميع البلدان، لكي يصبح ما يتمُّ تداوُله على مستوى بعض النخب هاجسًا جماعيًّا للشعوب العربية وهمًّا شخصيًّا لكلِّ مواطن عربي.

ونكون قد استوعبنا مدى عمق الزلزال الذي أصابنا عندما يصبح محورُ كلِّ حوار واجتماع هو مقدار احترامنا لحقوق الإنسان، ومقدار إدانتنا الواضحة والعلنية والمجسَّدة للمقابر الجماعية في العراق، من أجل الاعتراف بأنها العار الأكثر خزيًا من نكبة احتلال فلسطين، وأنه من العيب علينا أن تؤدِّي بنا هذه النكبة إلى هذا المصير بعد 50 عامًا، بدل أن تكون بداية نهضة فعلية. إن احتلال فلسطين هو اعتداء "خارجي" صارخ على حقوق الإنسان، أولاً وأخيرًا، مثلما أن استبداد الأنظمة العربية هو اعتداء "داخلي" على هذه الحقوق نفسها.

*** *** ***

عن النهار، الاثنين 21 تموز 2003

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود