next previous
english arabic

الحرية الأولى والأخيرة

 

جِدُّو كريشنامورتي

 

6. في الوحدة

سؤال: بدأت أدرك أنني وحيد جدًّا. فماذا عليَّ أن أفعل؟

كريشنامورتي: يريد السائل أن يعرف لماذا يحس بالوحدة. فهل تعرفون معنى الوحدة، وهل أنتم واعون لها؟ أشكُّ كثيرًا في ذلك، لأننا نُغرِقُ أنفسنا في النشاطات، في الكتب، في العلاقات، في الأفكار، التي تحول فعلاً بيننا وبين وعي الوحدة. فماذا نعني بالوحدة؟ إنها شعور بالفراغ، بعدم امتلاك شيء، بعدم اليقين مطلقًا في أيِّ شيء، بعدم الرسوِّ في أيِّ مكان. إنها ليست اليأس، ليست انعدام الرجاء، بل شعور بالخواء، شعور بالفراغ، وشعور بالإحباط. أنا واثق من أننا جميعًا أحسسنا بها، السعداء منَّا وغير السعداء، النشيطون منَّا جدًّا جدًّا وأولئك المدمنون على المعرفة. جميعهم يعرفونها. إنه الشعور بألم حقيقي لا ينضب، ألمٍ لا يمكن سَتْرُه – مع أننا نحاول جاهدين سَتْرَه.

دعونا نقارب هذه المشكلة من جديد لنرى ما يجري فعلاً، لنرى ما تفعلون عندما تحسون بالوحدة. أنتم تحاولون أن تهربوا من إحساسكم بالوحدة، تحاولون أن تنصرفوا عنه إلى كتاب، تشايعون زعيمًا ما، أو تذهبون إلى السينما، أو تصيرون نشيطين جدًّا جدًّا على الصعيد الاجتماعي، أو تنصرفون إلى العبادة والصلاة، أو ترسمون، أو تكتبون قصيدة عن الوحدة – ذلك ما يجري فعلاً. إنكم، إذ تعون الوحدة، ألمَها، الخوفَ الخارق منها الذي لا قعر له، تفتشون عن مفرٍّ؛ وذلك المفرُّ يصير هو الأهم، ولذلك فإن نشاطاتكم، معرفتكم، آلهتكم، مذياعكم، تصير جميعًا هامة – ألا تصير؟ عندما تعوِّلون على قيم ثانوية، تقودكم هذه إلى الشقاء والشواش؛ والقيم الثانوية هي القيم المحسوسة حتمًا؛ والمدنية الحديثة القائمة عليها توفر لكم هذا المفر – المفرَّ عبر مهنتكم، أسرتكم، اسمكم، دراساتكم، عبر الرسم، إلخ. ثقافتنا كلُّها قائمة على هذا المفر؛ مدنيتنا برمَّتها مؤسَّسة عليه – وهذا تقرير لواقع.

هل اتفق لك مرة أن تحاول أن تكون وحيدًا؟ عندما تحاول جاهدًا، ستحس بمبلغ صعوبة الأمر الخارقة، وبمقدار الفطنة التي يجب أن نتحلَّى بها حتى نكون وحدنا – ذلك لأن الذهن لن يسمح لنا بأن نكون وحدنا. الذهن يصير لا يقرُّ له قرار، ينشغل بالمهارب – فماذا نحن فاعلون إذن؟ نحاول أن نملأ هذا الخواء الخارق بالمعلوم. نكتشف كيف يمكن لنا أن نكون نشيطين، كيف نكون اجتماعيين؛ نحن نعرف كيف ندرس، كيف نشغِّل المذياع. نملأ ذلك الشيء الذي لا نعرفه بالأشياء التي نعرفها. نحاول أن نملأ ذلك الفراغ بشتى صنوف المعرفة والعلاقة أو الأشياء. أليس الأمر كذلك؟ تلكم هي سيرورتنا، ذلكم هو وجودنا. أما وأنكم تدركون ما تفعلون، هل مازلتم تظنون أن بمقدوركم ملء ذلك الخواء؟ لقد جرَّبتم كلَّ وسيلة لملء خواء الوحدة هذا. فهل نجحتم في ملئه؟ جرِّبتم أفلام السينما ولم تنجحوا؛ ولذلك تتبعون معلِّميكم وكتبكم، أو تصيرون نشيطين جدًّا اجتماعيًّا. فهل نجحتم في ملئه، أم أنكم سَتَرْتُموه فقط؟ إذا اكتفيتَ بمجرَّد سَتْرِه، فهو مازال موجودًا؛ ولذا لا بدَّ من أن يعود. أما إذا تمكَّنت من الهرب جملةً، إذ ذاك فقد أوصدتَ على نفسك في مصحَّة أو صرتَ متبلِّدًا للغاية. ذلك ما يجري في العالم.

هل من الممكن لهذا الفراغ، لهذا الخواء، أن يُملأ؟ إذا لم يكن ذلك بالإمكان، هل يمكن لنا أن نتهرب منه، أن نفرَّ منه؟ إذا كنَّا اختبرنا مَهْرَبًا، ووجدناه عديم القيمة، أليست المهارب الأخرى جميعًا، بالتالي، عديمة القيمة، هي الأخرى؟ ولا يهم سواء ملأتَ الفراغ بهذا أو بذاك. التأمل المزعوم مهرب هو الآخر؛ إذ لا يهم كثيرًا تغييرُك لسبيل الهرب.

كيف، إذن، ستجد ما تفعل حيال هذه الوحدة؟ يمكن لك أن تجد ما تفعله فقط عندما تتوقف عن الهرب، أليس كذلك؟ عندما تكون على استعداد لمواجهة الموجود – مما يعني أنك يجب ألا تشغِّل المذياع، يعني أنك يجب أن تدير ظهرك للمدنية – إذ ذاك فإن تلك الوحدة تنتهي لأنها تتحول تحولاً تامًّا. إنها عندئذٍ لا تعود وحدة. إذا فهمتَ الموجود اكتشفتَ أن الموجود هو الحقيقي. ولأن الذهن يواصل التجنب، والفرار، ورفض رؤية الموجود، فهو يوجِد عقباتِه الخاصة. ولأن لدينا كلَّ هذا العدد من العراقيل التي تحول بيننا وبين الرؤية، لا نفهم الموجود، وبالتالي، نتهرب من مواجهة الواقع. هذه العراقيل كلُّها من إيجاد الذهن لكيلا يرى الموجود. إن رؤية الموجود لا تتطلَّب مقدارًا كبيرًا من القدرة ومن وعي الفعل وحسب، إنما تعني أيضًا إدارة ظهرك لكلِّ ما راكَمْتَه، حسابك المصرفي، اسمك، ولكلِّ ما ندعوه مدنية. عندما ترى الموجود، ستجد كيف تتحول الوحدة.

***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود