في التحول والثبات
ومعابر
دارين أحمد
في
نهاية عقدها الثاني وبعد تحولات عدة لابد من الحديث قليلاً عن معابر
لتوضيح بعض النقاط المتعلقة بهذه المجلة المهمة وبما قدمته في مراحلها
المختلفة من فكر فلسفي خلاق ومتنوع ومن روح منفتحة على كل مختلفٍ ساعٍ
إلى إزاحة الحجب عن مشتركنا البشري الواحد سواء كأفراد أو جماعات.
بدأت معابر في العام 2000 بجهود بعض "الحالمين" بعالم أفضل ممن آثروا
استخدام أوقات فراغهم القليلة - لكونهم جميعًا من غير المتفرغين للعمل
الفكري ولديهم أعمالهم الضرورية للحياة اليومية – في السعي لتحقيق حلم
المساهمة في خلق تيار وعي جديد يكشف المشترك بين الأنا والآخر، بين
الحيِّ المفكِّر والحيِّ، ويفكك المعتقدات الإلغائية السائدة
والمتكاثرة؛ فكانت معابر[1].
بدأت معابر مجلة فصلية ثم شهرية وأحيانًا يومية، بمعنى نشر مادة كل
يوم، وذلك حسب ظروف وإمكانيات العمل، واستمر هذا حتى التحول الأساسي
الأول في المجلة والذي كان بإنشاء دار النشر "معابر" في العام 2007،
وقد تزامن انشاء دار النشر مع حصول معابر على دعم مالي صغير مكَّن من
ترجمة وطباعة 27 كتابًا على مدى ثمان سنوات[2].
ولأن غاية المجلة ودار نشرها لم تكن ربحية يومًا فقد تم توفير جميع هذه
الكتب منذ لحظة انجازها بشكل مجاني على النت كملفات بي دي إف في مكتبة
معابر الالكترونية، و/أو كمقالات منشورة في المجلة؛ كما تم اختيار كتب
تدعم خطًا فكريًا أساسيًا كانت مجلة معابر سبَّاقة إليه، وهو تعريف
قراء العربية باللاعنف كفكر مقاومة وقوة بعيدًا عن تأويلاته الرومانسية
أو الدينية، فكان كتاب قاموس اللاعنف على سبيل المثال من أهم الكتب
التي تتناول اللاعنف كاستراتيجيات ذات غايات مجتمعية وإنسانية متعالقة
مع هموم المواطن اليومية ومعاناته. أي تم تناول اللاعنف كخيار بديل عن
العنف للعمل على تحقيق شروط أفضل للعيش الكريم، خيار لا فصل فيه بين
الغاية والوسيلة، على الضد من العنف الذي أثبت ويثبت دائمًا كيف يتم
ابتلاع الغاية النبيلة من قبل وسيلة مدمرة.
وإلى جانب ما تمت طباعته من كتب حول اللاعنف بجانبه العملي تمت ترجمة
كتب تتناوله فلسفيًا وتاريخيًا، بالإضافة إلى كتب أخرى تستكمل ما كانت
معابر سبَّاقة إليه كمجلة أيضًا بتعريف قراء العربية إلى فكر الفيلسوفة
الفرنسية سيمون فايل فترجم لها محمد علي عبد الجليل، الذي سبق وترجم
قاموس اللاعنف لجان ماري مولر، كتابين مهمين: الأول مختارات من أهم
مقالاتها، والثاني كتاب التجذر: تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن
الإنساني. وأيضًا استكملت معابر تعريف قراء العربية بفكر جدو
كريشنامورتي من خلال ترجمة بعض كتبه، إضافة إلى كتب عديدة أخرى لمؤلفين
آخرين لا تقل أهمية عما سبق.
حدث التحول الأساسي الثاني في معابر ببطء وقد بدأ في العام 2010 مع
استكمال ديمتري أفييرينوس طريقه الفكري بشكل مستقل عن المجلة، وديمتري
أفييرينوس مع أكرم أنطاكي كانا الدعامة الأساسية لعمل معابر إلى جانب
جهد العديد من المفكرين والمترجمين المهمين الآخرين، ثم في عام 2011
بدأت
موجة التغيير التي اصطلح على تسميتها "الربيع العربي" بكل ما كانت
تحمله في بدايتها من آمال قضى عليها العنف سريعًا: عنف السلطة، والعنف
الذي اُعتمد كوسيلة لتتغير السلطة. إذ لم يمض وقت قصير حتى تحولت سوريا
إلى ورقة لعب في يد الدول الكبرى، وما نتج عن ذلك على أرضها الحبيبة من
دمار أثَّر في حياة كل من يعمل في معابر. ثم كانت وفاة أكرم أنطاكي في
العام 2013، والذي كان الدعامة الأساسية الباقية في عمل المجلة كما
يعرفها القرَّاء؛ إذ كانت مشروعه الفكري والثقافي "الشخصي"، بذل لأجلها
ومعها الكثير، وبوفاته كان من الصعب استكمال وتيرة العمل ذاتها، خاصة
مع ظروف الحرب التي منعت امكانية قيام جهد جماعي كاف لذلك.
رغم كل شيء استمرت معابر في الصدور شهريًا لعدة سنوات ثم كان ما تقره
الضرورة بأن يحدث التحول الأخير في العام الماضي من اصدار شهري إلى
اصدار فصلي يحكمه توفر مواد نوعية للنشر ووقتٍ لتحرير وتحضير هذه
المواد ونشرها.
يضاف إلى كل ما سبق أعلاه تغيُّر طبيعة النشر والقراءة مع انتشار وسائل
التواصل الاجتماعي، إذ اعتمد العديد من الكتَّاب صفحاتهم الشخصية على
الفيسبوك كمنبر أساسي لفكرهم له الأفضلية مقارنةً بالنشر في مواقع
فكرية لا عائدَ مادي من النشر فيها، كما هو الحال في معابر. كما أن وقت
القارئ قد تم استهلاكه لصالح مواقع التواصل هذه، ولصالح الصورة والسرعة
والحركة الخاطفة الملونة الدعائية، وهذا ما فرضته أيضًا طبيعة استخدام
الموبايل كشاشة للقراءة، وقد تماشت أغلب، إن لم نقل الكل تقريبًا،
المواقع الثقافية الإلكترونية مع هذا التغير الضروري للبقاء في السوق
الثقافي. وبما يخص معابر فقد وصلتنا رسائل عديدة، ومنذ عدة سنوات،
تتساءل عن سبب بقاء موقع معابر على شكله القديم غير العصري من جهة وغير
المتناسب مع الاستخدام التقني للثقافة من مثل مشاركة مقال ما على مواقع
التواصل الاجتماعي، أو إضافة تعليقات وصور وفيديوهات... الخ. وقد قدم
بعض القراء مشكوين اقتراحات تطوعية لتصميم موقع عصري، وقد شرحنا لهم
بعد الشكر الكثير أن موقع معابر قد تم تصميمه من قبل أكرم أنطاكي في
عام 2000 على برنامج الفرونت بيج والذي كان آخر تحديث له من قبل
مايكروسوفت في العام 2003، حيث توقفت الشركة عن اصدار نسخ محدثة منه،
والطريقة الوحيدة لبناء موقع عصري هي في البدء من الصفر وما يعنيه هذا
من نقل مئات المقالات التي هي أرشيف معابر المهم خلال السنوات الماضية،
يدويًا، إلى الموقع الجديد، وهو جهد لا يتوفر له وقت كاف. وطبعًا لا
يمكن لمعابر أن تكون دون أرشيفها الذي يحمل جهد وحب وإخلاص سنوات
عديدة. هناك بديل يتمثل في بناء موقع عصري ووضع رابط لموقع معابر
القديم وبالتأكيد هناك أفكار أخرى قد تمثل حلولاً لما يعتقده البعض
مشكلة! بالنسبة لي لم أر حتى الآن أية مشكلة في بقاء موقع معابر على
شكله الحالي في الظروف الحالية، ولي في بقائه هذا رأي شاعري نوعًا ما،
إذ أشبِّهه ببيت العجوز في فيلم
Up
عندما يظهر بين العمارات الشاهقة. يحتاج المرء إلى الجلوس على التراب
أو على حجر من حين إلى آخر بعد وقت طويل من الراحة التي توفرها الكراسي
والأرائك. لا بأس أن لا يُقرأ مقال معابر على الموبايل بسهولة ولا بأس
أن لا تتوفر فيه الصور الملونة والفلاشات والفيديوهات، ولا أن لا
يُشارك على مواقع التواصل... سيكون جميلاً من حين إلى حين أن يحن قارئ
المجلة إلى استخدام شاشة الكمبيوتر الكبيرة أو طباعة مقال ما والجلوس
بهدوء للقراءة فقط، مع وقت كاف لا تقطعه رسائل الواتس أب، أو
المسنجر...
وفي النهاية، التحول الشكلي لموقع معابر هو أمر تحكمه الضرورة وغياب
الإمكانية لفعل ذلك دون أن يتأثر ثابتُ معابر[3]،
والذي سيكون موضع الحديث التالي...
*
يتعجب أونامونو في كتاب "الشعور المأساوي بالحياة" من أن يرغب إنسان ما
أن يكون إنسانًا آخر، الإنسان يرغب أن يملك ما يملكه إنسان آخر أما أن
تتلاشى أناه وتختفي في العدم ليحل محلها أنا إنسان آخر فهذا ما لا
يطيقه المرء، أو لنقل هي رغبة مقنعة بالموت يكفي أن يُزاح قناعها
قليلاً حتى يتحرك الذعر في قلب المتمني. فالثابت في وعي الإنسان أناه،
وهذا الثابت يعني مادته وجوهره ووجوده الذي يحمل التحولات المستمرة في
حياته المعروفة، إذا لا يتوقف التحول لحظة، حتى لحظة العدم الأخير التي
ما تزال الآمال تحوطها بوجود استمرارية ما للروح أو للوعي أو لأي شيء
يتعلق بهذه الأنا.
وإذا كان ثابت الإنسان أناه، فللأشياء معنويةً أو مادية أناها أيضًا،
واستخدمُ كلمة الـ"أنا" رغم أنها التصقت بالفرد ووعيه فقط – هذا إضافة
إلى تاريخها الاستبدادي الطويل في مسيرة الإنسان الفكرية، إذ كيف يكون
للشجرة على سبيل المثال أنا، وللحجر، وللكلب، وللحَمَل.. الخ، سيصعب
على "الإنسان" التمييز بين ذاته وذات الكائنات الحية أو الموجودات في
هذا الكوكب واستخدام هذا التمييز كقاعدة للتفوق عليها؛
مع ذلك لا بأس بهذا الالتباس، فمنه قد يتخلق عقل إنساني مختلف يرى
القاعدة المشتركة، المستوية وليست الهرمية المتدرجة، التي نعيش عليها
جميعًا، كائنات حية وجمادات.
كانت أنا معابر وما تزال، أنا الوعي الجديد، المختلف، النافض عنه
الايديولوجيات والمثاليات الاقصائية، الأنا الراسخة في حق كل حيٍّ أن
يكون، وفي واجب كل حيٍّ واعٍ أن يعمل ما في وسعه لضمان هذا الحق لذاته
وللآخر. الأنا المنتصرة للطبيعة والكوكب والعلم والوعي أي على الضفة
الأخرى من التكنولوجيا الإلهائية التي تزيد في غيبوبة الناس وعزلهم عن
بعضهم البعض بجدران غير مرئية من الكره والخوف والوهم؛ أنا الأنانة
التي تسير تحولاتها نحو مركز وجودها، الوعي، في حركة لاخطية بعيدة
كليًا عن التناسخ وسرعاته. وكما كتب "الحالمون" منذ سنوات عن معابر
والهدف منها:
إن تفاقم الأزمة الشاملة التي تجتازها الإنسانية اليوم لهو أمر لم يعد
بحاجة إلى برهان ولا ينكره إلا كل متقوقع على نفسه في عالم وهمي من
صنعه هو، لا يريد أن ينغِّص عليه هذا الوهم منغِّص. وهذه الأزمة التي
ستطال الجميع، عاجلاً أم آجلاً، ناجمة مباشرة عن أنموذج
paradigm
فكري ونفسي ساد على التيار "الرسمي" للثقافة الإنسانية بضع مئات من
السنين. يقوم هذا الأنموذج على عدد من المفاهيم والقيم السائدة، من
أهمِّها اختزال الكون إلى منظومة ميكانيكية مكوَّنة من لبنات بناء
أولية؛ والنظر إلى الأجسام الحيَّة كآلات؛ واعتبار العلم الوضعي
التحليلي التخصصي الطريق الأوحد إلى المعرفة، واعتبار كل ما عداه من
خبرات ثقافية وروحية من قبيل الترف الفكري؛ والنظر إلى الحياة في
المجتمع كصراع تنافسي من أجل البقاء؛ والمراهنة بكل شيء على التقدم
المادي غير المحدود الواجب إحرازه عبر النمو الاقتصادي والتكنولوجي؛
وأخيراً، وليس آخراً، الاعتقاد بأن المجتمع الذي يضع الأنثى في منزلة
دون منزلة الذكر هو مجتمع يمتثل لقانون طبيعي إلهي [..........] تسعى
معابر إلى مواكبة هذه الثقافة الصاعدة، الإنسانية في جوهرها، بأن تجعل
نفسها "معابر" بين مختلف مناهج المعرفة الإنسانية وبين مختلف المقتربات
إلى الحقيقة (في بعديها النسبي والمطلق)، إسهامًا من القائمين عليها
والمشاركين فيها (الذين، بالمناسبة، لا يعبِّرون إلا عن خبراتهم
وآرائهم الخاصة ويتحمَّلون مسؤوليَّتها) في فتح آفاق جديدة لوعي المثقف
العربي، لعله يبدأ بالتغلب على عطالته النفسية والفكرية، أسوة برفاق له
عديدين في كل مكان من العالم، فيدخل الألفية الثالثة بمعرفة (وجودية)
أرسخ، وثقة أكبر، ويدلي بدلوه في تيار الوعي الجديد المنبثق من ظلمة
عالم قديم بدأ بالأفول[4].
نكتب الآن إن الواقع الحالي يُظهر إن شيئًا لم يتغير من حينه سوى أن
الأزمة الشاملة أشد، والأمل في تخلُّق الضدِّ من الضدِّ حاضرٌ دائمًا.
*** *** ***
[2]
يعود الفضل المادي في ترجمة وطباعة أكثر
كتب معابر إلى مؤسستي
IKV Pax Christi
وNova.
ومن المهم التنويه إلى أنه ومنذ 2015 لا وجود لأي نوع من الدعم
المادي لمعابر من أية جهة كانت.
من يرغب بالاطلاع على قائمة الكتب المترجمة والمؤلفة يمكنه
مراجعة الرابط التالي:
http://maaber.50megs.com/library/library_1_a.htm
[3]
لابد هنا من توجيه شكر كبير إلى كل من دعم المجلة بمقالاته
وترجماته وآرائه ووقته دون انتظار مقابل مادي، ومع وجود أسماء
عديدة لهم جميعًا الفضل والشكر، إلا أنه من المهم ذكر اسمي: د.
معين رومية ومنى هلال.