|
معابر في مرآة الذات لم يَعُدْ أمامنا إلا كلُّ شيء. أنسي الحاج لأنه
كما أن أيَّ عمل في هذه الحياة يعبِّر، من حيث
العمق، عن أبعاد القائمين به وعن واقع حالهم،
كذلك هي معابر، التي نتفكَّر فيها اليوم
من خلال مراجعة أنفسنا، بالنظر فيها كمرآة
لذواتنا: من نحن؟ وما هي؟ ما الذي كنَّا
نتطلَّع إليه من خلالها؟ ما الذي حقَّقناه و/أو
نأمل في تحقيقه عن طريقها؟ وما هي الآفاق
والإمكانات المستقبلية لهذا المشروع الثقافي
والإنساني الذي بدأتْ معالمُه تتَّضح، إلى
حدٍّ يبدو اليوم وكأنه بدأ يتجاوزنا كأفراد؟ ونجد أن الموضوع، على بساطته،
كبير جدًّا، أيها الإخوة... 1 معابر: ما هي؟ ومَن نحن؟ لأن معابر اليوم (كما
يقولون) ليست مجرد موقع ثقافي إلكتروني يتجدد
جزئيًّا مع مطلع كلِّ شهر ويصدر من دمشق،
عاصمة الدولة السورية،[1]
بل هي – ويشهد على ذلك عددُ قرائها وحضورُها
الكثيف على معظم أدوات البحث – موقع متميِّز
عن غيره من المواقع الثقافية العربية. وسبب هذا التمايز قد يعود، ربما
إلى حدٍّ كبير (على ما يقولون)، لكونها
مفتوحةً ومجانيةً بالكامل، وتؤمِّن لقرائها،
أية كانت منطلقاتُهم وخلفياتُهم، منبرًا
حرًّا للتفكير وللبحث في قضايا هامة، كالدين
والروحانيات والفلسفة وعلم النفس والأخلاق
وفلسفة العلوم والإيكولوجيا والطبابة
البديلة؛ ومن خلال هذا كلِّه – أيضًا وخاصةً
– منبرًا للاَّعنف كطريق أخلاقي لمقاومة
التعسف والظلم ولتعاطي السياسة؛ ومن هذا
البعد الشامل، وكمعبِّر عنه أخيرًا، منبرًا
لإبداع أولئك "المهمَّشين"[2]
من المثقَّفين الناطقين بلغة الضاد، ولعرض ما
لديهم من فكر وفن وأدب، ومشاركة الآخرين من
بلدان وثقافات أخرى فيه. لأن هذه، ربما، هي الأسباب
الرئيسية لتميُّز معابر ولـ"شعبيَّتها"
المتصاعدة يومًا بعد يوم.[3]
فهذه القضايا التي يمكن أن يكون لها أكبر
الأثر في نهضة عالمنا العربي، وفي تواصله مع
هؤلاء الآخرين، كانت – ومازالت إلى الآن –
مهمَلة وغير مطروقة منهجيًّا. الأمر الذي
ساهم، إلى حدٍّ ما، من خلال طرحها، في ملء بعض
من حالة الخواء الروحي والفكري السائدة في
بلدنا ومنطقتنا. ونتفكَّر فنقول أنْ نعم: ربما
كانت هذه هي الأسباب الرئيسية لتميُّز معابر؛
لكنها قطعًا ليست محصورة فيها. لأن معابر
هي – أيضًا وخاصةً – سواء بالنسبة للقائمين
عليها و/أو بالنسبة للآخرين الذين حقَّقتْ في
قلوبهم وعقولهم بعض الاختراق، تجسيد لحالة
وعي، وفي الوقت نفسه، تعبير عن حالة غير
مَوْعيَّة، إن لم نقل تعبيرًا عن حلم دفين في
أعماق النفس الجمعية. ونتوقف هنا قليلاً... لنستعيد بعضًا مما عبَّرتْ عنه
افتتاحيةُ الإصدار الأول (التي يمكن اعتبارها
البيان التأسيسي الذي حدَّد "هوية" معابر،
وسيبقى "بوصلتها" ما أمكن)، وفيها جاء
أنها "... وليدة حاجة قديمة، عميقة لدى
فريقها الحالي، إلى التواصل مع "الآخر"،
المختلف بالضرورة، ومشاركته خلاصة تأملاتهم
وتبصُّراتهم ورؤاهم وفهمهم المتواضع للحياة
بأبعادها كافة: السياسية (بالمعنى الأرسطي
النبيل) والاجتماعية والثقافية والروحية
إلخ، بدون أيِّ ادِّعاء بامتلاك الحقيقة، ولا
حتى على الصعيد النسبي، وبالتالي بدون أية
رغبة في الإقناع من أيِّ نوع..." – ما يعني
أيضًا، ربما، أنها تجسيد لحالة أناس قرروا
ذات يوم أن يحلموا ويتفكَّروا ويعملوا، "...
منطلقين في...
رحلة استكشاف محتويات وعيهم وجذور ألمهم،
مسترشدين بمكتشفات الآخرين حينًا،
متجاهلينها أحيانًا، مناقشين المذاهب
كلَّها، والمحرَّمات كلَّها، والمقدَّسات
كلَّها، والأنبياء والمعلِّمين كلَّهم،
ضاربين عرض الحائط بالوصفات الجاهزة جميعًا،
السياسية منها، والفلسفية، والأخلاقية،
والدينية، غير مكتفين بـ"الحقائق"
الممضوغة والمستهلَكة، رافضين كلَّ سلطة – ما خلا سلطة
الروح، معتذرين عن ممارسة أية سلطة – ما
عدا سلطة الضمير الحي...". وهؤلاء الذين ربما كانوا كذلك
– وما زالوا – هذه الحفنة الصغيرة من
الأصدقاء، ذلك البعض من "هيئة التحرير"
الذي لا يتجاوز عددُه أصابع اليد الواحدة؛
الذين ليس واحد منهم متفرغًا لهذا المشروع
كما ينبغي و/أو كما كان يُفترَض؛ أولئك الذين
قدَّموا ويقدِّمون لهذا العمل كلَّ ما لديهم
من أوقات فراغ وراحة – بلا أيِّ مقابل. وأيضًا... هؤلاء كانوا وما زالوا من "الهيئة
الاستشارية"، أولاً وقبل الجميع، الأستاذ
والمعلِّم الحبيب ندره اليازجي، الذي يمكن
اعتباره بحق الأب الروحي لـمعابر. وأيضًا... هؤلاء كانوا خاصةً، وإلى
جانبهم أولئك، الذين لولا دعمهم وعملهم
الطوعي الصامت لما قامت معابر ولما تطورت
ولما استمرت إلى الآن؛ أولئك الذين ينضدِّون
ويترجمون دون توقف، بلا كلل ومن دون مقابل،
معظم النصوص التي تقرأون؛ الذين قد تجدون
أحيانًا أسماءهم في أسفل صفحاتنا. و... هؤلاء كانوا وما زالوا،
أخيرًا، هذا العدد الكبير والمتزايد من
القراء، أية كانت خلفياتهم وتوجُّهاتهم
ومواقعهم؛ أولئك الذين يبدو وكأن "معابر"
حقيقية قامت بين قلوبنا وقلوبهم، وبين
عقولنا وعقولهم؛ أولئك الذين، من مختلف أرجاء
هذا العالم الصغير، يراسلوننا ويتحدثون
إلينا بكلِّ أريحية، ويحاولون دعمنا قدر
الإمكان، وبكلِّ الأشكال الممكنة. 2 في واقع
الحال والتطلُّعات والآمال ونتفكَّر: كم نحن كنَّا ومازلنا
في حاجة إلى هذه المساندة وإلى هذا الدعم.
وهذا ليس فقط، كما يقول واقعُ حالنا، لأننا (مثلكم
تمامًا أيها الإخوة) مجرد أناس عاديين،
نتحمل، كما تتحمَّلون، مسؤوليات مهنية
وأسرية، ونقوم إلى جانبها بتلك الجهود
المطلوبة منَّا في معابر، بدافع المحبة
والروح الأخوية، وإنما، أيضًا وخاصةً... لأننا، أولاً، من خلال ما
نُصدِر ونكتب، إنما نحاول أن نعبِّر، بقدر
استيعابنا المحدود، عن تلك الحال من الأزمة
الروحية والأخلاقية التي نعيشها جميعًا، في
هذه المنطقة خاصةً، وفي مختلف أنحاء العالم
عامةً – تلك الأزمة العميقة بأبعادها
السياسية والاقتصادية والثقافية كافة، التي،
مقرونةً إلى الثورة العلمية والتكنولوجية،
أدَّتْ إلى تعميق الهوة الاجتماعية
والاقتصادية والمعرفية بين بشر باتوا
يعانون، في معظمهم، من خواء كبير في ذاتهم
الداخلية؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور تلك
الأشكال الجديدة من الظلامية التي نشهد
ونعايش وإلى تصاعدها؛ ولأن كلَّ شيء اليوم
بات يخضع لمنطق ومتطلَّبات الإنتاجية
والمنافسة والمردودية والسوق التي لا ترحم
أحدًا، فإن النتيجة هي المزيد من الاستهلاك
لكافة الموارد، الأمر الذي بات، على صعيد
الأرض والطبيعة، يهدِّد (ربما) الحياة في حدِّ
ذاتها. ولأننا، ثانيًا، من خلال ما
نُصدِر ونكتب، إنما نحاول أيضًا أن نتلمس
معكم، وبمشاركتكم، الطرائق الممكنة والمتاحة
للخروج من حال هذه الأزمة العميقة التي نعيش؛
نحاول أن نتلمس الطرائق والإمكانات للخروج من
هذه الحالة من الفوضى والشواش الفكريين التي
تسود عالمنا العربي اليوم، ومختلف أرجاء
المعمورة بشكل عام. فنحن، في المحصلة – أو لنقل
هكذا نسعى لأن نكون، كما يوحي بذلك اسمُنا –
مجرد محاولة لإيجاد "معابر" إنسانية،
بين البشر أولاً، و"معابر" عربية بين
مناهج مختلفة من الخلق والإبداع والعلم
والثقافة الإنسانيين آخرًا؛ "معابر"
تحاول أن تكون على صلة مستمرة بكلِّ ما
أبدعتْه وتبدعه الإنسانية من معرفة وجمال، من
جهة، وعلى قطيعة تامة مع كلِّ تحجُّر وتعصب
وظلامية، من جهة أخرى – خاصةًً... لأننا أيضًا، كما نحاول أن
نكون، مجرد محاولة لتلمس مشروع ثقافي وإنساني
جاد، يحاول شقَّ طريقه معكم، وبمساعدتكم، هو
في حاجة، لكي يتطور ويستمر، إلى كلِّ جهد ممكن
وإلى كلِّ مساعدة متاحة... خاصة وأن كلَّ شيء يدل اليوم،
سواء من خلال تمكُّننا (على الرغم من تواضع
إمكاناتنا) من الاستمرار إلى الآن دون
انقطاع، للسنة الرابعة على التوالي، و/أو من
خلال هذا التزايد الكبير في عدد القراء، و/أو
من خلال هذا العدد الهائل من الرسائل التي
تصلنا من كلِّ مكان؛ (كل شيء يدل) أن "اختراقًا"
ما قد حصل – اختراقًا قد يكون أكبر وأعمق من
كلِّ ما توقَّعناه وتجرأنا حتى، ذات يوم، على
الحلم به؛ اختراقًا قد يكون، بالنسبة لمن
فقدوا الإيمان، مجرد وهم، لكنْ بالنسبة لمن
لم يفقدوه مدعاة للتفكُّر وللحلم... 3 في
الآفاق والإمكانات ونفكِّر في ذلك الأخ الكريم
الذي اتصل بنا هاتفيًّا ذات صباح من بيشاور في
باكستان، وكيف انقطع الاتصال معه عدة مرات،
وكيف عاود الاتصال عدة مرات، لمجرَّد أن
يعبِّر عن تقديره وإعجابه ببعض مقالاتنا،
التي كان أحدها بالنسبة له – وهو المسلم –
"يسوع... يا مسيحي"! نفكِّر في جميع أولئك
الذين اتصلوا بنا من العديد من البلدان
لمساعدتهم على إيجاد مراجع لرسائل دكتوراه
يحضِّرون لها في جامعاتهم، وأتساءل: هل تراهم
يعلمون أن ما مِن واحد منَّا يحمل شهادة
دكتوراه؟! نفكِّر في هذا الصديق العزيز من
السودان الذي "وجدنا"، فكتب ينبِّهنا
إلى أن الشهيد "الأستاذ" محمود محمد طه
كانت له آراء وتطلُّعات قريبة من آرائنا
وتطلَّعاتنا... نفكر في ذلك الثيوصوفي العربي
"المجهول" المنفرد الذي سألنا عن وجود (أو
ربما أراد أن ينبِّهنا لضرورة وجود) "جمعية
ثيوصوفية" عربية... نفكر في "ابنة ربة
عمون"، تلك الإعلامية المثقفة الموهوبة في
الشارقة، التي بات وجودُها بيننا يمنح "شرعية
لوجودها"... نفكِّر في تلك الشاعرة السورية
المقيمة في كندا التي حرصتْ على إيصال صوتنا
من خلال لقاء أجرتْه معنا... نفكر في هؤلاء
الإخوة من العراق المتألم ومن فلسطين الجريحة
الذين يتصلون بنا بشكل دائم بهدف التنسيق
والعمل المشترك في سبيل اللاعنف... ونفكر في
أولئك الذين يقرأوننا ويتصلون بنا من
السعودية، رغم كون موقعنا "محجوبًا"
هناك... في أولئك الذين ينسخون مقالاتنا
ويتناقلونها في حمص والسويداء... في أصدقائنا
وقرائنا في دمشق، في مصياف، في حلب، في
اللاذقية، وفي الحسكة (سوريا)... في فلسطين (إسرائيل)،
وفي أمريكا وكندا وأوستراليا وفرنسا والسويد...
وفي غيرهم... وغيرهم... ونسرح حالمين... نعم، نسرح في الحلم، فنفكِّر في
أولئك الذين، في بدايات العصر الإسلامي،
ترجموا أرسطو وفلاسفة الإغريق إلى السريانية
والعربية، وفي العصر الوسيط الأوروبي،
ترجموا ابن رشد وابن سينا وفلاسفة الإغريق من
العربية إلى اللاتينية، ونتساءل: هل كانوا
يتوقعون يا ترى النتائج المستقبلية العظيمة
لما قاموا به آنذاك؟! ومثلهم أولئك من علماء
فرنسا القرن الثامن عشر وفلاسفتها، الذين
جمعوا تلك الموسوعة – خلاصة علوم عصرهم،
التي كانت الأولى من نوعها في التاريخ –
تراهم هل كانوا يتفكَّرون فيما سيتفتَّق عنه
مشروعُهم الثقافي من نتائج؟! ونشطح متسائلين:
هل كان بولس الرسول، قبل ألفي عام، يتصور ما
ستتمخض عنه دعوتُه الطوباوية؟! ونتخيل حالمين
تلك القوى الظلامية التي جابهتْه وأتباعه
الخُلَّص آنذاك، فجعلتْ الكثيرين منهم يدفع
حياته ثمنًا لتلك المعرفة ولذلك الحلم الكوني
الذي دعا إليه. نتساءل، ونحلم، ونشعر ببعض
الخوف، أيها الإخوة، لأننا في معابر مجرد
أناس عاديين، مثلكم، نخاف كما تخافون: نخاف
أشد ما نخاف من الأضواء... لأن كلَّ ما نريده
ونطمح إليه، في النهاية، هو محبتكم ومساعدتكم
لنا في الحفاظ على موقعنا البسيط هذا – الذي
هو أيضًا موقعكم – وتطويره. لأن جلَّ ما نفكر
فيه الآن هو كيفية مواصلة مسيرة معابر
وتطويرها وتطوير مكتبتها ومشروع معجمها
الفلسفي الذي بدأنا به بداية متواضعة في
إصدار هذا الشهر. ونفكِّر في...
4 روح
التعاون... لأن حلول عصر جديد، أو حضارة
إنسانية جديدة، ليس رهنًا لموعد محدَّد أو
لروزنامة مقرَّرة سلفًا، بل لجهود بشر، مثلنا
ومثلكم، يجرؤون على تغيير أنماط سلوكهم
ويتعلَّمون، في جملة ما يتعلَّمون، كيف
يكونون عونًا بعضهم لبعض. عصرنا الحالي يتسم،
في الظاهر على الأقل، بالصِّدام وبالنزاع،
على الصعيد الكوكبي بين الأمم، كما على
النطاق الضيق للأفراد. ولا يخفى عليكم أن
النزاعات بين البشر أخطر منها في مملكة
الحيوان بما لا يقاس. لقد أتيح لنا مؤخرًا الاطلاع
على مقال يَعرِض لمشكلة "القتل"،
مستندًا إلى أبحاث مفصَّلة تتناول موقف
المقاتلين، وخاصة بين الجنود ورجال الشرطة،
جاء فيه أن بعض الجنود يمكن أن يحسَّ أن طعن
"الآخر" (العدو) بحربة البندقية فعلة "تبعث
بشكل رهيب على الرضى"! ولدى تذكُّر أحد
المقاتلين للكيفية التي كانت بها أجسام "الأعداء"
تتطاير أشلاء، فيما يتعالى صراخُهم، اعتبر
ذلك "من أسعد لحظات حياتـ[ـه]"! مثل هذه
الوحشية وذلك الالتذاذ المَرَضي بعذاب
الآخرين باتا يُغذَّيان عن عَمَد في الأمم
كافة، ويُعتبَران من قبيل البطولة، لا من
قبيل العار. فالالتذاذ السادي بمثل هذه
الفِعال سمة بشرية محضة؛ إذ إن الحيوان يقاتل
في سبيل بقائه، ثم سرعان ما ينسى ما فعل. ولا
يغيب عن بالنا... أن تربية الشباب اليوم، بدلاً
من أن تركِّز (كما يحدث فعلاً) على التنافس
والصِّدام، ينبغي أن تعلِّمهم كيف يتعاونون
على القيام بأشياء معًا. إن ما نفتقر إليه في
العالم العربي اليوم، كما تعلمون، ليس
الإبداع الفردي – فالمبدعون الأفراد موجودون
فيه دائمًا – بل المؤسَّسات الثقافية
المدنية التي تحضن هذا الإبداع ضمن سياقات
جماعية. فالخروج من مركزية الأنا ومصالحها
الآنية، والقبول بالعمل المشترك من أجل
الجماعة الأوسع، يكاد يكون غائبًا عن مشهدنا
الثقافي والمدني. ثمة مواقف عديدة يتعلَّم الناس
فيها كيف يتعاونون في مجالات محدودة (كما في
المشاريع الكبرى من نحو التجارب في الفضاء
الخارجي)، وبعض المهن لا يفلح إلا بفضل الجهد
"التعاوني". كذلك أغلب المتديِّنين
الاتِّباعيين يمارسون "الأخوَّة" في
نطاق دينهم، لكنهم قد لا يتورعون عن تكفير
أصحاب المعتقدات الأخرى، وحتى عن ذبحهم، في
حال أثيرَتْ فيهم العصبية الطائفية لأتفه
الأسباب؛ وقولوا الشيء نفسه في العصبية
القومية. هذا كلُّه لا يمتُّ إلى الأخوَّة
والتعاون الحقيقيين بصلة، بل هو، في التحليل
النهائي، مجرَّد شكل من أشكال تلبية المصلحة
الضيقة أو الإحساس الزائف بالأمان. أما في
حضارة جديدة حقًّا فإن روح التعاون روح
عالمية، تعبِّر عن نفسها في العلاقات كافة؛
وسائر المواقف المرتبطة بـ"الأنا" (الفردية
أو الجمعية) تصير تابعة لها وفي خدمتها – لأن... أصغر الكائنات شأنًا، كما
تبيِّن الدراسات الإيكولوجية، تساهم في
التطور المشترك؛ لكننا، نحن البشر، في عمانا،
نتجاهل هذه الحقيقة العلمية. ففي ممالك
الطبيعة كافة، وفي أشكال الحياة قاطبة، تنمو
مع التطور صفاتٌ إيجابية من شأنها أن تزهر في
الكائن البشري، شريطة أن تتجذَّر في أشواط
تطورية سابقة. إذا لم نجد في فرد معيَّن شيئًا
صالحًا فلأن إدراكنا مازال غافيًا؛ أما عندما
نصحو وتتفعَّل فينا مَلَكةُ الكشف، حتى في
الحدود الدنيا، فإن علاقاتنا بالآخرين
تعبِّر عن نفسها باحترام وخشوع عميقين. من هنا
فإن الإنسانية الجديدة سوف تتسم بمقدرة على
المعرفة الكشفية وعلى التعاون، لا على
التنابذ، كما يحدث الآن على مرأى من الجميع.
لذلك... فإن تعاوننا، أيها الإخوة،
ينبغي ألا يقتصر على غيرنا من الأفراد، بل أن
يشمل الطبيعة ككل. فالعديد من سيرورات
الطبيعة ما يزال مستغلقًا على أذهاننا
المحدودة، ولن يكون بميسورنا أن نسبر أسرارها
ما لم ندنُ منها بخشوع. أنتم تعلمون أنه في بعض
الثقافات القديمة كانت الطبيعة تُشخَّص
وتُعتبَر إلهة جديرة بالعبادة؛ ويخطئ منَّا
مَن يظن أن هذا من قبيل الخرافة "الوثنية"
أو التطيُّر الساذج، بل هو اعتراف متواضع
بعظمة الطبيعة وكرمها غير المحدود. إننا،
بتغذية روح التعاون مع الطبيعة في سيروراتها
كافة، نتعلَّم كيف نسير قُدُمًا على درب
التطور الإنساني. 5 فماذا
عن معابر؟ كثيرًا ما يخطر ببالنا هذا
السؤال: ماذا فعلت معابر في هذا السياق،
وماذا يمكنها أن تفعل في الأفق المنظور؟ بعض
قرَّائنا الأحبة يتمنى علينا أن ننهض لشيء
محسوس أكثر (ولاسيما على الصعيد الروحي
العملي)، تُجنى منه نتائج آنية ملموسة. لكن
هذا ليس ما يؤرِّقنا، بل همُّنا الرئيسي أن
نزرع بذور الأفكار والمبادئ السليمة الكفيلة
بتعديل المواقف والأفعال. وهذا العمل "الصامت"
لا يخضع للقياس، ونتائجه ليست مرئية دومًا؛
لهذا فإن الكثير من الناس لا يدركون أهميته في
حينه. غير أن لمواقف الناس الأخلاقية
والعملية قطعًا آثارًا هامة على تفتح وعيهم
على المدى الطويل. وإليكم مثال على ذلك: في العقد الأخير برزت على
الساحة الاقتصادية العالمية شركة Monsanto، عِبْر ترويجها للأغذية
المعدَّلة وراثيًّا. تلك الشركة صرَّحت، من
جراء النفوذ الواسع الذي تسلَّحتْ به، أن
منتجاتها ستعود على البشرية بخير عميم.[4]
كانت تلك الشركة تؤكِّد أن منتجاتها
المعدَّلة وراثيًّا سوف تمحو الجوع من العالم
بتوفير الغذاء الضروري الكافي للسكان
المتنامي عددهم. غير أن الناس لم يقتنعوا
بالحملات الدعائية التي شنَّتْها "مونسانتو". ففي العالم أجمع يعتقد غالبية
الناس أن أمثال هذه الشركات تهتم بالمكاسب
التي تجنيها أكثر من اهتمامها بمشكلة الجوع
أو تحسين نوعية الغذاء. ولقد أكَّد د. أ.
بروجبال، الاختصاصي في السموم النباتية، أن
الغذاء المعدَّل وراثيًّا ضار، وجارَتْه في
هذا الرأي مجموعة من العلماء العالميين
المرموقين. فعلى الرغم من كافة وسائل الإقناع
التي اعتمدتْها الشركة، مازال الرأي العام
عمومًا على مقاطعته للمنتوجات المعدَّلة
وراثيًّا، بحيث إن "مونسانتو" ونظيراتها
اضطررن إلى الرضوخ، على الأقل جزئيًّا، لطلب
الناس. عندما يتبنَّى عددٌ كبير من
الناس الواعين قضية ما، فما مِن حكومة، ما مِن
صناعة، مهما كان نفوذها، لها قِبَل بمقاومة
ضغطهم؛ فـ"الرأي العام" (الذي مازال في
طوره الجنيني في عالمنا العربي) يمكن أن
يُحدِث تغييرًا نحو الأفضل في العديد من
المجالات الهامة. وما يضمن أن التغيير يحدث
نحو الأفضل هو معرفة راسخة بمبادئ الحياة
وحقائقها الأساسية، من نحو وحدة الوجود،
وفطنة الطبيعة، والمصير الروحي للكائن
الإنساني. وعمل معابر، أيها الإخوة،
يستهدف استيعاء هذه الحقائق والمبادئ
الأساسية، والحث على الدراسة والحوار اللذين
يساعدان على ترجمة هذه الحقائق في مواقف
يومية ننخرط فيها نحن البشر مع الكائنات
الأخرى. مثال آخر: تؤكد حسابات معهد World Watch أنه إذا قلَّل الناس في الولايات المتحدة من هدرهم للطعام يوميًّا بمقدار الثلث فحسب، فهذا من شأنه أن يوفِّر الغذاء لـ25 مليونًا من الناس في بلاد العالم المبتلاة بالمجاعة و/أو سوء التغذية. لكن الهدر مازال مستشريًا في أماكن عديدة من العالم الأول، فيما الناس، في السودان والصومال وإريتريا وبلاد أخرى، يموتون جوعًا أو يعانون من الكواشيوركور والمراسموس (من أمراض سوء التغذية). فماذا نفعل؟ ليس
في وسعنا جميعًا تقديم الحساء الشعبي للجياع
أو توفير مساعدات مالية قيِّمة لدُور
الإحسان؛ لكن في وسع كلٍّ منَّا جزمًا أن
يساعد في نشر الوعي لضرورة اعتماد البساطة
والتقشف المعقول أسلوبَ حياة. فالكثيرون
ممَّن يعرفون أن هناك مَن يموت جوعًا لا
يرتدعون عن الهدر والتبذير، وهم لا يفكِّرون
جديًّا حتى في التمييز بين الحاجات الحقيقية
والمتخيَّلة؛ إذ إن عاداتهم المستحكمة
تجعلهم يشترون ويطرحون بلا تروٍّ. وما كان
لهذا أن يحصل لو أن فظاعة اللامساواة والجور
أصابتْهم في الصميم، أو لو أصبحوا أوْعى
لوحدتهم الجوهرية مع سائر الخلائق. إن وعيًا
كهذا لا ينشأ إلا من تأمل مستمر ومناقشة جدية
للمواقف وللفلسفة الأخلاقية التي تقف من وراء
الفعل السليم. ولعل دور معابر هو أن تكون
حاضنة لمثل هذه الدراسات والتأملات
والمناقشات. كذلك... يمكننا
أن ننظر إلى الأمر من زوايا أخرى عديدة: على
سبيل المثال، لاأخلاقية تبديد المزيد من
الموارد من أجل العتاد العسكري، التي تسمَّى
اصطلاحًا بـ"ميزانية الدفاع"! فعندما
نرى الحياة ككلٍّ واحد لا يتجزأ، ينحسر جزء
كبير من الارتياب المتبادل والعداوة بين
الدول، اللذين يجيزان الاستمرار في الإنفاق
على "الدفاع" إنفاقًا غير معقول، يحوِّل
مواهب علماء كبار وطاقاتهم الخلاقة عن
المشاركة في بناء مستقبلنا الإنساني
المشترك، ويبدِّد المليارات التي ينبغي أن
تُنفَق في الدول النامية على التنمية
المستدامة sustainable
development.[5] فإذا أراد
العالم أن يوفِّر موارد كافية لسكان في
ازدياد مستمر، والسلام الضروري لهناء
البشرية، فإن مواقف المواطنين يجب أن تتغير
جذريًّا، بما يُرغِم الحكومات كافة على رسم
الخطط العملية من أجل السلام، وليس الاكتفاء
بحديث عقيم عنها. إن
جماعة واسعة من المواطنين الواعين، أيها
الإخوة، قوةٌ لا تُقاوَم لتحريض التغيير
المطلوب. فالتفكير السليم، المولود من
الإدراك السليم، من شأنه أن يثوِّر العالم
للأفضل. ولا بدَّ لكلِّ المهتمين فعلاً في معابر
من التعاون معًا لتحقيق ذلك. أجل،
أيها الإخوة، "لم يَعُدْ أمامنا إلا كلُّ
شيء"... *** *** *** [1]
موقع معابر لا علاقة له على الإطلاق، لا
من قريب ولا من بعيد، بالسلطة القائمة في
الدولة التي يصدر منها، ولا بأية سلطة في
العالم. [2]
"المهمَّش" هنا ليس بمعنى الثانوي أو
الأدنى قيمة، بل الذي لا يندرج نتاجُه ضمن
التيار الثقافي الرسمي المرضي عنه politically
correct،
أخلاقيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا. [3]
مع النأي
التام عن كلِّ ثقافة "شعبوية" populist
مبتذلة. [4]
فول الصويا
المعدَّل وراثيًّا الذي تنتجه بات واسع
الانتشار في السوق ويُستخدَم في أطباق
جاهزة للاستهلاك. [5]
كان رأي المهاتما غاندي أن الهند المستقلة
يجب ألا تبني جيشًا يجعلها "مرهوبة
الجانب" في نظر جاراتها، بل مجرَّد قوة
غير مسلَّحة حافظة للأمن الداخلي. |
|
|