المناهج
المدرسية وعلوم الفضاء
أديب الخوري
لسنا مستعدِّين بعد للتَّواصل مع ممثِّلين عن حضارات غير أرضيَّة.
يعني التَّواصل بالنسبة لي: "لا تؤذِ".
لكنَّنا معشر البشر، لا نزال نقترب من مفهوم العيش في عالم واحد.
يجب أن نتعلَّم التَّواصل في ما بيننا، كي نكون مستعدِّين للّتواصل مع
شكل حضارة لا نعرف عنها أيَّ شيء.
فيودور يورتشيخين، رائد فضاء روسي – في رسالة من المحطَّة
المدارية
مدخل
إشارةٌ لا بدَّ منها، قبل الدخول في التَّفاصيل: حين نتحدَّث عن الفضاء
فعلينا أن نذكِّر أنفسنا باستمرار بأنَّ مقاييسنا الأرضيَّة المألوفة
لا تبقى نافعةً على الأغلب.. فكما أنَّ عددًا من الكيلومترات لا يعني
أيَّ مسافة في الفضاء، فكذلك عدد قليل من الأسابيع أو الأشهر أو حتى
السنين قد لا يكون كافيًا لرصد تغيُّر ذي أهمية على السُّلَّم
الكونيِّ، وإذا أردنا التحدُّث عن تواصل مع كائناتٍ لا أرضيَّة فعلينا
أن نخرج ولا بدَّ من ثقافة الهاتف الخلويِّ والرسائل القصيرة.
يعني الأمر أنَّ مثل هذا التَّواصل يحتاج إلى الكثير جدًّا من
الاستعداد على صعدٍ عدَّة.
أظنُّ بالمثل أنَّ علينا أن نتبنَّى تفكيرًا مشابهًا حين نتحدَّث في
التَّربية: لا في علاقة أهل مع ولد أو مدرِّس مع طالب فقط... بل خصوصًا
عندما نطرح موضوع التَّربية والتَّعليم على مستوى بلد وعلى مستوى
العالم... إنَّ العمليَّة المدعوَّة "أنسنة" هي عمل أجيال تتلو
أجيالا..
علينا ألاَّ نستعجل النَّتائج إذًا بل أن نلقي البذور ونمضي. هذه
البذور، يمكن أن تكون في بعض الأحيان مجرَّد أسئلةٍ تُطرَح!
يتبنَّى هذا النَّمط من التَّفكُّر المبدأ الشَّواشيَّ أو "مفعول
الفراشة"، الذي يلخِّصه مثلٌ أحبُّ استعادته هنا: بسبب خطأ في المسمار
أفلتت الحدوة، ومع انفلات الحدوة كبا الحصان، ولكبوة الحصان فقدنا
فارسًا، ومع فقدان الفارس خسرنا المعركة، وبخسارة المعركة هُزِمنا في
الحرب، ومع الهزيمة في الحرب ضاعت المملكة.
يمكن في كثيرٍ من الأحيان تتبُّع أسباب سقوط المملكة حتى نصل فعلاً إلى
الحدوة، فنظنُّ أنفسنا قد أدركنا العلَّة... في حين أنَّ القبض على
السَّبب يعني أن نثبِّت الحدوة على النحو الصحيح قبل بدء المعركة، أي
أن ندقَّ مسمارًا.
تُعادُ صياغة المثل الشَّعبي في هذه الحالة على النحو التالي: لقد
ثبَّتنا المسمار ببراعة، فضمنَّا حدوة الفرس، الذي ثبت بالمعركة،
فمكَّن الفارس من استخدام كلِّ طاقته، فكسبنا المعركة، وربحنا الحرب،
وازدهرت المملكة.
أزعم، والله أعلم، أنَّ هذا البحث محاولةٌ لدقِّ مسمار، قد تظهر
أهمِّيَّته بعد مائتي عام وقد لا تظهر أبدًا، أو هو، والأعمال بالنيات،
غرس فسيلةٍ في زمن القيامة...
لا بأس، فالعلم البحت بحثٌ صرف وليس بحثًا عن
نتائج!
العنوان العريض للعلاقة بين المناهج والفضاء
منذ أكثر من نصف قرن بقليل بدأ البشر يتقدَّمون إلى الفضاء... ولربما
كنَّا منذ إطلاق سبوتنك في الرابع من تشرين الأول عام 1957 وحتى الآن،
ما نزال في خطوة أولى لم تنتهِ بعد، فنحن عمليًّا لم نغادر الأرض حتَّى
الآن!
لكنَّنا سنغادرها... وسنلتقي يومًا بأندادٍ لنا في هذا الكون
اللامتناهي... لم يعد هذا الأمر محلَّ جدل، بل قضيَّة وقت.. لكنها
قضيَّة عملٍ وجهدٍ وتحضيرٍ أيضًا.. يتقدَّم العلم وقرينته التَّقنية
بتسارع لا يني... فأي روحٍ سنمخر بها عباب الكون، وأيُّ وجهٍ سنشخص به
إلى الفضائيِّين الذين لا نعرفهم بعد، وأيُّ يدٍ سنمدُّ إليهم؟!
وما علاقة المناهج المدرسيَّة بكلِّ هذا؟!
حين فكَّرت للمرَّة الأولى في بحثٍ تحت هذا العنوان: "المناهج
المدرسيّة وعلوم الفضاء" كنت لا أزال أعمل ضمن الفريق الوطنيِّ للمناهج
التَّفاعليّة في وزارة التَّربية، وكنت ألمح بين ثنايا عملي في هذا
المجال إمكانيَّات مختلفة لطَرق باب علم الفلك من خلال العديد من
الأمثلة والتَّمارين التي يمكن إدراجها ضمن سياق كتب الرِّياضيَّات أو
الفيزياء المدرسية وفي مختلف المراحل والصفوف.
نمت في نفسي رغبة في إجراء جردٍ لما يُدرَّس حول علم الفلك في مدارس
الدُّول المتقدِّمة وعمَّا تتضمَّنه فقرات مناهجها حول هذا العلم،
وتوقَّعت أن أجد في مناهج بعض الدول مادَّة خاصَّة عن علم الفلك لصفٍّ
من الصفوف أو أكثر... وكانت غاية طموحي أن أجري دراسة مقارنةً بين
المقارَبات المختلفة لعلوم الفضاء في المناهج العالميَّة والمحلِّيَّة،
وأن أخلص بالنتيجة إلى بعض الاقتراحات التي يمكن أن تكون بنَّاءةً
بالنسبة لتطوير مناهجنا.
لكن القراءة حول الموضوع والتفكُّر فيه خلال وقتٍ طويل، وتعثُّري بهذا
السُّؤال الحاسم الذي قدَحَته في ذهني عبارة رائد الفضاء السابقة جعلني
أرى للموضوع أبعادًا أوسع وبالتَّالي أعمق، وحين ظننت لوهلةٍ أنَّ
الشَّطح قد راح بي بعيدًا عن الواقع، صادفتُ في كومة القشِّ المسمَّاة
"العالم الافتراضي" كتاباتٍ لمدرِّسين وعلماء فلك سبقوني في شطحٍ مشابه
فقرَّرت المضيَّ بالأمر قدمًا[1].
تتلخَّص الفكرة بما يلي:
-
الإنسانيَّة على عتبة تحوُّل كبير عنوانه انطلاق الإنسان إلى الفضاء.
-
تشكِّل التَّربية والتَّعليم في إطار المدرسة عاملاً أساسيًّا
وأوَّليًّا في تحديد وتوجيه المسار الجمعيِّ للبشريَّة التي تتضَّح
وحدة مصيرها أكثر فأكثر.
-
تلقي العولمة بظلِّها على التربية والتعليم وما عاد خافيًا على
المهتمِّين في هذا المجال أنَّ ما يُسمَّى "المعايير الوطنيَّة
للمناهج" في كلِّ بلدٍ من البلدان هو نسخةٌ معدَّلة عن معايير دوليَّة
يتبنَّاها الجميع مع ما يلزم من التَّشذيبات "مواكبةً" للتطوُّرات
العالمية.
-
يشكِّل علم الفلك، بالنَّظر إليه كمادَّة دراسيَّة، إطارًا هامًّا
غنيًّا بالمعلومات كما بالمواقف الحاثَّة للتَّفكير من جهة وشديد
الارتباط بمعظم المواد الدراسيَّة الأخرى من جهة ثانية، فضلاً عن كونه
عنوانًا عريضًا لمرحلة إنسانيَّة قادمة، وإضافةً إلى إمكانيَّة تقديمه
بطريقةٍ محبَّبة ومشوِّقة للتَّلامذة والطُّلاَّب.
هل يمكن أن يدفعنا كلُّ هذا إلى دعوةٍ لإعادة صياغة، على مستوى العالم،
للمناهج الدِّراسيَّة على أسس جديدة إلى حدٍّ بعيد، وفي العمق إلى
إعادة النَّظر في المعايير الدُّوليَّة لهذه المناهج؟!
سوف نعود إلى محاولة الإجابة عن هذا السُّؤال بعد جولةٍ أقرب إلى أرض
الواقع...
نظرة سريعة على المحتوى المرتبط بعلوم الفضاء في المناهج المدرسيَّة
يمكن تقسيم هذا المحتوى ضمن إطارين:
-
يضمُّ الإطار الأوَّل مواضيع مرتبطة بعلوم الفضاء بشكل مباشر، ولكنَّها
تُطرَح ضمن كتب موادٍّ دراسيَّة أخرى وكثيرًا ما لا يُشار بشكلٍ صريح
إلى ارتباطها بالفلك. من الأمثلة عن هذه المواضيع أو الفقرات: تعاقب
اللَّيل والنَّهار أو الفصول الأربعة للعام الشَّمسيِّ، أو أطوار
القمر، أو كذلك تطاول اللَّيل وتقاصر النَّهار، أو العكس، بحسب الفصول
وعلاقة ذلك بمحور الأرض الخ.. وهذه تُعطى في إطار مادَّة العلوم في
الصفوف الأولى ومادَّة الجغرافية في الصفوف الأعلى. هناك أيضًا شرح
لسرعة الانفلات من الجاذبية الأرضيَّة، وعرضٌ لفكرة تقلُّص الطول
وتمدُّد الزَّمن في نظريَّة النِّسبيَّة الخاصَّة، وهذه تُعطى ضمن
مادَّة الفيزياء في المرحلة الثَّانويَّة.
-
أمَّا الإطار الثَّاني فهو أمثلة وأسئلة ومسائل وتمارين مرتبطة بعلوم
الفضاء والفلك ولكنَّها تأتي في سياق طروح حول مواضيع أخرى متنوِّعة
(مثلاً طرح مسائل حول المسافات بين الكواكب في درسٍ يتعرَّف فيه
التَّلاميذ على الأعداد الكبيرة) ومثل هذه الفقرات هي الأقلُّ حظًّا في
الإشارة إلى ارتباطها بعلم الفلك وإن كان الكثير منها يحدِّث عن ذلك من
تلقاء نفسه. كما هو الحال أيضًا في مسائل الحركة التي تخصُّ الكواكب أو
قمر الأرض أو الأقمار الصَّنعيَّة والتي تُطرَح باعتبارها تطبيقات
لقوانين الميكانيك النيوتوني.
تشكِّل هذه المسائل أنموذجًا واضحًا للطَّريقة المقلوبة التي تُطرَح
فيها الكثير من فقرات المواد العلميَّة في المناهج المدرسيَّة. فالأصل
أنَّ تحدِّي حلِّ المسائل التي طرحتها الأرصاد الفلكيَّة قد دفع إلى
اكتشاف قوانين الحركة، أو أسهم في ذلك بشكل أساسيٍّ، وذلك بدءًا من
جوردانو برونو وكوبرنيكس وليس انتهاءً بنيوتن. في حين أنَّ ما يفهمه
الطَّالب عبر سياق دراسته هو أنَّ نيوتن قد أوجد قوانين الحركة (بغضِّ
النَّظر عن كيف ولماذا أوجدها) وأنَّ حركات الكواكب تشكِّل ميدانًا
مناسبًا لتطبيقها.
يبقى أن نقول إنَّ توزُّع مواضيع مرتبطة بالفلك بين أكثر من مادَّة
دراسيَّة ودون الإشارة إلى هذا الارتباط هو سمةٌ مشتركة بين المناهج
الدراسيَّة حتَّى في بعض الدُّول التي تعتبر متقدِّمةً علميًّا
وتعليميًّا وليس تقصيرًا، بحسب رأيي، محصورًا في مناهجنا فقط.
لا بدَّ أن أنوِّه في هذا المقام إلى أنَّ الذين يرغبون من الأطفال
والشَّباب، في الدُّول المتقدِّمة، يجدون شيئًا من التَّعويض عن الغياب
الصَّريح لعلم الفلك عن المناهج، عبر نشاطات خارج المدرسة في إطار
جمعيَّات تهتمُّ بالأمر، ويساعدهم في ذلك توفُّر الأدوات اللاَّزمة
والدَّعم العامِّ والخاصِّ... لكنَّ هذا التَّعويض يظلُّ رغم الجهود
الكبيرة لأفرادٍ وجمعيَّات قليلة غير كاف في معظم البلدان المسمَّاة
"نامية"، وفي الحالتين تبقى هذه الأنشطة على أهمَّيتها شيئًا مختلفًا
عن التَّعليم المدرسيِّ... لكن هذا لا يعني على كلِّ حال أنَّ حضور علم
الفلك مادَّةً دراسيًة في المنهاج المدرسيِّ أمرٌ يلغي مثل هذه
النَّشاطات، بل العكس هو الصَّحيح فالأمران مطلوبان معًا ولكلٍّ
ميِّزاته ودوره.
أمثلة عن مواضيع فلكية وفضائية يمكن أن تشكِّل، أو يشكِّل بعضها،
فقراتٍ في مادَّة دراسيَّة مستقلَّة، أو أن تكون مواضيع لأنشطةٍ
إضافيَّة:
-
الخارطة الفلكيَّة لكل من نصفي الكرة الأرضيَّة والمبادئ الأساسية
للرصد الفلكي.
-
الكواكب "السيَّارة" والنُّجوم والأجرام والمجموعات الفضائيَّة
المختلفة.
-
سلالم وواحدات القياس الفلكيَّة المختلفة، وموقع الكرة الأرضيَّة من
الكون، الأمر الذي يمكن أن يمنحنا على المدى الطَّويل شيئًا من
التَّواضع!
-
تاريخ ريادة الفضاء وقصص الإنجازات الكبرى، الأمر الذي يثير الحماس
والحمية العلمية.
-
أدب الخيال العلمي وخصوصًا كبرى روائع جول فيرن و هـ. ج. ويلز وآرثر
كلارك وغيرهم، إضافة إلى أهمِّ أفلام الخيال العلمي المرتبطة بالفضاء.
يمكن الحديث هنا عن إنتاج أفلام تعليميَّة خاصة ليس من الضروري أن تكون
ذات تكاليف مرتفعة...
-
الصواريخ وأنواعها وقياساتها ومحرِّكاتها ووقودها وقصَّة تطوُّرها
والمكُّوكات الفضائيَّة ونقاط ضعفها وآفاق المركبات الفضائية في
المستقبل...
-
الرصد الفلكيُّ ومتطلَّباته وأدواته وأنواع المراصد وأحجامها
واستخداماتها المختلفة (بدءًا من النظَّارة البسيطة ووصولاً إلى
المراصد الراديويَّة ومرصد هابل الفضائيِّ).
-
الأقمار الصناعية وأنواعها ومداراتها واستخداماتها المختلفة، بما في
ذلك رصد بعض الأقمار الصناعيّة التي باتت تُرى ليلاً بالعين المجرَّدة
في بعض المناطق.
-
المحطَّات الفضائيَّة وتاريخها ودورها في الأبحاث العلميَّة وفي مشاريع
الارتحالات الفضائيَّة المستقبليَّة.
-
تاريخ علم الفلك وأشهر روَّاده وقصص البطولات الكبرى لشهدائه العظام
عبر التاريخ مثل جوردانو برونو.
-
التصوير الفلكي (تصوير الهواة عبر التلسكوبات البسيطة – التصوير
الفني..)
-
معالجة الصور الفضائية وتحليلها (نشير هنا إلى أنَّ هناك ملايين الصور
التي التُقِطَت من قبل مركبات الفضاء المختلفة وهناك مشاريع لوكالات
الفضاء الأمريكية والأوروبية لنشر الكثير منها ليقوم هواةٌ بتحليلها
لأنَّ إمكانية قراءة هذه الصور وتحليلها من جانب علماء الفضاء بأنفسهم
أمر غير ممكن عمليًّا.. وعلى كلِّ حال فحتَّى الصُّور المنشورة لغير
غايات الدراسة يمكن أن تكون محلاًّ لتحليل جديد).
-
متابعة الرصد الفضائي عبر شبكة الأنترنت لبعض الظواهر الهامَّة (نيازك
تقترب من الأرض مثلاً... كما حدث مع النيزك الذي مرَّ في جوار الأرض في
الخامس عشر من شهر شباط عام 2013 وكانت بعض المواقع المختصَّة بالفلك
والتابعة لمراصد كبرى تتيح تتبُّع رصده مباشرةً عبر الشبكة، أو كما في
حالة المركبة الفضائية روزيتا والمسبار الذي تمَّ إنزاله منها على أحد
المذنَّبات في أواخر العام 2014).
-
أهمُّ المشاريع الفلكيَّة التي جرى أو يجري تنفيذها أو الإعداد لها
(مشروع أبوللو – مشروع فواياجير، الخ..).
إنَّ الكثير من المواضيع المدرجة أعلاه تشكِّل جزءًا من تكوينٍ للأجيال
الآتية يندرج ضمن الرُّؤيا التَّربوية التي سبق شرحها تحت عنوان دمج
الجيل في سياق عمليَّة التطوُّر البشري الجمعي، والذي يجد هنا حدوده
القصوى.
يمكن بالتوازي مع ما سبق، وعلى سبيل الأدوات والبنية التَّحتية
التَّفكير بـ:
-
قبَّة فلكيَّة تعليميَّة (بلانيتاريوم)[2]
ثابتة لكل مدرسة أو مجموعة من المدارس.
-
مخيَّمات رصد صيفيَّة.
-
مواقع مناسبة لمسير ليلي رصدي.
-
استضافة فلكيين مختصِّين لتقديم محاضرات ضمن المدرسة وليجيبوا عن أسئلة
الطَّلبة.
-
استضافة روَّاد فضاء، على نحوٍ شخصيٍ أو عبر الأنترنت، ويمكن هنا ذكر
تجربة رائدة لوكالة الفضاء الرُّوسيَّة بالتَّعاون مع مدارس في روسيا
وفي دول أوروبية أخرى، جرى خلالها تواصلٌ بين مجموعاتٍ من الطُّلاَّب
وروَّاد فضاءٍ أثناء وجودهم على المحطَّة الدُّوليَّة...
-
زيارة مرصد حقيقي ثابت والتَّعرُّف على أقسامه وآلية عمله ومحاورة
الفنيين والعلماء العاملين فيه. لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ وجود مثل
هذا المرصد ضروري حتى ولو كان من أجل غايات تعليمية بحتة، وما دام غير
موجود في الكثير من الدول النامية فإن بناءه وإن لغايات تعليمية فقط
أمر ضروري، وعلى وزارات التربية في مثل هذه البلدان أن تتحرك في هذا
الاتجاه في حال غياب وكالات فضاء مختصَّة وقد يكون من المناسب أن تبادر
وزارات التربية لمثل هذه المشاريع في حال غياب وكالات فضاء مختصَّة.
يبقى أنَّ هناك من الإمكانيات ما لا يمكن حصره.. وما عددته هنا هو
أفكار يمكن تنفيذ بعضها وتطوير بعضها والنظر في غيرها أيضًا...
يمكن لقائلٍ أن يقول إنَّ بعضًا ممَّا ذكرتُه هنا لا يمكن أن يكون
نشاطًا مدرسيًّا، بالمعنى المتعارف عليه والمألوف للنَّشاطات
المدرسيَّة. أقول إنَّ هذا النقد قد يكون صحيحًا ضمن الصُّورة
النَّمطيَّة التي اعتدنا عليها للمدرسة، لكن ليس من الضَّروريِّ أن
تبقى المدرسة (من حيث المنهاج ونظام الدوام والعمل والدراسة وحتَّى من
حيث الهدف والوسائل) على ما هي عليه... ولقد سبق أن تحدَّثنا في هذا
الأمر، ولسوف نعود إليه كرَّةً أخرى.
مثالٌ من أرض الواقع أو دراسة حالة
يشرح مدرِّس مادَّة الرِّياضيَّات لصفٍّ من الطُّلاب (16 – 17 سنة)
مفهوم التَّابع الدَّوريِّ في الرياضيات. لا بدَّ في هذا السِّياق من
حلِّ معادلةٍ مثلثية بل أكثر، ولا بدَّ من رسم خطٍّ بيانيٍّ، الخ...
يسمع الطلاب حديثًا مجرَّدًا تتكرَّر فيه كلمات
sin, cos
ويتابعون حسابات تنطوي على بعض الصعوبة بالنسبة لغالبيَّة الطُّلاب...
يقف طالبٌ منهم ويسأل: ولكن ما هي أهمِّيَّة كلِّ هذا في الحياة
العمليَّة؟ أين نستخدم هذه المعلومات أو هذا النوع من الدِّراسة؟
يجيبه المدرِّس (ولأكن أنا مثلاً) بكلِّ ثقة:
تستخدم التوابع الدَّورية في دراسة نبض القلب على سبيل المثال، ولا
بدَّ أنَّك رأيت في وقتٍ ما تخطيطًا للقلب أو رأيت في السينما أو
التلفزيون الإشارة التي يعطيها القلب على شاشة معيَّنة على شكل خطٍّ
بيانيٍّ يرتفع ويهبط، ويمكنك أن تلاحظ الشَّبه بين ذلك الخطِّ والخطِّ
البيانيِّ الذي رسمناه على السبورة.. فحركة القلب تقدِّم مثالاً من
الأمثلة عن التَّوابع الدَّورية أو التوابع الجيبية... فإذا درستَ
الطبَّ في المستقبل فسوف تحتاج إلى دراسة التوابع الدورية، أو على
الأقلِّ إلى معرفة فكرة جيِّدة عن الموضوع... وهكذا أستطيع أن آتيك
بأمثلة من ميادين الاقتصاد والتجارة والهندسة وغيرها من الاختصاصات...
بالنتيجة، سوف تحتاج إلى فهم دراسة التَّابع الدَّوري أيًّا كانت
دراستك العلميَّة في المستقبل...
تكمن المشكلة في أنَّ الطالب سيقتنع بهذا الكلام على الأغلب، والمشكلة
الأكبر أنَّه سيقتنع لأنَّه لم يفهم هذا الكلام بعمق، والطَّامة الكبرى
هي أنَّ الطالب سيكون قد اقتنع في ما لست أنا مقتنعًا به... لأنني
أعتقد، من حيث المبدأ، أنَّه يمكن للطَّالب أن يدرس جميع مواد كلِّيَّة
الطِّبِّ ويتخرَّج طبيبًا ويمارس المهنة ويطلب تخطيطًا للقلب أو يجريه
على جهازٍ خاصٍّ في عيادته، ويقرأ نتائجه قراءة صحيحة دون أن يعرف
شيئًا، من النَّاحية الرِّياضياتيَّة، عن التوابع الدَّوريَّة،
وبالتأكيد بعد أن يكون قد نسي كيفيَّة حلِّ معادلة مثلثيَّة بسيطة.
أين الخطأ؟!
أعتقد أنَّنا نتناول الموضوع بشكلٍ مقلوب، وهذا يشبه ما تحدَّثت عنه
منذ قليل حين أشرت إلى قوانين نيوتن ومسائل حركات الكواكب أو الأقمار
الصنعيَّة.
لم يأتِ مفهوم الدَّورية من الرياضيات، بل من الطبيعة. ما قامت به
الرياضيات هي أنها لاحظت قاسمًا مشتركًا بين مجموعة من الظواهر
الطبيعية، فأخذت هذا القاسم المشترك، وهذا ما نسمِّيه عمليَّة تجريد،
وعبَّرت عنه بلغتها وقدَّمت لنا في الرياضيات مفهوم التابع الدوري، وما
حدث أيضًا هو أنَّ الفيزياء والعلوم والتكنولوجيا قد لاحظت القاسم
المشترك بين هذا التجريد وبين ظاهرة طبيعية أخرى هي دقات القلب فقدمت
لنا جهازًا حاذقًا يحوِّل هذه الدقَّات إلى خطوط بيانيَّة لتوابع
دوريَّة.
وفق هذه النظرة تكون الإجابة الأفضل للطالب الذي يطرح مثل هذا السؤال
هي العودة إلى الظواهر الطبيعية الدورية الأكثر بساطةً وإمكانيةً
للملاحظة في الطبيعة، أمَّا الأفضل جدًّا فهو استباق أسئلة الطلاَّب
وصياغة المناهج بطريقة يعيد فيها الطلاب، قدر الإمكان عيش ومحاكاة
المراحل التاريخية الرئيسة من تطور العلوم، مكتشفين من جديد القوانين
الأساسيَّة في السياق نفسه الذي جرى فيه ذلك في الواقع.
بالنتيجة، وبالعودة إلى الظواهر الطبيعية الدورية الأكثر انتشارًا
والأسهل ملاحظةً نجد أنَّ هذه الظواهر هي ظواهر فلكية كليًّا... فكلُّ
ما في الكون يدور حول كلِّ ما في الكون، بما في ذلك بني البشر!
فإذا شئنا تبنِّي فكرة محاكاة المراحل التاريخيَّة لتطوُّر العلم فإنَّ
هذا يعيدنا كلِّيًّا إلى السَّماء... لقد بدأ العلم في الواقع حين نظر
الإنسان إلى السماء ومن فوق وُلِدَت العلوم.
لنتخيَّل انطلاقةً مع التلميذ منذ سنوات تعلُّمه الأولى، تبدأ بأن نتيح
له فرصة النظر إلى السماء فحسب... ويا لحسن الحظ... ثمَّة اختراع اسمه
القبَّة الفلكيَّة
Planitarium
يعوض جزئيًّا صعوبة جمع الطلاب في دروسٍ ليلية أو صعوبة التغلب على
التلوث والتلوث الضوئي اللذَين يحجبان عنَّا نجوم الليل، بل لعلَّه
يقدِّم ميزة إبراز ظاهرةٍ معيَّنة أو تسريعها أو إبطائها... ومع ذلك
فيا حبَّذا أن يستطيع الطلاَّب بين وقتٍ وآخر أن يحظوا بفرصةٍ للسهر في
درسٍ أفضل وأمتع من كل الدروس، لا يفعلون فيه شيئًا غير النظر إلى
السماء!
مرَّة بعد مرَّة وعامًا بعد عام يطرح التلاميذ بأنفسهم أسئلة ويتناقشون
فيها. تنسلُّ فكرة الدورية إلى أذهانهم وتقيم فيها. يتهيَّؤون من حيث
لا يدرون لتمثُّل وفهم المعنى العميق للتابع الدوري، وتصبح الحسابات
الدقيقة مع الوقت تحصيلاً حاصلاً بالنسبة لهم، بل لبعضهم، ممَّن يحبُّ
أن يتابع هذا المسار.
يمكننا، إذا ما أردنا التَّفصيل، أن نتخيَّل الطلاب وهم ينتقلون من
الشعور بتعاقب الليل والنهار يومًا بعد يوم في عمرٍ صغير، إلى مراقبة
القمر في أطواره شهرًا بعد شهر على مدى عام، إلى استيعاب فكرة الفصول
على مدار عدد من السنين، إلى طرح أسئلةٍ تدفعهم إلى التَّفكير
بالسَّاعة الشَّمسيَّة من خلال ملاحظة ظلِّ شجرة مثلاً... إلى إنشاء
رسوم تمثل أطوار القمر أو مراحل الساعة الشمسية، إلى إجراء قياسات لطول
الظل في هذه الساعة، ما يمكِّننا من إدخالهم إلى علم المثلَّثات (النسب
المثلثية التي عادةً تُعطى بشكل مجرَّد وغالبًا ما يجد فيها معظم
الطلاَّب صعوبةً بالغة) يمكن انطلاقًا من هنا أن يدخل الطالب إلى فكرة
الدورية في إطارٍ هندسي مجرد ثم يعيد تطبيقه لاحقًا على الظواهر التي
درسها وعلى ظواهر أخرى جديدة.
يمكن الوصول في مرحلة لاحقة إلى حالة يكون بإمكان الطالب فيها ملاحظة
الظاهرة الدورية في مجالات أخرى ودراستها رياضيًّا.. إذا شاء.
أقول إذا شاء لأنَّ صياغةً للمناهج وفق هذه النظرة، ومدرسةً مصمَّمةً
وفق نموذج مختلف، وعمليَّة تعليم تضع أهدافًا أعمق من تقديم شهادةٍ
تصبح جواز سفرٍ إلى سوق العمل... تمنح فرصة التوجه المريح للطلبة نحو
ميولهم الحقيقية... وهذا موضوعٌ هامٌّ آخر يحتاج متابعةً أخرى.
يقول قائل: لكن الأمر لا ينجح دومًا، إنَّ ما تطرحه هنا هو مفهوم
الدَّوريَّة، وهو مفهوم موجود بقوَّة في علم الفلك، ولكن ماذا عن
التَّابع الأسِّيِّ واللغاريتميِّ وماذا عن القطع المكافئ والقطع
الناقص والزائد،..
يعرف المشتغلون في الفلك أنَّ كلَّ الرياضيات موجودةٌ هناك فضلاً عن
الارتباط الوثيق للفلك مع علوم ومواد أخرى عديدة. أظنُّ أيضًا بحسب
خبرتي البسيطة أنَّ إمكانية تقديم معظم الفقرات التي تتضمنها مناهج
الرياضيات المعمول بها حاليًّا انطلاقًا من الفلك وعلوم الفضاء موجودة
وقائمة، وأظنُّ أنَّ الميزة في مثل هذا التقديم هو أنَّ هذه المفاهيم
لا تُعطى على نحوٍ مجرَّدٍ دومًا بل انطلاقًا من مسائل يطرحها رصدٌ ما
أو ملاحظةٌ ما.
كما أني لا أدعو من جهة أخرى لأن نقدِّم كلَّ شيء انطلاقًا من علم
الفلك لكنني أقول إنَّ الكثير الكثير من المفاهيم يمكن تقديمها
انطلاقًا من علم الفلك، الأمر الذي لا يتعارض مع إمكانيات كثيرة
أخرى... ما أدعو إليه هو دراسة الفكرة، ويبقى أمامنا بعدئذٍ طريق طويل
آخر...
بعض الفوائد المباشرة التي يمكن توخِّيها من تعليمٍ أوسع للفلك في
المدارس
فضلاً عن الغنى الكبير الذي يمكن أن يقدِّمه الفلك في المعلومات
والمعارف التي ستشكِّل في المستقبل جزءًا من المخزون المعرفيِّ أو
الخلفيَّة الثَّقافيَّة للمتعلِّم، يمكن لعلم الفلك أن يكون بيئةً
مميَّزة لتنمية بعض القدرات الخاصَّة:
1.
تنمية القدرات التخيُّليَّة في الفضاء الثُّلاثي الأبعاد، يتمثَّل ذلك
في كوننا في علم الفلك نرصد من الأرض ظواهر معينة، ثم يكون علينا
تمثيلها (نمذجتها) مع أخذ حركة الأرض بعين الاعتبار وباختصار نحن نرى
كما لو كنا في عالم ثابت ولكننا نعيش في عالم متحرك وعلينا أن نتمثَّل
مشاهداتنا مع أخذ الحركة بعين الاعتبار (نموذج مركزية الأرض ونموذج
لامركزية الأرض). يقدِّم علم الفلك هنا مجالاً لا نظير له لتدريبٍ
للمخيِّلة الفراغيَّة. وهو يتفوق في هذه الناحية على تعلم الهندسة
الفراغية، وخصوصًا بالطَّريقة الحفظيَّة التلقينيَّة المعهودة.
2.
يمكن للنشاطات التي يمارسها التلاميذ والطلاب ضمن إطار علم الفلك، ولا
سيما وضع نماذج (ماكيتات) تفسِّر الأرصاد، ثمَّ اختبار هذه النماذج
بطرق معينة، أن تجعلهم يعيشون خطوات حقيقية في مسير نشاط علمي حقيقي
بما في ذلك من مراقبة (رصد) وتفكر ومناقشة وسؤال وعمل واستنتاج واختبار
(طبعًا بحسب العمر والصفِّ..).
3.
يمكن تقديم دراسة علم الفلك بطريقة تعطي حصانة ضدَّ التّفليك، أعني
الاستخدام المبتذل وغير السليم لما يُسمَّى "الأبراج الفلكية" في قراءة
الحظ والتنبؤ وما إلى ذلك.. فنحن نعرف كم يُستخدم اسم علم الفلك في
التدجيل وفي التجارة، وكم هناك بين مَن يُسمَّون "مثقَّفين" من يشاركون
في الاستهلاك الرخيص لما يُسمَّى الأبراج... ولكن قد لا يعلم الجميع
أنَّ متابعة الأبراج بهذه الطريقة يمكن في أحيان غير قليلة أن تنتهي
إلى تحطيم حياة شخص. إنَّ دراسةً علميَّة تتضمَّن توعيةً مناسبة حول
الفصل بين العلم، بمعناه المتَّفق عليه، والعلوم التي تسمَّى باطنيَّة
أو غير ذلك من الأسماء أمرٌ لا يختلف عن التَّوعية حول الفصل بين
الطبِّ المعترف به وطبِّ طاردي الشياطين[3]!
4.
يمكن لعلم الفلك أكثر من مجالات عديدة أخرى أن يكون في طرحه مصدرًا
للمتعة في التعلُّم. أشير هنا إلى أنَّنا نبحث دومًا في التربية
والمناهج عن جواذب تدفع الطفل أو الشاب إلى التعلم. فالمتعة كانت وسيلة
على الدوام... لكننا قلَّما نفكِّر بأن تكون المتعة في التَّعلُّم غاية
بحدِّ ذاتها أيضًا.
5.
يشكِّل تعلُّم الفلك بما فيه من مواضيع إشكاليَّة ظاهريًّا فرصةً
لتربية ثقافة الإصغاء والمناقشة وقبول الرأي المختلف... أعود إلى موضوع
تعاقب الليل والنهار... لنفرض أننا طرحنا إشكالية سبب تعاقب الليل
والنهار يوميًّا، وأنَّنا طرحنا على تلاميذ بعمرٍ صغيرٍ جدًّا أن
يعلِّلوا هذه الظاهرة، ولنفرض أنَّنا بعد الاستماع إلى ما يمكن أن
يقوله هؤلاء الأولاد قدَّمنا لهم في نهاية الأمر الاختيار بين سببين:
الشمس تدور حول الأرض الثابتة فتضيء نصفها بينما يكون النصف الآخر
مظلمًا... أو الأرض تدور حول محورها مقابل شمسٍ ثابتة في مكانها فيُضاء
قسمٌ من الأرض بضوء الشمس بحسب دوران الأولى... ولنفرض أنَّنا وضعنا
بين أيدي التلاميذ نموذجًا لكرة أرضية ومصباحًا يلقي ضوءه عليها مع
إمكانية تدوير الكرة حول محورها وإمكانية تثبيتها وتدوير المصباح
حولها... الطبيعي هنا، وبافتراض أنَّ الأولاد لم يُلقَّنوا حقيقة دوران
الأرض حول محورها، أن تنقسم المجموعة إلى عدد يقول بالنظرية الأولى
وعدد آخر يقول بالنظرية الثانية... الفكرة الهامَّة هنا هي أنَّ
المعلِّم لا يحسم الموضوع، بل يطلب من أفراد المجموعتين أن يبحثوا عن
نموذج آخر أو عن طريقة أخرى لتبين الحقيقة، وإلا فمن حق كل واحد أن
يحتفظ بوجهة نظره، بانتظار برهان حاسم يعرف المدرِّس أنَّه سيأتي
لاحقًا[4].
الأهداف الأكثر بعدًا وعمقًا لتعليم الفلك في المدرسة:
6.
يمكن لتعلم الفلك أن يدخلنا في تخيُّل البعد الرَّابع والمنطق فوق
الثلاثي والمفارقة الكموميَّة... طالما أنَّ فهم الزَّمن ضمن إطار
المسافات الكونية الشاسعة يدفعنا إلى مثل هذه المقاربات... يمكن أن
نقدِّم المثال التَّالي: حين ننظر إلى نجم بعيد جدًّا، فإنَّ ما نراه
ليس النَّجم كما هو الآن، بل كما كان منذ ملايين السنين، أي في بداية
الزمن الذي استغرقه الضوء كي يصل من ذلك المكان القصيِّ إلينا الآن...
ففي كثير من الأحيان نحن نرى ما لم يعد موجودًا أبدًا اليوم... ولكن
ماذا هناك الآن؟ إنَّنا في كثيرٍ من الأحيان لا نعرف!... يختلف تمثُّل
مثل هذه الحالات عن تمثُّل الحالات التي نعيشها على الأرض والتي يمكننا
فيها تبيُّن وجود شيء من عدم وجوده... إنَّ اعتياد العقل على معالجة
مثل هذه الأنواع من الحقائق أو من الحالات والتعامل معها منذ الطفولة،
ولدى جميع أو معظم أبناء البشر عبر تعليمٍ يفسح مجالاً رحبًا للفلك،
سوف يفضي إلى فكرٍ بشريٍّ جديد قادر على الأغلب على تجاوز المنطق
الثُّنائي إلى العيش في عالم من منطق متعدِّد... مَن قال إنَّ الخروج
من كوكب الأرض يحمل فقط معنىً جغرافيًّا؟!
7.
على الصَّعيد التربوي والنفسي، بل قل على الصعيد الأخلاقي والروحي،
يمكن للتعامل مع الفضاء، مع المساحات الشاسعة والأبعاد اللامتناهية
والسرعات الفلكية، ومع الخروج الفعلي لا الذهني فقط من المركزية
الأرضية، ومع الاقتناع بوجود عوالم أخرى وإمكانيات حياة أخرى قد تكون
أقل أو أكثر منَّا تطوُّرًا... أن تربي في النفس البشرية شيئًا من
التواضع الذي نفتقده على الأرض والذي يكاد غيابه عنَّا يودي بنا إلى
الهلاك... أتذكَّر هنا مقولةً لميخائيل نعيمة: "أنا والنجوم تلميذ
وأستاذ، منها تعلمت عظمتي كصورة الله ومثاله وحقارتي كتراب". أقول
باختصار إنَّ تناولاً مناسبًا للعلوم بشكل عام، وللفلك بشكل خاص يمكن
أن يُستخدم تربويًا في إنماء روح الحوار والسلام والتعاضد الإنساني
العالمي. يحتاج هذا الأمر أيضًا إلى بحث في التفاصيل، ومقولة رائد
الفضاء التي استهللت بها هذا الفصل مهمَّة جدًّا في هذا المجال.
بغضِّ النَّظر عن موقع علم الفلك في المناهج، ترتفع أصواتٌ عديدة في
الكثير من دول العالم ولا سيَّما الأكثر تقدُّمًا منها لتدعوَ إلى
ثورةٍ شاملة في هذه المناهج يذهب بعضها إلى حدِّ طرح التساؤلات حول
أولويَّة المواد الدِّراسيَّة التي ما تزال تحتلُّ مكان الصَّدارة منذ
مئات السنين بما فيها الرِّياضيَّات والفيزياء واللُّغات... ويجمع
الكثير من هذه الأصوات على أهمِّيَّة الناحية التربوية التواصلية في
التعليم الأساسي. وإنَّها لفرصةٌ سانحة على ما أظنُّ لتقديم علم الفلك
ضمن أي تغيُّر ممكن.
عودةٌ إلى السؤال الذي تركناه ينتظر...
هل يمكن أن يدفعنا كلُّ هذا إلى دعوةٍ لإعادة صياغة، على مستوى العالم،
للمناهج الدِّراسيَّة على أسس جديدة إلى حدٍّ بعيد، وفي العمق إلى
إعادة النَّظر في المعايير الدوليَّة لهذه المناهج؟!
ألمح، في محاولة الإجابة عن هذا السؤال ضرورتين ملحَّتين:
أولاً: ضرورة إعادة تصميمٍ للمناهج التربوية والتعليمية تلحظ الحاجة
الماسَّة إلى تنمية جيلٍ يعرف كيف يتواصل، وبالتَّحديد كيف يصغي، وأنا
هنا أتحدَّث عن جانبٍ تربويٍّ بحت لكنَّ هذا لا ينفي ارتباطه بجميع
المواد الدراسيَّة، طالما أنَّ كلَّ جانب تربويٍّ يرتبط بكلِّ مدرِّس..
أو هكذا يُفتَرَض!
ثانيًا: ضرورة التَّركيز على مكانة علم الفلك، وبالتَّحديد على البعد
الميتا أرضي إن جاز التَّعبير لإنسان المستقبل والذي علينا أن نعدَّ له
منذ اليوم. ويمكن لهذا أن يتجلَّى في جعل علم الفلك وما يرتبط به
محورًا في المقرَّرات الدراسيَّة وليس مجرَّد مجالاً للأمثلة
والتَّطبيق.
أشرح هاتين الضرورتين من خلال اقتباسٍ من إدغار موران، يقول:
إنَّ بإمكان المدرِّس، بل عليه أيضًا، حين يكون متعدِّد الكفاءات،
الانطلاق من القضايا الكبيرة التي تطرح نفسها، والتي تتيح انطلاقًا
منها، التَّشعب إلى المناهج، وأعني بهذه القضايا: من نكون، ما هو هذا
المجتمع، ما هو الفكر الإنسانيُّ والحياة والكون؟
من الواضح هنا أنَّ الموضع الذي يمنحه للإنسان التَّقدُّم العلميُّ
التكنولوجيُّ بجعله الأرض قريةً صغيرةً من جهة، وباكتشافه كواكب تدور
حول نجوم من جهة أخرى ما يضع هذه القرية الصغيرة على عتبة تواصلٍ مع
قرىً أخرى يمكن أن تشبهها، هو واحدةٌ رئيسة من هذه القضايا التي
يتحدَّث عنها موران.
يعني هذا من وجهة نظري أنَّ من المناسب جدًّا (إن لم أقل من الضروري أو
من الواجب أو من اللازم...) أن تنطلق المناهج، بكونها تعطي إطارًا
داعمًا للمدرِّس الذي يحتاج إلى مثل هذا الإطار مهما كان متمكِّنًا، من
هذه النظرة "الكونيَّة" للإنسان، إن جاز التَّعبير، للوصول إلى مواضيع
مختلفة في مواد مختلفة... يمكن أن نتساءل هنا على سبيل المثال عن حجم
ما يرتبط بأدب الخيال العلمي في المناهج القائمة وعن الحجم والنوعيَّة
اللذين يمكن أن يأخذهما هذا الأدب ضمن المنظور المقتَرَح.
يتابع إدغار موران حديثه في مقابلة صحافيّة فيقول[5]:
المشكلة الأساسية هي الفهم. فالفهم ليس الشرح فحسب، إنه رؤية الإنسان
في كونه كيانًا. بيد أنَّنا نعيش مع الأسف في عالم اللافهم. إننا لا
نفهم بعضنا بعضًا لا في ثقافاتنا المختلفة ولا في العائلة الواحدة ولا
بين الآباء وأبنائهم ولا بين الزوجين. وإذا ما كان هناك شيء يجب أن
يتمَّ تعليمه بشكل ضروري منذ المرحلة الابتدائية، فهو كيف نفهم بعضنا
بعضًا.
يصبُّ هذا القول في نفس سياق ما سمَّيتُه ضرورةً أولى. وأعتقد أنَّ
العمل على تحقيق مثل هذه الضرورة يمكن أن يبدأ بالإصغاء إلى أصواتٍ
عديدة بدأت تنظر إلى المناهج المدرسية كحلقة أساسيَّة في إعادة صياغة
وتوجيه العالم والقيم... من هذه الأصوات صوت إدغار موران كما قرأنا
وصوت المحلِّل النَّفسيِّ والكاتب جاك سالوميه الذي يقول أيضًا:
لا أريد أن أموت قبل أن يبلغ نضالي مرماه: جعل التواصل العلائقي مادة
أساسية وضرورية في المدارس.
وما دمنا في إطار المناهج المدرسية وعلم الفلك، فأحرى بنا أن نعطي
الكلمة أيضًا للكبير في علم الفلك كارل ساغان الذي يقول في كتابه
الشهير والرائع نقطة زرقاء باهتة:
إنَّ دراسة علم الفلك وسيلة لتعلُّم التَّواضع وبناء الشخصية.
أنا لم أجد صورةً أفضل للغرور الإنسانيِّ الأحمق من هذه النقطة الزرقاء
الباهتة. إنَّها تؤكِّد على مسؤوليَّتنا في أن نعامل بعضنا بعضًا
بمحبَّة.
خلاصة وخاتمة
يحتل علم الفلك مكانًا مميَّزًا بين المناهج التي يمكنها جذب الأطفال
نحو الاهتمام بالعلوم: ألسنا نقول إن الفلك هو أصل العلوم؟!
تتيح علوم الفضاء عمومًا مقاربة العديد من المجالات الأخرى: الفيزياء
والكيمياء والبيولوجيا والبصريات... إنها حاضرةٌ بشكل رائع في الأنشطة
العبرمناهجية بما في ذلك المواد غير العلمية مثل التاريخ والفلسفة
وحتَّى الأدب..
يمكن لعلم الفلك أيضًا أن يجسد تطور المعارف الإنسانية وأن يوضح الموضع
الذي يجد فيه الإنسان نفسه في الكون، منتقلاً من المركزية إلى
اللامركزية الكونية... وصولاً إلى البيغ بانغ والكون المتسع بلا
حدود...
يحدثنا علم الفلك كذلك عن ظواهر حاضرة باستمرار في حياتنا، مثل تعاقب
الليل والنهار وأطوار القمر وتتالي الفصول ويسمح لنا بفهم هذه الظواهر
بشكل أفضل عبر تحريك الأرض في الفضاء...
أبعد من المعارف والمعلومات.. السماء نبع لا ينضب للخيال، ورابط مباشر
مع الثقافات التي سبقتنا. وعلم الفلك، يقدِّم لنا دعوةً متجدِّدة إلى
استكشاف قطاعات بعيدة وغريبة رغم أن صورتها مألوفة وفي متناولنا:
إنَّها الصورة الرائعة للسماء المرصعة بالنجوم.
*** *** ***