تعليمٌ يغيِّر العالم

 

أنتونيللا فيردياني*

 

حاملوا مشاريع مستقبليَّة، غارسوا أمل، منجزوا تغييراتٍ حدَّ الانقلابات، مبدعون ثقافيُّون... لهم جميعًا، على اختلاف بلدانهم،

قاسم مشترك في تبنِّي نظرة شاملة ومتكاملة للعالم (...) في إعادة وضع الإنسانيِّ في قلب المجتمع، (...) في التَّفكير في حلول جديدة للمسائل الشخصيَّة أو الاجتماعيَّة (...)[1]

إنَّهم يدعون في معظمهم إلى العودة إلى فلسفة للحياة تدور حول السَّعادة، إضافة إلى قيم أساسيَّة، مثل الهناء الفرديِّ والجمعيِّ، التَّكافل الإنسانيُّ، السَّلام...

يبتكرون، وهم المبدعون، محرِّكين الرَّكائز التي تدعم جميع مجالات المعرفة الإنسانية، والتَّعليم أوَّلها.

لا يُفهَمنَّ هذا التَّحريك، على صعيد المدرسة الابتدائية بشكل خاصٍّ، على أنَّه مجرَّد إدخالٍ لتقنيَّات جديدة إلى قاعة الصَّفِّ، بل على اعتباره سيرورة تحديث للرؤيا التَّعليمية وللمناهج التربوية المختارة كي تُدرَّس.

بحسب هذه المقاربة، لا تكون "تكنولوجيا المعلومات والاتِّصالات من أجل التَّربية" أو الـ TICE[2] غير أداة في خدمة المناهج التربوية المطبَّقة، وليس العكس.

بدفع التَّفكير قدمًا، وباستخدام لغة مبتكرة أيضًا[3]، يجري الحديث عن التَّجديد كفعل "عصيان محليٍّ" محمَّلٍ بقابليَّةٍ كامنة لخرق المنظومة–المدرسة، التي أنتجته. بناء على ذلك، يبعث الخروج عن الطُّرق المألوفة خَلقَ حلول تربويَّة مبتكرة، منقطعة عن تراث تربويٍّ مكرَّسٍ مسبقًا، موجَّهَة نحو معالم جديدة، مرافِقَةً المتعلِّمين ليصبحوا مؤلِّفين لحياتهم، أحرار وذاتيِّين.

إنَّ الأبواب لمفتوحةٌ على مصراعيها اليوم، من وجهة نظر البحث في العلوم التربوية، نحو التَّجريب. تسبق بعض البلدان غيرها سبقًا كبيرًا (فنلندا، كيبك..) فهي تمارس سياسة بحث أكثر فاعليَّة، وتعطي قدرًا أكبر من الحرِّيَّة لمعلِّميها، وتشحذ الإبداع في المدرسة.

هناك إذًا نموٌّ في الممارسات الإبداعيَّة الأصيلة والجديدة، ويذكِّر كلُّ هذا بالتُّراث الرَّائع لمربِّي الماضي. إن شخصيَّاتٍ من أمثال مونتيسوري وفرينيه وكريشنامورتي وشتاينر وغيرهم بالتَّأكيد[4] قد سبق أن أدركوا، منذ مائة سنة خلت على وجه التَّقريب، المعنى العميق للعبة التربوية: أنَّ للتَّربية دورًا أوَّليًّا في بناء الكائن الإنسانيِّ، وأنَّها يجب أن تؤسَّس قبل كلِّ شيء على معرفة كيف نكون le savoir–être.

ليس هنا المحلُّ المناسب من أجل تقديم تفسيرات معمَّقة حول المقاومة المزمنة للمؤسَّسة في فرنسا (وليس في فرنسا وحدها) تجاه هذه النظرة التربوية، لكنه بالأحرى تساؤل سوف يساعدنا على فهم مساهمة هذه المذاهب التَّعليمية في ثقافة سلام من أجل الإنسانيَّة: ما الذي تحمله هذه المناهج من أخطار جمَّة كي تُعتَبَر دومًا وحتَّى الآن "بديلة" alternatives و"مختلفة" و"جديدة" في منظوماتنا التربوية الرَّسمية؟ كي نحاول الإجابة عن ذلك فيما وراء كلِّ تعميم (لأنَّ كلَّ تيَّار تربويٍّ له ميِّزاته ومرجعيَّاته الخاصَّة) أتلقَّف أوَّل كلمة تنبثق في ذهني: الحرِّيَّة.

هذه المدارس تعلِّم من أجل الحفاظ على الحرِّيَّة الدَّاخلية، حرِّيَّة الفكر، حرِّيَّة التَّفكير والإبداع، وتعلُّم كي ينمو التلميذ في قلب بيئة مساعدة.

"ما أريد عمله، أعمله!... لقد رغبت أن أقوم بذلك وقمت به!".

هكذا عبَّر مبتهجًا تلميذ مدرسة ابتدائية تستمدُّ إلهامها من حركة Reggio Emilia. لقد عمل ما عمل، لأنَّه تربَّى على أن يكون واعيًا لكامل حقِّه، كونه تلميذًا، بأن يسبر ما يجذبه.

على هذا النَّحو يمكننا أن نجد في بلدان مختلفة، مدارس تضع موضع التَّطبيق كلَّ يوم هذه المناهج التربوية الطَّليعيَّة وذات السُّمعة العالميَّة: مدارس مونتيسوري، شتاينر – والدفور، ديكرولي، ديوي... المنتشرة كلُّها في العديد من البلدان، وحركة التَّعليم المَهِل slow education، ومدرسة التقدُّم الحرِّ في أوروفيل (في الهند)، وأنتينوبوليس ومدارسه التربوية على السَّلام (البرازيل)، والمدرسة البديلة جوناثان في مونتريال (كندا)، وشبكة المدارس البديلة (في كيبيك) وبروكوود بارك سكول (في انجلترا) ومدرسة سالتافوسي الحرَّة (إيطاليا) ومدرسة كوليبري (في فرنسا)...

إنَّ كوننا معتادين منذ نعومة الأظفار، كما هو حالنا، على تنفيذ مهمَّات مفروضة، وتأدية وظائف، والإجابة عن أسئلة وامتحانات، فإنَّنا نستطيع أن نتساءل هنا حول تطبيق الحرِّيَّة الخلاَّقة (حرِّيَّتنا وحرِّيَّة أولادنا) في مدرسة الجمهوريَّة[5]... لماذا نجد المنظومة منغلقةً إلى هذا الحدِّ تجاه هذه المناهج؟

لقد سبق لروَّاد شهيرين مثل باولو فريري وإيفان إيليش أن أجابوا عن هذا السُّؤال: لأنَّ المدرسة تعيد إنتاج المنظومة، والمنظومة، من جانبها، يرعبها التَّغيير.

بطريقة أخرى نقول إنَّ مدرستنا، تمامًا مثل تلك التي درسها إيليش وفريري، مصمَّمة كي تحافظ على الوضع الرَّاهن. ليس مدهشًا إذًا أن يكون المدرِّس في هذا الإطار هو الحائز الوحيد للمعرفة الشَّرعيَّة التي يفرضها على التلميذ، الغرض الطَّيِّع الذي يجري الحفاظ عليه في حالةٍ من الـ "وعي السَّاذج" كما كان باولو فريري يقول[6].

إنَّها نفس الحالة التي تعتبر الأساتذة والتَّلاميذ مجرَّد عملاء للمؤسَّسة، بدلاً من إطلاقهم ليكونوا مؤلِّفي مِهَنِهم الخاصَّة[7]، وبالأكثر مؤلِّفي كيانهم الخاص، أكفَّاء أن يبادروا بحرِّيَّة وأن يتفاعلوا مع أقرانهم.

إنَّ هذا السِّياق من فسح المجال هو بالتحديد المسلَّمة التي تقوم عليها هذه المدارس ويقوم عليها هذا التَّعليم الذي يجعل الأطفال سعداء وأحرارًا ويدعهم ينمون ويكبرون بحسب إيقاعهم ورغباتهم ومواهبهم الخاصَّة. تُعتَبر بهجة وسعادة التَّعلُّم هنا محرِّكاتٍ للفعل التَّربويِّ في سبيل الحفاظ، لدى الأطفال، على الجوهرة التي وُلدت معهم وهي فرح الحياة.

هذه المناهج التَّعليميِّة، حتَّى الأكثر قِدَمًا بينها، عبرمناهجيَّة أيضًا: فبدلاً من تركيز أذهان الطُّلاَّب على أوجه منفصلة من الواقع (عبر برامج مجزَّأة في المواد والحصص..)، فإنَّها ترفع الحواجز بين الموادِّ والمعارف، وتعوِّد على مقاربةٍ مركَّبة للواقع، وعلى التَّفكير ضمن تعابير ترابطٍ كونيٍّ وارتباطٍ علائقيٍّ إنسانيٍّ.

وكما يعرف كلُّ مربٍّ، عندما تجري ترجمة هذه المبادئ إلى مناهج، مثل التَّربية على السَّلام واللاَّعنف، تصبح عوامل قويَّة لتغيير ذهنيَّات ومواقف الأفراد في حياتهم اليومية.

على سبيل الخلاصة، إذا كانت الفِراسة، الإصغاء المرهف، الرَّحمة، الإحسان، قد كانت في أساس الرُّؤى التربوية "البديلة" في القرن الماضي، فإنَّ الوقت قد حان اليوم كي تخرج المدارسُ التي تعلِّم من أجل الفرح ومن أجل السَّلام من التَّهميش ومن الأوساط المميِّزة للمنشآت الخاصَّة (في معظم الحالات) حيث تقبع منعزلةً اليوم. لقد حان الوقت كي تصبح متاحةً أكثر فأكثر لكلِّ الطَّبقات الاجتماعية وأن تستطيع أن ترتحل إلى طبقات أخرى، محمولةً من قبل جميع الذين يودُّون خوض التجربة.

يكافئ التَّغيير، يكافئ التَّجديد العميق للتَّربية، وقبل كلِّ شيء، أن نفهم الدَّور الأساسيَّ للمدرسة في بناء وعيٍ أرضيٍّ جديد وأن نتصرَّف من هذا المنطلق. يعني الأمر في النهاية أن نستطيع، في حياتنا اليومية، ممارسة حقوقنا وواجباتنا الخاصَّة، سواء كنَّا أهلاً أو معلِّمين أو مواطنين، مبدعين متجدِّدين ومجدِّدين، حاملي مشروع مجتمع أكثر زهدًا، من غير شكٍّ، وأكثر سرورًا بالتأكيد.

ترجمة: أديب الخوري

*** *** ***


 

horizontal rule

* دكتوراه في علوم التَّربية. عملت مع اليونسكو بين 1987 و2005 في قضايا تربوية. مؤلِّفة كتاب هذه المدارس التي تجعل أطفالنا سعداء. مستشارة وعاملة في مجال التَّكوين (= التَّدريب) في مبادرة الربيع الجماعي للتَّربية.

www.educationalajoie.com

www.printemps-education.org

[1] الاقتباس عن موقع ويكي بيديا بنسخته الفرنسية، بتاريخ 14 آذار 2014.

[2] اختصار بالأحرف الأولى لـ Technologies de l'information et de la communication pour l'enseignement. يعبِّر هذا العنوان عن طرحٍ، بل مجموعةٍ من الطروح التربوية الحديثة، والتي منها "دمج التكنولوجيا بالتَّعليم".. وهي طروحٌ تأخذ الكثير من الأخذ والرَّدِّ في الساحة التربوية اليوم.. والكاتبة واضحةٌ هنا في الحديث عن رؤىً تربويَّة تتجاوز كثيرًا، وبحسب تعبيرها، مجرَّد إدخال التكنولوجيا إلى قاعة الصَّفِّ. (المترجم)

[3] حسب تحديد رنيه باربييه، الأستاذ الخبير في علوم التّربية: http://www.barbier-rd.nom.fr.

[4] إليكم محاولة في تقديم لائحة بالتربويِّين الطَّليعيِّين: فريدريك فروبل (1782 – 1852) صاحب نظرية الحرِّيَّة من خلال اللَّعب، ومؤسِّس رياض الأطفال، ليون تولستوي (1828 – 1910) مؤسس مدرسة lasnaia Poliana، بول روبين (1837 – 1912) والتَّربية المتكاملة مؤسِّس مدرسة Cempuis، سيباستيان فور (1852 -1942) والتعليم المحرِّر، مؤسِّس المدرسة التَّحريريَّة في لاروش، وإيليز سيليستان فرينيه (1896 – 1966) والإدارة الجمعيَّة، التي أسَّست عام 1920 مدرسة تعاونيَّة. وروجيه كوزينه (1881 – 1973) وتعليم الفريق، فرانسيسكو فيرييه إي غارديا (1859 – 1909) والتربية العقلية - مؤسس المدرسة الحديثة في برشلونة، جون ديوي (1859 – 1952) والأداتيَّة instrumentalisme التربوية، ماريا مونتيسوري (1870 – 1942) والتَّعليم الحرُّ، أوفيد ديكرولي (1871 – 1923) والتَّعليم بحسب مركز الاهتمام، برتراند راسل (1872 – 1970) والتَّعليم الطبيعي - مؤسِّس مدرسة بيكون هيل، ألكسندر سوترلاند نيل (1883 – 1973) والتَّعليم الحرُّ - مؤسِّس مدرسة سومرهيل، يانوس كوركزاك (1878 – 1942) معلِّم بولوني، من روَّاد المنادين بالحقوق الفاعلة للطفل.

[5] أي المدارس العامَّة الحكوميَّة، والحديث في فرنسا. (المترجم)

[6] Paulo Freire, pédagogie des opprimés, (1969) Maspero, 1982.

[7] Jacques Ardoino , Education et politique, Gautier-Villard, Paris 1977.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني