|
كانط والثورة[1]
يبدو لي أن هذا النص[2] يكشف عن نوع آخر من الأسئلة في مجال التفكير الفلسفي. فما هو بالنص الأول في تاريخ الفلسفة- ولا حتى عند كانط- الذي يطرح سؤالاً حول التاريخ، إذ نجد عند هذا الفيلسوف نصوصًا عديدة تلقي على التاريخ سؤال الأصل، كالنص حول بدايات التاريخ ذاته، والنص المتعلق بتحديد مفهوم الأجناس. وثمة نصوص أخرى تضع التاريخ أمام سؤال حول صيغة إنجازه، كهذا النص المنشور في سنة 1784 نفسها: حول فكرة تاريخ عالمي من وجهة نظر كونية. وهناك، أخيرًا، نصوص تساءلت عن الغاية الذاتية التي تنظم السياقات التاريخية، كالنص الخاص باستعمال المبادئ الغائية. فكلُّ هذه النصوص[3] المترابطةُ بعضها ببعض وثيقَ الترابط تخترقُ جميع تحاليل كانط حول التاريخ. إلا أنه يظهر لي أن نص عصر التنوير يختلف عن كل النصوص فهو، على الأقل، لا يطرح أيًا من هذه الأسئلة: لا سؤالَ الأصل ولا، برغم ما يبدو للناظر، سؤالَ الإنجاز؛ بل يضع بصفة محتشمة، تكاد تكون جانبية، مسألة الغائية الكامنة في سياق التاريخ ذاته. والمسألة التي تبدو مطروحةً لأول مرة في نص كانط هذا هي مسألةُ الحاضر، أي السؤال عن الآنية: ماذا يحدث اليوم؟ ماذا يحدث الآن، وما هو هذا "الآن" الذي نوجد نحن وغيرنا فيه، ومن الذي يحدد اللحظة التي أكتب فيها؟ ليست هذه هي المرة الأولى التي نجد فيها، خلال التفكير الفلسفي، إشارةً إلى الحاضر بوصفه وضعًا تاريخيًا محددًا. فقد وصف ديكارت في بداية مقالة الطريقة مسيرتَه ومجموعة القرارات الفلسفية التي اتخذها تجاه نفسه وتجاه الفلسفة، ولقد أشار فعلاً، وبطريقة واضحة، لأمرٍ يمكننا أن نعتبره الوضع التاريخي ضمن انتظام المعارف والعلوم في عصره. غير أن المطلوبَ في هذا النوع من الإشارات يبقى إيجادُ الدافع لاتخاذ القرار الفلسفي داخل ذلك الشكل المتوحّد الذي نشير إليه بلفظة الحاضر. فعند ديكارت لا نجد سؤالاً من صنف: "ما هو بالتحديد هذا الحاضر الذي أنتسب إليه؟"، فالسؤال الذي التزم كانط بالإجابة حين ألقي عليه هو من نوع آخر، فيما يبدو لي؛ إذ هو لا يُصاغ بهذه البساطة، أي على هذا الشكل: ما الذي يحدِّد في الوضع الحالي هذا القرار أو ذاك ضمن النظام الفلسفي؟ بل إن السؤال يتعلق بهوية هذا الحاضر، وقبل كل شيء، بتحديد عنصر معين من الحاضر لابد من التعرف عليه وتمييزه وفكِّ شفرته من بين كل العناصر الأخرى، حتى يصبح السؤال: ما الذي يشكِّل في الحاضر، الآن، المعنى في تفكيرٍ فلسفيٍّ ما؟ في الجواب الذي يحاول تقديمه حول هذا التساؤل يَعْمَد كانط إلى بيان المِيْزة التي يحملها هذا العنصر، والتي تجعل منه المؤشر لسياق يضمّ الفكر والمعرفة والفلسفة. غير أنه من الضروري، في الحين ذاته، بيانُ السبب والصيغة اللذين يجعلان المتحدِّث، كمفكر أو كعالم أو كفيلسوف، ينتمي هو ذاته إلى هذا السياق. ثم كيف يمكن تحديد الدور الذي يلعبه - هذا المتحدث - في هذا السياق حيث يوجد هو نفسه كعنصرٍ وفاعلٍ في الوقت نفسه؟ ومجمل القول أرى أننا نَلْمَح في نص كانط هذا قيامَ مسألة الحاضر كحدثٍ فلسفي ينتمي إليه الفيلسوف الذي يتحدث عنه. وإن نحن قبلنا باعتبار الفلسفة شكلاً من أشكال العمل النظري له تاريخه المميَّز، فإننا، في اعتقادي، نشاهد في نص التنوير الذي أمامنا - ولا أبالغ حين أقول لأول مرة - نشاهد الفلسفة تعمل على صياغة إشكالية لآنيَّتها النظرية. فهي تستنطق هذه الآنيّة كحدثٍ لابد من الإفصاح عن معناه وعن قيمته وعن تفرُّده الفلسفي، ولابد من أن تجد فيه، في الوقت نفسه، تعليلاً لوجودها وأساسًا لما تقوله. نرى، إذًا، أن تساؤل الفيلسوف عن انتمائه لهذا الحاضر لم يعد، إطلاقًا، تساؤلاً حول إنتمائه لمذهب ما أو لتراثٍ معيَّن، ولا حول قضية انتمائه لمجموعة إنسانية بصفة عامة، بل أصبح السؤال يخص إنتماءه لـ"نحن" محدَّد، لهذا الـ"نحن" الذي يشير إلى مجموعة ثقافية تتميز بآنيِّتها. هذا هو الـ"نحن" الذي سيصبح في الفلسفة موضوع تفكيرها، ومن هذا المنطلق لم يعد من الممكن أن يتجنب الفيلسوفُ السؤالَ حول انتمائه المتفرد لهذا الـ"نحن". كل هذا، أي الفلسفةُ كعمليةٍ تجعل من الآنيّة إشكالاً، وكتساؤلِ الفيلسوف عن هذه الآنيِّة التي ينتمي إليها، والتي لابدّ أن يتخذ له منها موقفًا؛ كلُّ هذا إذًا سيُمَكِّن من تمييز الفلسفة كخطابِ الحداثة وكخطابٍِ عن الحداثة. وحتى نتحدث بصفة مبسَّطة نقول: إن مسألة الحداثة كانت قد طرحت في الثقافة الكلاسيكية -الغربية ضمن محورٍ ذي قطبين: قطب العصر القديم وقطب التحديث. فقد تمت صياغة المسألة إما في اتجاه سلطةٍ علينا قبولها أو رفضها (أيَّ سلطة نَقْبل وأيَّ نموذج نتَّبع، إلخ..؟) وإمّا في شكلٍ، مرتبط بالاتجاه الأول، تقويميٍّ مُقارِن: هل القدامى أفضل من المُحْدَثين؟ وهل أننا في فترة انحطاط، إلخ..؟؛ لكننا نرى، مع نص كانط، ظهور صيغة جديدة في طرح مسألة الحداثة إذْ لم يعد السؤال في علاقة المحاذاة مع القدامى، بل أصبح في علاقة يمكن أن نسميها "شعاعية"، انطلاقًا من آنيَّة المتسائل: على الخطاب، بدءًا من الآن، أن يضع في الحساب آنيَّته حتى يحدِّد فيها مجالَ تواجُده الخاص من جهة، وحتى يتلفَّظ بمعناه من جهة ثانية، ثم وفي نهاية الأمر، كي يميِّز صيغة العمل الذي يستطيع القيام به داخل هذه الآنيِّة[4]. ما هي آنيِّتي؟ ما هو معنى هذه الآنيِّة؟ وما هو نوع العمل الذي أقوم به حين أتحدث عن هذه الآنيّة؟ ذلك، في رأيي، ما يُعرِّف هذا التساؤلَ الجديد حول الحداثة. إلاَّ أن ما توصَّلنا إليه إلى الآن لا يُشكِّل سوى ممرٍّ لابدّ من استكشافه عن قرب، لذا يجب علينا أن نُقْبِل على بحثٍ أصولي[5] لا يستهدف بالضرورة فكرة الحداثة بل الحداثة كمسألة. وعلى أيِّ حال وحتى لو أخذنا نص كانط كنقطةِ بروزٍ لهذه المسألة فإننا نرى أن هذا النص يندرج هو نفسه داخل سياق تاريخي أوسع لابد من أن نقدره حق قدره. وسيكون هذا الاتجاه، دون شك، أحد المحاور الهامة لدراسة القرن الثامن عشر بعامة، وعصر التنوير بصفة أخصّ، إذا نحن وضعنا الأمر التالي موضع التساؤل: إن عصر التنوير قد سمَّى نفسه عصر التنوير، فهو، إذًا، سياقٌ ثقافي متفرِّد بذاته دون ريب، لأنه وعى ذاته بتسمية ذاته في الوقت نفسه الذي حدَّد فيه نفسَه بالنسبة لماضيه ومستقبله، مع قيامه بتعيين الاختيارات التي سيُقْبِل عليها ضمن حاضره. أَوَليس عصر التنوير هو أول العصور التي تسمِّي نفسها بنفسها، وأول عصر لم يتميز بحسب العادة القديمة - بصفة الانحطاط أو الإزهار أو بانتسابه للرَّوْنق أو للبؤس فقط، بل سمَّى نفسه من خلال حَدَثٍ معيَّنٍ خلال تاريخ الفكر الشامل، وداخل تاريخ العقل والمعرفة، حيث سيلعب هذا العصر دوره الخاص؟ فَعَصْرُ التنوير طَوْرٌ صاغ شعاره بنفسه كما صاغ تعاليمه، معلنًا عمّا سيقوم به من عمل في اتجاه تاريخ الفكر بعامة، ثم في اتجاه حاضره، وفي اتجاه صيغ المعرفة والعلم والجهل والأوهام التي عَرَف هذا العصرُ كيف يتحسَّسُها وكيف يتعرَّف على وضعه التاريخي فيها. ويبدو لي أننا نشهد في مسألة عصر التنوير هذه، أُولى المظاهر لمولد طريقة معينة في تعاطي الفلسفة، مرت بتاريخ طويل خلال قرنين، لأنّ من أهمِّ وظائف الفلسفة التي تُسمَّى بالحديثة (والتي نستطيع تحديد بداياتها من أقصى أطراف القرن الثامن عشر) تساؤلُها عن آنيِّتها. ونحن نستطيعُ متابعةَ خط هذه الصيغة الجديدة للفلسفة خلال القرن التاسع عشر حتى اليوم، مع أنّ الشيء الوحيد الذي أرغب في التشديد عليه هذه المرة هو أنّ كانط لم ينسَ فيما بعد المسألةَ التي عالجها سنة 1784، حين أجاب على سؤال طرح عليه من الخارج؛ فهو سوف يعيد محاولة الإجابة عليه ضمن ما سيقوله، في مناسبة لاحقة، عن حَدَثٍ لم ينفكّ هو أيضًا يتساءل عن ذاته، وأعني بهذا الحدث، طبعًا، الثورة الفرنسية. ففي سنة 1798 سيعطي كانط ما يمكن أن نعتبره تتمة لنصِّ 1784. فالفيلسوف حاول في 1784 الإجابة على السؤال: ما هو عصر التنوير؟ أما في 1798 فيجيب على سؤال آخر طرحته عليه الأحداث، لكن المناظرات الفلسفية في ألمانيا كانت قد صاغته منذ 1894، وهذا السؤال هو: ما هي الثورة؟ تعلمون أنّ كتاب نزاع الكليات هو مجموعةُ ثلاث رسائل حول العلاقات القائمة بين مختلف الكليات المكوِّنة للجامعة، وتتعلق الرسالة الثانية بالنزاع بين كليتي الفلسفة والحقوق، وقد حَكَم مجالَ العلاقات بين الفلسفة والحقوق آنذاك هذا السؤال: هل هناك تقدم مستمر للجنس البشري؟، وحتى يجيبَ كانط على هذا السؤال عَمَد في الفقرة الخامسة من هذه الرسالة إلى إثبات الاستدلال الآتي: إذا نحن أردنا الإجابة على السؤال: هل هناك تقدم مستمر للجنس البشري؟ وَجَب علينا أن نحدِّد ما إذا وُجِدَت عِلَّة ممكنة لهذه التقدم. فإنْ نحن سلَّمنا بهذه الإمكانية وجب علينا أن نقيم الدليل على أن هذه العلة فعَّالة في واقع الأمر. فمجرَّدُ تحديد العلة لا يسمح إلاّ بتحديد جملةٍ من النتائج الممكنة أو، بتعبير أدق، لا يسمح إلا بتصور إمكان النتيجة. ولكنَّ واقع النتيجة لا يمكن أن يتأسَّس إلا بوجود الحدث. لا يكفي، إذًا، أن نتحسس التظافر الغائي الذي يجعل التقدم ممكنًا، بل لابد من أن نحدد داخل التاريخ حدثًا تكون له قيمة المؤشِّر. مؤشِّرٍ على ماذا؟ مؤشِّر على وجود علة؛ علة مستمرة قادت البشر خلال التاريخ على طريق التقدم؛ علة ثابتة يمكن لنا أن نؤكِّد فاعليتها في الماضي وأنها تفعل الآن، وأنها سوف تقوم بالفعل في الزمن الآتي. فالحدث الذي يُمَكِّننا إذًا من تقرير وجود التقدم هو مؤشِّرٌ (يمكن استحضاره بالذاكرة والاستدلال عليه، وتوقّع حدوثه مستقبلاً) -باللاتينية في النص الأصلي[6]-. يجب أن يُثْبِتَ المؤشِّر، إذًا، أن الأمور وقعت في الماضي "الاستحضار بالذاكرة"، وأن الأمور نفسها تحدث الآن "المؤشر في حالته الاستدلالية"، وأنها سوف تحدث هكذا باستمرار "المؤشر في حالته التوقّعية"، وبهذه الطريقة يمكننا ان نتأكد من أن العلة التي تجعل التقدم ممكنًا لم تقم بفعلها في ظرف معين فقط. بل تضمنت نزوعًا شاملاً يحمل الجنسَ البشريَّ كلَّه على السير في اتجاه التقدم. يصبح السؤال إذًا: هل يوجد حولنا حدث يمكن استحضاره بالذاكرة والإشارة إليه استدلالاً، والتوقّعُ بحدوثِه يشيرُ إلى تقدم مستمر يحمل الجنس البشري كلَّه؟ لابد أنكم حَدَسْتُمُ الجواب الذي يعطيه كانط. لكني أريد أن أقرأ عليكم مقطعًا من نصٍّ سوف يدخل كانط من خلاله إلى الثورة كحدثٍ له قيمةُ المؤشر كما بيَّنها. فقد كتب في الفقرة السادسة، من الرسالة المذكورة: إيّاكم أن تروا في هذا الحدث مجموعَ الأعمال الراقية والمساوئ الخطيرة التي قام بها الناس، والتي حوَّلت الأشياءَ العظيمة عندهم حقيرةً، والأشياء الحقيرة عظيمة [وإيَّاكم أن تروا] في المعالم القديمة الرائعة التي امَّحَت بمفعولٍ يكاد يكون سحريًا، بينما ظهرت مكانها معالم أخرى وكأنها طلعت من تحت الأرض، لا! لاشيء من ذلك. في هذا النص يشير كانط، إلى الأفكار التقليدية التي تبحث عن دلائل التقدم أو عدم التقدم عند النوع البشري، في انقلاب الإمبراطوريات وفي تعاقب النكبات التي تأتي على الأوضاع الأكبر رسوخًا، أو في تغيُّر الأقدار التي تصيب بالنكسة القوى الراكزة فتعوِّضها بأخرى. يقول كانط لقرائه: حَذارِ، فإننا لن نجد في هذه الأحداث الضخمة ذلك المؤشر الاستحضاري الاستدلالي التوقعي للتقدم، بل إننا نجده في أحداث أقل منها ضخامة، وأخفى منها على الإدراك؛ ولا يمكن لنا أن نحلِّلَ حاضرَنا بالنظر إلى هذه القيم الدالَّة، دون أن نسقط في طَلْسَمةٍ تقودنا إلى إعطاء الدلالة والقيمة التي نبحث عنها لما هو في الظاهر خال من الدلالة والقيمة. لكنْ ما هو هذا الحَدَث الذي ليس هو بالحدث "الضخم"؟ هناك طبعًا مفارقة عندما نقول إن الثورة ليست بالحدث الصاخب. أليست هي مثال الحدث الذي يَقْلِب، والذي يجعل ما كان كبيرًا يصبح حقيرًا، وما كان حقيرًا يصبح كبيرًا، والذي يلتهم هياكل المجتمعات والدول الأكبر رسوخًا في الظاهر؟ ولكنْ ليس هذا هو الجانبُ من الثورة الذي يحدِّدُ المعنى عند كانط. فالذي يُشكِّل الحدث ذا القيمة الاستحضارية الاستدلالية التوقعية لا يكمن في الدراما الثوريّ نفسه ولا في الانتصارات الثورية ولا في الإيماءات التي ترافقها، فالدَّالُّ في الثورة هو الطريقة التي تقيم بها الثورة المشهد، أي الطريقة التي تُسْتَقْبَل بها من طرف مشاهدين لم يسهموا فيها وإنما نظروا إليها وحضروها واستسلموا لتيَّارها، إنْ نحو الأفضل أو نحو الأسوء. فالتحولُ الثوري لا يشكل الدليلَ على التقدم، ذلك لأنه، أولاً، مجرد عكسٍ لواقع الأمور ثم، ثانيًا، لو آنَ لمن قام بهذه الثورة أن يكرِّرَها كما هي لما فعل. هناك نص لكانط ذو أهمية بالغة يقول: ليس المهم أن تكون الثورة ثورة شعب عظيم الثقافة كما رأيناها في أيامنا هذه (وهو يتحدث إذًا عن الثورة الفرنسية) وغير مهم أن نعرف إن هي نجحت أو فشلت، وليس من المهم أن نعرف ما تراكم خلالها من البؤس والفظاعة - حتى لأَنَّ إنسانًا عاقلاً، لو توفر له القيام بها من جديد على أمل إنجاحها لما قَبِل إطلاقًا محاولة التجربة بالثمن نفسه. فليس مسارُ الثورة هو المهم، وغيرُ مهمٍّ أن تفشل أو تنجح، إذ لا علاقة لكل هذا بالتقدم أو، على الأقل، بمؤشر التقدم الذي نبحث عنه. ففشلُ الثورة أو نجاحها لا يكونان مؤشرًا للتقدم، ولا المؤشرَ الدّالَّ على انعدام التقدم، بل لو تمكن الإنسان من فرصة الاطلاع على نتيجة الثورة والعلمَ بكيفية تطورها، ولو تمكن في الوقت نفسه من السير بها إلى النجاح مرة أخرى فإن هذا الإنسان، إن كان عاقلاً، وحَسَبَ الثمنَ الضروريَّ لهذه الثورة لا يكرِّرُ القيام بها. فالثورة في حدِّ ذاتها كعملية "قَلْبٍ"، أو كبادرةٍ يمكن لها أن تنجح أو أن تفشل، ثم كثمنٍ باهظ لابد من دفعه، لا تُعتبر مؤشرًا يدل على وجود علة قادرة على تمرير تقدم متواصل للبشرية خلال التاريخ. ولكنَّ الذي يشكِّل مؤشِّرَ التقدم، بالمقابل، هو ما يُحاذي الثورة، كما يقول كانط من "تعاطف بين التطلعات يلامس الحماسة". فالمُهمُّ في الثورة ليس حدثُ الثورة ذاتُه، بل ما يدور في أذهان من لا يقومون بها أو، على الأقل، من ليسوا بالقائمين الرئيسيين بها. المهمّ هو العلاقةُ القائمة بين هؤلاء وهذه الثورة التي هم ليسوا من أعضائها الفاعلين. فالحماس للثورة، بحسب كانط، هو المؤشر لتأهُّبٍ يظهر بصفة مستمرة في مظهرين: أولاً في حق كل الشعوب في أن تَهَبَ نفسها الدستور السياسي الذي ترتضيه، ثم ثانيًا في المبدأ الذي يتفق مع الأخلاق والحق، القاضي بأن تتمتع الإنسانية بدستور سياسي شامل يُجنِّبُ، من وجهة نظر هذه المبادئ ذاتها، كلَّ حرب هجومية. فالتأهبُ الذي يحمل الإنسانية نحو هذا الدستور هو الذي تشير إليه الحماسة للثورة. فالثورة كمشهد، لا كإيماءاتٍ، وكموطنٍ للحماسة عند الذين يحضرونها، لا كمبدأ عند من يشاركون في صنعها؛ هي" مؤشر استحضاري" لأنها تُبرز التأهب، في الإنسان، وهي "مؤشر استدلالي" لأنها تُظهر الفاعلية الحاضرة لهذا التأهب، وهي أيضًا "مؤشر توقُّعيّ" لأنه لا يمكن مستقبلاً نسيان التأهب الذي برز من خلالها حتى ولو كان من الجائز مراجعة بعض من نتائج الثورة فيما بعد. ثم إننا نعلم أن هذين العنصرين: الدستور السياسي الذي اختاره الشعب بمحض إرادته، والدستور السياسي الشامل الذي يجنِّب الحرب، هما في مسار عصر التنوير، أي أن الثورة هي بالفعل، في الوقت نفسه، التتويج والتواصل لعصر التنوير؛ وفي هذا الإطار يصبح عصر التنوير والثورة من الأحداث التي لا يمكن نسيانها. وقد كتب كانط يقول: أؤكِّدُ أني أستطيع التنبؤ للجنس البشري، دون أن يكون ذلك عن مَيْلٍ إلى التنجيم بل من خلال الظواهر وما أستشفه من علاقات في عصرنا، أستطيع التنبؤ بأن الجنس البشري سوف يصل إلى هذه الغاية، أي أنه سيبلغ حالةً تجعل الناس قادرين على تبنِّي الدستور الذي يريدون والدستور الذي يجنِّب الحرب الهجومية، بحيث تصبح هذه المكاسب في مَأْمَنٍ من كل مناقضة. وظاهرةٌ كهذه لا يمكن أن تُنسى في تاريخ الإنسانية لأنها تبرز في الطبيعة الإنسانية تأهّبًا ومَلَكة في الإقبال على التقدم لا يمكن لأية سياسة، مهما بلغت من قوة الدهاء، أن تنتزعها من مجرى الأحداث السابق. فالطبيعة والحرية، إنْ اجتمعا في فكر الإنسان، بحسب مبادىء الحق الكامنة فيه، يصبحان وحدهما القادرين على تقرير هذا الأمر حتى وإن لم يكن ذلك إلا في صيغة غير محددة، وكحدث عارض. ولكن، وإذا لم يكن الهدف المطلوب من وراء الحدث قد تم الوصول إليه، أي حتى وإن فشلت في ما بعدُ الثورةُ أو الإصلاحُ الذي شمل دستور الشعب، وإذا سقط كل شيء- بعد فترة قصيرة من الزمن- في الأخدود السابق، كما تنبأ بذلك بعض السياسيين، فإن تنبؤنا الفلسفي لن يفقد شيئًا من قوَّته، إذ إنّ هذا الحدث هو من الأهمية وعلى درجة من الارتباط بمصالح البشرية، ومن تأثير واسع على كل أجزاء العالم ما يجعله يعود، وجوبًا، إلى ذاكرة الشعب حالما تعود الظروف الملائمة، وسيُسْتحضر عند تجدد الأزمة ضمن محاولات متجددة من هذا الصنف؛ لأن قضية بهذه الأهمية بالنسبة للنوع البشري سوف تمكِّن الدستور المنتظر من أن يبلغ في وقتٍ ما تلك الصلابة التي تؤسِّسها دروس التجارب المتكررة في الأذهان. على كل حال، لابد للثورة أن تكون مهدَّدة بالسقوط في "الأخدود السابق"، ولكنها لن تسقط، إلا كحدث ذي محتوى تافه ويبقى وجودها يشهد على كُمونٍ مستمر لا يمكن نسيانه؛ ويبقى هذا هو الضمان مستقبلاً لمسيرة التقدم. أردتُ أن أحدد فقط موقع نص كانط هذا حول عصر التنوير، وسأحاول في ما بعد قراءته بدقة أكبر. وأردت أيضًا أن أرى كيف أقبلَ كانط بعد خمس عشرة سنة على التفكير في أحداث أكثر درامية [مما جاء في هذا النص] هي أحداث الثورة الفرنسية. فنحن أمام هذين النصين نقف على موضع الأصل وعلى نقطة انطلاق سُلالةٍ من الأسئلة الفلسفية؛ لأن هذين السؤالين: "ماهو عصر التنوير؟" و"ما هي الثورة؟" هما الشكلان لسؤال كانط حول آنيَّته ذاتها. وهما، فيما أظن، السؤالان اللذان لم ينفكَّا يترددان على جزء كبير من الفلسفة منذ القرن التاسع عشر، إن لم نقل على كل الفلسفة الحديثة. ويظهر لي، في آخر الأمر، أن عصر التنوير كحدث منفرد دشَّن الحداثة الأوربية وكسياقٍ مستمر يَبْرُز في تاريخ العقل، وضمن تطور أشكال العقلانية والتقنية وفي عملية تأسيسها ثم ضمن استقلالية المعرفة وسلطتها- إن عصر التنوير، إذًا، لا يبقى مجرد مرحلة من تاريخ الأفكار، بل هو مسألة فلسفية مُدوَّنة في فكرنا منذ القرن الثامن عشر. ولنترك في وَرَعهم أولئك الذين يريدوننا أن نحتفظ بتَرِكَة عصر التنوير حيةً مقدسةً، فإن مثل هذا الورع يُعدُّ من أسذج الخيانات. المطلوب ليس أن نحافظ على بقايا عصر التنوير بل أنْ نُبقي على ذات السؤال الذي طرحه هذا الحدث وعلى معناه (أي تاريخيةُ فكرة العالميّة) الذي لابد من الاحتفاظ به حاضرًا والإبقاء عليه كالشيء الذي يجب أن يكون مادة الفكر. إن مسألة عصر التنوير، ومسألة العقل كمشكلة تاريخية، عَبَرتْ الفكر الفلسفي بكيفيةٍ يتفاوت غموضها منذ كانط إلى الآن. والوجه الآخر للآنيَّة الذي اعترض كانط هو الثورة: الثورةُ كحَدَثٍ ثم أيضًا كقطيعة وكتحوِّل في التاريخ وكفشل، وفي الوقت نفسه كقيمة وكمؤشر وكتأهب يفعل داخل التاريخ وضمن تقدم النوع البشري. وهنا أيضًا لا يكون السؤال المطروح على الفلسفة في اتجاه تحديد ذلك الجانب من الثورة الذي يجب الحفاظ عليه، وإبرازه كنموذج، بل على السؤال أنْ يتَّجه نحو معرفة ما يجب أن نفعله بهذه الإرادة في الثورة، وبهذه "الحماسة" للثورة التي تختلف عن العملية الثورية نفسها. فالسؤالان: "ماهو عصر التنوير؟" و"ماذا نفعل بإرادة الثورة؟" يحددان كلاهما مجالَ التساؤل الفلسفي عن هوية وجودنا في الآنيَّة التي نعيشها. لقد أسس كانط، فيما أعتقد، الركنين الرئيسيين للتراث النقدي اللذين تقاسما الفلسفة الحديثة. ولنقل إنه وضع في عمله النقدي العظيم دعائم هذا التراث الفلسفي الذي يطرح السؤال حول الشروط التي تجعل المعرفة الحق ممكنة. ولنا أن نؤكد أنّ جانبًا بأكمله من الفلسفة الحديثة قد تولد وتطور، من كانط، في شكلِ تحليليّةٍ للحقيقة. غير أنه يوجد في الفلسفة الحديثة المعاصرة سؤالٌ من نمط آخر، أي على صيغة أُخرى من الاستفهام وهي التي تولَّدت تحديدًا في السؤال عن عصر التنوير، وفي النص حول الثورة. وهذا التراث النقدي الجديد يطرح السؤال: ما هي آنيَّتنا؟ وما هو المجال الحالي للتجارب الممكنة؟ والأمر لا يتعلق هنا بتحليليَّةِ الحقيقة بل بما يمكن أن نسمِّيه بأنطولوجيِّةِ الحاضر، أي بأنطولوجيتنا نحن ذاتنا. ومن هنا أرى أن الاختيار الفلسفي الذي نتعرض له اليوم هو الآتي: فإما أن نختار فلسفة نقدية تأتي إلينا على أنها فلسفة تحليلية تتناول الحقيقة بصفة عامة، وإما أن نفضِّل فكرًا نقديًا يأخذ شكل أنطولوجيَّةٍ لـ"نحن ذاتنا" أيْ أنطولوجيَّة الآنيَّة: ولقد أسَّسَ هذا الصنفُ من الفلسفة الاختيار الثاني بدءًا من هيغل إلى مدرسة فرانكفوت، مرورًا بنيتشه وماكس فيبر، شكلاً من التفكير حاولتُ أنا أن أعمل داخله. ترجمة: يوسف الصديق مجلة الكرمل، العدد 13، 1984. *** *** *** [1] الدرس الأول لسنة 1983 بالكوليج دو فرانس. [2] النص هو مقالة كانط: ما هو عصر التنوير؟. [3] تُعرف هذه النصوص في أعمال كانط تحت العناوين التالية: 1 - في مختلف الأجناس البشرية، نشره لأول مرة سنة 1775، وأعاد نشره مُنَقَّحًا ومزيدًا سنة 1777؛ 2 - تحديد مفهوم الجنس البشري، 1785 (ربما كان هذا النص تعقيبًا متأخرًا على النص الأول.)، 3 - افتراضات حول بدايات التاريخ الإنساني، 1786. [4] فضلنا ترجمة مفهوم actuslite بالآنيَّة، من "الآن". لأن فوكو في مواضع أخرى يعتمد التحليل نفسه، ويشدد على البعد الزمني لهذا المفهوم، أي البعد "التوقيتي،" لا البعد "الحَدَثي". [5] يشير فوكو حين يتحدث عن البحث الأصولي إلى استدراج المفاهيم والقيم بدءًا من أصلها، واستنطاقها من خلال هذا الاستدراج، تمامًا كما فعل نيتشه في كتابه البحث في أصول الأخلاق Genealogie de lamorale. [6] ميَّز النص أبعاد هذا المؤشر بتعابير لاتينية: Reme morativum, de monstrativum, pronosticum
|
|
|