|
العُبُور
إلى الأمَان التَزَامُن
وصنَاعة النَّفْس فينكس، آريزونا، 12 آذار 1999. في عصر
ذلك اليوم، صرفت عدة ساعات أراجع محاضرة. وبما
أنني استعملت الأفكار عينها قبلئذٍ ببضعة
أيام لكتابة مسوَّدة فصل من فصول كتابي
الجديد، المعروض للنشر مؤخرًا، فقد كنت
متحمسًا بصفة خاصة لمناقشتها. فكرتُها
المركزية كانت أن جوهر النفس، في نظر أفلوطين
(الفيلسوف الأفلاطوني الجديد من القرن الثاني)،
منتهٍ، منقسم، وعرضة لفَسَاد الزمن؛ وهو، في
الآن نفسه، لانهائي، غير منقسم، وخالد. ففي
كلِّ تجربة، على المستويات كافة، مهما كان
مبلغ دنيوية هذه المستويات أو سموِّها، نحن
مخلوقات محدودة، منتهية، عرضة للانحلال، وفي
الآن نفسه، كائنات خالدة ومتعالية. وتلكم هي
الطبيعة الفريدة للنفس. وضعتْني
مراجعة المحاضرة في حالة شعورية لذيذة. كنت
أشعر بالامتنان لإسباغ شَرَفَ التمكن من
مناقشة مثل هذه الأفكار النبيلة عليَّ؛ لكن
الساعة كانت قد تجاوزت الخامسة والنصف. كنت قد
اتفقت مع مضيفيَّ على لقائي في بهو الفندق
لتوصيلي بالسيارة إلى مكان المحاضرة في
السابعة إلا ربعًا. كان عليَّ أن آكل وأستحمَّ
في أكثر من ساعة بقليل. فكان لا بدَّ من أن
أعجِّل! خرجت في
همَّة إلى ضوء الشمس الساطع، وسرت على طول
طريق عامة ذات ستة مساقات، تعج بالسيارات
المدوِّية. مَنَحَني الخروجُ والحركةُ
شعورًا بالارتياح. ولكن أين ذلك المطعم الذي
دلَّني عليه موظف النَّزْل؟ بعد خمس دقائق من
السير أو نحو ذلك، رأيت المطعم، لكنه كان على
مبعدة خمس دقائق أخرى. ربما كان "على بُعد
رمية حَجَر" بالسيارة، لكن المسافة تستغرق
عشر دقائق كاملة سيرًا على الأقدام. شعرت
عندئذٍ بضغط الوقت. عند
التقاطع، رأيت المطعم أمامي مباشرة عبر
الشارع. كانت هناك سيارات واقفة في المساقين
الأقرب إليَّ، لكن المساق الثالث، الأبعد
عنِّي، كان خاليًا. وعلى الرغم من اليد
الحمراء الوامضة التي تشير إليَّ بعدم
العبور، ظننت أنني أستطيع بلوغ المنصِّف عند
منتصف الطريق. هرعت إلى ممرِّ السابلة، ومررت
من أمام مساقَي السيارات الواقفة إلى يساري.
وحين بلغت المساق الثالث: طاخ! عدت إلى
وعيي لأجدني مستلقيًا على قارعة الطريق، وأنا
أسمع مكابح سيارة تئز حتى التوقف بعدي. حملت
نفسي على الوقوف. وجدتُني إذ ذاك خارج ممرِّ
السابلة بمسافة طويلة، والسيارات تطير من
حولي في الاتجاهات كافة. أحسست بألم عميق في
كتفي اليسرى، وبوجع في أنحاء جسمي كلِّها،
وأنا أتعثر في مشيتي نحو السيارة السبور
السوداء الصغيرة التي صدمتْني لتوِّها. كان
نبض قلبي يتسارع. قلت للسائق: -
أنا آسف حقًّا. -
لقد
أفزعتَني، يا رجل! هل أنت بخير؟ -
هل
تستطيع أن تطلب سيارة إسعاف؟ كتفي مخلوعة
وجسمي مختبط بشدة. شعرت
بمزيج خارق من الامتنان البالغ والرعب
الصِّرف. أبعَدَ الرجل السيارة حتى الطريق
المُقاطِع واستدعى الشرطة بهاتفه الخلوي. أتت
امرأتان شابتان جميلتان مسرعتين نحوي. -
هل أنت بخير؟ واو! لم أشهد شيئًا
كهذا في حياتي! لقد كنت طائرًا لتوِّك في الجو.
هل في وسعنا تقديم مساعدة؟ كانت
أشعة الشمس الغاربة، المتخلِّلة شعرهما،
ترسم هالتين نورانيتين حول رأسيهما، فبدتا
كملاكين. سألتهما إذا كانتا تستطيعان إحضار
الكتاب الذي كنت أحمله. أشرت لهما إلى مكانه،
على مسافة أربعين قدمًا من موقع الصدمة. من
خبرتي السابقة، أعرف أن "أناي"، حين تكون
في مرحلة الخروج من مركزها، كما هي حالي الآن،
فإن حظوظي في إلقاء محاضرة ملهَمة تزداد. على
الرغم من اشتداد الألم عليَّ، كنت ما أزال
أريد إلقاء ذلك الحديث. سألت الشرطة: "هل
تظنونني أستطيع أن أفلح في إلقاء محاضرة في
السابعة والنصف؟" حدَّقوا فيَّ وكأنني
قادم من المريخ! في الواقع، ربما كنت كذلك.
فمَنْ غيري كان سيجري أمام السيارات توفيرًا
للوقت؟! وفيما
كانوا يلتقطون صورًا للسيارة السبور، جلست
على العشب بجانبها ورحت أتفحصها. الفانوس
الأمامي الأيمن كان محطمًا، ويوجد القليل من
دمي وعلامات القحوط على غطاء المحرِّك، وكان
الجانب الأيمن من الزجاج الأمامي مهشمًا
تهشيمًا بالغًا. -
"المُصاب
قادر على الحركة، ونحن الآن في صدد اصطحابه
إلى غرفة الطوارئ"، قال المساعد الطبي على
هاتفه الخلوي. شعرت
عندئذٍ بالإعياء، ففضَّلت الاستلقاء. وأنا
مستلقٍ على ظهري، لحظت السماء الكوبالتية
الزُّرقة الشاسعة. بدت وكأنها ترفعني وتخطفني
من نفسي. -
لديكم سماء جميلة هنا! -
آه،
سوف تحب قطعًا سقف سيارة الإسعاف. ثبَّتوا
أنبوب تغذية وريدية في يدي، ووضعوا قناع
أكسيجين على وجهي، وفحصوا عن إصابات داخلية،
وعن أذيَّات عصبية، إلخ. كانوا على غاية من
اللطف. شعرت باهتمام حقيقي عميق حيالهم. لم
أرِدْهم أن يقلقوا بشأني. كنت أعرف أنني على
ما يرام. أردت أن أطمئنهم، أن أهدئ من روعهم.
شكرتهم مرارًا وتكرارًا، وفي سرِّي، شكرتُ
القوى العليا صادقًا. -
كان حظك مذهلاً. لقد عطبتَ تلك
السيارة فعلاً، وأنت تبدو بخير تمامًا. في غرفة
طوارئ المستشفى، اعتنى بي فريقٌ طبِّي لطيف
وخبير. المزيد من الأسئلة، المزيد من
الاستقصاء، قياسات ضغط الدم، والمزيد من
الدهشة! نظفوا الجروح على ركبتي اليسرى،
ووضعوا أكياسًا من الجليد على ساقي اليمنى
وكتفي اليسرى. أشارت الممرضات بعضهن لبعض إلى
الكتاب الذي كنت أحمله وأبْدَيْن ملاحظات
مستمرة على العنوان: العبور إلى الأمان،
من تأليف والاس ستيغنر. لم يخطر الأمر ببالي،
إلى أن ذَكَرْنَه. بعد
مُضيِّ حوالى عشرين دقيقة على وجودي هناك،
سمعت زمجرة هليكوبتر قوية. بدا وكأنه سوف
يخترق السقف. كان الناس من حولي شديدي
الانهماك، ثم تركوني للاهتمام لأمور أعْجَل.
أدخلوا على نقالة رجلاً ضخم الجثة في
الثلاثينات، ورأسه مثبَّت في قفص دفعًا
لإصابة نخاعية. كان قميصه الموشَّع مشبعًا
بالدم. تلاقتْ نظراتنا لهنيهات، وسقطتُ في
أغوار عميقة من الرعب. شعرت بتعاطُف هائل معه،
مدرِكًا أنه كان بإمكاني في سهولة أن أكون
محلَّه. أحسست
بظمأ شديد، لكنهم رفضوا أن يسقوني ماءً خوفًا
من أن أقيء. وبعد ساعة ونصف الساعة، جاء
الشرطة وجعلوني أملأ تقريرًا بالحادث. ذكرت
لهم كلَّ تفصيل ممكن واعترفت بكامل ذنبي
وحماقتي. قوطعنا بعملية استلام أخرى
بالهليكوبتر. غرَّموني بمبلغ 98 دولارًا
لعبوري الطريق قبل زوال الإشارة الضوئية.
وبعد ثلاث ساعات قضيتها في غرفة الطوارئ،
وأخذ صور شعاعية، وإجراء فحوص مختلفة، كان كل
ما وجدوه أن كتفي اليسرى مخلوعة خلعًا سيئًا،
وساقيَّ مرضوضتان، ولديَّ طائفة مختارة
لطيفة من الخدوش والأوجاع والآلام. لم تكن بي
عظام مكسورة، ولا حتى كُشوط حيث اصطدمتُ
بالقارعة. وضعوا ذراعي في حمَّالة وخرَّجوني.
ونظرًا لحالي المهزوزة اكتريت سيارة أقلتْني
إلى النَّزْل. زُوِّدتُ
بوصفة ببعض مسكِّنات الألم القوية. ومع أنني
كنت أحس بشيء لا يستهان به من الألم، بدا لي
أنني قادر على تحمُّله. وعلى الرغم من تحذير
الأطباء من أنني لن أستطيع النوم من دون تناول
المسكِّنات، فقد قرَّرتُ أن أغضَّ النظر عنها
ليلتئذٍ ولا أفتش عن صيدلية مفتوحة. ارتأيت
الاكتفاء ببعض الأسبرين؛ إذ إنني حسبت أن
الأهم في حالتي أن أواجه مغزى ما حصل بذهن
صاحٍ. حاولت
الاتصال بزوجتي، إيلين، التي كانت زائرة عند
أصدقاء لنا في تكسُن، فلم أحظَ بجواب. تركت
رسالة أقول فيها إن الأمر لم يكن مستعجلاً،
وأرجوها أن تتصل بي. استمررت في وضع الجليد
على رضوضي المختلفة وأقرأ في العبور إلى
الأمان. كنت أفتش عن مفاتيح ما لمعنى ما حصل
لي إجمالاً. وبسبب من السفر لم أكن في الليلة
السابقة قد أصبت إلا ساعات قليلة من النوم.
غير أني كنت آنذاك من الامتلاء بالوجع
والأدرينالين والفرح بحيث لم يكن بمستطاعي أن
أهتم للنوم. كنت
طوَّرتُ، على كرِّ السنين، منهجًا للتعامل مع
الكوابيس والأحلام ذات الصور المضطربة: عادة
ما أنهض من فراشي، ثم أتخذ جالسًا وضعية
التأمل، أغمض عينيَّ، وأحدِّق في الصور
المضطربة في ذهني بكلِّ ما يمكن لي من الوضوح.
أغض النظر عن كلِّ الصياغات والتفسيرات
الفكرية، مكتفيًا بالتركيز على الصور. أصير
واحدًا معها، أستغرق فيها، مهما تكن بشاعتُها.
وفي المآل، تطرد هذه التقنيةُ الخوفَ
والاشمئزازَ من الصور، فأستطيع الخلود إلى
النوم من جديد. أعتقد كذلك أن هذا يسمح للصور
بالقيام بعملها، بتأدية تعويضاتها
اللاواعية، حتى عندما لا أفهمها فهمًا
تحليليًّا. جرَّبت هذه التقنية عدة مرات يوم
الحادث الذي وقع لي: تركتُ للصدمة،
والسَّواد، والألم، والرعب، والخوف مما كان
يمكن له أن يحدث في سهولة، أن تغمرني بكلِّ
وحشيتها. ومع ذلك، فقد استمر الأدرينالين
ينطرح في دمي. كان من الصعب عليَّ أن أستريح
على السرير، لكنني أصبتُ شيئًا من النوم
حوالى الثالثة والنصف بعد منتصف الليل.
استيقظت بعد ذلك ببضع ساعات، شاعرًا بأن
تيارًا كهربائيًّا عالي التوتر يسري في جهازي
العصبي. وعلى الرغم من الوجع والإرهاق، كنت في
حال لا توصَف من الفرح والامتنان. لقد
كنتُ على حافة الهاوية. وفي شكراني، عاودت
تكريس نفسي لتحقيق النفس في طبيعتيها
المنقسمة وغير المنقسمة. النمط
1 من التفسير: السير إسحق نيوتن والسببية وأنا في
غرفة الطوارئ، حاولت أن أستعيد ما حصل في
الحادث. لم أرَ السيارة مقبلة قط، ولا السائق
رآني. عندما ركضت أمام السيارة، صَدَمَ
فانوسُها الأمامي الجانب الأيسر من ركبتي
اليسرى. وأغلب الظنِّ أن الوزن الذي كانت
تحمله تلك الساق كان لحظتئذٍ طفيفًا أو
معدومًا؛ فلولا ذلك لكانت ركبتي قد تفتَّتتْ.
بدلاً من ذلك، ونظرًا لوجود الرضِّ الهائل
على الجانب الأنسي من ربلة ساقي اليمنى،
قدَّرتُ أن قدمي اليسرى خبطتْ ربلتي اليمنى
وطيَّرتْني في الهواء. ثم، كما بيَّنت
العلاماتُ والدمُ على غطاء محرِّك السيارة،
انقذفتُ على الغطاء وقدماي من جهة السائق. ثم
صَدَمَ الزجاجُ الأمامي كتفي اليسرى، ورماني
إلى الأعلى والأمام، وسارت السيارة من تحتي،
إلى أن أزَّتْ متوقفة بعنف. لم أستطع أن أتذكر
كيف طرتُ في الهواء ولا كيف حططت على قارعة
الطريق. لا بدَّ أن الصدمة قد غيَّبتْ وعيي،
وأنني طرت في الهواء كلعبة من الخِرَق
واصطدمت بالأرض وأنا على هذه الحال. وهذا قد
حال بيني وبين محاولة تمالُك نفسي، وبما أنني
لم أستطع أن أقاوم، فقد خفَّف ذلك من إصابة
السقوط على الأرض. حوالى
الساعة السادسة من صبيحة الحادث، عدت إلى
موقع الحادث. وذهابي إلى هناك كان جزءًا من
رياضتي في مواجهة الرعب مواجهة أكثر ما تكون
مباشرة. قدَّرتُ كذلك أن إجراء قياسين بسيطين
وبعض الحسابات السهلة القائمة على الفيزياء
النيوتنية من شأنه أن يوفر تقديرًا لسرعة
السيارة. كنت في حاجة إلى قياس المسافة بين
موقع الصَّدْم ومكان سقوط زجاج الفانوس
الأمامي وإلى معرفة ارتفاع الفانوس عن الأرض. كنت
تعلمت منذ سنين عديدة كيف أخطو خطوات طول كلٍّ
منها قريب جدًّا من ثلاثة أقدام. وقد وجدت أن
القِطَع الأولى تبعد 13 خطوة تامة (39 قدمًا) عن
موقع الصدمة عند ممرِّ السابلة وأن أبعدها
تبعد 18 خطوة (54 قدمًا). وقد عاودت عند ظهيرة
اليوم التالي زيارة الموقع وأعدت قياس موضع
قِطَعِ الزجاج. فقد أردت أن أتأكد مما إذا لم
تكن حركة السير قد حرَّكتْ القِطَع. لكني لم
أستطع أن أقيس أيَّ تغيير ملحوظ في موضع
الزجاج. حتى إنني عدت بعد ذلك بأسبوع، قبل أن
أطير عائدًا إلى منزلي، وعددت خطوات المسافة
بين القِطَع كرة أخرى، ولم أجد أيَّ تغيير
ملحوظ. والمرء ليس في حاجة إلى الكثير من
المعرفة بالفيزياء لكي يقدِّر أن السيارة
كانت مسرعة، إلى حدِّ أنها قذفت بالزجاج
لمسافة أكثر من 50 قدمًا إلى الأمام. أظهرتْ
حساباتي أن السيارة كانت تسير بسرعة 40 ميلاً/ساعة،
مع ارتياب مقداره حوالى 10 أميال/ساعة، زيادة
أو نقصانًا. وهذه التقديرات تبدو مرتفعة، لكن
السائق كان يتجاوز السيارات المتوقفة على كلا
المساقين الجانبيين، وكان كذلك يختبر قيادة
السيارة السبور التي كان في صدد شرائها من
بائع؛ فلا غرو أنه كان يستمتع بتسارُع تلك
السيارة وبالتلاعب بها. ليس
صدمك بسيارة تسير بتلك السرعة ونجاتك بكتف
مخلوعة خلعًا سيئًا وببضعة جروح ورضوض وحسب
من المعجزة في شيء. الكنيسة الكاثوليكية
تعرِّف بـ"المعجزات" بكونها تدخلات
إلهية تعلِّق مؤقتًا عمل قوانين الطبيعة.
وإني لمتفق مع ديفيد هيوم، الذي لطالما أشار
إلى مقدار عدم الاتساق في مثل هذه الفكرة. ومع
ذلك، فضمن سياق ما كان يمكن له أن يقع في
حادثي، أحسبني على غاية من الحظ. وتقديري لمدى
سرعة سير السيارة يزيد من امتناني ولا يقلِّل
منه. النمط
2 من التفسير: ك.غ. يونغ والتزامُن ومع
انحسار الرعب وتدفق الأدرينالين، تنامت فيَّ
مشاعر الامتنان والخشوع. لم أعد أريد إلا أن
أحيا كلَّ لحظة وكأنها آخر لحظات حياتي، وأن
أكرِّس نفسي لاكتشاف مَن أنا حقًّا. كنت فيما
مضى أستجيب استجابة شديدة الانفعال لكلِّ
ضروب الأشياء العديمة الشأن. أما الآن، فإن
ركام الوعي العاديِّ هذا كلَّه، رميت به في
البحر وأنا مبحر في بحار القدسيِّ. من تلك
اللحظة فصاعدًا، لم يعد لديَّ وقت لاهتمامات
أو نشاطات تافهة. وعلى
الرغم من واقعية إدراكاتي الجديدة
والإصلاحات الملازمة لها ومن صِدْقِها،
مازلت قديسًا مضجرًا، مليئًا بالترَّهات
المدَّعية للتُّقى وبالأشفية البالية. غير
أني أعلم علم اليقين أن إيلين لن تضطر إلى
تحمُّلي طويلاً، بما أن الظلَّ[1]
سرعان ما سوف يبرز ويرمي كلَّ تفلسفاتي
المزعومة في خبر كان. أعرف عبارة "فِكْ سوف
يعود إلى عادته القديمة"، لكنه الآن ممتلئ
نورًا وشكرانًا. وددت أن أستفيد من الحال إلى
أقصى حدٍّ ممكن. كنَّا
قد خطَّطنا للقيام بجولة ونحن في طريقنا إلى
سانتا فيه، في نيومكسيكو، حيث كنت أنوي إلقاء
محاضرة أخرى. غير أني كنت في حاجة إلى ترميم
نفسي. لذا فقد وَقَعْنا على تلك الدار البديعة
وسط الصحراء ومكثنا فيها عدة أيام. هناك، كنت
في حال من الغبطة الصرف. كل تفصيل من تفاصيل
الصحراء كان مشعًّا، نَضِرًا، وجليًّا.
أعارني صاحب الدار قارئًا صغيرًا للأقراص
المدمجة، فطفقت أستمع إلى الموسيقى التي كنت
خصَّصتها للحلقة الدراسية الملغية في فينكس.
كلُّ نغمة من أنغام الحركة الثانية من
كونشرتو صموئيل باربر الثاني للكمان كانت
بَرَكَة. بعثت إلى أصدقاء لي في نيويورك ببعض
البريد الإلكتروني، أخبرهم فيه بما حَدَثَ
وأصف عميق شعوري بالمودة نحوهم – الشعور الذي
لا أبالي بالتعبير عنه في المناسبات العادية.
وفيض البريد الإلكتروني المحب والمؤيد الذي
أتاني جوابًا أدهشني وأثَّر فيَّ حتى فاضت
دموعي. وإذ
أستعيد الماضي، يتجلَّى لي أن الأسبوع الذي
تلا الحادث الذي وقع لي كان أجمل الخبرات
الروحية في حياتي. ما كنت قطعًا لأختار تلك
الطريقة في تحصيل خبرة كهذه، لكنها، مع ذلك،
كانت لا تثمَّن. هناك
بعض الدروس الواضحة والهامة التي استفدتُها
من الحادث. لقد بوركتُ بالكثير من الطاقة. غير
أني كثيرًا ما أغالي في تكثيف عدد الخبرات،
وأندفع كالمجنون إلى تنفيذها جميعًا – وهذا
من شيم المريخ. في وسعي، إذن، أن أسيء استعمال
بَرَكَتي. فمن دون إهمال ذلك الدرس الحَرِجَ،
لا بدَّ أنه انطوى على المزيد. فإلى جانب
إيماني الشخصي بهذا، هناك العنوان الغامض
للكتاب الذي كنت أحمله: العبور إلى الأمان.
ومع أنني لا أوصي بقراءة الكتاب، فإن عنوانه،
في تلك الظروف إياها، كان مذهلاً. وعنوان ذلك
الكتاب مأخوذ من قصيدة لروبرت فروست بعنوان
"لأعطينَّ كلَّ شيء للزمن". في
كتابي الجديد، أوردتُ تحليلاً مفصلاً لهذه
القصيدة. لن أستنسخه هاهنا، لكني سأكتفي
بالقول إن القصيدة تفسِّر كيف لا يحصل "العبور
إلى الأمان" إلا حين نتصل مع الجانب غير
المنقسم، الخالد، من النفس. فوحده هذا
العنصر من عناصرنا ناجٍ من نكبات الزمن. وكلُّ
إشارة من هذا الجانب الخالد من النفس لهي
تجربة روحية عميقة، وفيها يكمن "عبورنا إلى
الأمان" الحقيقي. في
الحادث الذي وقع لي، عَبَرْتُ إلى الأمان
جسمانيًّا، وكنت عميق الامتنان على ذلك. غير
أني عبرت أيضًا عبورًا موجزًا إلى ذلك الجانب
الخالد من النفس؛ وذلك الأمان يقع على صعيد
أعلى. ومع أني لم أستطع أن أستمسك بذلك النور
القادم من منطقة أبعد من "أناي"، إلا
أنني سوف أحافظ دومًا على اختباري له هذا.
ولسوف أحافظ كذلك دومًا على كيفية تعميق كلٍّ
من نمطَي المعرفة واحدهما للآخر. فالفيزياء
جعلتْني أقدِّر النعمة تقديرًا أتم؛ والنعمة
أعانتْني على تقدير قانونية الكوسموس
النيوتني، فيما بيَّنتْ لي محدوديَّتها. في هذا
الضوء، يمكن لي أن أؤوِّل خبرتي بوصفها مسارَرة
إلى الجانب غير المنقسم والخالد للنفس، إلى
ذلك الأبعد من مطال الزمن – عالم الأمان
الحقيقي. ولقد حصل لي ذلك من خلال الدنوِّ من
تدمير الجسم، ذلك التعبير عن المظهر المنتهي
للنفس. وبمعنى من المعاني، وقع لي شكلٌ ملطَّف
من الخبرات على تخوم الموت، واحد من هاتيك
الحوادث المحوِّلة للحياة، التي يختبرها بعض
الناس حينما يقتربون من الموت اقترابًا
شديدًا ويُبعَثون من جديد. لم أحظَ بالمكوِّن
الرؤيوي المعتاد، لكنني اختبرت فعلاً واقعًا
عبرشخصيًّا، بآثاره المحوِّلة. مقارنة
بين النمطين 1 و2: تعليلات في
النمط 1 من التعليلات، يتم التشديد على
السببية، حيث يؤثر شيء معين تعيينًا دقيقًا
على شيء آخر عبر تبادل قوى أو طاقة أو معلومات.
فعلى سبيل المثال، صَدَمَ الفانوس الأمامي
الجانب الأيسر من ركبتي اليسرى، وثقلٌ طفيف
واقع عليها، فيما خَبَطَتْ قدمي اليسرى
الجانب الأيسر من ربلتي اليمنى، فانقذفتُ على
غطاء المحرِّك من دون أن تتفتَّتْ ركبتاي.
وهذه سيرورة لاشخصية وشاملة بالكامل، تحكمها
الفيزياء النيوتنية. ومع أن التوقيت كان شديد
الدقة قطعًا، فلا شيء خاصًّا أو فريدًا في هذا
بنظري. فقد كان في وسعك أن تستبدلَ بي دمية من
الخِرَق وتدرسَ الظاهرة بكاميرا فائقة
السرعة. وبما أن الظواهر جميعًا موضوعية
بالكامل في هذا التعليل، لا تتوقف على ما نحب
وما نكره، ولا على أية أعراف محلِّية سارية،
ففي وسعنا أن نكرَّر الاختبار بالدمية العددَ
الضروريَّ من المرات ونتوقع نتائج متكرِّرة.
والمعنى الذي ينبثق من مثل هذا التعليل ينحصر
بالكلِّية في المستوى اللاشخصي، المادي،
الوقائعي، للحَدَث. إنه، بعبارة أخرى، يعدم
أيَّ معنى أسمى، مع تشديد تام على المغزى
الحرفي من الأحداث. في
المقابل، فإن التعليلات التزامُنية من النمط
2 تعليلات لاسببية أو غير سببية، لا
يحكمها تبادُل القوى والطاقة الفيزيائية.
إنها، بالأحرى، تعبيرات رمزية عن معنى
تحوُّلي، عن فصول ذات مغزى من أشواط تفردُن[2]
الشخص، ألا وهو صيرورتنا ما هو مقدَّر لنا أن
نكونه، وتحقيق كلِّيتنا الفريدة. ومن جرَّاء
هذا، تتصف هذه الخبرات بالفرادة في نظر الشخص
المعنيِّ. فلو أنك وضعت شخصًا آخر أمام تلك
السيارة السبور الصغيرة، لكان للحادث مغزى
مختلف في نظره. مثل هذه
التجارب، طبعًا، غير قابل للتكرار. أجَلْ،
كان في وسعي أن أركض أمام سيارات مسرعة أكثر
من مرة، لكن التجربة في كلِّ مرة ستكون
مختلفة، بما أنني متحوِّل، وبالتالي، مختلف
بعد كلِّ حَدَث. وأخيرًا، فإن هذه الخبرات
ليست "موضوعية" بالمعنى العلمي، بل هي حدوس
معنوية عميقة الذاتية. التزامن
وتحدِّياته بوصفي
فيزيائيًّا، فإني أحترم النظرة العلمية إلى
العالم. فالعلم يثمر لنا عن فاكهة كثيرة،
بعضها طيب وبعضها الآخر رديء؛ وقد حوَّل
معرفتنا للكون ولأنفسنا تحويلاً لا رجعة عنه.
ومع ذلك، فهو لا يلبي احتياجاتنا إلى
التعليلات كافة. فعلى سبيل المثال، لا مكان
للنفس في العلم الاتباعي المتعارَف عليه. في
المقابل، فإن التعليلات التزامُنية من النمط
2 هي تعبيرات درامية لاسببية عن المعنى، لا
مندوحة عنها من أجل نمائنا النفساني
والروحاني – صناعة أنفسنا. ولا يمكن لها
أن تُفهَم فهمًا علميًّا، بل لا ينبغي أن
تُفهَم كذلك. غير أن أخذ الحوادث التزامُنية
على محمل الجِدِّ يطرح تحديات عدة. اللاسببية إن
حَمْلي لكتاب العبور إلى الأمان لم يتسبب
قطعًا في نتيجة حادثي الطيبة؛ ولا حادثي هو
الذي تسبَّب في حَمْلي للكتاب. فمع أن
الميكانيكا الكوانتية، بلاسببيَّتها التي
تتخلَّل كلَّ شيء، تعيننا على تقدير محدودية
السببية، فإن غالبيتنا يجدون من الصعب عليهم
قبولَ التعليلات اللاسببية. تجاوُز
الزمكان مع أن
مثل هذه التجارب لم تظهر في القصة التزامُنية
المذكورة أعلاه، فإنها مرارًا ما تتضمن
معرفةً تتجاوز الحدود المعتادة للمكان
والزمان. وعلى الرغم من عجز العلم عن تعليل
مثل هذه الظواهر، يمكن لنا أن نحصل على
معلومات عبر قنوات غير حواسية. فكما بيَّنتُ
في كتابي السابق – التزامن والعلم وصناعة
النفس – فإن الخبرات التزامُنية مرارًا ما
تعبِّر عن مثل هذه المعرفة. وحوادث تجاوُز
الزمكان موثَّقة أيضًا توثيقًا جيدًا في
تجارب مخبرية مضبوطة. غلاف
كتاب مانسفيلد التزامن والعلم وصناعة النفس الوحدة
والمعنى على
الرغم من اعتقادنا بالشرخ الديكارتي بين
الذات والعالم، فإن الخبرات التزامُنية
تقدِّم لنا الأدلة التجريبية على الوحدة
المبطِّنة للروح والمادة. والوحدة تعبِّر عن
نفسها في معنى صناعة النفس المتجسِّد في
نفسنا وفي العالم كليهما. ولعل خبرة الوحدة
هذه هي التي تجعل التزامُن شيئًا لا يُنسى إلى
هذا الحد. مهما
يكن من أمر، فإني أقترح بأن أعظم تحدٍّ
يقدِّمه التزامُن ليس لاسببيَّته، ولا هو
طبيعته المتجاوِزة للزمكان، ولا هو انطواؤه
على مفهوم الوحدة، بل هو، بالأحرى، سؤاله
إيانا أن نعيد تقييم الضرَّاء ونقدِّر أن
أعظم حالات شفائنا مرارًا ما تنبع من أعمق
جراحاتنا. ***
*** *** * فِكْ مانسفيلد أستاذ الفيزياء
والفلك في جامعة كولغيت في هاملتون،
نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية. وهو
يدرِّس هناك أيضًا من خلال دورات شعبية
تتضمن علم النفس اليونغي والبوذية
التيبتية. وقد طوَّر اهتمامه الشديد بعلم
نفس الأعماق والفلسفة الشرقية وهو يحضِّر
للدكتوراه في الأستروفيزياء في جامعة
كورنيل. وإذ أصبح طالبًا للحكمة النقلية،
الشرقية والغربية معًا، طوال ما ينوف على
ثلاثين عامًا، فقد مارس ودَرَسَ على أساتذة
روحيين في الولايات المتحدة وأوروبا
والهند. من منشوراته كتاب التزامن والعلم
وصناعة النفس. وقد ألقى محاضرات وأدار
حلقات دراسية في الولايات المتحدة، من
الساحل إلى الساحل، وفي عدة بلدان أوروبية.
وفي وسع القارئ الاطلاع على موقعه على
الإنترنت: http://www.lightlink.com/vic. [1] في علم النفس اليونغي يرمز
"الظل" إلى وجهنا الآخر، "شقيقنا
المظلم" الذي من جنسنا نفسه والذي، على
كونه غير مرئي، لا يفارقنا أبدًا ويشكِّل
جزءًا لا يتجزأ من كلِّيتنا. وهو صورة حلمية
غالبًا ما تتميز بخاصية سوداء. والظل بعامة
شأن بدائي، غير متكيِّف، شقي، لكنه ليس
بالضرورة "شريرًا": إنه يمثِّل كلَّ ما
نُحِّي عن الوعي باعتباره متنافرًا مع
الأنا، وقِوامُه عيوبنا، ونقائصنا، وبعض
خصالنا المنبوذة بمقتضى الأحكام المسبقة
الاعتباطية، بالإضافة إلى منتجات الوظيفة
النفسانية
الأقل تمايزًا. (المحرِّر) [2] طرح
يونغ "التفرْدُن" غايةً للمعالجة
النفسية. ولقد قصد به سيرورة تحول نفساني
يتخلَّى فيها المرء بالتدريج عن الصورة
النمطية للمجتمع التقليدي، حتى يكتشف ذاته
الحقيقية الفريدة المختبئة وراء هذه
الصورة. بذلك لا تشير سيرورة التفردن
إلى علم النفس المختص بالوضع العلاجي
النفسي الراهن وحسب، بل وإلى سيرورة التفتح
الحياتية بعامة. (المحرِّر) |
|
|