|
الشِّعر الإيكولوجي "روح واحدة تسري في العالم." غوته ما الشِّعر
الإيكولوجي؟ قادني عملي في ترجمة
الشعر – وخصوصًا الأبيات والمقاطع المفضَّلة
لديَّ التي جمعتُها بين حين وآخر على كرِّ
السنين – إلى فكرة كتابة هذه المقالة الصغيرة.
إنها ليست "دراسة" أكاديمية شاملة، بأية
حال من الأحوال، بل رؤية شعرية كوَّنتُها
لنفسي وأود أن أشارك الآخرين بها. ما أريد أن
أفعله هو نقل الشعور المقدَّس بالوحدة مع
الطبيعة الذي عبَّر عنه شعراءٌ مختلفون عبر
العصور وفي مختلف القارات – هذا الشعور الذي
يجمع فيما بيننا، بغضِّ النظر عن جنسيَّاتنا
أو أعراقنا أو ثقافاتنا أو أدياننا. "روح
واحدة تسري في العالم" – هذه الكلمات
للشاعر العظيم غوته، التي صدَّرْتُ بها
المقالة، يتردَّد صداها اليوم في الشرق
والغرب بقوة وأمل جديدين، لأنه لم يسبق للبشر
عبر التاريخ أن كانوا في مثل حاجتهم الحيوية
الراهنة هذه إلى الوحدة الروحية. الشعرُ الإيكولوجي ecological
poetry يردُّ
هذه الوحدة إلى العالم. وأحسن ما يمكن وصفُه
به هو أنه محاولة حدسية لتناغُم المرء مع
العالم، "كلام مع الله" يتم عبر
الطبيعة. وقد عبَّر عنه الشعر والأدب والرسم
والفلسفة والموسيقى والعديد من الوسائط و"التقنيات"
الروحية الأخرى، التي تعين الأفراد على
النموِّ الروحي وعلى التغلب على ابتذال
الحياة اليومية. وكي أكون أدق، أقول: إن الله
هو مَن يكلِّمنا من خلال الطبيعة؛ وفي مثل تلك
اللحظات، عندما ندرك وجوده إدراكًا مبهمًا،
نحاول أن "نستجيب" لذلك بالتعبير عن
مشاعرنا نحوه بواسطة الشعر. تتخطَّى مثل هذه
"الاستجابة" فوارقنا الشخصية
والثقافية، وتبلِّغ عن نفسها بلغة عالمية.
لهذا السبب نتفهَّم الأعمال الشعرية لسادة
الماضي العظماء الذين أبدعوا في ثقافات
متنوعة، ونحبُّها، ونصغي إليها كما لو أنها
تُخاطِبنا شخصيًّا. وبالفعل، آنذاك نسمع صوت
أكابر الشعراء قاطبة. قد لا يؤمن الكثيرون
منَّا بالله، وربما تكون لبعضنا أفكارُه
الخاصة وتخيلاته. ولكن، بالتدريج، فيما يتطور
وعي إنساني جمعي، ربما نتعلَّم أن نتميَّز
الشَّرْخ الذي يفصلنا عن الفرح الكوني.
وعندئذٍ، سوف يتجاوز الشعرُ الإيكولوجي نطاق
الشعراء والفنانين، ويترسَّخ كأسلوب طبيعي
للسلوك البشري: كلُّ تعبير يصبح عفويًّا
وجميلاً؛ والحياة ذاتها سوف تصير في المآل
شعرًا بمعناه الأوسع. الفلسفات تجد
الفلسفات التي تستبطن الشعر الإيكولوجي
جذورها في الماضي الغابر، عندما كان أسلافنا،
كما قال طاغور، "يعيشون حياتهم في هذا
الكون المجيد بما لا يُتصوَّر، يرتحلون
وإحساس بالروعة ما يزال باديًا في عيونهم
وخشوعهم ما انفك بِكْرًا"، عندما كانت "كلُّ
لمسة من لمسات الكون تضرب على وتر في قيثارة
قلوبهم، فتصدح ألحانًا وترانيم جديدة على
الدوام."[1]
فيما بعد، ومع تعاقُب الحضارات، فَسُدَ هذا
الشعور بالروعة تدريجيًّا، واستُبدِلَتْ به
نظرياتٌ وأديان "عقلانية". غير أن رَجْعَ
صدى الوحدة القديمة مع العالم مازال يُسمَع
في فلسفات وطُرُق روحية متعددة، وعلى الأخص
في فلسفة بوذية زِنْ Zen
Buddhism،
التي تجيز إمكانية "الاستنارة" enlightenment
المتدرِّجة أو المفاجئة، أي تطهير الذهن
والاتحاد مع الخليقة كلِّها. لعل اليابانيين، الذين
أوجدوا فلسفة الزِنْ (التي أُبدِعَتْ لكي
تستحث الشعور بالجمال والتلقائية المفتقَدة
طويلاً)، هم الأقرب إلى الشعر الإيكولوجي. عندما تتحقَّق الاستنارة،
تتلاشى الحدود يبن العالمين الداخلي
والخارجي، وتختبر الوعي "الأصلي". إذ
ذاك، تكون حرًّا، غير مقيد بجسمك ولا
بأفكارك، فترى الأشياء كلَّها فورًا، دون
تعلُّق بها يفرض نفسه على الظروف. تصبح طبيعتك
صافية؛ تأتي الأفكار وتذهب، دون أن تترك
أثرًا. تُدعى هذه الحال باللغة السنسكريتية براجنيا
سامادهي prajnya-samadhi.
وهي ليست حال شرود ذهني، كما قد يظن البعض؛ بل
هي، على العكس، يقظة مطلقة، لا نستطيع
اختبارها في حالة الوعي الاعتيادية، نظرًا
لتلوث الذهن بالصور الحسِّية للنَّفْس (إنْدرِيا
indrya). الأساليب الفنية Techniques على الرغم من أن الشرق
والغرب أبدعا نماذج متنوعة من الشعر
الإيكولوجي عبر العصور، إلا أنهما يجتمعان
على بعض "الأساليب الفنية" التي تميِّز
هذا النمط من الشعر عن غيره، ألا وهي: 1.
الشعور بالانخطاف أو الافتتان؛ 2.
التشديد على الروحي أكثر من
الحسِّي؛ 3.
البساطة والعفوية؛ 4.
العمق الفلسفي؛ و 5.
الإيقاع "المؤالَف مع
الأبدية. ومن أجل التضلُّع والبراعة في
هذه الخصائص، تتيح العديد من المدارس
الفلسفية طرائقها، التي تتضمن رياضات (أو
تمارين) بدنية وذهنية، كالتأمل والشعر والرسم
والفنون القتالية إلخ (كمدرستي الزِنْ رِنْزَيْ
Rinzai
وسوتو Soto
في اليابان[2]).
وفي الثقافات الشَّمَنِية shamanic، تمارَس أنماط خاصة من الرقص
أو الغناء لاستجلاب الاتصال الروحي. وحتى في
عالمنا الغربي الحديث، يمكن لنا، عندما نقوم
برياضات جسمانية، من قبيل السباحة أو التزلج
على الثلج، أن نبلغ أحيانًا حالة من العفوية
اللاواعية والوحدة مع الكون. يمكن لنزهة في
الغابة، أو لتأمل لوحة فنية حتى، أن يحرِّض
هذه الحالة من الشعور الكلِّي wholeness (دهيانا dhyana
بالسنسكريتية) عند بعضنا ممَّن
يمتلكون حساسية خاصة للجمال. آباء الشِّعر
الإيكولوجي باشو
Basho ماتسُوْو باشو (1644-1694) نشأ الشعر الإيكولوجي على ما
يبدو في الصين القديمة، في حقبة تان (618-907)،
ثم ما لبث أن بلغ أوْجَه في قصائد الـهايكو[3]
haiku
اليابانية – وهي قصائد قصيرة
للغاية (17 مقطعًا صوتيًّا) الغرض منها تحريض
الشعور بالحزن (سابي sabi) أو بجمال
العالم وسرِّه. وقد عمد سادة الهايكو إلى
التقاط، على حدِّ قول ت.س. إليوت، "التقاطع
بين اللازمني والزمن..."، المعنى السرِّي
للطبيعة والحياة البشرية. ويُعَدُّ ماتسُوْوُ
باشو شيخًا من شيوخ شعر الزِنْ، وقد استخدم
الـسابي كي "يختلس النظر إلى العدم"،
بتكثيف الذات بحيث تصبح لاشيء تقريبًا: غُراب،
صامت على
غصن عارٍ... مساء
خريفي! يعلِّق الأستاذ د.ت.
سوزوكي على هذا الهايكو: ثمة،
هاهنا، غورٌ عظيم في غراب صامت، يحط على غصن.
الأشياء كلُّها تنبثق من اللجَّة الغامضة،
وعبر كلِّ شيء على حدة، يمكن لنا أن نختلس
النظر إليها. لا حاجة إلى تدبيج قصيدة من مئة
بيت للتعبير عن شعور يولد من هذا الاختراق.
فما إن يبلغ هذا الشعور أوْجَه حتى نخشع؛ إذ
ما من كلمات لتستطيع أن تعبِّر عنه؛ وحتى 17
مقطعًا صوتيًّا تبدو مفرطة في الكثرة. يحاول
سادة الزِنْ اليابانيون، انسجامًا مع التاو[4]
Tao،
أن يعبِّروا عن مشاعرهم بأقل عدد ممكن من
الكلمات أو ضربات الريشة. عندما يكون التعبير
مفرطًا في الغنى، لا يعود ثمة مجال متروك
للإيحاء. ففي الإيحاء يكمن سرُّ الفنِّ
الياباني، والشعور بالـسابي يتخلَّل
الهايكو، أي شعور مُلازم بوهم الوجود وزواله
وجماله في الوقت ذاته. كلُّ التعلقات الشخصية
تزول، ولهذا يبدو الحزن أشبه بالحكمة wisdom
منه بالكَرَب anguish.
بكلمات أخرى، سابي هو الاتحاد مع "اللاأنا"
not-I. أهاب باشو بتلامذته قائلاً:
"أنهِض قلبك! بعد أن يُختبَر ساتوري satori [أعلى درجات الاستنارة، اليقظة]
عُدْ إلى العالم الدنيوي." الـساتوري،
كما يقول سوزوكي، "يشبه خبرة من خبرات
الحياة اليومية، لكنه فوق الأرض بإصبعين وحسب".
فقد تقود الأشياء اليومية نفسها إلى
الاستنارة: سرطان، يزحف على قدم، غراب هاجع
على غصن شجرة، صوت الماء الناتج عن قفزة ضفدع.
فلحظة وقوع الـساتوري، يضيء الذهن،
وتنفتح النَّفْس على العالم، ويُرى كلُّ شيء
في فرادته: الزهرة في "زهريَّتها"،
والشجرة في "شجريَّتها"... ويتمان Whitman والت ويتمان (1819-1892) على العكس من الشعر الياباني،
الذي يكاد أن يكون معدومًا، ينتج والت
ويتمان، الشاعر الأمريكي الكبير، وابلاً
من الكلمات، بتلقائية ليست بعيدة عمَّا نجد
عند أساتذة الزِنْ. إنه لا يوجز شعره أو
يكثِّفه، بل يبسِّطه، ويسترسل فيه دونما حدود
ومعايير. مجموعته الشعرية أوراق العشب لا
تضارَع في تعبيرها عن حرية الوجود وثرائه،
وهي تحفة من تُحَفِ الشعر الإيكولوجي الذي
أبدعه الغرب. يتولد الإيقاع الباطني لشعره من
المشاهد الرَّحبة التي يفتِّحها ويتمان
أمامنا؛ والأسئلة الأبدية التي يطرحها
بإيحاء عميق تفتن وعينا، مثلما تفعل كُوَانات[5]
koans
الزِنْ: سألني
طفل: "ما هو العشب؟" وأحضره إليَّ بكلتا
يديه: كيف
لي أن أجيب الطفل؟ فأنا لا أعرف عن ماهية
العشب أكثر منه. أحسب
أنه – أغلب الظن – رايةٌ لمزاجي، حيكت من
نسيج الأمل الأخضر. أو
أحسب أنه منديل الربِّ، هِبَةٌ
معطَّرة وتذكار سقط عن قصد، يحمل
اسم صاحبه في إحدى زواياه، لعلنا نراه
ونلحظ ونقول: لمن هو؟[6] إنه يُجِلُّ كلَّ مخلوق على
الأرض، كلَّ تجلٍّ من تجلِّيات الحياة،
ويعترف بتفوقها على مصنوعات البشر. والأسطر
التالية من القصيدة ذاتها قد تصلح نشيدًا
لكلِّ مؤيِّدي الإيكولوجيا العميقة deep
ecology: أؤمن
أن ورقة العشب ليست أقل منزلة من ضوء النجوم، وأن
النملة لا تقل عنها كمالاً، وكذلك حبة الرمل
وبيضة النُّمْنُمة. علجوم
الشَّجَر تحفة للأعالي، والعلَّيق
البري سوف يزيِّن ردهات السَّماء، وأصغر
مفصل في يدي يزدري جميع الآلات، والبقرة
التي تجتر محنية الرأس تبذُّ أيَّ تمثال، والفأر
معجزة كافية لدحض ملايين الملاحدة. غير أن ويتمان لا
يحتقر البشر، بل يقتفي آثار كلِّ منعطفات
التطور الذي أفضى أخيرًا إلى خَلْقِ الإنسان
منذ العصور السحيقة. وفي تسبيحته التالية إلى
الرجل والمرأة، يفاجئنا ألا نسمع أية غطرسة
قائمة على مركزية الإنسان، بل تأكيد وإلحاح
على القَرابة الفطرية بين الكون والكائنات
البشرية: هائلة
كانت الاستعدادات لأجلي، وفيَّة
ودودة كانت الأذرُع التي أسعفتْني، الآباد
حملتْ مهدي، مجذِّفة ومجذِّفة مثل ملاحين
مرحين، ولتفسح
لي المجال، انكفأت نجومٌ إلى حلقاتها، وأرسلت
قواها الخفية لكي تعتني بِمَنْ قُيِّضَ لها
أن تحملني. وقبل
أن تلدني أمِّي، أرشدتْني أجيال وأجيال. لم
يتبلَّد جنيني قط، ولم يقدر شيء على طَمْسِه. فلأجله
تجمَّع السديم في فَلَك، والطبقات
الطويلة تراكمتْ سريرًا له، والنباتات
الوافرة صارت له قوتًا، والسحالي
العملاقة نقلتْه بأفواهها ووضعتْه
بعناية. كلُّ
القوى مافتئت تتضافر بثبات كي تنجزني وتحتفل
بي. والآن،
في هذا الموضع، أقف
بنفسي المتينة.[7] استشهدت متعمدًا بهذا المقطع
الطويل كي أبيِّن أن فلسفة ويتمان حول
الوحدة بين البشر والكون تعاكس تمامًا
المركزية البشرية anthropocentrism،
وحتى المسيحية التقليدية – وكلاهما يضع
البشر على قمَّة الخليقة. طاغور Tagore رابندرانات طاغور (1861-1941) كان لـرابندرانات طاغور –
المفكِّر والكاتب والموسيقي الهندي – وَقْعٌ
عميقٌ على الشعر الإيكولوجي في العالم، وعلى
الأخص في آسيا. تراثُه ضخم من حيث اللغة (البنغالية)،
ومن حيث الصور والحرارة التي ادَّخرها للحياة.
وبتغلُّبه على الصراع الدائم، اكتشف أن
الحياة هي هبة الحبِّ العظمى التي منحها
الله. لذلك يقول: "خضرةُ العشب هي الشِّعر
الإلهي، وصورةُ الإنسان قصيدة الله." وبعض
روائعه كُتِبَ بإنكليزية بليغة، ثم تُرجِمَ
إلى لغات عديدة، أذكر منها غيتانجالي ("قربان
الأناشيد") (1912)، البستاني (1913)، طيور
شاردة، ومجموعات أخرى.[8] أقبس هنا بعضًا من أبياته التي
توازي فكرة ويتمان عن الوحدة، وهو يرتدُّ
مباشرة إلى الله: وأنا أشخص إلى العالم، تخطر بحياتي ذكرى: يتراءى لي أنني أجد في كلِّ شيء الاتحاد بيني وبينك في أشكال لا
تُحصى. مكثتُ منذ الأزل في مقام
السماوات، ونسيت الكثير منه. في النور الذي يتلألأ من نجم
إلى نجم، أنت وأنا – لا بدَّ أننا
تأرجحنا معًا. ناظرًا إلى الأرض المعشوشبة
المرتعشة في الضوء البكر لشهر الحصاد، فتشت في نفسي والفرح يغمر قلبي: يتراءى لي أني أعرف كلامه غير
المنطوق. ففي قلب الأرض الخرساء ثمة انفعال حيٌّ أبدًا. على تربة الحياة الزاخرة هذه، أنت وأنا – لا بدَّ أننا قضينا
وقتا لا ينتهي. وفي ضوء الخريف الذهبي ارتجفنا سوية على الكثير من
نِصال العشب. ... ... ... ... ... ... ... منذ ملايين السنين، عندما بَزَغَ الفجر الأول على
هذه الأرض، ألم تتناول شرارة من أشعة الشمس كي تحيكها في نسيج حياتي؟ مَن يعرف كيف قُيِّض لي أن
أنوجد في ذلك الصباح إيَّاه، وأي شكل خافٍ عن معرفتي منحتَني
إياه كي أتفتَّح عنه؟ آه، أيها السرمدي، من زمان ما قبل الذاكرة، وأنت تصوغني من جديد عبر العصور. ملازمًا لي أبَدَ الدهر، ستبقى
معي دومًا. طاغور، الذي يلتمس
علاقات مع الله أكثر شخصية مما يفعل ويتمان
(مزيج مدهش من المسيحية والأوبَنِشاد!)،
مازال، وفقًا للتراث البوذي، يشعر بالتعاطف
ذاته والرحمة نحو كلِّ شيء وكلِّ مخلوق. لذا
فهو يعلِّق على قصيدته قائلاً: أشعر أنه منذ زمان سحيق، وعبر
شروط غريبة منسية، تطورتُ عنه [الله]، ووصلت إلى
حالتي الراهنة في التعبير. الذاكرة العظيمة
لتلك السلسلة من الأعمار التي تجري في النسيج
الكوني، وهو [الله] يعيلها، تكمن في داخلي
غير مَوْعيَّة. لذلك أستطيع أن أشعر برباط
قديم من الوحدة مع الأشجار والزواحف والطيور
وسائر الحيوان في هذا العالم. ولذلك أيضًا، لا
يبدو لي هذا الكون الشاسع المليء بالأسرار
مرعبًا أو معاديًا. فلسفة الدين عند طاغور كونية
حقًّا؛ إذ إنها تشتمل على عناصر من الأديان
العالمية الكبرى جميعًا، كالبوذية
والهندوسية والمسيحية والزِنْ والتاوية.
والقصد منه، على حدِّ عبارة طاغور ذاته،
"إدراك علاقة الحبِّ الكامل بين الروح
الأسمى وأرواح الكائنات المخلوقة جميعًا." غوته Goethe فولفغانغ فون غوته (1749-1832) يُعَدُّ الشاعرُ الألماني فولفغانغ
غوته، بلا ريب، الأعظم بين شعراء أوروبا
"الإيكولوجيين"، وكذلك أكثرهم "علمية"
بالمعنى الغربي. يقول في صدد أرصاده لتغيرات
الضغط في جوِّ الأرض: "أشبِّه الأرض بمخلوق
حيٍّ ضخم، يشهق ويزفر باستمرار." كان غوته
عميقًا لا يُسبَر غورُه، كالأرض ذاتها.
وطبيعته – بالمقارنة مع باشو وويتمان
وطاغور – طبيعة فاعلة، باحثة. لم يعترف،
في الحياة الاجتماعية، بتلك القوانين
الشيطانية التي تسود على الكون. ولم يوافق،
كذلك، على الثورة الفرنسية، بل تبنى (بصفة
عامة) موقفًا رجعيًّا محافظًا. ودافعه إلى ذلك
أنه كان يرى أن العنف مضادٌّ للطبيعة؛
والجدال حول أصل الأنواع كان موضع اهتمامه
أكثر بكثير من الانتفاضات الاجتماعية: "أن
تعرف الطبيعة هو أن تشعر بالنَّفَس الإلهي؛
كلُّ اكتشاف علمي هو، في الآن ذاته، حَدَثٌ
ديني." لم يعرف غوته ذلك التنافُر بين
المعرفة والإيمان الذي يطوِّق قلب الإنسان
الحديث: كان أوَّل – ولعلَّه آخِر – مَن نجح
في حلِّ ذلك التعارُض: "كنت دومًا على ثقة
بأن العالم ما كان ليستمر طويلاً لو أنه لم
يكن بسيطًا" – وهذه واحدة من تبصُّرات غوته
العميقة. بساطة العالم أمرٌ مدهش، غامض،
وإلهي: "جميعنا نتجوَّل بين الأسرار؛ وأقصى
ما يمكن للبشر أن يصلوا إليه في إدراكهم
للعالم هو الشعور بالدهشة Erstaunen."
وهذا يضم غوته إلى الشعراء السابقين
الذين ذكرناهم أعلاه. كان يؤمن أيضًا بخلود
الروح، بوصفها مشتقة من الطبيعة الخالدة: "لن
يكون هناك، أيًّا تكن الظروف، فناء للقوى
الروحية في الطبيعة، لأن الطبيعة لا تهدر
كنوزها عبثًا...". انبهرتْ أجيال لا تحصى في الغرب
بمدى غوته الفكري؛ وكبرى قصائده، فاوست،
أضحت، بالطبع، ذروة جهاده المعرفي، حيث قدَّم
فيها الجواب الذي طالما انتظرته الإنسانية
المعذبة. والمدهش أن جوابه ذاك يتناغم
تناغمًا لافتًا مع الحركة البيئية المعاصرة (لكنه
– وللمفارقة! – يتناقض مع مذهبه الاجتماعي
المحافظ). إشارته المجازية إلى "الطين
الفاسد" تخص، بالطبع، المثالب البشرية.
هاكم آخر مونولوج في فاوست، حيث نجد سطرين
من "الحكمة الأخيرة" للشاعر: حتى أعلى التلال تصَّاعَدُ
الحمأة، والطين الفاسد سميك نتن؛ ومهمَّتي الأخيرة أن أجفِّف هذه السِّباخ
القاتلة! سوف أخلق أرضًا جديدة، رحبة، يعمل الجميع فيها أحرارًا، وتبتهج فيها القطعان والبشر وتتفتح الجَّنات في حقول قمحها، بينما هناك، بعيدًا، تغضب
البحار خلف الجدران الذائدة؛ سوف نصلح أضرار كلِّ دقيقة، كلَّ خلل
طفيف – وإني مكرَّس لهذه الفكرة! لم أقضِ سِنِيَّ عبثًا، لأن بوسعي أن أرى الحكمة
الأخيرة: وحده يستحق الحياة على هذي
الأرض مَن يجتهد كلَّ يوم يمر في تحرير الناس والأرض.[9] عندئذٍ سوف أقول: امكثي، أيتها اللحظة العابرة! لن تقوى العصور على محو آثار خطاي. مبشِّرًا بهذه اللحظة المذهلة، تملؤني بَرَكَة اليوم. الشعراء الإيكولوجيون في
العالم تشتمل الأعمال الإبداعية
للعديد من شعراء العالم على مصادر قوية للشعر
الإيكولوجي؛ وقد نلحظ فيها تنوعًا في
الاتجاهات والأجناس والأشكال الفنية.
وبالفعل، فإن الشعر متنوع كما هي الحياة
ذاتها، يستمد منها قوته التي لا تذوي
واهتمامه الحيَّ. شبَّه غوته تاريخ
الحضارة بمعزوفة مهيبة، لكلِّ أمَّة فيها،
على التناوُب، صوتُها المميَّز. وللحفاظ على
جمال هذه السيمفونية البشرية، ينبغي أن يكون
لكلِّ صوتٍ جَرْسُه ونغمتُه الخاصة. وهكذا
نستمع إلى أبيات إيميلي دِكِنْسون (1830-1886)
المتواضعة، التي تكاد أن تكون يابانية، وإلى
قصائد روبرت فروست (1874-1963) التأملية، وإلى
قصائد وليم بليك (1757-1827) الحكمية، وإلى شعر
وليم ووردزورث (1770-1850) الغنائي، وإلى
مقالات موريس ميترلينك (1862-1949) الصوفية،
وإلى أبيات فيودور تيوتشوف (1803-1873) –
مكتفيًا بهذه البضعة وحسب من أولئك
الكلاسيكيين الذين ضفروا ألوانهم وأصواتهم
في النسيج الكوني للشعر الإيكولوجي. وثمة
العديد من الثقافات المحلِّية التي أينعت
شعراء إيكولوجيين لم يسمع بهم العالم
الخارجي؛ لكن على الرغم من اختلاف الثقافات،
فإن جميع الشعراء الإيكولوجيين يتكلَّمون
اللغة ذاتها – وهي، بالطبع، اللغة الكونية
للطبيعة، كما قال أحد أساتذة الزِنْ
اليابانيين، كوباياسي إسِّا: لا غرباء في هذا العالم! جميعنا أخوة تحت شجرات الكرز الزاهرة... وهؤلاء سيظلون دومًا
معلِّمينا، مناراتنا في هذا العالم المضطرب،
بحيث لا يتركون لنا سببًا للقنوط. هل يخلِّص الجمالُ
العالمَ؟ ما هو الجمال؟ هل ثمة مقياس
كوني له؟ ثم ما الذي كان يعنيه دوستويفسكي
بقوله في الأبله: "الجمال سوف يخلِّص
العالم"؟ أعتقد أن الشعر الإيكولوجي يجيب،
إلى حدٍّ ما، عن هذه الأسئلة، ويتيح فرصة
للبشرية لـ"تثوب إلى رشدها". في البداية، نقول إن الجمال ليس
"ابتكارًا" بشريًّا؛ إنه موجود أصلاً.
وهو قانون كوني بدأنا لتوِّنا – نحن البشر –
في إدراكه (لأن البشرية مازالت في مرحلتها
الأولى من النضج العقلي والجسمي). ولا يمكن
إدراكه عبر التأمل المجرَّد أو المنطق أو
اللغة وحسب. يمكن لي أن أشدِّد على أنه
الكلِّية wholeness
التي نفتقدها. كلُّ الجهود الثقافية التي
اختُبِرَتْ جماعيًّا إنْ هي مقاربات باردة
لهذا الجمال؛ وحضارتنا ذات المركزية البشرية
العنيدة خلقت جمالاً تركيبيًّا، عبَّر عن
نفسه في "الأشياء" أو"المنتجات"
الصُّنعية، حيث "الوظيفة" المحدودة و"الموضة"
تحل محلَّ المعيار الطبيعي الأصلي للجمال.
لقد طُوِّرَت الجماليات (والأخلاق) عبر
العصور؛ ومثل هذه الأخلاق كانت محابية
للمركزية البشرية أساسًا. حتى أوسكار وايلد،
الفنان العبقري وصاحب الذهن المتأنِّق، كان
حذرًا جدًّا من الطبيعة، فلم يرَ الجمال إلا
في المادة غير العضوية وحسب. ويمكن لنا أن
نلاحظ في سهولة تيارات مشابهة اليوم في "تجميل"
الحقيقة الافتراضية virtual
reality للفضاء السيبْري. إن عدم فهمهم
للطبيعة، وبالتالي عدم قدرتهم على مجاراتها،
على ما يبدو، جعل البشر يتخيَّلون أنفسهم في
نمط من العالم يستطيعون التلاعب به وترويضه. لنأمل، إذن، أن البشر ليسوا
جميعًا متبلِّدي الإحساس (فهم، في النهاية،
نتاج الطبيعة). ولعل كارثة بيئية داهمة،
بطريقة أو بأخرى، أن تذكِّرنا بالشعر الذي
نحن جميعًا معرَّضون لفقدانه. فلأجل اتحادنا – أنت وأنا ثمة نور في السماء. لأجل اتحادنا – أنت وأنا تتزيَّا الأرض بالأخضر الغسقي. لأجل اتحادنا – أنت وأنا يهجع الليل ساكنًا، والعالم مضموم بين ذراعيه: يبزغ الفجر فاتحًا الباب
الشرقي وهمسات حلوة في صوته. قارب الأمل يبحر في تيارات الأبدية نحو ذلك
الاتحاد. وأزهار العصور تصطف جنبًا إلى
جنب كي تحتفي بطقس الترحيب.[10] ***
*** *** ترجمة: معين رومية *
فيكتور إ. بوستنيكوف باحث ومترجم للشعر،
ولد في بطرسبرغ، روسيا (1949). وبعد حصوله على
درجة الدكتوراه في الهندسة الكهربائية من
مدرسة كييف البوليتكنيكية، اشتغل مطولاً
كعالم ومدرِّس في مجال الطاقة. بيد أن كارثة
تشيرنوبيل وضعت حدًّا لعمله التقني ودفعت
به إلى المعسكر البيئوي. وهكذا باشر ترجمة
مؤلِّفين ذوي أبعاد روحية، مثل ويتمان
وطاغور وباشو، إلى اللغة الروسية؛
كما أنه يترجم الشعر الروحي الروسي إلى
الإنكليزية. وتشمل اهتماماته الآن
الإيكولوجيا العميقة والفلسفات الشرقية. [1]
للاطلاع على مراجع النص يمكن للقارئ العودة
إلى الأصل الإنكليزي. (المحرِّر) [2]
تعتقد مدرسة رِنْزَيْ زِنْ بإمكان
تحقيق "قفزة" نحو الاستنارة، دون
المرور بأشواط أو مراحل، انطلاقًا من كون
حال الاستنارة هي حالنا الطبيعية "الأصلية"
التي لا يمكن وعيها إلا وعيًا فوريًّا
آنيًّا، وتعتمد لذلك فنون الـكوان (الأحاجي)
والـموندو (الحوار التلقائي المباشر
بين المرشد والمريد)، بينما تميل مدرسة سوتو
زِنْ إلى التدرج في الاستعداد لخبرة
الاستنارة عن طريق تأمل زازِنْ (الجلوس
الصامت). (المحرِّر) [3]
الـهايكو: تفعيلة شعرية
يابانية، تتكون القصيدة فيها من 17 مقطعًا
صوتيًّا تنتظم في ثلاثة أبيات 5/7/5. ويُعَدُّ
باشو أكبر شاعر هايكو في الأدب
الياباني. للتوسع حول هذا الشعر يمكن
الرجوع إلى: كينيث ياسودا، واحدة بعد أخرى
تتفتح أزهار البرقوق، بترجمة محمد
الأسعد، سلسلة "إبداعات عالمية"،
العدد 316، الكويت، فبراير، 1999. (المترجم) [4]
التاو، أو "الطريق"،
هو المقولة الفلسفية المركزية في الحكمة
التاوية، وتعني التوازن الديناميَّ بين
الأضداد. والتاوية تتبرم من الخطاب المنطقي
وتتَّكل على عفوية الطبيعة. [5]
الـكُوَان: ألغاز أو أحاجٍ
غير منطقية، يستخدمها أساتذة الزِنْ
لتنوير المريدين. [6]
من "أغنية نفسي" (أوراق العشب). [7]
من "أغنية نفسي". [8]
جدير بالذكر أن مجموعتي غيتانجالي والبستاني
متوفرتان بالعربية في ترجمة "بديعة"
للمرحوم د. بديع حقي (روائع طاغور، دار
العلم للملايين، بيروت، ودار طلاس، دمشق)،
وكذلك شذرات طيور شاردة، بترجمة ديمتري
أفييرينوس (دار إيزيس، دمشق). (المحرِّر) [9]
التشديد من تدخُّل الكاتب. (المحرِّر) [10]
من طاغور، كوننا. |
|
|