|
مارتن
لوثر كنغ
وحركة
الحقوق المدنية
السلام الحقيقي ليس
مجرَّد غياب التوتر؛ إنه إحقاق العدالة. مارتن لوثر كنغ الابن بالمقاومة اللاعنفية، لا حاجة
لأيِّ فرد أو جماعة للخنوع لأية إساءة، كما لا
حاجة لأيٍّ كان للُّجوء إلى العنف من أجل رفع
الحيف. مارتن لوثر كنغ الابن في الألم غير المستحَق فِداء.
ينطوي الألم، كما يدرِك المقاوِم اللاعنفي،
على إمكانيات تربوية وتحوُّلية خارقة. مارتن لوثر كنغ الابن إن ثمرة اللاعنف هي
المصالحة وإيجاد المجتمع الحبيب. مارتن لوثر كنغ الابن منذ
العام 1956 حتى موته المأسوي في العام 1968، ظلَّ
مارتن لوثر كنغ الابن رائد زعماء سعي
الأمريكيين السود اللاعنفي في سبيل الحقوق
المدنية ومن أجل حياة أفضل. ولد في 15 كانون
الثاني من العام 1929 في أتلانتا، جورجيا،
وعُيِّن خلفًا لوالده الذي كان واعظًا
معمدانيًّا ناجحًا. علَّمه والدُه احترام
النفس في مواجهة التمييز العرقي. وقد باشر
مارتن دراسته في كلية مورهاوس في أتلانتا وهو
ما يزال في الخامسة عشر من عمره، وتخرَّج منها
بعد أربع سنوات. ثم التحق بكلية كروزر
اللاهوتية في بنسلفانيا، حيث درس مدة ثلاث
سنوات، مفضلاً أن يصير قسيسًا على الطبِّ
والحقوق. استمع، وهو هناك، إلى أ. ج. موستِه
محاضِرًا؛ وبعد الاستماع إلى محاضرات مردخاي
جونسون في غاندي سارع إلى شراء كلِّ ما وَجَدَ
من كتب عن غاندي واللاعنف. كان سبق لمارتن أن
قرأ في مورهاوس "مقالة في العصيان المدني"
لثورو§؛
وقد بلغ من التأثُّر بفكرة رفض التعاون مع
نظام شرير حدًّا أعاد معه قراءتها عدة مرات.
وفي دراساته اللاهوتية مال نحو بشارة وولتر
راوشنبوش الاجتماعية. ثم قرأ ماركس، فلم
تَرُقْ له ماديَّتُه وحَطُّه من قيمة الحرية
الفردية؛ غير أنه شكَّك أيضًا في مادية
الرأسمالية ومظالمها.
لدى
قراءته غاندي أدرك كنغ أن أخلاق محبة المسيح
يمكنها أن تتخطَّى الأفراد وتُطبَّق على
نزاعات الجماعات العرقية والأمم. وقد اكتشف
المنهج من أجل الإصلاح الاجتماعي في مفهومَيْ
غاندي عن قوة المحبة (ساتياغراها)
واللاعنف. وبعد انتخابه رئيسًا لاتحاد الطلبة
وتخرُّجه من كروزر أوَّلاً على دفعته، انتقل
كنغ إلى جامعة بوسطن حيث نال شهادة الدكتوراه
في اللاهوت. وفي العام 1953 تزوج من كوريتا
سكوت، طالبة الموسيقى اللامعة، وأنجب معها
لاحقًا أربعة أطفال. مسلَّحًا بإيمانه بإرشاد
إله شخصي، ومزوَّدًا بتقنيات اللاعنف،
قَبِلَ كنغ منصب راعي أبرشية في منتغومري،
آلاباما، آمِلاً أن يستطيع مساعدة قومه على
الفوز بالعدالة الاجتماعية. لم
يكد كنغ ينهي مناقشة رسالته في الدكتوراه
ويستقر في كنيسة جادة دكستر المعمدانية حتى
تفجَّرتْ في منتغومري قضيةُ الفَصْل العرقي
في الباصات العامة. ففي 17 أيار من العام 1954
كانت المحكمة العليا في الولايات المتحدة قد
أعلنت: "المَرافِق التعليمية المنفصلة
صميمية اللامساواة"؛ وفي العام 1955 أمرت
المحكمةُ نفسُها جميعَ المدارس بتفكيك نظام
الفَصْل "بالسرعة القصوى الممكنة". وفي
منتغومري كان كنغ قد أصبح ناشطًا في "الهيئة
القومية لترقِّي الملوَّنين" وفي "مجلس
آلاباما للعلاقات الإنسانية" المُدمَج.©
في آذار من العام 1955 كانت فتاةٌ في الخامسة
عشر من عمرها قد اعتُقِلَتْ لرفضها التخلِّي
عن مقعدها في الباص لراكب أبيض. وقد كان كنغ
عضوًا في اللجنة التي احتجَّت على الأمر، لكن
لم يُتَّخذ يومئذٍ أيُّ إجراء عملي. وفي الأول
من كانون الأول من العام نفسه شعرت السيدة
روزا باركس بأن قدميها لا تقويان على الوقوف
للتخلِّي عن مقعدها لرجل أبيض استقلَّ الباص
بعدها. يومئذٍ أمَرَها السائق بالوقوف وإعطاء
مقعدها للرجل الأبيض، لكنها رفضت، وبذلك
اعتُقِلَتْ واقتيدتْ إلى القصر العدلي. ومن
هناك هتفت إلى إ. د. نيكسون الذي، بدوره، أجرى
عدة اتصالات. اقترح "مجلس النساء السياسي"
مقاطعة الباصات ليوم واحد. وفي صبيحة اليوم
التالي – وكان يوم جمعة – اتصل نيكسون بكنغ،
الذي قدَّم كنيسة جادة دكستر مكانًا للِّقاء
في تلك الليلة. وقد حضر أكثر من أربعين من
زعماء السود، واتفقوا جميعًا على مقاطعة
الباصات يوم الاثنين التالي وعَقْدِ لقاء
جماهيري ليلة الاثنين. وهكذا تمِّ نسخ وتوزيع
منشورات تعلن عن هذه النشاطات؛ كما جرى تنظيم
لجانٍ وتأمين وسائل نقل بديلة. مستذكِرًا
كلمات ثورو عن عدم التعاون مع نظام شرير،
فكَّر كنغ في الحركة بوصفها لاتعاونًا
جماهيريًّا. سَرَت
الكلمة بين الناس، وفي صباح الاثنين كانت
باصات منتغومري عمليًّا فارغة، باستثناء
بضعة راكبين بيض. وقد أُدينتْ السيدة باركس
ذلك الصباح بعصيان أحكام الفَصْل في المدينة
وبدفع غرامة مالية مقدارها عشرة دولارات
وبنفقات المحكمة؛ فاستأنف محاميها. وبعد ظهر
ذلك اليوم انتُخِبَ الدكتور كنغ رئيسًا لما
أمسى "هيئة تحسين منتغومري". وقد جاء
خمسة آلاف شخص إلى كنيسة شارع هولت
المعمدانية ووقفوا خارجًا مستمعين من
مكبِّرات الصوت إلى لقاء المساء. لقد نطق كنغ
عن مشاعر الكثيرين عندما أعلن أنهم "تعبوا
من الخضوع للفَصْل والإذلال". أكَّد أن
بديلهم الوحيد هو الاحتجاج من أجل نيل الحرية
والعدالة. وقد جعل المحبة المسيحية والمبادئ
اللاعنفية أساس نُصْحِه، إذ قال: "إياكم أن
يذعن أيٌّ منكم للتخويف لمنعه من ركوب
الباصات. منهجنا يجب أن يكون الإقناع وليس
الإكراه. لن نقول للناس إلا: "ليكن ضميركم
مرشدكم"." كما ختم خطبته بقوله: "إذا
احتججتم بشجاعة، لكنْ بكرامة وبشعور بالمحبة
المسيحية، فإن مؤرِّخي المستقبل سوف يقولون:
"هناك عاش شعب عظيم – شعب أسود – ضخَّ
معنًى وكرامةً جديدين في عروق الحضارة."
ذلكم هو تحدِّينا ومسؤوليتنا القاهرة."
اقترح رالف أبرنثي يومئذٍ ثلاثة مطالب معتدلة
نالت الموافقة بالإجماع في الاجتماع
الجماهيري: 1) معاملة مهذبة من قبل عاملي
الباصات؛ 2) جلوس الركَّاب على أساس الخدمة
بحسب أولوية الركوب، بحيث يجلس الزنوج في
المؤخرة والبيض في المقدمة؛ 3) استخدام سائقي
الباص الزنوج على الخطوط التي تخدِّم الأحياء
ذات الأغلبية السوداء. في
كتابه الخطو باتجاه الحرية يشرح كنغ كيف
قادتْ المحبةُ المسيحية والمناهجُ اللاعنفية
الحركةَ. ففي الاجتماعات الأسبوعية كان
يشدِّد على أن استعمال العنف سيكون غير عملي
وغير أخلاقي: الكراهية
تولد الكراهية؛ العنف ينسل العنف؛ الفظاظة
تسبِّب فظاظة أكبر. علينا أن نقابل قوى
الكراهية بقدرة المحبة؛ علينا أن نقابل القوة
المادية بقوة الروح. غايتنا ينبغي ألا تكون
أبدًا هزيمة الرجل الأبيض أو إذلاله، بل كسب
صداقته وتفهُّمه. ومع
أن اللاعنف، بنظر كنغ، كان طريقة حياة، فقد
سُرَّ بأن السود كانوا على استعداد لقبوله
كمنهج. لقد قدَّمه ببساطة بوصفه المسيحية
مطبَّقةً. ففي الخطو باتجاه الحرية بيَّن
كنغ ستَّ نقاط حول فلسفة اللاعنف: إنه، أولاً، لا
يتأسَّس على الجبن؛ فمع أنه قد يبدو منفعلاً
من الناحية المادية فهو فاعل روحيًّا، إذ
يتطلَّب الشجاعة للوقوف في وجه الظلم.
اللاعنف، ثانيًا، لا يستهدف هزيمة الخصم، بل،
بالأحرى، كسبُ تفهُّمه من أجل إيجاد "المجتمع
الحبيب". الهجوم، ثالثًا،
موجَّه ضدَّ الشرِّ، وليس ضدَّ الناس الذين
يرتبكون الشر؛ فالنزاع، بنظر كنغ، لم يكن بين
البيض والسود، لكن بين العدل والظلم. في
اللاعنف، رابعًا، ثمة استعداد لتقبُّل الألم
بدون اقتصاص من مسبِّبه. خامسًا، ليس المطلوب
تجنب العنف المادي وحسب، بل العنف النفسي
كذلك؛ فالمحبة تحلُّ محلَّ الكراهية. سادسًا،
يتحلَّى اللاعنف بالإيمان بأن العدل سوف
يتغلَّب في النهاية. في تلك الأثناء، من
أجل نقل الناس إلى أعمالهم ومنها، خفَّضتْ
شركات التاكسي التي يملكها السود من تعرفتها،
وتمَّ ترتيب جُمَّاع من السيارات، وعمد
الكثير من الناس إلى المشي. غير أن المدينة
حرَّمتْ شركات التاكسي من القيام بذلك، وهددت
الناس بتهمتي التشرُّد والاسترداف غير
المشروع، وسَرَتْ إشاعاتٌ بأن السائقين قد
يفقدون رخصاتهم أو تأمينهم. ثم أوقِفَ كنغ في
كانون الثاني بتهمة القيادة بسرعة 30 ميلاً/سا
في منطقة حدُّ السرعة فيها 25 ميلاً/سا، على
الرغم أنه كان يقود بحرص شديد بما أنه كان
يدرك أنه متبوع. وقد تعرَّض منزل آل كنغ
لاعتداء بقنبلة؛ غير أن كوريتا وصديقة لها
نجتا من الأذى بالانتقال سريعًا إلى الجزء
الخلفي من المنزل. وقد غادر مارتن على عجل
اجتماعًا كان يحضره عائدًا إلى المنزل، حيث
كان حشدٌ غاضب متجمِّعًا في الخارج. وقد هدَّأ
من ثورتهم ونصح لهم بإلقاء أسلحتهم والعودة
إلى بيوتهم. قال: "لا نستطيع أن نحلَّ هذه
المشكلة عبر العنف الاقتصاصي. علينا أن نقابل
العنف باللاعنف [...]. علينا أن نقابل الكراهية
بالمحبة." وعندما حاول العمدة أن يتكلَّم،
قوبل بعطعطة استنكار وتعرَّض للتهديد؛ لكن
كنغ هدَّأ الحشد للمرة الثانية. لقد حال
حضورُه وكلماتُه دون وقوع تمرُّد دموي. جدير
بالذكر أن آل كنغ كثيرًا ما تلقوا مكالمات
تهديد؛ لكن حتى بعد انفجار القنبلة، ما كان
كنغ ليسمح بالاحتفاظ بسلاح في بيته. وبينما كان
متغيِّبًا يحاضر في جامعة فيسك في ناشفيل،
شرع النائب العام في منتغومري باعتقال زعماء
"هيئة تحسين منتغومري" بتهمة انتهاك
قانون قديم في الولاية يحرِّم المقاطعة. وعلى
الرغم من تحذير والده، عاد مارتِن إلى
منتغومري ليوضَع رهن الاعتقال. وقد أُطلِقَ
سراحُه بكفالة. وفي 22 آذار وجد القاضي كارتر 89
متَّهمًا مذنبين؛ وحُكِمَ على كنغ بتسديد
غرامة مالية قدرها 500 دولار أو بالحبس مدة 386
يومًا مع الأشغال الشاقة. وقد استُؤنِف الحكم.
وفي 4 حزيران من العام 1956 ارتأت محكمة فدرالية
بأن الفَصْل في الباصات غير دستوري. بيد أن
محامي المدينة استأنفوا إلى المحكمة العليا.
وفي تشرين الثاني حاولت المدينة تحريم
جُمَّاعات الباصات. وبينما كانوا يُحاكَمون
في إحدى محاكم منتغومري بهذه التهمة، أكَّدتْ
المحكمة العليا قرارها، معلنةً أن ولاية
آلاباما وقوانينها المحلية التي تفرض
الفَصْل في الباصات غير دستورية. انعقدت اجتماعات
لتحضير الناس لدمج ركاب الباصات. ومكَّنتْ
دورات تدريبية على تقنيات اللاعنف "ممثِّلين"
من تأدية أدوار مختلفة أمام جمهور ناقد يعمد
إلى مناقشة النتائج. ثم طُبِعَتْ مقترحاتٌ
بخصوص الباصات المُدمَجة أوصتْ "باللاعنف
التام في القول والفعل" وموعظة: "كن من
المحبة بحيث تمتص الشرَّ ومن الحِلْم بحيث
تقلب العدوَّ صديقًا." وقبل عيد الميلاد
ببضعة أيام، بعد أكثر من عام من المقاطعة، قاد
قُسُس منتغومري السودُ القومَ إلى ركوب
الباصات المُدمَجة. وفي كانون الثاني وقعت
بضعة حوادث إرهابية؛ لكن كنغ حضَّ من جديد على
اللاعنف وعلى السير على درب الصليب. وهكذا،
بعد بضعة أسابيع، عادت نُظُم النقل إلى وضعها
الطبيعي بباصات مُدمَجة. أبرز النجاح في
منتغومري كنغ على الصعيد القومي. وقد شكَّل،
مع رالف أبرنثي وفريد شتِّلزوورث وسي. كي.
ستيلِه، "مؤتمر الزعماء المسيحيين
الجنوبيين"، ومقره في أتلانتا. وقد حثَّ
الرئيس أيزنهاور على الدعوة إلى عقد مؤتمر
للبيت الأبيض للحقوق المدنية. وعندما قصَّرت
إدارة أيزنهاور في الاستجابة على ما ينبغي،
نظَّم كنغ "حجَّ صلاة من أجل الحرية"
استمال مسيرةً ضمَّتْ 37000 شخص إلى نصب لنكولن
التذكاري في واشنطن في 17 أيار 1957. وقد قاد كنغ
مطالبة السود بحقِّ الاقتراع، بحيث
يتمكَّنون من المشاركة مشاركةً أتمَّ في
العملية التشريعية. وفي العام 1958 صدر كتاب الخطو
باتجاه الحرية مطالِبًا بحركة نضالية
ولاعنفية جماهيرية. يهيب كنغ بالسود في هذا
الكتاب أن يثبتوا على اللاعنف لأن من شأن هذا
أن يجذب إليهم الرأي العام جذب
المغناطيس، بدلاً من أن ينجذب إلى المحرِّضين
على العنف. فالحركة الجماهيرية اللاعنفية قوة
تلتزم الانضباط وتسعى إلى العدالة. وهو
يلخِّص نواياه اللاعنفية على هذا النحو: سوف نقوم بعمل مباشر ضدَّ
الظلم، بدون انتظار شروع واسطات أخرى في
العمل. لن ننصاع لقوانين
جائرة أو نذعن لممارسات ظالمة. سوف نقوم بهذا
سلميًّا، جهرًا، وجذلين، لأن هدفنا هو أن
نُقنِع. نحن نتبنَّى وسيلة
اللاعنف لأن غايتنا مجتمعٌ في سلام مع نفسه. سوف نحاول أن نُقنِع
بكلماتنا؛ لكن إذا أخفقت كلماتُنا، سوف نحاول
أن نُقنِع بأفعالنا. سوف نكون دومًا على
استعداد للنقاش وللبحث عن تسويات منصِفة؛
لكننا على أهبة الاستعداد للألم كلما اقتضت
الضرورة ذلك، وحتى للمخاطرة بحياتنا، شهودًا
للحقِّ كما نراه. وهو
يلحظ أن اللاعنف يؤثِّر، أول ما يؤثِّر، في
قلوب المنذورين له، فيمنحهم المزيد من احترام
النفس والشجاعة، ثم يحرِّك ضمائر الخصوم، حتى
تحقيق المصالحة. ففي عالم الصواريخ البالستية
نراه يعلن: "الخيار اليوم لم يعد بين العنف
واللاعنف؛ الخيار هو: إما اللاعنف وإما
الفناء." وفي
ذكرى ميلاد لنكولن في العام 1958 انعقد 21 لقاءً
جماهيريًّا في آنٍ واحد في مدن الجنوب
الرئيسية، تدعو إلى "الحرية الآن". وفي
أيلول اعتُقِلَ كنغ اعتقالاً تعسفيًّا وهو في
قصر العدل في منتغومري. وقد قرَّر رفض دفع
الكفالة أو الغرامة. غير أن الموظفين فضلوا
تسديد غرامته عنه "ليوفِّروا على دافعي
الضرائب نفقة إطعام كنغ مدة 14 يومًا". وفيما
كان كنغ يوقِّع نسخًا من كتابه في نيويورك،
طعنتْه امرأةٌ ذهانية في صدره بمفتاح رسائل
حاد. لكنه لبث هادئًا وانتظر مجيء جرَّاح
ليستخرج نصل السلاح الشبيه بالسكين. كان رأس
النصل قد بلغ شريانه الأبهر؛ وقيل له إن
مجرَّد عطسة كانت كفيلة بالإجهاز عليه. في
شباط من العام 1959 حجَّ مارتن لوثر كنغ إلى
الهند، وعاد منها أكثر ثباتًا حتى على مبادئ
اللاعنف. ففي الأول من كانون الأول دعا كنغ
إلى "زحفٍ عريض جَسور للحملة الجنوبية من
أجل المساواة". وفي العام 1960 نظَّم نشطاءٌ
طلاب اعتصاماتٍ عديدة في المطاعم الطلابية من
أجل وضع حدٍّ للتمييز. وقد خطب كنغ وجيمس
لوسُن في اللاعنف في لقاء في رالي، كارولاينا
الشمالية، وتشكَّلتْ "لجنة التنسيق
اللاعنفية الطلابية". وقد اعتُقِل كنغ و36
آخرون من جراء اعتصامهم في مطعم مخزن ريتش
للمقاطعة في آلاباما؛ فحكم القاضي على كنغ
بالأشغال الشاقة ستة أشهر. جرى هذا في 25 تشرين
الأول، قبل بضعة أيام من الانتخابات. وقد نظر
الرئيس أيزنهاور في أمر الإدلاء بتصريح رسمي،
لكنه ونائب الرئيس نيكسون قررا عدم التعليق.
غير أن جون كينِّدي وشقيقه روبرت أجريا عدة
اتصالات هاتفية للحضِّ على إطلاق سراح كنغ.
ويقول بعضهم إن هذه اللفتة ساعدت كينِّدي على
الفوز في الانتخابات على منافسه نيكسون بهامش
ضئيل. انتُخِب
كنغ في العام 1961 رئيسًا لِلَجنة "مسيرات
الحرية". ولحماية "مُشاة الحرية" من
غائلة العنف طلب كنغ من النائب العام روبرت
كينِّدي أن يرسل المزيد من رجال الشرطة
الفدراليين. وقد فسَّر كنغ ذلك بقوله: "قد
لا يستطيع القانون أن يرغم رجلاً على محبتي،
لكنه يستطيع الحيلولة بينه وبين شنقي."
وهكذا نقلت "مسيرات الحرية" حركة الحقوق
المدنية من الحُرُم الجامعية المدينية إلى
الدساكر الريفية للجنوب. وقد
استجاب كنغ لنداء نجدة الحركة في ألباني،
جورجيا، من أجل تطهير الحدائق وغيرها من
المرافق العامة من الفَصْل. وقد اعتُقِلَ هو
ورالف أبرنثي في كانون الأول من العام 1961
لرفضهما إخلاء المكان. وقد حوكِما في شباط
التالي وحُكِمَ عليهما في 10 تموز 1962 بدفع
غرامة أو بالسجن مع الأشغال الشاقة مدة 45
يومًا. وقد اختارا السجن. ومرة أخرى دفع شخصٌ
لم يصرِّح باسمه قيمة الغرامتين. عندئذٍ أعلن
كنغ حملة عصيان مدني. غير أنه، عندما قام ألفا
شخص برمي الشرطة بالحجارة والزجاجات، دعا إلى
"يوم للتوبة" وإلى إحياء أسبوع من ليالي
التهجُّد. وقد اعتُقِلَ كنغ وأبرنثي والدكتور
أندرسُن إبان ليلة التهجُّد الأولى،
وأودِعوا السجن مدة أسبوعين قبل محاكمتهم، ثم
حُكِمَ عليهم مع وقف التنفيذ. وقد جرى التخطيط
لمظاهرة جديدة بعد إطلاق سراحهم، لكن المدينة
حصلت هذه المرة على إيعاز فدرالي ضدَّ
المظاهرة. لكنْ بما أن المحاكم الفدرالية
تحالفت دومًا معهم فإن كنغ ألغى المظاهرة على
مضض. وقد اعتبر الكثيرون حملة ألباني فاشلة
لأنها لم تتوصل إلى إلغاء الفَصْل، لكن كنغ
شعر أنهم تعلَّموا دروسًا تكتيكية وأنهم
بدأوا، عبر تزايد عدد المقترعين المسجَّلين،
بالتأثير أكثر على مجرى الانتخابات. لقد قبل 5%
من المواطنين السود باللاعنف وذهبوا طوعًا
إلى السجن. ولقد كان فريد شتِّلزوورث، من "حركة
آلاباما المسيحية لحقوق الإنسان"، يناضل
من أجل إلغاء الفَصْل في برمنغهام، لكنه
جوبِهَ بمقاومة كبيرة. عندئذٍ طلب مساعدة "مؤتمر
الزعماء المسيحيين الجنوبيين"؛ وفي نيسان
1963، بعد انخراط يوجين "بُلْ" كونور في
الانتخابات، عمد هؤلاء إلى الفعل. فقد كانت
منظَّمتهم قد تحسَّنتْ منذ ألباني، وتمَّ عقد
دورات تدريبية على اللاعنف وتقنيات العمل
المباشر. فبدأوا باعتصامات، أدَّت إلى عدة
اعتقالات كلَّ يوم، وتمَّ عقد لقاءات
جماهيرية كلَّ مساء أُلقِيَتْ إبانها خُطَبٌ
في اللاعنف. وبذلك استقطبت الحركةُ العديدَ
من المتطوِّعين، وتوسعت لتصبح جيشًا
لاعنفيًّا. فكان كلُّ متطوِّع يوقِّع على
بطاقة الالتزام التالية: بتوقيعي هذا أنذر نفسي – شخصًا
وجسمًا – للحركة اللاعنفية. لذا سألتزم
بالوصايا العشر التالية: 1.
سأتأمل يوميًّا في
تعاليم يسوع وحياته. 2.
سأتذكر
دومًا أن الحركة اللاعنفية في برمنغهام تسعى
إلى العدالة والمصالحة – وليس إلى النصر. 3.
سأسير
وأنطق بمقتضى المحبة – إذ إن الله محبة. 4.
سأصلِّي
يوميًّا لكي يستعملني الله في سبيل تحرُّر
البشر قاطبة. 5.
سأضحِّي
بأمانيَّ الشخصية في سبيل تحرُّر البشر قاطبة. 6.
سأتقيَّد
بقواعد التهذيب المعتادة مع كلا الصديق
والعدو. 7.
سأسعى
إلى المداومة على خدمة الآخرين والعالم. 8.
سأنتهي
عن عنف اليد واللسان والقلب. 9.
سأجتهد
في الحرص على صحتي الروحية والبدنية. 10.
سأتبع
توجيهات الحركة وتوجيهات القائد في أثناء
كلِّ مظاهرة. اختار
كنغ تأجيل اعتقاله بحيث يمكنه التحدث في
لقاءات الجالية السوداء. وقد التمس مساعدة
القُسُس في النضال من أجل تحسين الشروط
الاجتماعية. وفي يوم السبت، 6 نيسان، اعتُقِلَ
42 ناشطًا بتهمة "التجمهُر بدون تصريح".
حتى ئذٍ التزم الجانبان اللاعنف، وغنَّى
المعتقَلون وهم في طريقهم إلى السجن. وقد كانت
مقاطعة تجَّار وسط البلدة فعالةً. وجرت
اعتصامات ركوعًا في الكنائس، واعتصامات
جلوسًا في المكتبة، ومسيرة إلى مبنى البلدية
لتسجيل المقترعين، وبدأت السجون تمتلئ. وقد
قرروا عصيان إيعاز من محكمة الولاية، لأنهم
شعروا بأن آلاباما كانت تسيء استعمال العملية
القضائية. ومع أن غالبية الزعماء كانت ترى
ضرورة بقاء كنغ طليقًا من أجل أن يجمع
التبرعات، فقد طلب من رالف أبرنثي أن يصحبه في
السجن. وفي يوم الجمعة العظيمة جرى
اعتقالهما، ووُضِع كنغ في السجن الانفرادي.
عندئذٍ اتصلت كوريتا بالرئيس كينِّدي طالبةً
عونه من أجل تحسين شروط سجن زوجها، وتمكَّن
هارِّي بِلافونتي من جمع 50000 دولار لتسديد
سندات الكفالة. ومن
سجن برمنغهام، على قصاصات ورقية، كتب مارتن
لوثر كنغ رسالته الشهيرة التي أجاب فيها عن
اتهامات القُسُس العلنية بأن أفعاله كانت "متهورة
وسابقة لأوانها". وفيها شرح بأنه أتى إلى
برمنغهام بسبب الظلم هناك. لقد خَطَوْا
الخطوات الأربعة الأساسية للحملة اللاعنفية:
جمع الحقائق عن الظلم، التفاوُض، تطهير
النفس، والعمل المباشر. وكما أن سقراط كان
مستنفِرًا للعقول فإنه، هو الآخر، ينبغي أن
يناضل ضدَّ الظلم. وهو يصرِّح بالحقيقة
الصعبة: "نحن نعلم من خلال التجربة المؤلمة
أن الحرية لا يهبها القامِع طوعًا أبدًا؛ بل
يجب أن يطالِبَ بها المقموع." وهو يستشهد
بقول القديس أوغسطينوس إن "قانونًا ظالمًا
ليس بقانون على الإطلاق". والفَصْل ظالم
لأنه يضرُّ بالشخصية ويوجِد مفاهيم زائفة عن
التفوُّق والدونية. وعصيانُ قانون ظالم "جهرًا،
بمحبة، وباستعداد لقبول القصاص" إنما هو
التعبير عن العدل الحقيقي. وقد ألمع إلى أن ما
فعله هتلر في ألمانيا كان "قانونيًّا"،
بينما كان إسعاف اليهودي أو جبر خاطره "غير
قانوني". إن عملهم لا يتسبَّب في التوتر، بل
فقط يدفع إلى السطح بالتوترات الخفية
المحتدمة. أما اللاعنف فيوفِّر تنفيسًا
خلاقًا عن الانفعالات المكبوتة التي من
شأنها، في غير مقام، أن تتسبَّب في العنف.
فإذا كان متطرِّفًا فإنه، مثله كمثل يسوع،
متطرِّفٌ في سبيل المحبة. بعد
انقضاء ثمانية أيام قَبِلَ كنغ وأبرنثي دفعَ
الكفالة. عندئذٍ اقترح كنغ استكتاب الشباب في
الحملة. وقد أرسلت يانغ بعضَهم ممَّن كان في
ريعان الشباب إلى المكتبة من أجل تعلُّم شيء.
وفي 2 أيار تَظاهَر أكثر من ألف شاب وفتاة
وأودِعوا السجن. ويشرح كنغ في كتابه لماذا
لا نستطيع الانتظار لماذا يمكن قبول الجميع
في جيش لاعنفي، بصرف النظر عن العمر، أو
الجنس، أو العرق، أو حتى الإعاقة البدنية.
وعندما كادت كافة السجون تكتظ، غيَّر بُلْ
كونور تكتيكه إلى العنف، فاتحًا خراطيم
المياه، مرسِلاً شرطتَه بهراواتهم، ومطلِقًا
كلاب الشرطة. وقد أدَّى ذلك إلى سريان
الاستنكار المعنوي في الأمة قاطبة. وفي 4 أيار
بعث النائب العام بوسطاء لعقد هدنة. وفي 10
أيار تمَّ التوصُّل إلى اتفاق مفاده
الاستجابة للمطالب الرئيسية: إلغاء الفَصْل
في المطاعم وبيوت الخلاء وغرف القياس وسُبُل
الشرب؛ ترقية السود واستخدامهم على أساس غير
تمييزي؛ إطلاق سراح كافة المسجونين؛ وإجراء
اتصالات بين الزعماء السود والبيض. كانت
ردة فعل الفَصْليين الاعتداء بقنبلة على بيت
أ. د. كنغ، شقيق مارتن، في منتصف ليلة السبت من
أجل تحريض أعمال شغب. وقد أنشد أتباع الحركة
"سوف نتغلَّب" من أجل وقف العنف. وفي
اليوم التالي أرسل الرئيس كينِّدي ثلاثة آلاف
رجل من القوات الفدرالية. وفي 20 أيار قرَّرت
المحكمة العليا أن التظاهر ضدَّ المؤسَّسات
الفَصْلية أمر مشروع. وبذلك انتصرت العدالة. سافر
كنغ في جولة محاضرات من لوس أنجلس إلى نيويورك.
وفي دترويت، في 23 حزيران من العام 1963، قاد 125000
شخص في مسيرة حرية. وفي هذا الحشد خطب في
اللاعنف كمنهج جبار في تجريد الخصم من سلاحه.
وأعلن: "إذا لم يكتشف المرء شيئًا يموت من
أجله فهو ليس حقيقًا بأن يعيش!" وفي
مؤتمر ضمَّ إليه أ. فيليب راندولف وروي ولكنز
من "الهيئة القومية لترقِّي الملوَّنين"،
وجون لويس من "لجنة التنسيق اللاعنفية
الطلابية"، ودوروثي هايت من "المجلس
القومي للنساء الزنجيات"، وجيمس فارمر من
"مؤتمر المساواة العرقية"، وويتني يانغ
من "الرابطة المدينية"، خطَّط الجميع
لمسيرة إلى واشنطن من أجل "الوظائف والحرية"
للضغط على الكونغرس لإقرار "لائحة الحقوق
المدنية" للرئيس كينِّدي. وقد ائتمر مئتان
وخمسون ألف شخص، حوالى ثلثهم من البيض، عند
نصب لنكولن التذكاري في 28 آب 1963. وقدَّم
راندولف كنغ بوصفه "الزعيم المعنوي للأمة".
وقد شرع كنغ في خطابه المحضَّر في الكلام على
أن أمريكا أعطت الزنجي شيكًا من غير رصيد وعلى
أنهم جاؤوا إلى هناك لقبض الوعود. لكن استجابة
الحشد الكبير ألهمتْه، فوضع نصَّه جانبًا
وبدأ يتكلَّم على حلمه بالمساواة،
بالأخوَّة، وبالحرية – على حلم لا يُحاكَم فيه
الناس بحسب لون بشرتهم، بل بحسب خُلُقهم. ثم
قَرَعَ أجراسَ الحرية بحيث تجلجل صادحة عبر
جنبات البلاد قاطبة.ª وعندما
أُعلِنَ اغتيال الرئيس كينِّدي أسرَّ كنغ إلى
كوريتا بأنه آيلٌ إلى المصير نفسه لأن "مجتمعنا
هذا مجتمع مريض". وفي حزيران التالي
اعتُقِلَ كنغ وأبرنثي في سانت أوغسطين،
فلوريدا. وقد شرح كنغ كيف أن بعض الناس كان
يحاول إيقاف الحركة بتهديدهم بالموت البدني،
لكنه أجاب: "إذا كان الموت البدني هو الثمن
الذي لا بدَّ لي من دفعه لتحرير شقيقي الأبيض
وسائر أشقائي وشقيقاتي من موت روحي دائم،
عندئذٍ ما من شيء أكثر افتداءً للنفس." وفي 2
تموز 1964 شهد كنغ شخصيًّا الرئيسَ لِنْدُن
جونسون يوقِّع على قانون "الحقوق المدنية".
وقد قدَّم كنغ "لائحة للحقوق الاقتصادية"
إلى لجنة منهاج سياسة الحزب الديمقراطي،
واقترح أن يحصل الذين في معسرة ممَّن حُرِموا
طويلاً شيئًا على غرار "لائحة حقوق الجندي
النظامي"·. وفي
سنِّ الخامسة والثلاثين أصبح مارتن لوثر كنغ
أصغر شخص سنًّا ينال جائزة نوبل. وقد قَبِلَ
الجائزة الرفيعة للسلام بالنيابة عن الحركة،
قائلاً إنها "اعتراف عميق بأن اللاعنف هو
الجواب على مشكلات زماننا السياسية والعرقية
العصيبة – حاجة الإنسان إلى التغلُّب على
القمع بدون اللجوء إلى العنف". وفي
العام 1965 تمَّ تسريع الدفع باتجاه تسجيل
المقترعين، واختيرت سِلمى، آلاباما، بوصفها
الهدف الأكثر تحدِّيًا. بذلك عُقِدَت هناك
لقاءاتٌ جماهيرية خلال شهري كانون الثاني
وشباط. وفي الأول من شباط قاد كنغ وأبرنثي
مسيرة من 250 من السود و15 من البيض إلى قصر
العدل، حيث اعتُقِلوا جميعًا. وفي 5 آذار أمضى
كنغ ساعتين ونصف الساعة مع الرئيس لِنْدُن
جونسون يحثُّه فيها على التعجيل بإقرار "لائحة
حقوق الاقتراع". وفي 7 آذار أعلن عن مسيرة 54
ميلاً من سِلمى إلى منتغومري. ومع أن الحاكم
والاس منع المسيرة، أهاب كنغ بالناس للانتصار
لما هو حق. ولما كانت استراتيجية "مؤتمر
الزعماء المسيحيين الجنوبيين" تنصُّ على
تجنب الزعماء للاعتقال في الأشواط الأولى من
الحملة فإن كنغ لم يكن في مقدمة المسيرة عندما
واجهتْهم قوات شرطة آلاباما بأقنعة الغاز،
والغاز المسيل لدموع، والهراوات، والخيَّالة
المزوَّدين بالسياط، والعناصر المسلَّحين
بالمناخس الكهربائية. وقد هلَّل بعض البيض
المتجمهرين على جانبي الطريق للهجوم. عندئذٍ أعلن كنغ أنه
وأبرنثي سوف يقودان مسيرة أخرى. وقد صدر
إيعازٌ فدرالي ضدَّها، لكن كنغ نادى القُسُس
من كلِّ أرجاء البلاد للانضمام إليهم. وفي هذه
المرة عبروا الجسر قبل أن يواجهوا الخيَّالة.
كان 1500 شخص يصلُّون على الطريق. إذ ذاك،
تجنُّبًا لمواجهة عنيفة، طلب كنغ منهم العودة
القهقرى. وفي تلك الليلة قُتِلَ في سِلمى
قسيسٌ أبيض من بوسطن على أيدي أربعة رجال من
عصابة الكو كلوكْس كلان¨.
ثم انعقدتْ مظاهراتٌ في طول البلاد وعرضها،
وقام أربعة آلاف زعيم ديني بتطويق البيت
الأبيض دفعًا نحو إقرار "لائحة حقوق
الاقتراع". ومساء الجنازة ألقى الرئيس
جونسون خطابه "سوف نتغلَّب"، جاعلاً من
"لائحة حقوق الاقتراع" أولويته القصوى.
وقد رُفِعَ الإيعاز ضدَّ المسيرة، وحشد
الرئيسُ حرسَ آلاباما الوطني وأرسل قوات
لحماية المتظاهرين. وفي 21 آذار نُفِّذَتْ
المسيرة بنجاح؛ وعندما وصلوا إلى منتغومري
بلغ عددُهم الـ50000. ومرة أخرى سَمَتْ موهبةُ
كنغ الخطابية بالناس وهو يعلن بأنهم لن
يضطروا إلى انتظار الحرية طويلاً لأن "ما
من أكذوبة تدوم إلى الأبد"، لأنكم "سوف
تحصدون ما تزرعون"، لأن "ذراع الكون
الأخلاقية مديدة لكنها تجنح إلى العدالة"،
ولأن "عيناي أبصرتا مجد مجيء الرب". وفي 6
آب 1965 تمَّ التوقيع على "لائحة حقوق
الاقتراع". في تلك الأثناء كانت
المشاكل تطفو خارج الجنوب. ففي ليلة واحدة من
الشغب في فرع واطس في لوس أنجلس، قُتِلَ من
الناس أكثر مما قُتِلَ في عشر سنوات من
المظاهرات عبر البلاد. وفي 6 حزيران 1966 جُرَحَ
جيمس مِرِديث بعيار ناري وهو يقود مسيرة في
ميسيسيبي. وقد عاده كنغ في المستشفى واتخذ
مكانه في المسيرة. كان ستوكلي كارمايكل
وأنصار "القوة السوداء" يريدون استبعاد
البيض منها، لكن كنغ قال بأنه، في هذه الحال،
سوف ينسحب. وهكذا اتفق الجميع على جمع المسيرة
بين العروق وإبقائها لاعنفية. وفي كانون الثاني 1966
انتقل كنغ بأسرته إلى بيت حقير في شيكاغو
ليباشر احتجاجًا من أجل تحسين السَّكَن
والشروط الاقتصادية. وقد أغلق العمدة ديلي
مبنى البلدية، لكن كنغ، مثله كمثل سَمِيِّه
مارتن لوثر، سمَّر مطالبَه على الباب المغلق.
وأخيرًا، تجنُّبًا لمواجهة عنيفة، التقى
العمدة ديلي مع كنغ، ورئيس الأساقفة كودي،
والممثِّلين عن مجلس شيكاغو العقاري، وسلطة
إسكان شيكاغو، وزعماء الأعمال والصناعة،
والزعماء السود في شيكاغو، و"مؤتمر
الزعماء المسيحيين الجنوبيين". وقد
أُعلِنَ عن اتفاق مفتوح للإسكان في 26 آب، كما
وُضِعَ موضع التنفيذ برنامجُ "عملية سلة
الخبز" الذي وضعه "مؤتمر الزعماء
المسيحيين الجنوبيين" لمعالجة الفقر
والبطالة بإشراف جيسِّي جاكسون. أما كنغ فقد أهاب به
ضميرُه أن يتكلَّم مستنكِرًا حرب فييتنام،
على الرغم أن زعماء "مؤتمر الزعماء
المسيحيين الجنوبيين" طلبوا منه ألا
يتكلَّم كرئيس للمؤتمر بل كمواطن فرد. وقد
اعتبر الكثيرون من زعماء الحقوق المدنية
إدانتَه لسياسة جونسون الفييتنامية خطأً. غير
أن زوجته كوريتا، وأستاذه السابق هارولد دو
وولف، وأ. ج. موستِه، والسفير
في الأمم المتحدة آرثر غولدبرغ، أيَّدوه على
موقفه الشجاع. ففي كانون الثاني 1967، في لوس
أنجلس، أعلن: "لقد جُندِلَت الوعود
بالمجتمع العظيم في ميادين قتال فييتنام [...].
لا بدَّ لنا من الجمع بين حميَّة حركة الحقوق
المدنية وبين حركة السلام." وقد خطب في حملة
"الربيع للتعبئة" التي نظَّمها أ. ج.
موستِه. وفي جنيف دعا كنغ إلى تسوية تفاوضية
فورية للحرب "اللاأخلاقية". وفي كنيسة
ريفرسايد في نيويورك اقترح برنامج سلام من
أجل فييتنام من خمس نقاط: إنهاء كلِّ القصف؛
وقف لإطلاق النار من جانب واحد تحضيرًا
للتفاوُض؛ خفض الحشود العسكرية في جنوب شرق
آسيا قاطبة؛ اعتراف واقعي بجبهة التحرير
الوطنية؛ وانسحاب كافة القوات الأجنبية من
فييتنام عملاً باتفاق جنيف للعام 1954. لقد
اعتقد كنغ بأن العلَّة الأصلية لكلا الكراهية
العرقية والحرب هي الخوف، وأمِلَ أن التطبيق
الأوسع للمناهج اللاعنفية المستعمَلة في
حركة الحقوق المدنية سيكون من أجل السلام
العالمي. وتساءل: "هل نتحلَّى بالخُلُق
والشجاعة المطلوبين لكي نعيش معًا كأشقاء ولا
نخاف؟" فالحرب، على حدِّ قوله، دال
زمانُها؛ لكنه كان مدرِكًا للخطر وهو يرى
زعماء الأمم يستعدون للحرب وهم يتحدثون عن
السلام. فإذا أردنا للجنس البشري أن ينجو لا
بدَّ لنا من إيجاد بديل عن الحرب. وبما أن
الأسلحة الحديثة باتت مفجعة فقد اقترح "أن
توضَع فلسفةُ اللاعنف واستراتيجيتُه على
الفور موضع الدراسة والاختبار الجديين في
سائر حقول النزاع البشري، بدون استبعاد
العلاقات بين الأمم بأية حال من الأحوال".
كان مؤمنًا بأن في وسعنا إنهاء الحرب والعنف
مادمنا لا نرضخ للخوف من الأسلحة التي
اخترعناها. وقد أوصى بأن تنظر الأمم المتحدة
في استخدام العمل اللاعنفي المباشر كتطبيقٍ
للقوة المسالِمة؛ كما تنبَّأ بأن إنجاز نزع
السلاح والسلام يتوقف على إعادة تقويم روحية.
كذلك حذَّر من أن أمةً تُنفِق على الدفاع
العسكري من المال أكثر مما تُنفِق على
البرامج الاجتماعية أمةٌ سائرة نحو الموت
الروحي. ففي المآل ينبغي أن يكون ثمة أخوية
عالمية ناهضة على المحبة غير المشروطة لكلِّ
الناس. في
العام 1968 كان مارتن لوثر كنغ يحضِّر لـ"حملة
فقراء" جماهيرية من أجل كلا البيض والسود
عندما دُعِيَ إلى ممفيس للمساعدة في تنظيم
إضراب لعمال المرافق الصحية. وقد طالب ألفان
من المجتمعين في هيكل كليبورن بسماعه يخطب.
فأعلن تأييده لقضيَّتهم، لكنه سرعان ما
استطرد في الحديث عن تعرُّض حياته للتهديد.
وقد اعترف بأنه يودُّ أن يعيش حياة مديدة، لكن
اهتمامه الرئيسي كان العمل بمشيئة الله. كان
مسرورًا بالصعود إلى قمة الجبل ورؤيته "الأرض
الموعودة". وفي اليوم التالي، 4 نيسان 1968،
أُردِيَ مارتن لوثر كنغ الابن قتيلاً. وقد
كان، قبل شهرين، طلب تأبينًا بسيطًا، إذ قال: أودُّ أن يذكر أحدُهم يومئذٍ
بأن مارتن لوثر كنغ الابن حاول أن يضحِّي
بحياته خدمةً للآخرين. أودُّ أن يقول أحدُهم
يومئذٍ إن مارتن لوثر كنغ الابن حاول أن يحبَّ
أحدَهم. أريد أن يكون بمقدوركم القول يومئذٍ
إنني حاولت فعلاً إطعام الجياع. أريد أن يكون
بمقدوركم القول يومئذٍ إنني حاولت فعلاً في
حياتي أن أكسو العراة. أريدكم أن تقولوا
يومئذٍ إنني حاولت فعلاً في حياتي عيادة
المسجونين. وأريدكم أن تقولوا إنني حاولت أن
أحبَّ الإنسانية وأخدمها. *** *** *** § راجع نص المقالة في إصدار معابر
العاشر وتجديد حزيران 2003 من الإصدار
المستمر، باب "اللاعنف والمقاومة". (المحرِّر) ©
أي الذي يضم أعضاءً من السود والبيض على
حدٍّ سواء. (المحرِّر) ª راجع
النصَّ الكامل لخطاب "أنا عندي حلم" في
إصدار أيلول 2003 من معابر، باب "اللاعنف
والمقاومة". (المحرِّر) · لائحة وقَّعها الرئيس ف. د.
روزفلت إبان الحرب العالمية الثانية تضمن
للجنود الذين خدموا في القوات المسلحة
الأمريكية العودة إلى الحياة المدنية
وتتيح لهم الاستفادة من كافة فرص متابعة
التحصيل العلمي والعمل. (المحرِّر) ¨ جمعية سرِّية أسَّسها في القرن
التاسع عشر في مدينة ناشفيل (تينيسي) ضباطٌ
سابقون، بيض وبروتستانت، من جيش الجنوب
إبان الحرب الأهلية، بهدف القضاء على السود
واليهود وسائر الأقلِّيات. يذكِّر اسمها
الغريب بصوت تلقيم البندقية قبل إطلاقها. (المحرِّر) |
|
|