|
مدخل إلى الإيكولوجيا العميقة
الإيكولوجيا العميقة
طريقة جديدة للتفكير في علاقتنا مع الأرض –
والتفكير هو فاتحة للعمل. كلُّ مذهب فلسفي، في جملة أشياء أخرى،
منظومة فكرية تحكم مسلك الإنسان. لكن كلمة "فلسفة"
في الأصل اليوناني كانت تعني "محبة الحكمة"
– ونحن في حاجة إلى كلِّ ما نستطيع أن نحصِّله
من الحكمة لمواجهة تَبِعات التغيُّر المناخي
الكوكبي. وقد تطورتْ فلسفاتٌ عديدة جديدة
استجابةً للأزمة البيئية المتفاقمة؛ ومن بين
أكثرها أهمية مذهبٌ يُدعى "الإيكولوجيا
العميقة". وهو لا يدعو إلى أقل من إصلاح
شامل تام للطرق التي يعيش البشر وفقًا لها على
الأرض. الإيكولوجيا العميقة لا تعدم
النقَّاد ولا المنافسين. وهي، مثلها كمثل أية
طريقة جذرية الجِّدَّة في التفكير، تطرح
أسئلة أكثر ممَّا تجيب عن أسئلة. لكن بما أن
كلَّ تغيير كبير في اتجاه تاريخ البشرية
الحديث قد دعمتْه – أو أوْقَدَتْه – فلسفةٌ
جديدة، فإن ظهورها مبعث أمل كبير. مايكل إ. تسيمِّرمَن أستاذٌ للفلسفة
في جامعة تولين في نيو أورليانز؛ وقد عُيِّن
مؤخرًا عميدًا لقسمه. كتب الكثير في
التكنولوجيا والبيئة وأنهى مؤخرًا كتابًا
ثانيًا في فكر مارتِن هَيْدِغِّر. كما كتب
المقالات في الميثولوجيات المنحرفة التي
تروِّج لسباق التسلُّح والميثولوجيات
الجديدة التي ينبغي علينا إبداعها لإنجاز "شيء
غير الحرب". زار مايكل سياتل مؤخرًا لإلقاء
محاضرة حول الإيكولوجيا العميقة على أسماع
طلاب الفلسفة في جامعة سياتل. وقد انتهزتُ
الفرصة للتحدث إليه عن الإيكولوجيا العميقة،
عن علاقتها بالنسوية الإيكولوجية، عن لغز ما
بعد الحداثة، وكيف يمكن لمذهب فلسفي أن
يغيِّر العالم. أ. أ. *** ألان:
ما هي "الإيكولوجيا العميقة"؟ مايكل:
الإيكولوجيا العميقة حركة بيئية أطلقها في
العام 1972 الفيلسوف النرويجي آرني نيس. لم يكن
أول مَن تفتَّق عن الحلم بفكرة تغيير جذري في
علاقة الإنسانية بالطبيعة، لكنه هو الذي
نَحَتَ مصطلح "الإيكولوجيا العميقة"
وساعد على إعطائه أساسًا نظريًّا.
الإيكولوجيا العميقة تصف نفسها بـ"العمق"
لأنها تطرح أسئلة أعمق عن مكانة الحياة
الإنسانية – عمَّن نحن. تقوم
الإيكولوجيا العميقة على مبدأين أساسيين
اثنين: أحدهما هو تبصُّر علمي في تواشج
منظومات الحياة كافة على الأرض، إلى جانب
فكرة أن المركزية البشرية طريقة غير
موفَّقة في رؤية الأشياء. ويقول الإيكولوجيون
العميقون بأن موقفًا إيكومركزيًّا**
موقفٌ أكثر انسجامًا مع حقيقة طبيعة الحياة
على الأرض. إنهم، بدلاً من اعتبار البشر كشيء
فريد تمامًا أو من اصطفاء الله، يروننا كخيوط
لا تتجزأ من نسيج الحياة. إنهم يعتقدون أننا
في حاجة إلى صياغة وضعية أقل هيمنة وعدائية
نحو الأرض، إذا أردنا أن ننجو، وينجو الكوكب. والمكوِّن
الثاني للإيكولوجيا العميقة هو ما يسميه آرني
نيس حاجة الإنسان إلى التحقُّق الذاتي.
فبدلاً من التماهي مع أنيَّاتنا أو مع
عائلاتنا المباشرة، ينبغي علينا أن نتعلَّم
التماهي مع الشجر والحيوان والنبات، وبالفعل
مع النطاق الإيكولوجي ككل. وهذا ينطوي على
تغيير جذريٍّ فعلاً في الوعي، لكنْ من شأنه أن
يجعل سلوكنا أكثر انسجامًا مع ما يخبرنا
العلم بأنه ضروري من أجل حُسْن حال الحياة على
الأرض. أي أننا ينبغي أن نمتنع عن فعل أشياء
معينة تضرُّ بالكوكب، تمامًا مثلما تمتنع أنت
عن بتر إصبعك. ألان:
ما هي طبيعة العلاقة بين الإيكولوجيا
العميقة والنسوية الإيكولوجية؟ وهل بينهما
علاقة أصلاً؟ مايكل:
هناك العديد من النسويين الإيكولوجيين –
أناس مثل جوانا ميسي، على سبيل المثال – لا
يترددون في تسمية أنفسهم إيكولوجيين عميقين،
لكن هناك نسويات إيكولوجيات اعترضن على ذلك
اعتراضًا وجيهًا. إنهن يقلن بأن المشكلة
الحقيقية ليست في المركزية البشرية لكن في
المركزية الذكورية – مركزية الرجل. وهنَّ
يذهبن إلى أن 10000 سنة من الأبوية هي المسؤولة
في النهاية عن تدمير النطاق الحيوي واستشراء
الممارسات السلطوية، اجتماعيًّا وبيئيَّا. الإيكولوجيون
العميقون يقرُّون بأن الأبوية هي المسؤولة عن
الكثير من العنف ضدَّ النساء والطبيعة. لكن
الإيكولوجيين العميقين، فيما هم يعارضون قمع
النساء وينادون بعلاقات اجتماعية قائمة على
المساواة، يحذِّرون أيضًا من أن التخلص من
الأبوية لن يداوي المشكلة بالضرورة، لأن
بمقدورك أن تتصور مجتمعًا ذا علاقات اجتماعية
قائمة نوعًا ما على المساواة، لكن الطبيعة
فيه ما تزال تُستعمَل استعمالاً أداتيًّا. ألان:
ثم هناك لاعب ثالث كبير ظهر على الساحة: "الإيكولوجيا
الاجتماعية"، المسلَّحة بنقدها الخاص
للإيكولوجيا العميقة. مايكل:
صحيح. فالإيكولوجيا العميقة، بحسب
الإيكولوجي الاجتماعي موراي بوكتشِن، تخفق
في رؤية أن مشكلة الأزمة البيئية مرتبطة
مباشرة بالسلطوية والتراتبية. ويقول بوكتشِن
بأن تلك المشكلات هي المشكلات الحقيقية،
التي يُعبَّر عنها اجتماعيًّا وبيئيًّا في
آنٍ معًا. ألان:
وهكذا ينظر الإيكولوجيون الاجتماعيون إلى
مشكلات مثل انعدام المأوى [التشرُّد]
بوصفها نتيجة للآليات عينها التي تسبِّب
اجتياح الغابة المطيرة؟ مايكل:
وكذلك العرقية، والذكورية، واستغلال العالم
الثالث، وسوء معاملة المجموعات المهمَّشة –
هذه كلها، في نظرهم، ظواهر تنتمي إلى الطيف
نفسه. ففي ظنِّهم أن عدم اعتراف الإيكولوجيين
العميقين بالجذور الاجتماعية للأزمة البيئية
يعرِّضهم لتهمة التصوف الطبيعي. يذهب
الإيكولوجيون الاجتماعيون إلى أننا في حاجة
إلى تغيير بنيتنا الاجتماعية، وبأن
القضاء على السلطوية والتراتبية في المجتمع
الإنساني كفيل بإنهاء الأزمة البيئية. ويردُّ
الإيكولوجيون العميقون بأنه ما من يقين بأن
ذلك هو ما سيحدث. فكذلك الأمر، في وسعك أن
تتخيل حالة تزول فيها التراتبية الاجتماعية،
ومع ذلك يسيطر مجتمعُ المساواة الجديد على
الطبيعة بنفس القدر من السوء. فبؤرة المشكلة
هي أن المركزية البشرية يمكنها أن تتخذ
أشكالاً مختلفة. ألان:
فما هو، إذن، برنامجهم السياسي؟ ماذا يريد
الإيكولوجيون العميقون – عمليًّا؟ مايكل:
سؤالك هام، لأنني لا أعتقد أن أحدًا يعرف ما
هو الإطار السياسي الأمثل لهذه الطريقة
الجديدة في التفكير. إيديولوجيات اليسار
واليمين القديمة قطعًا مفلسة تمامًا من حيث
مقدرتها على التصدِّي لهذه القضايا. لقد
تذرَّع النقَّاد بكون بعض الإيكولوجيين
العميقين، في مناسبة واحدة أو اثنتين، دعوا
إلى اتخاذ إجراءات شديدة القسوة لإنقاذ
الكوكب من الدمار على أيدي البشر. والخطر الذي
يتخوَّف منه الإيكولوجيون الاجتماعيون
وغيرهم هو في أن ما يرمي إليه الإيكولوجيون
العميقون أولاء سوف يتحول إلى نوع جديد من
التوتاليتارية أو "الفاشية الإيكولوجية"
– وبعبارة أخرى، إلى نمط ما من الحكومة
العالمية لن تتورع عن إرغام الناس على تغيير
ممارساتهم الاجتماعية وعن التحكُّم في
سلوكهم تحكُّمًا تامًّا من أجل أن تجعله
منسجمًا مع متطلبات النطاق الحيوي. لكن
غالبية الإيكولوجيين العميقين يتكلَّمون على
الحاجة إلى اللامركزية، إلى المناطق
الحيوية، إلى تقويض النزوع الشمولي للتصنيع،
إلى القضاء على السلطوية، وإلى تكوين
مجتمع أكثر تبعُّضًا بكثير، تسودُه علاقات من
نوع جديد. وهذا يبدو أقرب بكثير إلى حقيقة
الإيكولوجيا العميقة، ولا شيء منه يبدو
منسجمًا مع إمكانية التوتاليتارية. ألان:
إن كونك تحاضر في الإيكولوجيا العميقة يشير
إلى أنها قد تسرَّبت، إلى حدٍّ ما، إلى مجرى
العالم الأكاديمي المعترَف به. فكيف تفسِّر
ذلك؟ مايكل:
أفسِّره بأن العالم الأكاديمي العصري قد
تولاَّه أناس نشأوا في الستينيات؛ والعديد من
هؤلاء الناس قد توصلوا الآن إلى صوغ اللغة
والتبصُّرات النظرية الكفيلة بجلب
انتقاداتهم للعنصرية، والذكورية،
والتصنيعية، والسلطوية، وغيرها من المذاهب،
إلى ساحة السوق الأكاديمية. وهم يستفيدون من
كتابات ميشيل فوكو وجاك درِّيدا ومارتِن
هَيْدِغِّر ومنظِّرين آخرين لما بعد الحداثة
ممَّن توفَّروا على نقد التاريخ الغربي
برمَّته، منذ أفلاطون، بوصفه سلسلة من
التحايلات المستترة للسلطة. والكابوس
الإيكولوجي ما هو، افتراضًا، إلا مجرَّد
الظهور الأحدث لعواقب تحايلات السلطة تلك. ألان:
ما هو تعريف "ما بعد الحداثة" بإيجاز؟ مايكل:
ما بعد الحداثة ظاهرة مركَّبة. إنه حركة تفتش
عن بدائل لمقولات الحداثة الأساسية،
السياسية، والاجتماعية، والإبستمولوجية،
والميتافيزيائية، والعلمية، والجنسية
التوجُّه. فما هي "الحداثة"، والحالة
هذه؟ لعلك تستطيع القول بأنها التنوير
وعواقبه. إنها التأكيد على تصوُّر عالمي
لمعنى الإنسانية؛ وهذا التصوُّر يُتبيَّن أن
له خصائص الرجال المثقفين الأوروبيين البيض
عينها. ما
بعد الحداثة، إذن، يرفض هذا التصوُّر. إنه
يرفض الاعتقاد بأن هناك نوعًا واحدًا وحسب من
العقلانية، يُسمَّى العقلانية "التحليلية
العلمية". إنه يرفض المركزية البشرية إلى
حدٍّ ما، ويرفض المركزية القومية قطعًا،
مثلما يرفض الذكورية والأبوية. إنه يرفض
الاعتقاد بأننا نملك الأسُس المطلقة لكلا
ادِّعاءاتنا العملية والسياسية. ما بعد
الحداثة يتناول العالم الذي عشنا فيه منذ
الستينيات، حيث تمَّ التشكيك في السلطة بكافة
أنواعها. ألان:
في الثقافة الشعبية، حيث يُتداوَل المصطلح
بلا تروٍّ وبالكثير من العنجهية، يبدو أنه
يشير أيضًا إلى التعددية وإلى نبذ النموذج
الخطِّي عن الزمن والتقدُّم. مايكل:
بالضبط. استمعت لتوِّي إلى محاضرة لدانييل
دينِّت، مؤلِّف عواصف في المخ والوقفة
العالمية. إنه فيلسوف معاصر ذائع الصيت،
وقد قال إن علماء الفسيولوجيا العصبية
يتعلَّمون التأقلم مع إمكانية عدم وجود "وحدة
معالجة مركزية" في المخ تتحكم في كلِّ شيء
وتُفَلْتِرُه، في مقابل وجود متواليات زمنية
موازية تجري فيه. فعلى سبيل المثال، عندما ترى
حلمًا ينتهي مختلِطًا بصوت منبِّه الساعة،
كيف يحدث ذلك؟ قد يكون أن صوت منبِّه الساعة
يُطلِق متوالية حلمية معكوسة، لكننا نعيد
ترتيبها في وعينا بحيث نحلم بها في الاتجاه
الصحيح. بالتالي،
يلوح لي هذا كمثال آخر يوازي فيه الاكتشافُ
العلمي تغيُّراتٍ في النظرتين السياسية
والاجتماعية. فمن الممكن أن يكون للمخ العديد
من المراكز المختلفة التي تتفاعل – والمحصلة ناجحة.
وهكذا يمكننا أن نتصور مجتمعًا لامركزيًّا
على النحو نفسه، ويمكنه أن ينجح. ولا حاجة لنا
إلى القلق بخصوص تماسك أجزائه بفضل منظومة
تحكُّم مركزية شاملة. من
أفكار ما بعد الحداثة الهامة الأخرى فكرة أن
الحداثة تنتظمُها سرديات أو "ميتاسرديات"
شمولية، من نحو "انتصار البروليتاريا"
أو "فتح الإنسان للطبيعة". وهذه السرديات
تدَّعي العالمية والموضوعية، لكنها، في
الواقع، تعبِّر عن نوع من المنظور
الإيديولوجي والموجَّه نحو السلطة الذي لا
بدَّ من تفكيكه والفحص عنه. ألان:
هذا يلوح لي أكثر فأكثر وكأنه تشريح لنقلة
في الوعي. وأنت تعرف مدى جدِّيته من كونه قد
اخترق الجامعة حتى. مايكل:
لكن العديد من هؤلاء القوم في الجامعة لم
يتعدُّوا بعدُ مستوى النقد. فمن الأصعب عليهم
بكثير صياغة رؤية، أو قول ما يريدون أن يكون
عليه العالمُ، ربما لأنهم يخشون من الخروج
بخطاب شمولي جديد. كذلك فإن نماذج الدور لم
تصل بعدُ إلى العالم الأكاديمي. لم يقل فوكو
ودرِّيدا وسواهما أشياء إيجابية كثيرة عن
المستقبل. لكن
ذلك بدأ يتغير. إن "المركز من أجل عالم بعد
حداثي"، مجموعة رِيْ غريفِّن في
كاليفورنيا، خطوة في ذلك الاتجاه الإيجابي. ألان:
كيف يمكن لتسرُّب هذه الأنواع من
الاختراقات في الفلسفة وغيرها من الاختصاصات
الأكاديمية إلى المجتمع أن يحرِّض تغييرًا
اجتماعيًّا فعليًّا؟ مايكل:
سؤالك جيد جدًّا، لكني مضطر إلى تقديم إجابة
مؤسفة. أعتقد بأن الفلسفة قد عقَّمتْ نفسها
اجتماعيًّا. لا أحد يبالي اليوم بما يقوله
الفلاسفة. بيد أن هذا لم يكن صحيحًا قبل الحرب
العالمية الثانية؛ إذ كان لديوي وبراغماتيين
أمريكيين آخرين وَقْعٌ هائل على التربية
الأمريكية والتنظير الاجتماعي. ولكن بعد
الحرب، نأى الفلاسفة بمسائلهم وأبحاثهم عن
اهتمامات الجهور العريض، نظرًا لانصرافهم
إلى الفلسفة التحليلية والإبستمولوجيا. ولقد
انخرطوا في تنظير أضيق بكثير حول مقولات
الثقافة ومسلَّماتها، وأضحى تنظيرُهم من
الندرة بحيث إنهم أخرجوا أنفسهم من الحلبة. ألان:
لكننا نرى الآن فلاسفة إيكولوجيين عميقين
وغيرهم يضخُّون فعلاً طاقة في حركات
اجتماعية، مثل "الخضر" وجماعة "الأرض
أولاً!". مايكل:
صحيح. لكن هذه التغييرات تحدث محيطيًّا. عندما
كتب بيتر سنغر في أواسط السبعينيات كتابه
الشهير تحرير الحيوان فإنه، بحكم منزلته
كفيلسوف، أعطى مشروعيةً لمجال خطاب يُدعى "حقوق
الحيوان". وقد تبرعم هذا الآن عن كمٍّ هائل
من الكتابات في المجلات المتخصصة في الأخلاق
حول الاعتبارية المعنوية للكائنات غير
البشرية – الأمر الذي لم يكن موجودًا فيما
سبق. وذلك كان الإسفين الذي فلق باب المركزية
البشرية مفتوحًا. والنسوية وحركة الحقوق
المدنية فلقت كذلك الباب مفتوحًا، لأنهما
كشفتا أن منظوماتنا الأخلاقية وافتراضاتنا
حول الذاتية كانت ضيقة نوعًا ما وفي حاجة إلى
توسيع. والإيكولوجيا العميقة الآن قادرة على
مهاجمة المركزية البشرية مهاجمةً أكثر
مباشرة. ألان:
هناك نقد كثيرًا ما أسمعه مفاده أن
الإيكولوجيين العميقين يريدون أن يعودوا إلى
أسلوب معيشة مقيَّد تمامًا بإيقاعات الأرض؛
لكننا بلغنا من الإخلال بتلك الإيقاعات حدًّا
لم نعد معه نستطيع حتى التفكير في التراجُع.
فالتقهقر إلى حالة ما قبل تكنولوجية من شأنه
في الواقع أن يقضي على الأرض بالدمار، في حين
أن ما نحتاج إليه الآن هو المزيد من الالتزام
بمحاولة إصلاح الضرر. فكيف يجيب عن ذلك
إيكولوجي عميق؟ مايكل:
أظن أن مشاعر الإيكولوجيين العميقين مشوَّشة
بهذا الخصوص؛ لكني أميل إلى الاتفاق مع ذلك
النقد. فعلى سبيل المثال، إذا أوقفنا تنميتنا
عند المستوى الراهن فالكارثة واقعة لا محالة،
لأن مناهجنا الإنتاجية هي من القذارة وعدم
الفعالية والتدمير، بحيث إننا إذا دأبْنا
عليها سنتعرض لخطر داهم. يقول
بعض الإيكولوجيين العميقين إنه سيكون من
الأنفع لو أنه اتفق للعالم الصناعي برمَّته
أن ينهار، على الرغم من كلِّ الشقاء الإنساني
الذي سينجم عن ذلك. فإذا اتفق لشيء كهذا أن
يحصل، على حدِّ اقتراح بعضهم، فلن نستطيع أن
نحيي التصنيع من جديد لأن المواد الأولية لم
تعد سهلة المنال. أرجو ألا يحصل هذا؛
لكنه، مع ذلك، قد يحصل. ويقول
الإيكولوجيون الاجتماعيون، بهذا الصدد، إن
الإيكولوجيين العميقين يغازلون الفاشية
عندما يتكلَّمون على عودة إلى منظومة
اجتماعية "عضوية"، "متآلِفة مع
الطبيعة". وهم يلحظون أن المفكرين الرجعيين
كثيرًا ما يقابلون بين أسلوب المعيشة "الطبيعي"
المفترَض – الذي يعني، في نظرهم، الدارونية
الاجتماعية والمنظومات الاجتماعية السلطوية
– وبين "العصرية"، التي تعني، في عبارة
سياسية، الحركات الاجتماعية التقدمية،
كالليبرالية والماركسية. لكن الإيكولوجيين
العميقين مدركون لهذا الخطر؛ وهم يدعون لا
إلى النكوص إلى السلطوية الجماعية، بل إلى تطوير
كيفية إدراك لا تستجيب للسلطوية، مهما كان
نوعها. أعتقد،
إذن، أن الشيء الوحيد الذي يمكننا القيام به
هو المضيُّ قُدُمًا. نحن في حاجة إلى تنمية
كفاءتنا ومناهجنا الإنتاجية بحيث نتمكَّن من
تخفيف بعض الضغط عن البيئة. ينبغي علينا كذلك
أن ننمِّي المزيد من الثروة من أجل البلدان
المكتظة سكَّانيًّا، بحيث ينخفض عدد سكانها. ألان:
وهل سيتم هذا في الوقت المناسب؟ مايكل:
في الوقت المناسب لأيِّ شيء؟ قد يتم في الوقت
المناسب، على سبيل المثال، لإنقاذ سيادة
أمريكا كقوة صناعية! قد تحدث أشياء كثيرة
مروِّعة في العشرين سنة القادمة، وقد تحدث
تشظِّيات سياسية هائلة. التسعينيات ستكون
عجيبة حقًّا بسبب التفكير الألفاني مع اقتراب
العام 2000. وبعض الناس سيتزايد رعبُهم مع تفاقم
إشكاليات الأحداث الاقتصادية والسياسية
والطبيعية. وقد تتشكَّل حركات جماهيرية
عديدة، بعضها نكوصي ورجعي. لكن ربما تكون هذه
هي الأنفاس الأخيرة لطريقة وجود قديمة. فهكذا
ينظر بعض الناس إلى ريغان، بوصفه الموقف
الأخير لإيديولوجيا محتضرة. ألان:
فهل ستكون الإيديولوجيا الجديدة هي
الإيكولوجيا العميقة؟ مايكل:
مَن يدري؟ تزعم الإيكولوجيا العميقة بأننا في
حاجة إلى تَمَاهٍ أوسع مع الطبيعة. لكننا
لماذا نأمل حتى بمثل هذا التحوُّل؟ إن الأمل
به يعني الإيمان بإمكانية التطور الإنساني؛
وهذه النقطة، على ما أظن، هي التي تتقاطع فيها
الإيكولوجيا العميقة مع التنوير ومع
الإيكولوجيا الاجتماعية. على
الرغم من كلِّ إشكالياته، ينطوي التنوير على
بُعدٍ تحرُّري، هو جزء من التجربة الأمريكية؛
وأعتقد أن البيئيين الأمريكيين في حاجة إلى
النقر على هذا الوتر. لا حاجة لنا إلى نبذ
العلم والتنوير والقيم السياسية الأمريكية،
بل نحن في حاجة إلى فهم أعمق لماهية جذور هذه
القيم. إن مثال الحرية فكرة جذرية الأهمية
في التاريخ الإنساني. وفكرة أن كلَّ شخص فردٍ
يستحق الاحترام، يستحق حُسْنَ المُعامَلة،
يستحق التكريم، لا يجوز استعباده، لا يجوز
استغلاله – هذه أفكار خارقة الجِّدَّة في
التاريخ الإنساني. وهذه الأفكار ينبغي صونُها
إذا ما أردنا أن نخطو المزيد من الخطوات. فنحن
لا نقدر أن نتوقع مبتهجين مُعامَلةَ العالم
الطبيعي مُعامَلةً لائقة إذا كنَّا لا
نُعامِل البشر الآخرين حتى مُعامَلةً لائقة. علينا
أن ننهي مهمة التحرُّر الإنساني –
والإيكولوجيا الاجتماعية على حقٍّ في هذا –
في نفس الوقت الذي ينبغي علينا فيه أن نتصدَّى
لمشكلة الهيمنة على الطبيعة. لسنا نستطيع أن
نعتني بالبيئة، والناسُ في السودان أو
نيكاراغوا يكابدون ممارسات إمبريالية، شرقية
أو غربية. كلُّ الأمور متَّصلٌ بعضُها ببعض.
والإيكولوجيا العميقة لم تفصح عن هذه النظرة
إفصاحًا جيدًا لأنها تخشى أن نرتدَّ إلى
المركزية البشرية. لكن
الإنسانية هي الأخرى جزء من الطبيعة، وتنمية
إدراكنا وحريتنا الإنسانية خطوة هامة باتجاه
إنهاء الأزمة البيئية. ما أودُّ قوله هو أن
الإيكولوجيا العميقة جزء من حركة تحررية
عظيمة بلغت أوْجَها في التنوير وتحاول الآن
أن تخطو فيما يتعدَّى محدودية التنوير.
فالأمر لم يعد يقتصر فقط على تحرير الرجال
البيض من سيطرة المَلِك، ولا على تحرير
النساء أو السود. الأمر عبارة عن تحرير
الكائنات جميعًا من كافة أنواع السيطرة
والاستغلال التي لم يعد لها من مسوِّغ. ألان:
هناك عدد من مدارس العلاج النفسي تقول ما
مفاده بأن عليك أن تحبَّ نفسك أولاً. عليك أن
تبني احترام النفس في الفرد أولاً قبل أن تهتم
للتصدِّي لعلاقة الفرد بالآخرين. ومع ذلك
هناك عنصر من الاشمئزاز الذاتي البشري
تتخلَّل بعض مظاهر الإيكولوجيا العميقة
تصدمني بوصفها غير صحية. مايكل:
تلك نقطة هامة، لأن الناس يجنحون إلى تناسي
أننا – أجسامنا – من الطبيعة. والطريقة التي
نقهر بها أجسامنا ومشاعرنا تنعكس، فيما
أظنُّ، في تَعامُلنا مع شتى مظاهر الحياة
الأخرى. بعض التصريحات من جماعة "الأرض
أولاً!" تترك لديك انطباعًا بأن الجنس
البشري برمَّته معوجٌّ؛ لكني، ههنا أيضًا،
أعتقد أن هذا يقتصر على أقلية. يقول وارويك
فوكس – وهو منظِّر إيكولوجي عميق من
أوستراليا – إننا يجب أن نميِّز بين بغض
الإنسان وبين مكافحة المركزية البشرية.
هنالك فرق بين قولنا إننا نريد أن نتخلَّص من
الكائنات البشرية عن بكرة أبيهم وبين قولنا
بأن البشر ليسوا أهمَّ الأجناس على الكوكب. ألان:
إحساسي هو أن هذه النظرات البيئية
المتنافسة تقف جميعًا على متن القارب نفسه،
ولا تفعل سوى السِّجال حول أيِّ جانب من
القارب يجب الجلوس عليه. مايكل:
إن البارانويا التي نحن مبتلون بها وعقلية
"أنا على حق وأنت على باطل" تنعكسان في
الحجج التي تسمعها بين الإيكولوجيين
العميقين والإيكولوجيين الاجتماعيين
والنسويين الإيكولوجيين وغيرهم كثير. نحن لم
نتحوَّل بعدُ حقًّا. نودُّ ذلك، لكن سلوكنا
يبيِّن أننا لسنا متحوِّلين. إننا نتلمس
طريقة بديلة في النقاش. مازالت
الطريقُ أمامنا طويلة، ولست يائسًا من ذلك.
منذ بضعة أيام شاهدت برنامجًا تلفزيونيًّا
حول حرق الغابة المطيرة الأمازونية، وشعرت
بالهلع. انتابني جزعٌ وشعرت بذلك الحزن
الرهيب، بإحساس بفقدان لا يُعوَّض. قلت لنفسي:
لا بدَّ أن هذا ما يشعر به طفلٌ عندما يشهد هدم
بيته. الكوكب الذي نشأنا عليه خاضع للتغيير.
إنه ضياع حقيقي لنا وللأجناس الأخرى التي
تُباد. ومع ذلك، مَن يدري معنى ذلك؟ 95% من
الأجناس التي سبق لها أن عاشت منقرضةٌ الآن.
لماذا؟ التطور ليس عاطفيًّا – إنه يفعل ما
يفعل. أودُّ
أن أوقف إحراق الغابة المطيرة الآن توًّا،
لكن هذا لن يحدث. بعضها سوف ينجو؛ لكنْ هل تدري
أننا قطعنا غابة كانت ممتدة من نيويورك إلى
نهر الميسيسيبي ومن ساحل الخليج إلى كندا في
غضون قرن أو اثنين وحسب؟ ونحن لا نفتقدها
لأننا لم نرها قط. نشاهد الغابة المطيرة
البرازيلية تحترق ونفتقدها، لأن في ذلك خطرًا
علينا – هناك الكثير من المصلحة الذاتية في
اهتمامنا بالأمر. أحاول
أكثر فأكثر الاعتراف بالحداد الذي أقيمه
وأقول: "لا أعرف ما تعنيه هذا الأزمة
البيئية حقًّا. لا حيلة لي فيها، لا طاقة لي
على إيقافها، ولا أدري إلى أين تتجه." وفي
الوقت نفسه أفعل ما في وسعي، محاوِلاً تنمية
الإدراك، والممارسات الاقتصادية والسياسية،
والمواقف الجديدة، إلى ما هنالك، التي يمكنها
أن تسهم في الحفاظ على النطاق الحيوي. هذا
مقدار ما أستطيع أن آمله. أدين
بما يمكن أن تسمية الكاثوليكية الرومانية
البوذية؛ وفي القداس أسمع الكاهن يتكلَّم
الآن عن الحاجة إلى شفاء علاقتنا مع الأرض.
فكرة الخلاص الشخصي – أي أنني يمكن أن أخلص
لكن بقية الخلق لا يمكنهم – لم تعد قابلة
للتفهُّم. لذا تراني أيضًا مفعمًا بالأمل
بأنه، مع تفاقُم أزمتنا، سوف يظهر لاهوت
يهودي–مسيحي بديل، متاح للناس – لاهوت يطالب
بالتشديد على الحياة، بالعناية بالأرض،
وبالحرص على اعتبار الكائنات الحية قاطبة
شقيقات لنا وأشقاء. *** *** *** أجرى
اللقاء: ألان أتكِسُّون ترجمة:
ديمتري أفييرينوس |
|
|