انتقلنا
في الفصل السابق، إنما دون مرحلة انتقالية، من نقد نسخة قوية للواقعية
العلمية إلى اعتماد وجهة نظر تجاوزية حول العلوم الفيزيائية. ولكن ألا
توجد ربما مع ذلك طريقة للحفاظ على شكل معدَّل أو مُلطَّف للواقعية
العلمية بمواجهة التحدي الذي يطرحه الميكانيك الكمومي؟ اقترح إحدى هذه
الطرق، وهي طريقة دقيقة وهامة، برنار دسبانيا تحت تسمية "أطروحة الواقع
المحجوب". وهذه الأطروحة هي التي سوف نناقشها الآن في هذا الفصل وفي
الفصل الذي يليه، بمواجهتها مع مقاربات منافسة أخرى. وسوف نتساءل خلال
هذه المناقشة إذا كان التوتر الذي شعر به دسبانيا بين تصوُّر واقع
مستقل، وهو مصدر القيود التي نصادفها خلال صيرورة البحث، والاستحالة
المؤكدة في نظره في وصف هذا الواقع المستقلِّ بواسطة نظرية فيزيائية،
لا يمكن أن يعبَّر عنه بشكل أفضل في إطار فكر غير ثنائي بالكامل ومتأصل
بدلًا من الحفاظ على التشبيه الثنائي لـ "حجاب" يفصل الباحثين عن واقع
تجاوزي بشكل جذري. إن العديد من السمات المميزة للميكانيك الكمومي،
التي يذكرها دسبانيا دعمًا لأطروحته، تُفسَّر بسهولة أكبر من خلال قرب
من الواقع لا يمكن تخطِّيه، وذلك عبر استحالة أن نعمِّم في هذا القرب
الانفصالية التي تجعل الأمر موضوعيًا على كافة المستويات وفي كافة
مجالات البحث، إلا من خلال ابتعادها المفرط. سوف نحاول أن نبيِّن، دون
أن نتوسع هنا لأجل التوسع بموضوع "القرب المعمي من الواقع" هذا (لن
نقوم بخطوة أولى في هذا الاتجاه إلا في الفصل السابع)، أنه مندرج بشكل
غير ظاهر في التسويات التي رضي بها أشد المدافعين عن الواقعية العلمية
في الفيزياء المعاصرة.
قد
يريح الناس تصور الكون كآلة والجسم كمحرك والطبيعة كبناء هندسي منجز،
لكن تاريخ العلم يعلمنا أننا جزء من الكون لا الكون جزء منا. فلماذا
يجب أن يكون الكون مصنوعًا فقط من المكونات التي دوزنت عيوننا لرؤيتها
بمساعدة آلاتنا؟ ولماذا يجب أن يكون الكون بسبب تلك المادة مفهومًا لنا
بأية حال؟ هل نحن نقوم فقط بملء الثغرات في نظريتنا الناقصة مدفوعين
بإيماننا بقدرة الدماغ إلى النظر إلى جوهر الخلق؟ وهل الكواركات
والمادة المظلمة هي مكتشفات أم اختراعات، مصنوعات جوع دماغنا إلى
التناسق؟ وهل العالم عقلاني وإذا كان الأمر كذلك فما مدى عقلانيته؟