english Arabic

مرثاة للينين٭

                 

كارل كاوتسكي

الرفيق العزيز سولسكي! لستُ الآن في برلين إنما في ڤيينا. وبالتالي، لم تصلني رسالتك إلا اليوم. ما يعني أني لم أكن في وضع يسمح لي بتلبية دعوتك في الوقت المناسب. وأنا آسف جدًا لهذا الأمر، لأنه كان بودي أن أنضم إلى أولئك الذين يكرِّمون ذكرى القائد الراحل للثورة البروليتارية. ربما كانت لدي تحفظات جدِّية على الطرائق السياسية والاقتصادية التي اتبعها لينين في السنوات الأخيرة من حياته، ربما كان قد أساء إليَّ بعمق شخصيًا، بسبب الخلافات التي كانت بيننا، كما أني تأثرت جدًا لاضطهاده لعناصر إشتراكية، بمن فيهم أناس من حلقته المقربة ويخالفونه الرأي؛ لكن، في لحظة الموت، يصبح من واجب المرء أن يقوِّم الإنسان بكلِّيته، وليس فقط أن يقوِّم بضع سنوات من حياته، وليس فقط بعض جوانب أفعاله؛ وأن يضع جانبًا أحقاده الشخصية؛ فخلافاتنا لا يفترض أن تحجب عن أنظارنا أهمية وفاته.

لقد كان شخصية جبارة. شخصية من تلك التي لا نجد إلا القليل من أشباهها في التاريخ. ومن بين حكَّام عصرنا، هناك واحد فقط يمكن أن يضاهيه من حيث الأثر الذي تركه، ألا وهو بيسمارك – فقد كان للاثنان الكثير من الصفات المشتركة. لكن أهدافهما كانت طبعًا متعارضة: فهدف الأول كان ترسيخ سيطرة سلالة هوهينزوليرن على ألمانيا؛ بينما هدف لينين، في المقابل، كان الثورة البروليتارية. وهذا يشبه التناقض بين الماء والنار. فالهدف الذي كان يسعى إليه بيسمارك كان صغيرًا، بينما كان هدف لينين كبيرًا جدًا.

لكن لينين، كالمستشار الفولاذي، كان من أكثر الرجال عنادًا، وتصميمًا، وجرأة. ومثله أيضًا، تفهم بشكل جيد جدًا أهمية القوة المسلحة في السياسة وإمكانية استخدامها من دون أية رحمة في اللحظة الحاسمة. وحين قال بيسمارك إن المشاكل الكبرى لعصرنا يجب أن تحلَّ بالدم والفولاذ، كان لينين يشاطره هذا الرأي.

وطبعًا، لم يكن أيٌّ منهما يعتقد بأن الدم والفولاذ كافيان لوحدهما. فقد كان لينين، كبيسمارك، معلِّمًا في الديبلوماسية، التي هي فنُّ خداع الخصم، ومفاجأته واكتشاف نقاط ضعفه، من أجل إسقاطه. وتمامًا كبيسمارك، كان لينين، حين يتبين بأن الطريق التي كان يسلكها لا توصله إلى الهدف، مستعدًا لأن يغير هذه الطريق تمامًا وأن يتخذ منحى آخر؛ فبالسهولة نفسها التي حوَّل فيها بيسمارك، عام 1878، سياسته الاقتصادية من الليبرالية إلى نظام حماية اقتصادية، حوَّل لينين سياسته الاقتصادية من شيوعية الحرب إلى النيپ (السياسة الاقتصادية الجديدة).

لكن، بالطبع، كان من البديهي، كما سبق وأشرت، أن تكون هناك فروقات بين الاثنين بالإضافة إلى نقاط الالتقاء بينهما، وهذه الفروقات لم تكن ثانوية، لأنه كان لها علاقة بالغايات التي كانا يسعيان من أجلها. فلينين كان متفوقًا جدًا على بيسمارك في فهمه للنظرية التي درسها بكلِّ حماس، كما أنه لم تكن لديه أية أهداف منفعية خاصة. أما بيسمارك فلم يكن لديه الوقت للدراسة النظرية واستخدم تحكمه بسلطة الدولة من أجل غايات شخصية.

وأيضًا، يتخلف لينين عن بيسمارك في معرفته بالبلدان الأجنبية. فبيسمارك كان يدرس أوضاع الدول الأجنبية بعناية. يدرس قوتها ودرجة علاقته بها، وكيف يجب أن يتعامل معها. بينما لم يكن لدى لينين، في المقابل، ورغم أنه عاش لعقود كلاجئ في أوروبا الغربية، فهم كاف بسياسات تلك الدول وبالأوضاع الاجتماعية فيها. بالتالي، فإن سياسته التي كانت منسجمة تمامًا مع متطلبات الأوضاع الخاصة بروسيا، كانت، فيما يتعلق بالبلدان الأجنبية، تستند إلى فرضية توقع حدوث ثورة عالمية، وهو توقع كان واضحًا منذ البداية، وبالنسبة لأي شخص يعرف أوروبا الغربية بشكل جيد، أنه ضرب من ضروب الخيال. وهذا يحدد الفارق الكبير بين بيسمارك وبين لينين. فالأول بنى سلطته على نجاحات سياسته الخارجية، بينما بناها الآخر على نجاحات سياسته الداخلية. والسبب في هذا لا يعود فقط إلى التفاوت في المقدرات الخاصة بين الرجلين إنما أيضًا إلى الاختلاف في البيئة التي كانا يعملان فيها.

فبيسمارك وصل إلى السلطة في بلد استيقظت فيه الجماهير على حياة سياسية نشطة من خلال الثورة الفرنسية والحروب النابوليونية، ثم من خلال ثورة 1848. ما يعني أن فرض إرادته الكاملة على هذه الجماهير وإلغاء حرِّية تفكيرها كان مهمةً شبه مستحيلة. وقد فشل بيسمارك بالكامل في تحقيق هذه المهمة. في المقابل، وصل لينين إلى السلطة من خلال جماهير مضطربة إلى الحدِّ الأقصى بسبب الحرب، لكنها، في المقابل، لم تكن قد جرَّبت بعد ممارسة التفكير الحرِّ وإسقاطاته على الأجيال القادمة؛ وهكذا بعد تراجع الاضطراب، خضعت هذه الجماهير، ومن دون أية صعوبة، لقوة شخصية لينين المتميزة، ولرفاقه.

وهنا تكمن الجذور العميقة للنجاح الكبير للينين. ومن هنا أيضًا، بدأت تحفظاتي المتعلقة بنظامه. لأن تحرير البروليتاريا يعني، قبل كلِّ شيء، حرِّيتها في التفكير وفي العمل. وقد كانت هناك بدايات واعدة كثيرة لهذا الاتجاه في روسيا قبيل ثورة 1917. وقد باشر لينين في البداية بإعطاء الحرِّية الكاملة للبروليتاريا، إلا أن النتائج السياسية والاقتصادية لطرائقه أجبرته على تقليص هذه الحرِّية. وهذا أمر لن أخوض فيه في هذه المناسبة لأني إن فعلت أكون قد تجاوزت حدود الرثاء ودخلت في مجال الجدل.

وأسجل في الوقت نفسه أني، وعلى الرغم من تحفظاتي حول طرائق لينين، لم أيأس البتة من وضع الثورة الروسية. حيث يبدو من وجهة نظري، أنه من الممكن أن يكون لينين قد قاد البروليتاريا الروسية إلى النصر، لكنه لم يكن قادرًا على جعلها تقطف ثمار هذا النصر. ففي هذا المجال، لم تنته الثورة الروسية بعد. وهي لن تذهب إلى القبر مع لينين.

ففي روسيا أيضًا ستصبح مقبولةً تطلعات الجماهير الكادحة إلى الحرِّية. عندئذٍ، ستثمر كلُّ تلك الثمار التي حملتها الثورة الروسية.

عندئذٍ، ومع كلِّ الشغيلة في روسيا، وكلِّ الشغيلة في العالم، ومن دون أي انقسام في الحركة، سنتذكر بامتنان كبير الرواد العظام لهذه الثورة، أولئك الذين خلال عقود كاملة من النضال والمحن هيأوا لها في روسيا وقادوها إلى النصر. وبالتالي، حتى بالنسبة لمن يعارضون الحزب الشيوعي اليوم، لن يغيب اسم لينين عن ذلك البانتيون.

لكني قد لا أرى هذه الحالة، التي نرى فيها كلَّ الجماهير الكادحة في العالم تمجد معًا أبطالها الذين سقطوا وتعمل معًا من أجل بناء مجتمع اشتراكي، قبل أن ألحق بلينين إلى ذلك العالم الذي غادرنا هو إليه، والذي لم يعد منه أحد.

ڤيينا، 28 كانون الثاني 1924

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ بعيد وفاة لينين في 21 كانون الثاني 1924، اتصل مراسل صحيفة الإيزفيستيا في برلين سولسكي بكارل كاوتسكي، ودعاه لأن يساهم بمقالة من أجل ذكرى لينين. وبدون شك، تفاجأ كاوتسكي الذي كان أحد المعارضين الكبار للنظام البلشفي – الذي هاجمه لينين بقسوة في كتابه الشهير الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي –، ومنظر الحركة الاشتراكية الديموقراطية الألمانية بهذه الدعوة. إلا أنه استجاب لدعوة سولسكي وكتب هذه المقالة التي نشرت بعدئذٍ في الإزفيستيا مع افتتاحية تقول: "حتى الخصوم الكبار للينينية يعترفون بعظمة نابغة الثورة البروليتارية".

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود