|
مخرج من الجحيم
من أجل استرداد فضاءاتنا السياسية المُستعمَرة ينبغي أن نسترد فضاءاتنا الثقافية
المستعمَرة.
اجعل مُحبَّ الحقيقة يخجل من محبتك.
كان مبارك عوض يتحدث كضيف في صفِّ اللاعنف الذي أُدرِّس فيه كلما كانت تتسنى لي فرصة الوصول إليه. كان رجلاً ضخمًا لطيفًا ومتحدِّثًا صادقًا وجذابًا إلى حدٍّ كبير مع وعي أخلاقي حاد باللاعنف. وتضيف إنكليزيته، باللكنة العربية والمفعمة بالحيوية، نغمة من الأصالة عندما كنا نناقش واحدة من أكثر الانتفاضات العالمية أهمية: الانتفاضة الفلسطينية الأولى (حرفيًا، "اهتزاز" أو "ارتجاج"). ورغم كل الصعوبات، أسَّس مبارك المركز الفلسطيني لدراسة اللاعنف الذي أشكُّ بأن لديه الكثير ليعمله مع تلك الحركة (الانتفاضة). ومن المؤكد أن الحكومة الإسرائيلية قد فكَّرت بالأمر ذاته. وقد كانت زيارته الأكثر إثارة بلا شك في العام 1990، حين جاء حديثًا بعد إبعاده من فلسطين. وسوية مع وهج الاستشهاد، كان لدى مبارك معلومات داخلية واقعية ليشاركنا بها. ولم يكن طلابي يعرفون ما فيه الكفاية لكي يقبلوا، على نحو غير نقدي، الصورة الإعلامية للانتفاضة بوصفها عنفًا، بل وحتى "إرهابًا"، لكن ما لم نكن نعرفه هو أنه كان هناك "على الأرض" يواجه جنودًا إسرائيليين مسلحين يخلقون اضطرابات. وكان مبارك، الأخصائي النفساني، هو الشخص المثالي لمشاركتنا ذلك. اندلعت الانتفاضة في العام 1987، عندما بات واضحًا أن الإرهاب والتكتيكات الفدائية للمنفيين الفلسطينيين لم تُجدِ نفعًا، وأنه كان الأجدى للفلسطينيين الذين يرزحون فعليًا تحت الاحتلال الإسرائيلي أن يعملوا شيئًا ما يتعلق بقدرهم. وما فعلوه كان مقاومة بوسائل غاندوية كأشكال المقاطعة الانتقائية وتعليق الأعمال وما شابه (متعلِّمين في الغالب من جين شارب عن طريق مبارك) بالإضافة إلى بعضٍ من بنات أفكارهم الفطرية مع وابل من الحجارة المتحدِّية - مزيج مرتبك مما دعوتُه "وابل غير عنفي"، بمعنى: الإحجام عن عنف (جدِّي) ضد الخصم دون محاولة محبته خارج التصنيف الناجم عن طاقة إيجابية. وهذا ما وضع الشباب الفلسطيني، على وجه الخصوص، تحت الكثير من الضغط لأنَّ عددًا كبيرًا جدًا من البالغين اُعتقِلوا مما أجبر المراهقين على تحمُّل المسؤوليات ومواجهة المخاطر - التعرُّض للضرب، السجن، الموت - والتي قد لا نتحمَّلها نحن البالغين. طبعًا، ترك هذا أثرًا كبيرًا في نفوس طلابي لكنَّ الذي فاجأ مبارك، وجميعنا، كان أنه عندما بدأت الانتفاضة توقَّف الشباب في المناطق المحتلة عن تعاطي المخدرات. فقد اختفى عمليًا الإفراط في تعاطي المخدرات وتناول المشروبات الكحولية، والتي كانت مشكلة خطيرة حتى ذلك الحين. طلبنا منه مواصلة الحديث؛ فأوضح لنا أنه كانت هناك في قطاع غزة، وحتى في إسرائيل، الطبقة نفسها من الشباب المشابهة، عرقيًا واقتصاديًا، لما في المناطق المحتلة، لكن لم تكن لدى هؤلاء الشباب طريقة للمشاركة في الانتفاضة. وبالتأكيد، لم يكن هناك مثل هذا التغيير لدى مجموعة "التحكُّم" هذه؛ فحيث لم تكن هناك انتفاضة واصلت المخدرات والمشروبات الكحولية مجراها التدميري. وقد تتساءل هنا عما أُمهِّد السبيل إليه. أم هل تراني أقول أن سبيل التخلص من مشكلة المخدرات هو ثورة لاعنفية؟ بالطبع لا؛ فما أدعو إليه أكثر أهميةً بكثير. فمن وجهة نظري، بوسعنا التخلص من كل المشكلات عن طريق ثورة لاعنفية، ليس من المخدرات فحسب، وليس حتى من الجريمة نفسها فحسب، بل من كل كوارث الحضارة الحديثة. فأصغِ إليَّ بأناة وأنا أوضح كيف بوسعي تقديم مثل هذا الادعاء. ماذا يعني أن تكون مدمنًا؟ للمصادفة، وبعد فترة قصيرة من إخبار مبارك لنا بكل هذه التفاصيل، نشرت الصحف تقريرًا مذهلاً عن تعاطي المخدرات في الولايات المتحدة. حيث وجد ثلاثة باحثين، كانوا يعملون بشكل مستقل تمامًا عن بعضهم البعض، ولدهشتهم، أن المعرفة التقليدية بمن يتعاطى المخدرات في أمريكا خاطئة. فالمتعاطي "النموذجي" للمخدرات في أمريكا ليس الذكر الأسود، وليس الذي حكم عليه الفقر بأن يعيش في غيتو. فالعلماء الثلاثة جميعًا اكتشفوا صفحة حياة مختلفة كليًا. فالشخص الذي يكون في مقدمة القوى العاملة والمُقْدِم أكثر على المخاطرة هو نفسه الأكثر جرأة، [والأكثر] عرضة لتعاطي المخدرات... وهؤلاء [كان لديهم] نمط حياة أكثر نشاطًا بكثير، وكانوا منشغلين أكثر بالحملات السياسية، ومستخدمين أكثر للمعلومات[1]. إنهم، باختصار، الناس الأكثر سعيًا للصعود إلى "الطليعة" في المجتمع الأمريكي. ولم يستطع أيٌّ من العلماء الثلاثة توضيح السبب الذي يجعل شخصًا ما أكثر عرضة، وليس أقل، للإدمان على المخدرات. فقد قال أحدهم إنَّ السبب هو "عامل خفي ما"، وتساءل آخر عما إذا كان "هناك شيء ما في الشخصية الأساسية" لهؤلاء المتفوقين، دون أن يقترح ما قد يكون هذا الشيء. أما العالِِم الثالث فقد تلمَّس شيئًا ما حين قال: إنَّ هؤلاء الناس "يبحثون عن شعور بالتفوق". كما لاحظ، وفقًا لذلك، حين وصف لهم برنامجًا مذهلاً من المحفزات الحسِّية، كالقفز الحرِّ بالمظلات وقفزة "البانجي" بالحبل ورقص الديسكو، مع قفزات من نمط MTV من مكان إلى آخر في جو من صخب الموسيقى المعدنية الثقيلة، أنَّ هذا التصعيد الخاطف للأحاسيس يساعدهم في الحقيقة على الإقلاع عن تعاطي المخدرات أكثر من اللاصقات المانعة التي تقول "لا" فحسب. لكن هذا يستدعي السؤال التالي: ما الذي جعل هؤلاء الشباب الموهوبين والمفعمين بالطاقة يعتقدون أنَّ بإمكانهم أن يجدوا السعادة في المقام الأول عن طريق الأحاسيس؟ وما أقترحه عليكم يقول إنَّ هؤلاء الناس النشطاء الأذكياء لا يبحثون حقًا عن أحاسيس أكثر، بل يعتقدون ذلك لأنَّ تلك هي الطريقة التي تكيَّفنا على التفكير فيها، لأنَّ ما يبحثون عنه حقًا هو معنىً ما لهذه الحياة. وهذا الأمر ليس مقصورًا على الشباب الأمريكي فقط؛ فالأمريكيون والفلسطينيون الذي أقلعوا عن تعاطي المخدرات بطرق مختلفة - برنامج "المحفزات الحسِّية" من ناحية، والثورة اللاعنفية إلى حد كبير من ناحية أخرى - كانوا قد تعاطوا المخدرات لأسباب متشابهة؛ فرغم التباين اللافت في ظروفهم الظاهرية، إلا أن كلاهما كان قد استسلم للعجز في الحياة. فقد واجه الشباب الفلسطيني مستقبلاً قاسيًا، حيث كانت كل فرصة للنمو تُعاق من قبل مضطهِد طاغٍ، ومُزدرٍ في أغلب الأحيان. وكان الشباب في أمريكا الشمالية يواجهون حياة رضا خارجي مؤقت، وما لبثوا أن عرفوا عن طريق التجربة الشخصية أنهم فارغون. لقد كانوا أغنياء، لكن بطريقة ما كانوا فقراء جدًا؛ كانوا ما دعته الأم تيريزا "أفقر روحيًا من الفقير" لأنهم لم يكونوا يستطيعون إبصار طريقهم إلى حياة خدمة وذات معنى. لذا كان كلاهما يبحثان عن غرض في الحياة، والذي أخشى أنه ليس موجودًا في الوثب على نهاية حبل بانجي، أو في شراء أشياء جديدة، أو في الانتظار السلبي لحدوث شيء ما جيد. وسأراهن، دون مجازفة، أنه، بعد فترة من استهلاك مثل هذا الإحساس، سيخفت الاندفاع إلى كون الإنسان مجرد يو-يو بشري، وقد يجد الباحثون عن الإحساس أنفسهم عائدين إلى اللاشيء. فالمذهب المادي والمذهب الحسِّي هما جزء من المشكلة، وليسا الحل، وهي مشكلة أكبر بكثير من تلك التي تواجهها هذه المجموعة بشكل خاص. إنها مشكلة كل شخص. فلو وثب البلد بكامله على حبال البانجي، فهل سيحلُّ ذلك مشاكل الجريمة والتشرد واليأس؟ وبلغة روزاكيان، قد "تفعل" المحفزات الحسِّية (بالنسبة للبعض) لكنها لا تعمل في النهاية. إنها لا تفعل فيما يتعلق بالأسباب الجذرية للمشكلة. أما الانتفاضة فقد كانت مختلفة لأنها لم تعطي الشباب الفلسطيني ما يفعلونه فحسب، لقد أعطتهم شيئًا ذا مغزى لكي يفعلوه. صحيح أنَّ كلاً من حبال البانجي والانتفاضة تعرضان الخطر والإثارة للعيان (كما تفعل المعركة)، لكن المقاومة اللاعنفية تعرض الخطر، وتعطي الإحساس بالمخاطرة، لكن من أجل غرض مُتجاوِز. بينما يكون الخطر في حالات أخرى، أو بالأحرى تكون رعشة الإثارة في مواجهة الخطر، هو الغرض بحدِّ ذاته. وهذا ليس جيدًا تمامًا. ولا يمكنني تجنب التذكير مرة أخرى بكلمات سو سيفيرين، موظفة الصحة في مارين كاونتري التي غادرت إلى نيكاراغوا مع شاهد من أجل السلام. الطريقة الوحيدة التي بوسعي أن أوضح بها الأمر هي أنني شعرت بأني كنت بين يدي الله: لم أكن بمأمن - بمعنى أنه لم يكن سيصيبني أذى - بل لأنني كنت حيث كان يفترَض بي أن أكون، وأقوم بما هو مُفترَض بي أن أقوم به. وهذا قد يكون كالإدمان لكن ربما لهذا السبب واصلنا العودة[2]. من الغرابة أن تستخدم سو كلمة الإدمان في هذا الصدد، لكن تلك كانت الكيفية التي يمكن أن تقوم بها بعمل قوي وذي مغزى - قوي بما يكفي للتغلب على التبعية الكيميائية. فقد أجرت صحيفة استشراف شبابي (YO)، وهي صحيفة شبابية مقرها سان فرانسيسكو، مقابلة مع شاب مدمن في سان فرانسيسكو قدَّم تفسيرًا مؤلمًا لسبب تعاطيه الهيروين: «أرغب في سلام هادئ أحقن به روحي إلى الأبد.»[3] كان يبحث عن السلام. ومن منا لا يبحث عن السلام؟ هذا الشاب بحث عن السلام في المخدرات لأنه كان ميَّالاً إلى الاعتقاد بأن ما نحتاجه يأتي من خارجنا، وكأنَّ السلام شيء يمكن أن نأخذه عن طريق حقنة، أو أنَّ الأمان والصحة والمغزى أشياء نشتريها. ومع ذلك يعرف البعض منا أن ما نبحث عنه ليس في خارجنا، إنما هو السلام الداخلي الذي يمكن أن يفكَّ ارتهاننا لأية إمكانية للإدمان، لأنه السلام الذي يأتي حين نجد غرضًا مُقنِعًا لحياتنا. هل بدأ ادِّعائي المفرط يصبح مفهومًا؟ اللاعدالة المجرمة رأيت، على مرِّ السنين، المئات من الشباب الذين كانوا يعملون على مشاريع مماثلة في الروح للانتفاضة، إن لم تكن أكثر خطرًا. كان هذا أحد الميزات العظيمة في حياتي. فقبل أشهر قليلة من قصف حلف الناتو ليوغسلافيا السابقة عملت كرئيس جلسة لـ"ندوة" في بيركلي حول معاناة ألبان كوسوفو. وكان في اللجنة اثنان من الشباب اللذان ذكرتُ سابقًا أنهما قد عادا للتو من سجن صربي حيث أمضيا يومين. تحدث الشابان بعاطفة هادئة؛ كانا يتحدثان من منطلق أمان عميق لأنهما وجدا ما يفعلانه، مهما بدا صغيرًا، لتخفيف المعاناة في العالم. تحدثا على نحو مُقنِع، دون غضب (رغم أنه كان هناك بين المستمعين بعض القوميين الصرب الذين كانوا يشحنون الجو إلى حد كبير). تحدثا بمحبة، وأتذكر أني فكرت كم كنت أودُّ لو كان لدى كل طلابي - وفي الحقيقة، لدى كل واحد منا - مثل هذه الملاءة الهادئة. وأنا لا أتحدث من منطلق يقول "دع الأولاد يقومون بفعل السلام؛ إنه جيد بالنسبة لهم ولربما يبعدهم عن المخدرات"، بل أقول إنَّ هؤلاء الشباب قد أحرزوا نجاحًا في شيء ما - شيء مبدئي. مبدأ بوسعنا نحن أيضًا تطبيقه بطرقنا الخاصة، فرديًا، ومن ثم جماعيًا. ولشرح ذلك، أريد توسيع بؤرتنا لمشكلة هي، إن صحَّ القول، المشكلة الأكبر التي نواجهها الآن كمجتمع، وربما أيضًا كحضارة. لذلك دعوني أركِّز على مشكلة المخدرات والجريمة الراهنة في الولايات المتحدة متذكِّرًا الرسالة العالمية التي ينقلها هذا المثال. إذ نجد أنه في الوقت الحاضر، نصف حالات الحجز والسجن لليافعين تقريبًا في أمريكا هي بسبب جرائم تتعلق بالمخدرات. فالمبالغ التي يدفعها الأمريكيون ثمنًا للمخدرات غير الشرعية مذهلة، وقد لاحظ المسؤولون برضا ساذج أن هذه المبالغ انخفضت إلى 57.3 مليار دولار في العام 1995[4]. وأنا أردُّ، نحن نبدِّد مبلغ 17.9 مليار آخر من أجل شنِّ "حرب" على المخدرات المؤثرة على العقل، وهذه الحرب فاشلة. على هذه النقطة يوافق عدد كبير من المحللين ممن درسوا هذه الحرب العاثرة. ففي ظلِّ هذه الظروف، ليس بوسعنا ألا نتابع نتائج حالات كالتي تفكرنا بها للتو، حالات اعتبرناها "هجوعًا عفويًا" في تعاطي المخدرات في أمريكا وإسرائيل - فلسطين. حالات تبدو وكأنها توحي بمقاربة مختلفة كليًا، مقاربة ليست حربًا على المخدرات، ولا على الجريمة - مقاربة شاذة كما قد تبدو، لأنها ليست حربًا على الإطلاق. لأنه، كما رأينا، يمكن النظر إلى تعاطي المخدرات، كما يمكن النظر إلى العنف، من منظار مختلف. وقد اخترنا في أغلب البلدان الغربية، سواء كان هذا صحيحًا أم خاطئًا، النظر إلى هذه المشكلة كجريمة. فهناك إمكانيات أخرى، لكن حسنًا، دعونا ندعها الآن جانبًا، ونستغل هذه الفرصة للنظر إلى مجمل قضية الجريمة. فـ"الحرب على المخدرات" (التي تنحدر بطريقة ما في أغلب الأحيان إلى حرب على ضحايا متعاطي المخدرات) هي جزء من حربنا على الجريمة عمومًا، وتلك الحرب الأكبر هي أيضًا فاشلة بشكل ذريع. فقد ذكرت لجنة العدالة القضائية الوطنية في العام 1996 أنَّ «نزلاء السجون تضاعف عددهم ثلاثة أضعاف في العام 1980، والإنفاق على تطبيق القانون تضاعف أربع مرات. ومع ذلك لم تتغير معدلات الجريمة جوهريًا، والخوف هو أعلى من أي وقت مضى.»[5] ومنذ ذلك الحين استمرت الأمور بالتدهور. لذلك "لنباشر بإنجاز حقيقي"، كما كتب عالم الجريمة ريتشارد كويني في صدر كتاب هام يدعى علم الجريمة وصنع سلام. لم يقرِّبنا أي مقدار من التفكير بشكل أكبر من فهم وحلِّ مشاكل الجريمة. فبمقدار ما يكون ردُّ فعلنا على الجريمة أكبر، بمقدار ما نبعد أنفسنا عن أي فهم أو تخفيض فعلي للمشكلة[6]. ما يعني بكلمة أخرى - وهي لروث موريس في كتابها المميز إلغاء العقوبة - أن كامل نظام العدالة الجنائي الخاص بنا، وليس فقط الحرب على المخدرات، «فشل أخلاقي غير عادل ومُكلِف.»[7] وقد أوصل هذا الفشل حضارتنا إلى لحظة فاصلة. ففي نيسان عام 1967، عندما كنا في قبضة حرب فيتنام، نطق مارتن لوثر كينغ الابن بملاحظة تنبُّؤية تقول بأنه، وبالنسبة لكل أمة، يأتي زمن كهذا حين تواجه الأمة أزمة أخلاقية محددة. حيث قال في خطبته الشهيرة في كنيسة ريفرسايد في نيويورك: «رغم أننا كنا نفضلها بشكل آخر، فإنه يجب علينا الاختيار تحديدًا في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ البشرية.»[8] ولأننا لم نرتفع إلى مستوى ذلك التحدي لم نجد نهاية مُشرِّفة للحرب، لكني أعتقد أننا لم نغُصْ إلى ما تحت إمكانية الخلاص. إنما، وكما يحدث دومًا، عندما لا تُحلُّ مثل هذه المشاكل، نترنح نحو مشكلة أخرى، مشكلة هي كالأولى إنما لها شكل مختلف. «إنها لحظة فاصلة في تاريخ كاليفورنيا، لحظة يمكننا فيها أن نشقَّ طريقنا نحو مجتمع أكثر صحة، أو توفير كل فلس من تمويل مستقبلي لنظام فاشل من المستودعات البشرية.»[9] نلاحظ كم تشبه هذه اللغة السابقة لفنسنت شيرالدي، المدير السابق لمركز سان فرانسيسكو للعدالة الجنائية للأحداث، لغة المدعي العام السابق رمزي كلارك، والتي استخدمها في رسالة أخيرة لجمع التبرعات: يجابه بلدنا أزمة أخلاقية مذهلة. لقد حكمنا بالإعدام على 1366 شخصًا، ونضيف المزيد إلى اللائحة كل أسبوع... وفي المستقبل القريب قد نبدأ بقتل مئتي شخص كل سنة. ثلاثة بلدان فقط، هي جنوب أفريقيا والصين وإيران، تنفِّذ هذا القدر من أحكام الإعدام.[10] بعد فترة قصيرة على تصريح رمزي كلارك انهارت جنوب أفريقيا، وألغى النظام الجديد المناهض للفصل العنصري بقيادة نيلسون مانديلا عقوبة الموت مع الإيديولوجيا العنصرية. وهذا يتركنا الآن، نحن والصين كرائدتين للعالم الصناعي، قيد الصرامة الجزائية، كما نحن في الجريمة (عدد الذين يُقتلون بواسطة الأسلحة النارية في الولايات المتحدة كل سنة في ترتيب آخر من الكِبَر مقارنة بأيٍّ من الدول الصناعية). وفي السنوات الأخيرة، ناشدت محكمة العدل الدولية الولايات المتحدة مرتين من أجل تأجيل أو تخفيف الحكم بالموت، لكن من دون جدوى. هذا مشهد قاسٍ يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار بالنسبة لأقدم ديمقراطية في العالم - فكأننا نقود العالم القهقرى إلى قيم تنتقم من ماضينا البعيد. بيد أن الجريمة كأزمة ليست محصورة بالولايات المتحدة، التي أمامها "فرصة" ومخاطر. ولرؤية الفرصة وسط العديد من هذه السلبيات، علينا النظر إلى الإيجابيات التي تحجبها. الجريمة والتجديد فيا يلي قصة من مجموعة إخبارية خاصة حول التطورات الإيجابية كما وردتني عبر بريدي الإلكتروني ذات يوم من العام 1992. المرجع: أمريكا اللاتينية. العنوان: بيئة - صيادون مخالفون للقانون يصبحون حرَّاس محميَّة طبيعية. خدمة إنتربريس (ips). من قبل روبرتو هيرشر. بوينس آيريس، الأرجنتين. إنهم صيادون، وكانوا يتعقَّبون فيما مضى أنواعًا من الحيوانات المعرَّضة لخطر الانقراض ثم تحولوا إلى حرَّاس ذوي ضمائر حيَّة تجاه الحيوانات التي كانوا يطاردونها من قبل. حدث هذا التحوُّل الرائع في محميَّة إيبرا الطبيعية، في مقاطعة كورينتس، التي تبعد 700 كم إلى الشمال من العاصمة الأرجنتينية. ففي عام 1987، اضطلع بيدرو بيريا مونوز بإدارة محميَّة إيبرا. والتقى باثنين من الصيادين، مينغو كابريرا ورامون كاردوسو، اللذين عاشا في المحمية طيلة حياتهما. كانت حياة كابريرا وكاردوسو شاقة؛ فقد كانا يعتاشان في مستنقعات إيبرا من صيد السمك والحيوانات. ومن حين لآخر كانا يسافران إلى القرية الصغيرة بيليغريني، الواقعة على الحدود الجنوبية للمحمية، لبيع جلود الكاربنشو والأيائل والتماسيح. وبدلاً من اتخاذ موقف عدائي، فهِمَ مونوز أن هذين الرجلين يعرفان إيبرا أفضل من أيٍّ كان وأنَّ الصيد كان وسيلتهم الوحيدة للعيش. قال مونوز لـ ips: لم يصدِّقا آذنيهما حين عرضت عليهما عملاً. وها هما الآن الحارسان الأكثر تفانيًا ووعيًا (في إيبرا). فلفهم الطبيعة يجب أن يكون المرء سلميًا، وهذان الرجلان وُلدا على هذا النحو. كانا صيادين بحكم الضرورة، والآن ليس هناك من هو أفضل منهما كأدلاَّء وحرَّاس. فبمجرد النظر في عيون الناس الداخلين إلى المحمية، كانا يعرفان مَن منهم من الصيادين. وكابريرا وكاردوسو هما حارسان فقط من أصل ستة حراس في المحمية، لكنهما الدليلان المفضَّلان للباحثين والمصورين وأعضاء البعثات البيئية. قال كابريرا: الآن نفهم أهمية المحمية. فنحن نرى، دون أن ندرك، أننا أمضينا حياتنا برمَّتها ونحن نستعد لهذا. يقلب هذا الحدث توقعاتنا بصورة رائعة رأسًا على عقب؛ فقد كان كابريرا وكاردوسو تقنيًا "مجرمين"، وكان بوسع مونوز معاملتهما على هذا الأساس. يا للفرصة التي أفلتها من بين يديه! لكنه عوضًا عن ذلك، وبدلاً من النظر إلى الرجلين كسبب للمشكلة، قرَّر أن يوجِّههما نحو الحل. وهما ساهما في حل المشكلة. ونلاحظ في هذا السياق نتيجتين أُخريَين: 1. تغيرت القضية بالكامل من قضية نزاع إلى مراعاة كلاسيكية لـ"مصلحة الطرفين" كسب فيها الجميع: مونوز الذي أنجز العمل، وكابريرا وكاردوسو اللذان تبدَّلا من خارجين على القانون إلى مستخدمين، من مسببين للضرر إلى شخصين نافعين. الكل ربح، حتى الحيوانات. 2. حصل كابريرا وكاردوسو على بعض المنفعة العميقة الدائمة بدافع التجربة التي نبدأ في إدراكها كإمضاء للأنشطة اللاعنفية، أي الإحساس بالمعنى: «لقد أمضينا حياتنا برمَّتها ونحن نستعد لهذا.» ليس بيدرو مونوز الشخص الوحيد الذي خطرت له مثل هذه الفكرة غير المألوفة عن الجريمة و"المجرمين". ففي نفس الوقت تقريبًا، توصّل معلِّمان أمريكيان، بشكل مستقل تمامًا، إلى فكرة جلب اثنين من الشباب الجانحين من الذين كانوا رهن الاحتجاز ووضعهما في موقع المسؤولية عن شباب مُعاقين إلى حدٍّ كبير. كانت شارون روبرتس أحد المعلِّمين. وكما اعترفت، كانت تطلب من الكثير من الهيئات التدريسية في لوس أنجلس أن يدعوها «تضع الناس الأكثر خطورة في لوس أنجلس في موقع المسؤولية عن من هم أكثر هشاشة»[11] وقد عملت المفارقة بشكل مبدع؛ فمرة ثانية "ربح" كلا الطرفين: الشباب المعوَّقون والجانحون. يقول ألفرِد، وهو في السادسة عشرة من عمره، وعضو في Cripps تحت الاختبار لأنه كان متواطئًا في إطلاق النار: لقد اعتدتُ أن أكون مجرمًا لكني الآن، وعندما يلتفُّ أولاد بيتي من حولي... أخبرهم بأن لدي أمور أخرى كي أفعلها. أمور مثل أخذ طفلة معوّقة تُدعى ستار إلى الصف، ما أكسبه تقدير المدرسة الثانوية وخبرة في العمل. يقول: هذا يُظهر أنَّ بوسعي فعل شيء ما. إنها المرة الأولى التي أشعر فيها بمثل هذا الشعور، حيث أبدو أكثر عطفًا ومقدرة مما كنت أعتقد.[12] لاحظوا كيف أصبح ألفرِد يفكِّر الآن؛ فكونه مفيدًا هو الأمر الوحيد الذي يعتبره "فعل شيء ما". لقد قدِم للتو مجتازًا طريقًا طويلة من النموذج السائد والقائل إنك، لكي "تفعل شيئًا"، يجب أن تساعد نفسك، وإن كان لا بدَّ من إيذاء الآخرين، إلى نموذج آخر حيث الفائزون الكبار هم أنت وأنا - بمعنى المجتمع بأسره. إن المحجوزين الشباب الذين كانوا سيسببون أسوأ المشاكل - تقريبًا من دون استثناء - مُنِحوا مخرجًا من هذه الدوامة اليائسة بالطريقة الوحيدة التي بوسعها أن تفعل ذلك: حيث مُكِّنوا من العثور على ما هو جيد في أنفسهم. كان هناك مثل في روما القديمة يقول، curruptio optimum pessima، «إن فساد أفضل الناس هو أسوأ أنواع الفساد». وبوسعنا أن نقلب هذا فنقول، redemptio pessimum optima، أي «إن أسوأ الناس حين يثوبون إلى رشدهم يصبحون الأفضل». وهذه ليست مفارقة كبيرة، حيث رأينا في حالة المُتفوقين الذين دخلوا عالم المخدرات أنه غالبًا ما يكون الناس الأكثر قدرة هم الأكثر إحباطًا بسبب فراغ المجتمع. طبعًا، وحسب الظروف، هناك مسببات ومفاهيم مختلفة تمامًا لهذا الفراغ. إذ يشعر الأمريكيون بهذا الفراغ بحدة من خلال رصد وتقصي فراغ التعريف الحديث للتحقق والرفاهية المادي. حيث غالبًا ما اختبرت بلدان المرحلة الانتقالية إلى ما بعد الاشتراكية فراغ هوية مختلف فُقِدت فيه كل المعاني والقيم. لكن بصرف النظر عن الفوارق التي تشكِّل بالضبط هذا الفراغ، فإن العواقب متشابهة. فالناس يتشاركون في العوز إلى حياة ذات معنى ويشعرون بالضياع في مجتمع تقوده النزعة الصناعية المسيطرة. لذلك، وبدافع من الفراغ، تتجه القدرات العظيمة للناس أحيانًا إلى نهايات غير بنَّاءة. ومع ذلك، توجد عند أسوأ مثيري الشغب، وهذا منطقي إلى حد كبير، أكثر الإمكانيات إبداعًا. والبراعة هي معرفة أن هذه الإمكانيات موجودة هناك، وامتلاك شجاعة للتفاعل معها. وبرامج "وساطة الأقران" مثال فعَّال ومنتشر في الكثير من المدارس في كل أنحاء الولايات المتحدة. وقد أثار إعجاب المعلمين والمدراء اكتشافهم أنَّ هذه البرامج لا تعمل فحسب على "تهدئة" الكثير من المشاجرات، بل تُبرز أيضًا نمطًا مميزًا حيثما جربت؛ فمثيرو الشغب الأشد يتحولون إلى أفضل الوسطاء. وهذا طبيعي جدًا، بالفعل، حين نعرف ما الذي يجري. أخبر أحدُ الشباب من مثيري الشغب بعد "تغيُّره" أحدَ أصدقائي أنَّ عليك، لكي تكون وسيطًا، أن "تتحقق من أنيتك عند المدخل". وقد عنى بذلك أنك لن تكون هناك من أجل نفسك فحسب، بل عليك أن تضع جانبًا مشاعرك الخاصة. ومن ثم أضاف، قائلاً ما هو أكثر أهمية: «لقد كانت لدي دومًا المهارات لكي أكون وسيطًا، لكني لم أستعملها من قبل لأنه ما من أحد علمني كيف أستخدمها». وهو ليس شخصًا مميزًا لأنَّ الجميع يتمعتون بهذه القدرة التي لا يعرف إلا القليل جدًا استعمالها. «نحن جميعًا كمناجم ذهب مخفيَّة». وتصريحه هو نص كتاب مدرسي يتعلق بحلِّ النزاعات ويمكن تلخيصه في ثلاث جمل: 1. علينا "التحقق من أنياتنا عند الباب"، والترفُّع قليلاً عن مشاعرنا الشخصية. لأن بعض التضحية الروحية، سواء كبُرت أم صَغُرت، هو الأساس لأي عمل يمكن أن يؤدي إلى السلام. 2. كل ما هو مطلوب من معظمنا لتعلم هذه المهارة هو القليل من التدريب، لكننا نادرًا ما نحصل عليه، لسوء الحظ. 3. وحين نحصل على مثل هذا التدريب في نهاية المطاف، نكتشف وجود "منجم ذهب" داخل كلٍّ منا. وإن لم نجد طريقة للتنقيب في مواردنا الداخلية، فإن ذلك سيسبب أعظم المشاكل لنا وللمجتمع. أما حين نجد هذه الطريقة، فسرعان ما نكتشف أننا أصبحنا صنَّاع السلام الأكثر إبداعًا. وإذا باشرنا بالعمل، مثل الصيادين في المحمية الأرجنتينية أو مثل الشباب الجانحين في لوس أنجلس، فإن أكثرنا صعوبة سيكونون الأكثر قدرة على المساعدة في خلق مجتمع مُحبٍ، إن تمكنا من حل مشاكلهم. لذلك فإن ما دعاه الكاتب في الأسوشيتد بريس "التحوُّل الملحوظ" لكابريرا وكاردوسو لا يقل روعة عن التغيُّر الكلي لشباب الانتفاضة عن تعاطي المخدرات، أو تغيُّر الشباب "الأكثر خطورة" في لوس أنجلس الذين حققوا أنفسهم من خلال العناية بالآخرين من الكائنات البشرية العاجزة. وفي كل هذه الحالات كان "الأسوأ" قد حصل على هذا النحو لأنهم لم يتلمسوا طريقةً لاستعمال ذلك الخير الكامن في داخلهم، وبشكل غير متوقع في أغلب الأحيان. وكل هذه المنفعة كانت ستضيع لو بقينا نتبنى النظرة السائدة إلى الجريمة. مكر الأفاعي طبعًا، لا تعني الإمكانية "المخفية لمناجم الذهب" أنه يجب أن نسلم الجانحين، وعلى الفور، مسؤولية مساعدة المعوّقين والدفاع عن الكائنات المعرَّضة للخطر وصنع السلام. فلنكن مثاليين، أجل، لكن ليس سُذَّجًا. فقد يرتقي الكثيرون من "مثيري الشغب" إلى مستوى الحدث، لكن بعضهم لن يكون كذلك. وهذا ما اكتشفه الكاتب نورمان ميلر على حسابه. ففي عام 1981، كان ميلر مُحبَطًا، بشكل مفهوم تمامًا، بسبب نفاق الناس المُعرَّفين كـ"مجرمين" في حين أننا أنفسنا نخلق الشروط التي تشجِّع الجريمة. وكان ميلر على تواصل بالمراسلة مع أحد الجانحين العنيفين، وهو جاك هنري آبوت الذي كان هو نفسه كاتبًا أو ما يشبه ذلك. وكنوع من الاحتجاج الشخصي، استعمل ميلر نفوذه للحصول على إطلاق سراح آبوت بكفالته. ولم تمضِ سوى ستة أسابيع على إطلاق سراحه المشروط قتل آبوت ريتشارد أدان وهو نادل في قرية غرينتش وعمره 22 سنة. ومما زاد من صدمة ميلر، إدراكه أنه ترك عدة مرات ابنته ذات الثمانية عشر عامًا وحيدة مع هذا الرجل. بعد فترة قصيرة شنق آبوت نفسه في السجن[13]. ربما كان ميلر ساذجًا، لكنها كانت نوعًا خاصًا من السذاجة التي يقع فيها معظمنا حين يدرك خطأً كبيرًا، ويتصرف بنفاذ صبر، مما يجعلنا نعكس الخطأ بدلاً من حلِّه. فبسبب توقه لتخليص جبين آبوت من دمغة "المضحى به" التي وصمه بها المجتمع، دمغه ميلر بالـ"المضحية"؛ فالمجتمع هو الذي جعل هذا الرجل سيئًا، لذلك فالخطأ ليس خطأه، مما يعني أنه بريء. لكن عكس الدمغة لا يجعلنا أقرب إلى الواقع؛ فما نريده حقًا هو التخلص من الدمغات المسبقة لأنَّ هذه هي الطريقة الوحيدة التي تمكِّننا من رؤية بعضنا بعضًا كأناس. فعندما تَحوْل دمغة مسبقة، كتلك المواد الهلامية المُستخدَمة في أضواء المسرح، بيننا وبين الناس الحقيقيين، يكون العنف قد بدأ. وباستعمال تعابير العدالة (اللاعدالة) الجنائية، تمكننا إعادة الأنسنة من النظر إلى الناس بواقعية، وفهم كيف أصبحوا منتهكين للقانون. بعدئذٍ بوسعنا البدء بفهم ما الذي ينبغي عمله معهم وما الذي ينبغي عمله بحيث لا يقع الآخرون في الخطأ نفسه، وهو أهم بكثير. لقد كانت ردة الفعل الأولى لميلر صحيحة بالمطلق؛ لأنه كما قالت روث موريس: واضح أن القلة الخطرة (في السجن) قد استُخدِمت من قبل كل أولئك الذين يريدون إبقاء الـ 99% الآخرين في قلب منظومتنا الراهنة اللاأخلاقية والمُجحفة والمُكلِفة.[14] فهذا هو المنطق الذي يمكن بواسطته استخدام حفنة من رجال الميليشيا لتشويه كفاح كامل، كل العرق الألباني على سبيل المثال، حيث حتى الجَدَّات كنَّ يعتبرن "إرهابيات" من قبل النظام الصربي. وميلر كان يطبق فحسب مبدأ لاعنفيًا مشهورًا، ذلك أن عدم التعاون مع الشر يجب ألا يُلقي بظلاله قط كعداوة تجاه فاعليه، ولا حتى دمغهم بهذه الصفة. والأمر يبدو صغيرًا لأنَّ الإنسان - "مجرم" هي مجرد كلمة، في نهاية المطاف - عبر هذه الكلمة يُجرَّد من إنسانيته بالكامل، ما يعني بالنسبة للعدالة الجنائية كامل النظام الذي تحدثت عنه روث موريس بدقة لاذعة. وكان غاندي ضد استخدام هذه الكلمة إجمالاً: يجب أن تُمحى كلمة مجرم من مفرداتنا؛ وإلا فنحن جميعنا مجرمون.[15] ثم أدرك غاندي، وكان مسيحيًا في ذلك، أنَّ الإنسان ليس قادرًا على معرفة الحقيقة المطلقة، لذلك فهو في المقام الأول غير مؤهَّل للعقاب.[16] ونحن نريد طبعًا الابتعاد عن مثل هؤلاء الراديكاليين الخطرين. لذلك فلنمكث مع بعض المحترفين الموثوقين، مثل الدكتور آرنولد تريباشر، أستاذ علم الجريمة ورئيس مؤسسة مكافحة المخدرات في واشنطن، الذي قال، وهو يتحدث من تجربته الخاصة المحترفة: لقد علمني الإنكليز والهولنديون أنَّ بوسعك استهجان تعاطي المخدرات لكن ليس من الضروري أن تكره متعاطيها.[17] لكن إذا كنا لا نريد أن نكرههم، فإن علينا التوقف عن دمغهم. والدكتور تريباشر يردد هنا فقط أحد المبادئ الأكثر أهمية في الساتياغراها - أو المسيحية بالنسبة لتلك المسألة: تعريف المسيحي، كما قال أوغستينوس منذ ألفية ونصف: «نحن نكره الخطيئة لكن ليس المخطئين». واليوم، توفر هذه العقيدة دعامة نظرة جديدة تدعى العدالة الإصلاحية مقابل العدالة الجزائية. لذلك لندع فسحة لهارولد بيبينسكي للتعبير عنها: خلال عقود من ألفية مُختبِرة للأدب عبر التقاليد، وعبر محاولات الحياة اليومية في أي مظهر من مظاهر الحياة لكي نصبح أكثر أمنًا وأمانًا اجتماعيًا، أرى أن كل شخص يطبق واحدًا من نظامين فحسب للسيطرة الاجتماعية: صنع السلام، أو ما أدعوه "صنع الحرب"... عندما يختار المرء أن يصنع حربًا على مشكلة اجتماعية بدلاً من أن يصنع سلامًا معها، فإنه يتبنى هذا النظام من التفكير: فالطلب الأول للعمل هو أن تعيِّن وتؤكد لوم أولئك المسؤولين شخصيًا عن الخطر وعدم الأمن اللذين نواجههما؛ هؤلاء هم أعداؤنا. والتالي هو أن نحاول عزلهم وإخضاعهم - إخماد إرادة العدو في القتال. وتستلزم العملية حكمًا عابرًا على الأعداء ومعاقبتهم (أي سلبهم القوة بإقفال الزنزانات عليهم). فإذا تقرر اعتبار تهديد الفوضى الاجتماعية في نظام السيطرة الاجتماعية لصنع السلام، فإن اللوم يفسح مجالاً لتطهير الفوضى الاجتماعية وإعادة القدرة للخصوم للتقدم بأمان سوية. بينما المهمة البارزة لصنع الحرب هي أن تكون المقاتل الأكبر والأسوأ ما استطعت، والمهمة البارزة لصنع السلام هي أن تنسج مقاتلين، ضحايا أضعف أولاً، وتعيدهم إلى نسيج اجتماعي من الثقة المتبادلة والأمان المتبادل والأمن المتبادل.[18] (التأكيد من عندي) هذه الطريقة "الجديدة" في التفكير (كما سنرى لاحقًا، مُورِسَت على نحو واسع في بعض المجتمعات الأصلية) هي ليست فقط فكرة عاطفية بل لها خلفيتها البراغماتية. وقد قال جيرمي بينثام في إحدى مقالاته: تميل القوانين الدموية لجعل الرجال قساة عن طريق الخوف أو المحاكاة أو الانتقام بينما تؤنسن القوانين التي يمليها الاعتدال أساليب الأمة وروح الحكومة.[19] واليوم، إن كنت متهمًا بـ"الاعتدال" حول الجريمة فإنه على الأرجح الطريق الأسرع لخسارتك في الانتخابات، ومع ذلك بدأت بعض الممارسات تقرع أبواب السلطة داعية لإجراء تحسينات ضخمة في وحول السجون الكالحة التي بُنيت وفق نموذج صنع الحرب. استعادة العدالة بدأ أحد أكثر مشاريع العدالة الإصلاحية نجاحًا في الولايات المتحدة في العام 1975 في سجن غرينهافن الرسمي في نيويورك. وبشكل لافت، بُوشر به ليس من قبل باحثين أو موظفي خدمات اجتماعية، بل من قبل السجناء أنفسهم. وقد دعوا أنفسهم "مجلس الخبراء" (وأفترض أنها تورية متعمَّدة)، وأجروا اتصالاً مع مجموعة كويكرية محلية لمساعدتهم على إيجاد بدائل لاعنفية من أجل الحياة في السجن وماذا ستفعل لهم. وما بزغ من ذلك التعاون انتشر بسرعة إلى خمس عشرة ولاية وإلى كندا وهو الآن معروف على نطاق واسع بـ"بدائل المشروع العنفي" (AVP). وانبثقت مشاريع عديدة مشابهة، مثل المشروع الذي كانت تعمل من أجله المرأة في القصة السابقة. فما هو AVP؟ جوهريًا، هو مجموعة من ورشات العمل المُصمَّمة لتوفير بيئة مُؤنسِنة ومجموعة من الأدوات التي تتيح للسجناء ألاَّ يتعلموا العدوان. الفكرة بسيطة إذًا، وأصبحت مألوفة أكثر بالتدريج. أثبت الباحثون النظريون في التعليم الاجتماعي أنَّ العدوان والعنف سلوكان يمكن تعلمهما. ولذا يمكن، ضمن حدود بيولوجية ووراثية، تعديله باستعمال مبادئ التعلُّم الاجتماعي مثل ]دور[ التشكيل وفق نموذج... وقد بيَّن البحث أنَّ استخدام ردود إيجابية غير متوافقة مع عمل عنفي (ابتسامة؛ حالة إرخاء العضلات؛ اتصال مباشر واضح وصريح؛ استماع نشِط؛ تطوير الثقة...) تجعل إمكانية العدوان و/أو العنف غير محتملة أكثر بكثير من اتخاذ روادع سلبية كالعقاب أو التوبيخ أو الإشعار بالذنب.[20] وقد نتساءل عن تلك "الحدود البيولوجية والوراثية" (هل كان غاندي من صنف آخر؟)، لكن بالتأكيد يمكننا أن نقبل، وفي الحقيقة أن نستحسن، المقدمة الأساسية لـ AVP، كما يتم توضيحها في مستهل كل ورشة عمل... بأنه «ليس من الضروري أن تكون الكائنات البشرية عنيفة مع بعضها البعض، وأن العنف البشري ليس مسلَّمًا به، حتى في السجن». ولذلك فإن تعليم تقنيات لاعنفية «يمكن أن... يفيد كثيرًا المُهيَّئين لارتكاب اعتداء». فعلى سبيل المثال، تعليمهم (أو تعليم أيٍّ منا) مهارات شفوية يخفِّض من حاجتهم للردِّ على استفزاز ما بالعنف. وأكثر من هذا، تساعدهم اللباقة أكثر على الحفاظ على سلامتهم واحترامهم لذاتهم في المواقف الحرجة. وتذكِّرنا ليلا دوكر من جامعة داكوتا الجنوبية: «أنَّ هذا الإحساس بالقيمة الأخلاقية مرتبط بإحساسنا بالترابط مع الكائنات البشرية الأخرى.»[21] ومقدمة AVP هذه هي أساس النظرة العالمية إلى اللاعنف. ونحن لا نتحدث هنا فقط عن استعادة بعض المُهيَّئين للعدوان إلى صواب "حالة سويَّة"، بل عن إمكانية تغلبهم على بعض من العزلة الروحية التي نقبلها اليوم كوضع طبيعي. فعندما يكون بوسعهم تحويل مجرى إصرارهم الجدير بالاعتبار إلى كفاءة اجتماعية، وإعادة توجيه دوافعهم من "سلطة على" شخص ما إلى "سلطة مع" الآخرين، فسيصبح لديهم نوع من التجربة الناضجة التي يمكن حتى لنا "غير المُهيَّئين لارتكاب اعتداء" التعامل معها. وكما تقول روكر: «يمكن أن يجلب الأمر وخزًا خفيفًا من الإثارة إن سمحنا لأنفسنا باستحضار صور تحويل المراكز التصحيحية إلى مراكز شفائية».[22] وبصراحة، أوافق على ذلك، واعترف بأني أشعر بوخز خفيف من الإثارة بخصوص برامج مثل AVP. فتصوَّر إذا أمكننا تحويل نظام العدالة الجنائي الأمريكي بكامله من التخزين في مستودعات والعقاب إلى الاستعادة والشفاء الاجتماعي، وهذا يحدث غالبًا. فإحدى أفضل الصيغ هي عندما يعتمد المصلحون ذوو العقلية التقدمية على ممارسات أصلية مُختبَرة مع الوقت. إذا أمكننا بطريقة ما تحويل النظام القضائي برمَّته إلى مشاريع شفائية مثل AVP، فسوف يساعد هذا كثيرًا، لأن تلك المشاريع تنشأ من مبادئ صحيحة. وأولئك الذين ألصقنا بهم صفة "مجرمين" هم في الواقع كائنات بشرية لها كامل الإمكانية البشرية، لكنهم معزولون. فإذا كانت الجريمة نوعًا من العزلة (أي نوعًا من العنف)، فلا يمكن شفاؤها عن طريق العقاب الانتقامي (الذي هو نوع آخر من العنف). يجب أن يأتي العلاج الحقيقي من شيء لا يمتُّ إلى العنف بصلة ولا يخلق عزلة أكثر. فبدلاً من القول للجانحين: "هيا، انصرف من هنا" كما يحب الناشط بولوزوف أن يصيغها، تحولها البرامح الإصلاحية إلى: "هيا، عُدْ إلى هنا". وفي الحقيقة هذا أمر يجعل العقل يجفل عند تخيُّل ما ستكون عليه الحال إن تحوَّلت ماكينة العدالة الجنائية بأسرها من العقاب إلى الشفاء. ومع ذلك سيكون منافيًا للاستقامة، وغير مجدٍ في النهاية، التوقف عند هذا الحدِّ لأنَّ علينا أن نتفكر بما قد يوقعه الزمن من ضرر لشخص في السجن. فقد قال لي ذات مرة راي شونهولتز مؤسس هيئات مجتمع سان فرانسيسكو، مُردِّدًا بصيرة ديبورا بروثرو-ستيث: «مجمل صناعة عدالتنا هي خلف الحقيقة، مثلها مثل مجمل صناعة صحتنا. الكل يركض خلف الحدث». حتى البرامج التي تُشفي بدلاً من أن تُعاقِب هي خلف الحدث. عندما نتفكَّر بعدد برامج الإصلاح التي هي "خلف الحدث" - وهذا عام على ما يبدو - نبدأ في رؤية السبب الذي يجعل نظام العدالة الجنائي لا يصنع مجتمعًا أفضل. علينا أن نهبط في سلسلة المسببات، وأن نلج نظام قيمنا ونجد ما يجب إدخاله من تغييرات يمكن أن تحول دون الجريمة والعنف والعزلة في المقام الأول. إن التحدي الحقيقي يأتي من "تحوُّلات" أناس مثل كابريرا وكاردوسو، أو مثل تحول ذلك العدد الذي لا يُحصى من مثيري الشغب في المدرسة الثانوية والذي أصبحوا من أفضل الوسطاء، أو مثل الجانحين الشباب في لوس أنجلس أو الآلاف الذين ينتظمون في AVP وبرامج أخرى ذات الصلة، ليس فقط من أجل الشفاء من جراح العزلة التي حدثت ذات مرة بل من أجل تغيير شروط العزلة في هذا العالم ما يُمكِّن بالتالي أناسًا مثل هؤلاء - ومثلنا جميعًا - من عيش حياة ناجزة. تلك هي الطريقة الوحيدة للخروج من العزلة المتعددة الأنواع والتي تؤدي تقنيًا إلى السلوك الإجرامي أو إلى مِحَن أقل شكلية. أليس هناك بعض النفاق في عمل أي شيء آخر؟ وما هو الـ"مجرم" في نهاية المطاف؟ دعوني أُذكِّركم بأمر اكتشفناه حول أحد أكثر النزاعات إيلامًا في القرن العشرين: «لماذا يقتلون بعضهم البعض؟... الناس هنا ]في البلقان[ صدَّقوا دومًا، وما زالوا يصدقون، ما يرونه ويسمعونه من التلفزيون.» حسنًا، بصراحة، "المجرمون" هم الذين يُصدقون ما يرونه ويسمعونه من التلفزيون التجاري: لأن الناس منفصلون، ولأن الحياة معركة، ولأن السعادة خارجنا، لذلك فإننا جميعًا محكوم علينا بالتنافس ضد بعضنا البعض من أجل سلع مادية محدودة. هذه بالطبع رسالة لاشعورية تتجاوز دعاية الكراهية غير الحذقة لتلفزيون بلغراد الرسمي: إنها أكثر لاشعورية، وبالتالي أكثر فاعلية. وهي لم تكن لتستمر خمس سنين فحسب، بل على الأقل لخمسين سنة (فيما يتعلق بالتلفزيون بوجه خاص). ففي ثقافة تنشر مثل هذه الرسائل من كل إذاعة أو تلفزيون طوال اليوم لأكثر من أربعين سنة - رسائل فلسفتها الأساسية هي مادة العنف نفسها - فإنه من النفاق أن تفعل شيئًا سوى معاقبة أولئك الذين يستسلمون لتلك الرسالة على نحو غير شرعي. ومن الحماقة الاعتقاد بأنك ستكسب الأمن حين تمسك بأولئك الأفراد. «سأتصرف بالطريقة نفسها التي عُومِلتُ فيها، فليساعدني الله»؛ إن هذه الكتابة بخط اليد على الجدار هي من أجلنا جميعًا إذا واصلنا إطلاق شياطين العزلة، ومن ثم بحثنا عما تدعوه روث موريس "أمنًا زائفًا" بإبقاء "المجرمين" بعيدًا عن الأنظار؛ فالأمن الحقيقي له وجه مختلف تمامًا. إن نظام العدالة الجزائي، بطقوسه التراتبية المؤسَّساتية، الذي ألبس القضاة أرديتهم وسلَّح رجال الشرطة وأقفل الزنازين، يعرض، دون مبالغة، بديلاً ملموسًا للأمن الأعمق الذي نفقده. والأكثر مأساوية هو أننا نأخذ بهذا الحل السريع الذي يسترضي جوعنا الداخلي فقط بما يكفي لكي يجعلنا نخفق في البحث عن أمن حقيقي في المجتمع المعني، حيث بوسعنا أن نكون واثقين من المحبة والدعم مهما حدث. فلا يمكننا مطلقًا الإقفال على آخر معتد... لكن يمكن أن نخلق نوعًا من المجتمع حيث نعرف، مهما كان ما سيحمله المستقبل، أننا سنكون مُحاطين بالمحبة وبالدعم.[23] الثقافي هو السياسي بوسعنا استخدام اللاعنف من أجل حلِّ مشكلة الجريمة، لكننا نحتاج إلى البدء بإغلاق أبواب الزنزانة. ومرة أخرى، يمكننا الهبوط ثلاث خطوات أخرى إلى أسفل سلسلة السببية ورؤية أين وكيف يمكن التدخُّل في كل مرحلة. أولاً - نحتاج إلى عدالة إصلاحية بالنسبة للموقوفين، وخصوصًا إن كانوا من الشباب. إذ إنَّ AVP وشارون روبرتس روَّاد يُظهرون لنا ما نحتاجه من أجل النظام بكامله. وهذا ليس اقتراحًا راديكاليًا صارمًا؛ فهو جديد على الجمهور (قرأت مصطلح العدالة الإصلاحية للمرة الأولى في الصحف في حزيران العام 1998)، كما أنه ليس متطرفًا أو مجرد فكرة جديدة على نحو خاص بالنسبة لعلماء الاجتماع. ونستشهد للمرة الأخيرة بروث موريس: عندما تصبح البرامج الجامعية أرضية تدريبية للحراس الأرثوذكسيين ومدراء السجون والمحامين ورجال الشرطة الذين ينتجون نظامنا الجزائي والتدميري... ليست على تماس مع أدب البحث الجدي الذي يوثّق مرارًا وتكرارًا عدم القدرة المتأصلة للنظام الانتقامي من أجل إنجاز أي غرض اجتماعي إيجابي.[24] فالعدالة الإصلاحية هي الخطوة رقم واحد، بالنسبة لتلك الخطوات التي فشلنا فيها جميعًا. ثانيًا - نحتاج إلى دعم أكبر بكثير للبرامج التي يمكن أن تصدَّ السلوك الإجرامي، وتحديدًا، وخصوصًا، من أجل الشباب. ففي كل مدينة أمريكية تقريبًا، تحاول الشرطة والمنظمات التطوعية إعطاء الشباب شيئًا أفضل كي يعملوه بدلاً من الالتفاف حول العصابات. فهم ينظمون مباريات كرة السلة، ويُحْدثون أماكن لتمضية الوقت، والأفضل من كل ذلك يدخلون هذه الأماكن ويقضون الوقت معهم. إنَّ أحد أكبر الجراح في مجتمعنا هو الفجوة بين الكبار والشباب، ومن المحتمل أنها تضاهي ضعف الاتصال بين الأجناس الاجتماعية (الجندر) في تأثيراتها التدميرية على الثقافة الإنسانية. وبرنامجي "الأخ الكبير" و"الأخت الكبيرة" هما طريقة للتغلب على جزء من هذه المشكلة، لكنهما ليسا بديلاً عن العائلة. ما من بديل عن العائلة؛ فالعائلة المُحبَّة المتماسكة تعمل على الحيلولة دون الجريمة (أو "الوقاية الاستباقية") بالمعنى الأصح للكلمة. فالنوافذ ذات القضبان وكاشفات المعادن هي موانع بالمعنى الأكثر سخرية؛ ووفق مصطلحاتنا، إنها قد "تفعل" لكنها لا تفعل. والآن أصبح معظمنا مدركًا بأن ميزانية السجون تصرف من أموال النظام التدريسي، وبصورة سخيفة، لأنه ثبت مرارًا وتكرارًا أن التعليم المدرسي هو الطريق الثاني الأكثر فعالية، بعد العائلة نفسها، في إبعاد الناس عن الجريمة. وللاستشهاد بحالة واحدة، لم يزدد الإنفاق منذ بداية التسعينيات من أجل K-12 والتعليم العالي في عموم البلاد بأكثر قليلاً من 8% لكل فرد، في حين أن الإنفاق على تأديب الشباب والبالغين ازداد بنسبة 18%، ومنذ ذلك الحين انخفضت النفقات التعليمية باستمرار بينما ارتفعت جدران السجون. ويلبرت ريدو، وهو كاتب سلس الأسلوب، قتل حارس مصرف حين كان في التاسعة عشرة من عمره وهو يدفع ثمن ذلك الخطأ في سجن ولاية لويزيانا التأديبي منذ العام 1962. ولا مبرِّر لديه لكي يدعي أن نظام السجن يخفِّض من العنف ويمكنه أن يكون فظًا إلى حد ما بخصوصه. وهو يقول إنَّ الإجراءات الصارمة ضد الجريمة هي، بصراحة تامة، مثل "الفرس العرجاء"، فـ«الناس لا يريدون حلولاً، إنما يريدون فقط الشعور بالارتياح»[25] وتراه يلمِّح، إلى أنَّ أربعة أخماس السجناء ذوي الأحكام الطويلة في سجن ولاية أنغولا هم من الراسبين في المدرسة الثانوية كما هي حاله هو. لذلك، وبدلاً من تضييق الخناق عليهم عندما يقع الضرر: أودُّ أن أرى المزيد من الجهود الهادفة لتحسين حياة الناس حقًا. فالجريمة هي مشكلة اجتماعية، والتعليم هو الرادع الحقيقي الوحيد... فاستثمروا أموالكم هناك. ويصوغ مثل يوناني حديث هذا الأمر بشكل جميل: «عندما تُفتَح مدرسة، يُغلَق سجن». أو كما تقول لوحة الإعلانات: «افتح مدرسة تغلق سجنًا»؛ فالتعليم يؤنسن ثانية. ويمكنه أن يكون فعالاً حتى بعد حدوث الجريمة. ففي ماساشوستس، "حُكِم على" شابة، كانت قد قضت عدة أحكام "عادية"، أي تأديبية، لجرائم أخرى، باستلام صف الأدب. وكان تعليقها: «إنها المرة الأولى التي يمنحني فيها أحد ما فرصة»[26] هل يجب أن نحوِّل نظام العدالة الجنائي برمّته إلى نظام تعليمي؟ كما تعلمون، يمكننا أن نفعل أكثر بكثير. هل يجب أن نعيد الأموال التي تسرَّبت من المدارس إلى النظام التأديبي؟ يمكننا أن نفعل أكثر بكثير، لكن يجب أيضًا أن نفعل المزيد والمزيد. ثالثًا - علينا، بصبر وبحزم، تفكيك ثقافة العنف التي قامت عليها حضارتنا المادية واستبدالها، جزءًا فجزءًا، ومؤسسة فمؤسسة، بثقافة سلام تقوم على أساس "ثورة القيم" التي طال انتظارها، والتي دعا إليها مارتن لوثر كينغ في خطبة شهيرة له بعد أسبوعين من تصريحه ضد الحرب في نيويورك.[27] على أية حال، في حين أنه من الصحيح أن التعليم هو الترياق للعنف، فليس صحيحًا القول إنَّ التعليم لا يعني أكثر من مكوث الشباب في المدرسة. كيف يمكن ذلك، وهم يجلبون اليوم معهم العنف إلى المدارس من خلال أكثر من مئة ألف قطعة سلاح ناري كل يوم، أي مليون في السنة؟[28] ففي الولايات المتحدة، التي لديها الآن مراكز تسوُّق أكثر مما لديها مدارس ثانوية، وإذا شئنا المضي قُدمًا من أجل استعادة أموال المدارس التي تسرَّبت إلى نظام السجون، فإن ذلك وحده لن يحلَّ المشكلة لأن الأطفال سيجلسون في تلك المدارس الحسنة المظهر والمُعتنى بها جيدًا والمُكيَّفة لا يتعلمون شيئًا تقريبًا سوى كيفية الحصول على عمل. فالعدو الأكبر للتعليم ليس نقص التمويل، مع أن ذلك يؤذي؛ إنما هو الافتقار إلى الهدف. فنقص التمويل هو مجرد عَرَض للثقافة المادية الراهنة. وهذه الثقافة نفسها هي التي تجعلنا أيضًا نعتقد بأن بناء السجون أكثر أمانًا من بناء المدارس، وتجعل المدارس غير آمنة إلى حدِّ أن الشباب يشعرون بأنَّ عليهم حمل أسلحة عندما يذهبون إلى هناك. لقد تعرَّض التعليم لهجوم مستمر من محورين بحيث لم يعد بوسع حتى التمويل الجيد - وأنا أؤكد أنه يحتاج إليه - أن يلبيه تمامًا. فمن جهة، يأتي أطفالنا إلى المدارس بتعليم لا يُجارى من قبل معلميهم لأنه، وبكل بساطة، يزاول الإعلام الجماهيري التعليم دون رخصة. ومن جهة أخرى، المربُّون العامُّون أنفسهم - وأنا أكره أن أقول هذا - فقدوا البصيرة حول الغرض من التعليم؛ فقد وصلوا إلى القناعة بأن التعليم يعني أمرًا واحدًا فحسب: التحضير للعمل. فالجامعات، كما صاغ ذلك مؤخرًا زميل لي، «أعادت ابتكار نفسها كشركات». تعليم فعلي - لأنه وكما تجرأت واقترحت إحدى المرشحات الطامحة إلى منصب مدير التعليم في كاليفورنيا مؤخرًا «نحن بحاجة إلى إدخال الفنون البصرية والتمثيلية إلى المنهاج»، بدءًا من الروضة فصاعدًا. وكنت على استعداد للاندفاع خارجًا إلى صندوق الاقتراع، حين أضافت: «هذا أمر هام... بسبب المتطلبات الاقتصادية الجديدة». وليس من أجل المتطلبات الأزلية للإحساس بالهدف أو الجمال أو المعنى – أوه! حسنًا. لذلك، يجب أن يدرك حتى أولئك الذين، مثل ريدو، يدافعون عن التعليم بوصفه ترياقًا للجريمة أنَّ وضع الناس في المدارس لكي يحصلوا على وظائف ليس تعليمًا؛ وفي الحقيقة، فإن التعليم من هذا المفهوم هو جزء من المشكلة لأنَّ ثقافتنا، وكما تعلِّمنا عن متعاطي المخدرات النموذجي في أمريكا، تعتبر أنَّ أنماطًا معينة من الحياة "نجاحًا" بينما هي فعليًا تتجلى كفشل فيما يتعلق بتجنيب الناس الإحباط والفراغ. فالحاجات الإنسانية الفعلية يمكن أن تكون مختلفة جدًا. ... لا يمكن للرجل ]والمرأة[ أن يزدهر إذا كان عالمه بالكامل عبارة عن مواضيع يمكنه رؤيتها أو سماعها أو تلمسها أو تذوقها أو شمّها. وغريزيًا، سواء أكان من قبيلة في غينيا الجديدة أو ملكًا من ملوك المال في وول ستريت، يميل الكائن البشري إلى الشعور بأنَّ الحياة على هذه الأرض يجب أن تكون خاضعة لنوع من الغاية الأسمى.[29] ومؤخرًا رُدِّدت هذه الملاحظة من قبل سلطة صحيّة عالية المستوى: «منذ بضع سنوات، نشرت وزارة التعليم الصحي والرفاهية في ماساشوستس دراسة، وكُرِّرت بعد ذلك في فرنسا، جاء فيها أن العلماء والخبراء الاقتصاديين أكدوا مرة أخرى على عوامل الخطر المتعلقة بمرض القلب. ووجدوا أن المُسبب الأول للذبحات القلبية القاتلة، الذي وُصِف أوليًا بأنه الاستياء من العمل، مرتبط جدًا بفقدان المعنى أو الغرض في الحياة.»[30] وكنت في مستهل هذا الكتاب قد أشرتُ إلى أنَّ غيابَ المعنى والغرض يفسر انتحار المراهقين في جنوب بوسطن. لكن ليس المراهقين فقط؛ ففي جنوب أفريقيا، عندما سقط نظام الفصل العنصري أخيرًا، شعر بعض البيض ممن تعلَّقوا بهذا النظام من أجل إعطاء حياتهم معنىً أنَّ القاع تهبط من تحتهم. وفي حالة أو حالتين، انتحرت عائلات أفريقية بكاملها بسبب شعورها بأنه «ما من طريق إلى الأمام... وما من مستقبل للبيض في هذا البلد»[31] وقالت إحدى الجهات المسؤولة إنَّ أعضاء طائفة بوابة السماء في سان دييغو الذين أقدموا على الانتحار في في العام 1997 يلائمون "النمط النموذجي" للناس الـ"باحثين عن "غرض استهلاكي" لحياتهم.[32] وهذا يشكِّل نموذجًا لمن؟ طبقًا للدليل الطبي المُستشهَد به للتو، فإن كل فرد منا يبحث عن غرض استهلاكي لحياته. وعندما تستمر الثقافة في إخبارنا بأننا منفصلون، ومجرد مواضيع فيزيائية تنزع إلى الاستهلاك، منقسمة بلا أمل ومحكوم عليها بالتنافس، سيصبح من الصعب إيجاد مثل ذلك الغرض. انهمكتُ لفترة في برنامج كان يعلِّم التأمل للناس الذين شُخِّصت حالاتهم على أنهم مصابون بالأيدز. ونحن كنا مُهيَّئين لاكتشاف، واكتشفنا، أنَّ التأمل والمبادئ المرتبطة به وفرت لهم الحماية من بعض أسوأ تأثيرات القلق، بما في ذلك بعض تأثيراته على أنظمة مناعاتهم الضعيفة. ومع ذلك، فاجأنا عدد الناس حين قالوا: «إذا أمكننا استعادة صحتنا مقابل التخلي عن كل ما تعلمته من هذا البرنامج، فسوف لن أفعل». ولذا فالحلُّ العميق التام لوباء الجريمة - وأيضًا للفساد والتعصب والهجرة - الحل الذي يعمل قبل أن يُلحِق الناس الأذى بأنفسهم وبالآخرين، هو حلٌّ إصلاحي، ليس من أجل أولئك الذين ابتُلوا فحسب بل من أجل الثقافة ذاتها. أجل، نحن بحاجة إلى المزيد من البرامج الإصلاحية في السجون؛ أجل، نحن بحاجة إلى إعادة إنشاء المدارس وأن ندعها تُعلِّم الشباب كيف يعيشون (دون أن نذكر لماذا يعيشون) لكننا أيضًا بحاجة إلى تطوير ثقافة تُسهِّل، بدلاً من أن تُثبط، "بحث الإنسان عن معنى لحياته". العالم الذي أُعيدُ صياغة قوله في الفقرة الأخيرة هو فيكتور فرانكل. وفرانكل، الذي تدرب كجراح أعصاب في موطنه فيينا، وأمضى سنتين ونصف من حياته في ذلك الجحيم المُسمَّى أوشفيتز ونجا ليكتب كتابه الأكثر رواجًا بحث الإنسان عن المعنى مباشرة بعد خروجه من تلك التجربة التدميرية، رغم أنه ويا للغرابة انتصر فيها. فمن لُجج العنف ارتقى لكي يسأل السؤال الأعمق لوجودنا: ما معنى الحياة؟ ما المُفتَرض بنا أن نعمل ههنا؟ إنّ مجرد طرح هذا السؤال يُعتَبر إصلاحًا بطريقة ما لكنّ فرانكل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فقد رأى أنَّ المعنى الحقيقي لا يمكن أن يُلفَّق، وإنما يجب أن يُكتشَف: «أعتقدُ أنَّ معنى وجودنا لا يُخترَع من قبلنا بل يُكتشَف بالأحرى»[33] وهكذا في حين أنَّه حتى الإحساس بالمعنى علاجي (سواء حصلنا عليه من القفز على حبل البانجي، ومن دون أن نذكر التفرقة العنصرية)، فإن المعنى الحقيقي يأتي حين نصبح مرتبطين بطريقة ما بغرض أعلى يتجاوز أنفسنا وما بعدها. تقول ليونا، وعمرها 91 عامًا، والتي تقضي وقتها الفائض في تعليم مهارات خبرتها في الخياطة للآخرين: «أعتقد أنك إذا لم تستطع مساعدة آخر، فلا نفع من حياتك.»[34] وفق منظور فرانكل (الذي تعتمد عليه "مدرسته الثالثة في العلاج بالتحليل النفسي") نحن لا نستطيع ببساطة تركيب شيء ما ذي معنى لنفعله لأنَّ لدينا شيئًا ما ذا معنى لكي نعمله، والبحث الحقيقي هو أن نكتشف ما هو هذا الشيء. وكل ما أقوله في هذا الكتاب يريد تسليط الضوء على ذلك البحث، لأنني أعتقد أنَّ من الممكن تعريف ما له معنى بالنسبة لنا، نحن الذين نعيش في قلب الأزمة التاريخية الراهنة. لأن المهمة هي خلق مجتمع مُحبٍّ، والطريق لفهم ذلك والقيام به هو اللاعنف. وأيًا كنا، بوسعنا العثور على طريقنا الخاص للقيام بذلك. هذا هو العمل الذي سيعطي حياتَنا معنىً، فرديًا وجماعيًا. والتعبير الأكثر جمالاً الذي أعرفه عن هذه المهمة يأتي من رسالة كتبها إينشتاين عندما كان في السبعين من عمره. وليس مستغربًا أن تصبح هذه الفقرة الصغيرة مشهورة جدًا فيما بعد: الكائن البشري جزء من كل، ندعوه "الكون"، جزء محدَّد في الزمان والمكان. فهو يختبر أفكاره ومشاعره كشيء منفصل عن البقية - نوع من الوهم البصري لوعيه. وهذا الوهم هو نوع من السجن بالنسبة لنا، يقيِّدنا إلى قراراتنا الشخصية وإلى العاطفة تجاه بعض الأشخاص الأقرب إلينا. ومهمتنا هي أن نحرِّر أنفسنا من هذا السجن عن طريق توسيع دائرة الرحمة بحيث تعانق كل المخلوقات الحية وكل جمال الطبيعة.[35] والمهمة التي تكلم عنها إينشتاين ليست لهذا العصر فحسب؛ إنما هي مهمة الإنسانية في كل الأزمنة، وجزء من الحالة الإنسانية. لكنّ تلك المهمة تطرح نفسها الآن بإلحاح خاص، عندما يكون المجتمع المُحبُّ، و"كل الطبيعة الجميلة"، ممزقًا من قبل قوى الجشع والانعزال. ففي حال مشكلة الجريمة، نحن نطرد أُناسًا من المجتمع ونسجنهم في مستودعات، ولا حاجة للتذكير بطردهم بالجملة خارج الحياة عن طريق عقوبة الموت البربرية، ونحن غير مُدركين أننا بقينا بأنفسنا في السجن - سجن إرادتنا المريضة وخوفنا وغضبنا الذي يبقينا بعيدين عنهم. وسوف نتمكن من الهرب من سجن أوهامنا عندما ندعهم خارج سجنهم الذي من الإسمنت والحديد. قبيل نهاية العام 1997، قدَّم الباقون على قيد الحياة من الحائزين على جائزة نوبل للسلام مناشدة مشتركة من أجل تغيير الوعي الإنساني في الألفية القادمة؛ وقد أسموا نداءهم "العقد الدولي من أجل ثقافة للسلام واللاعنف لأطفال العالم". فالإنسانية بدأت تتعلَّم ببطء أنَّ اللاعنف قوة خلاقة تحتوي بحد ذاتها على مبدأ نظام مبدع. فهو يبدو وكأنه المنهج الوحيد للتحكيم بين النزاعات الذي يحتوي على طاقة سلام في سيرورته. واللاعنف (وبقدر ما بوسعي أن أرى، اللاعنف وحده) يفعل هذا من خلال إنعاش صورة الإنسان عوضًا عن الحطِّ منها، وهذا وحده سيؤدي إلى تغيرات عميقة طويلة الأمد في النظام الاجتماعي ما سيؤدي فعلاً إلى تحقيق الأهداف المطلوبة لمجتمع المحبِّ ضمن المجتمع المُعطى ولسلام مستقر مع الآخرين - أي باختصار، إلى مجتمع المحبِّ شامل. وبوسعنا الآن أن نضيف ما قد تكون الخاصية الأكثر أهمية للاعنف: إنه يقدم للناس هدفًا - وهذه مهمة يمكن تطبيقها بطرق لانهائية لكي تلائم قدرات كل فرد، سواء كانت صغيرة كإطفاء جهاز التلفزيون أم كبيرة كإعادة النظر فيما يؤسس للحرب. لم يعطنا التاريخ حتى الآن مثالاً عن ثورة لاعنفية كلِّية أعادت بناء ثقافة من الأسفل إلى الأعلى؛ فحتى كفاح الحرية الهندي، الأكبر والأنقى إلى حد بعيد، خرج عن السيطرة في نهاياته لكنه أعطانا ما يكفي من التلميحات التي تجعلنا نرى كيف يمكن أن يكون مثل هذا الأمر محتملاً. فالطريقة التي أقلع بها شباب الانتفاضة عن المخدرات، على سبيل المثال، كانت جزءًا من شخصية الانتفاضة ككل. ولأنَّ مدارسهم كانت مغلقة بشكل مستمر من قبل السلطات الإسرائيلية، أقام المعلمون الفلسطينيون مدارس سرِّية في أقبية بيوتهم أو على أسطح المخازن. ولأنَّ الصلات التجارية بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين كانت مُعطَّلة - بعضها نتيجة أفعال مقاطعة متعمَّدة وبعضها الآخر كجزء من العقوبات الإسرائيلية - ابتدع الناس أنظمة خاصة بهم لتوزيع الحليب وإصلاح السيارات ونقل المصابين والمرضى إلى العيادات. وكان الإضراب على وجه الخصوص أحد التغيرات التي وصلت بعمق إلى نسيج الحياة الفلسطينية؛ فقد كان الآباء الذين يذهبون إلى السجن يُخلِّفون وراءهم أعدادًا متزايدة من الأطفال، كما أخبر مبارك صفّي: «كل امرأة أصبحت أمًا لكل طفل». وفي تلك الفترة الوجيزة، عندما كانت طاقة اللاعنف عاملة، وجد الفلسطينيون أنفسهم يعملون أكثر بكثير من مجرد التمرد ضد سلطة خارجية: كانوا يعيدون ابتكار أنفسهم كمجتمع مدني. ولفعل هذا، وهذا ما يثير الانتباه، كانوا يعيدون إيقاظ المبدأ الخالد للعائلة الموسَّعة الذي كانت له جذور أصلية في مجتمعهم. وحتى في هذا الكفاح المتصدِّع، اللاعنفي بصورة مؤقتة فقط، انبثق المجتمع المُحبُّ كمحصلة ثانوية. ولم يكن مجرد محصلة ثانوية؛ فقد كان - وهو دومًا كذلك - نتيجة مباشرة لخيار اللاعنف. ففي الفصل الثالث رأينا الصحة النفسية التي تبدو بوضوح على الفرد الذي يلجأ إلى هذا الخيار. والآن بدأنا نرى الصحة الاجتماعية المجلوبة للجماعة بشكل عام. لماذا إذًا تكون الحملات اللاعنفية عادة مجرَّد احتجاجات وفوضى؟ وإذا كانت تحتوي على بذور النظام الخلاق، فلماذا هذا الفهم الشعبي للاعنف وكأنه نوع من الثورة، ولماذا يستمر النشطاء اللاعنفيون من جورج فوكس إلى الأخوة بيريغان في خرق القوانين وتعكير صفو ما تؤدِّى إليه الأمور عمومًا؟ وسوف نرى أنَّ الناس لا يميلون إلى الاعتراف باللاعنف فقط لأنَّ الاحتجاجات والفوضى هي التعبير الوحيد عنه، وإنما لأن الناشطين اللاعنفيين هم الوحيدون الذين يتشبثون بالنظام في مجتمعات أضحى بعض أنواع الفوضى مسُلِّمًا به، كالاحتكار البريطاني للملح والقطن الهندي، أو التفرقة العنصرية في الحافلات في مونتغمري. وكما قال رئيس أساقفة السلفادور روميرو قبل اغتياله في 27 آذار العام 1980: لا أريد أن أكون معارضة، كما قيل عني هذا الأسبوع. أريد أن أكون ببساطة مجرد توكيد؛ فعندما يقول المرء نعم لقناعته الذاتية، فإنه لا يجابه... ومن الطبيعي أنَّ بعض الآخرين لا يفكرون بالطريقة نفسها وبالتالي تحدث المجابهة.[36] ]روميرو 1988 ص 81[ إنَّ الذين يسيرون بصورة عمياء على منحدر يجب أن تُقلَق راحتهم أحيانًا من قبل أناس يحاولون إنقاذ محتلِّيهم. الأفقر لذا أصاب "أطفال الحجارة" (كما يُسمّى شباب الانتفاضة غالبًا، وبصورة غير عادلة بعض الشيء) أمرًا ما ذا علاقة كبيرة بالعديد من المعضلات الأخرى. وقد تتبَّعنا الترابط خطوة خطوة من تعاطي المخدرات إلى الجريمة نفسها، وأخيرًا إلى فقدان الغرض في الثقافة الصناعية التي تحيط بنا في العالم الحديث. وذهبنا من البرامج الإصلاحية إلى البرامج الوقائية التي تُشفي بعض منابع العزلة ضمن المجتمعات، إلى - ماذا سندعوه؟ - البرنامج الإبداعي الأهم لنظام قيم أكثر صحة. وتُلقي الأم تيريزا بعض الضوء على هذه الخطوة الأساسية: أنتم في الغرب من أفقر الفقراء روحيًا... أنا أجد من السهل أن أقدِّم صحنًا من الرز إلى شخص جائع، وأن أفرش سريرًا لشخص ليس لديه سرير، لكن من أجل المواساة أو نزع المرارة والغضب والوحدة التي تأتي من حرمان روحي، فإن ذلك يستغرق وقتًا أطول.[37] فالتغلب على الحرمان الروحي عمل شخصي بامتياز لكنه أيضًا مسألة بناء مجتمع مُحبٍّ مع آخرين - وفي النهاية، مع كل الآخرين؛ إنه تفكيك كامل البيت الذي بناه العنف والبدء بالبناء مجددًا بنوع آخر من القوة. هذا مثبط للهمم. نعم! لكن ليس من الضروري إطلاقًا أن نبدأ من البداية؛ فإلى جانب كل المشاكل التي تسبب بها استنبط غاندي برنامجًا اجتماعيًا بهذه الجرأة فحسب، وقد نجح هذا البرنامج تقريبًا. ترجمة: غياث جازي *** *** *** [1] Browning, Frank. “Drug Users Defy Stereotypes”, Pacific News Service: 4:6, 1992, p. 3. [2] See note [from p. 102-Severin... [3] February 1997, p. 7. Yo, Januray [4] San Francisco Chronicle, November 10, 1997. لقد كلفت الحرب 60 بليون دولار خلال عام 1968 فقط قبل أن ترتفع إلى هذه المستويات من دون أيِّ تحسن ملموس في نتائجها. [5] Steven R. Donziger, Ed. The Real War on Crime: the Report of the National Criminal Justice Commision (Harper Collins, NY: 1996) xvii. [6] Pepinsky, Harold E. And Quinney, Richard. Criminology as Peacemaking. Bloomington: Indiana University Press, 1991, p. 3 [7] Pepinsky, Harold E. and Quinney, Richard. Criminology as Peacemaking. Bloomington: Indiana University Press, 1991, p. 3. [8] Washington, James M., Editor. Testament of Hope. San Francisco: Harper & Row, 1986, p. 243 [9] Schiraldi, Vincent. Quoted in UC Focus (University of California, Berkeley) 8, no. 6, 1994, p. 1. [10] [Ramsey Clark fund-raising letter] [11] Roberts, Sharon. ‘Ex-Offenders Aid World of Disabled,’ New York Times, February 4, 1990, p. Y33. [12] [Ibid., XX?] [13] See the Buffalo Report for March 1, 2002 ( http://buffaloreport.com/020301abbott.html ). [14] op. cit., p. 33. [15] CWMG: This and Following Quote from Vol. 19, p. 466. [16] Ibid. [17] Trebacher, Arnold. Interview in the Pacific News Service editorials for June 24-28, 1991, p. 2. [18] From the syllabus of Prof. Pepinsky’s course, CJUS P202, ‘Alternative Social Control Systems,’ Spring 1996. [19] بورينغ، جون (تحرير). (1843). أعمال جيرمي بينثام، المجلد الثاني. إدنبره، ص 562. [20] From Lila Rucker’s chapter, ‘Peacemaking in Prisons: a Process,’ in Pepinsky and Quinney, op. cit., pp. 174, 177, & 175. Rucker is quoting various authorites. [21] Ibid., p. XX. [22] Ibid., p. 172. في الواقع، يمكن أن تكون "الإفصلاحية" خطوة إلى الأمام في بعض الحالات. لكن الغرض من نظام العقوبات في كاليفورنيا تغير بشكل ملموس عام 1976 من نظام إصلاحي إلى نظام عقابي. وحسب مسؤول رسمي في المقاطعة أجريت مقابلة معه بعد حوالي 20 عامًا، لم يكن لهذا التغيير "التراجعي" أي أثر ملحوظ على حالة نسبة الجريمة في الولاية. لقد أصبحنا نملك الآن نظامًا غالبًا ما يحول المسيئين غير العنفيين إلى أشخاص عنيفين. [23] Morris, op, cit. This and the following quote from pp. 44, 46 and 45. [24] Ibid., p. XX. [25] Richard. ‘a Convict’s View: ‘People Don’t Want Solutions’ Time magazine, UG 23, 1993., p.33. [26] Webster, Katherine. ‘Verdict, guilty; sentence, literature,’ Santa Rosa Press Democrat. May 31, 1994, p.A6. [27] King, Martin Luther. ‘Why I am opposed to the war in Vietnam,’ delivered in Atlanta, 3 RD Sunday in April, 1967. [28] [Reference to 100,000 guns in school per day] [29] Friedman, Meyer and Ulmer Diane. Treating Type A Behavior-and Your Heart. New York: Ballantine, Fawcett Crest, 1984, p. 196. [30] Deepak Chopra, Quoted in Noetic Sciences Review, NO. 28 (Winter, 1993) p. 19. [31] Quoted in the Pacific News Service, August 9, 1992, p. 6. [32] From a San Francisco Chronicle editorial, Friday, March 18, 1997, p.A24. [33] Frankl, Viktor E. Man’s Search for Meaning: An Introduction to Logotherpy. Translator Ilse Lasch. Boston: Beacon Press, 1959, p. 101. [34] Midlarsky, E. and Kahana E. Altruism in Later Life. Sage Library of Social Research. Thousand Oaks, Calif: Sage Publications, 1994, p. 79. [35] Einstein’s Letter was reprinted in the New York Times, March 29, 1972. [36] Romero, Oscar. The Violence of Love: the Pastoral Wisdom of Archbishop Oscar Romero; compiled and translated by James R. Brockman. San Francisco: Harper & Row, 1988, p. 81. [37] Becky Benenate & Joseph Durepos, editors. No Greater Love. Novato: New World Library, 1997, pp. 94f.
|
|
|