english Arabic

طريق الإنسان
وفق التعاليم الحَصيدية

مارتن بوبر

 

حول الكاتب: يعتبر مارتن بوبر أحد أهم الناطقين باسم الروح الإنسانية. ولد في ڤيينا عام 1878، ودرس الفلسفة وتاريخ الفن في جامعة برلين. ثم أسس دورية اليهودي Der Jude عام 1918، وبقي محررًا لها حتى عام 1924. وقد أصبحت هذه المجلة، الناطقة بلسان اليهودية-الألمانية، برئاسته ما بين 1923 و1933. درّس بوبر الفلسفة والديانة اليهودية. بعدها درّس تاريخ الديانات في جامعة فرانكفورت. وفي عام 1938 غادر ألمانيا مهاجرًا إلى فلسطين التي جعل منها موطنًا له. وهناك عمل، حتى العام 1951، أستاذًا للفلسفة الاجتماعية في الجامعة العبرية في القدس. عام 1951 حاز على وسام غوته من جامعة هامبورغ. وفي عام 1953 حصل على جائزة السلام من قبل معرض الكتاب الألماني.

كتب البروفيسور بوبر الكثير في مجالات الفلسفة، والتربية، وفلسفة الديانات؛ ودرّس علم الاجتماع، والفن، وتفسير التوراة، واليهودية، والحَصيدية، والصهيونية. أمّا أعماله الأكثر شهرة فهي أنا وأنت، والتعريف الكلاسيكي لـفلسفة الحوار، ما بين الإنسان والإنسان، كسوف الله، حكايات حَصيدية، وإشارة إلى الطريق.

ذهب مارتن بوبر ثلاث مرات إلى أمريكا. كانت أول مرة في عام 1951-1952 بدعوة من الندوة اللاهوتية اليهودية. ثم في عام 1957 بمناسبة الذكرى الرابعة لوفاة زليم ألنسن وايت حيث ألقى محاضرة في معهد واشنطن لعلم النفس. ثم في عام 1958 كأستاذ في جامعة برينستون[1].

تقديم موريس فريدمان[2]

إلى جانب كتاباته الفلسفية ذائعة الصيت عالميًا، عُرف بوبر بأنه ذلك الذي أعاد خلق الحًصيديم - كلمة مشتقة من الكلمة العبرية حَصيدوت التي تعني الولاء والتقوى-، وهي تلك الحركة الشعبية التي انتشرت بين يهود أوروبا الشرقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. في تلك الأيام كان بوبر الشاب يمرّ بمرحلة من العقم الفكري والاضطراب الروحي حين وردت إلى مسامعه كلمات لمؤسس الحًصيديم تقول: ""الكلمات تشع نحوي". وعن ذلك يقول:

أصابته الحماسة، فاستيقظ من النوم بحماس لأنه أضحى مقدسًا، وأصبح إنسانًا آخرَ جديرًا بالخَلق؛ لقد أصبح كالإله، مبارك اسمه، حين خلق عالمه. هذا ما حصل حينما، وخلال لحظة، شعرت بقوة خارقة. حين جرّبت الروح الحًصيدية … كإنسان خُلِقَ على صورة الإله فأمسك بالوثيقة وجعل منها فرضًا … وفي نفس الوقت وعيت ضرورة أن أعلن الأمر للعالم أجمع[3].

كنتيجة لهذا "الاعتناق" ترك بوبر نشاطاته السياسية والصحفية، وقضى خمس سنوات في عزلة دَرَسَ خلالها النصوص الحَصيدية، ثم بعد خروجه من هذه العزلة دخل عالمه الحقيقي، ككاتب وناطق ومعلم، لأكثر من نصف قرن.

كرَّس بوبر نفسه لإعادة سرد الحكايات الحَصيدية، وتفسير تعاليمها. وبهذا العمل، الذي لم يساعده فيه أحد، حوّل بوبر الحَصيدية من حركة غير معروفة، محتقرة ومهملة من قبل الثقافة الغربية، إلى إحدى أكثر الحركات الصوفية شهرة في العالم.

عن علاقته بالحَصيدية، تلك العلاقة التي أبعدته عن (شكل) حَصيدية تلك الأيام، كإحدى أكثر التوجهات اليهودية أورثوذكسية وتشددًا من حيث العقيدة وطريقة الحياة؛ كتب بوبر:

لم يكن بوسعي أن أكون حَصيديًا لأن اعتناقي طريقة الحياة الحَصيدية كان سيتحول إلى مسخرة غير مقبولة. وكان من واجبي كمؤمن بعلاقة مختلفة كليًا مع المنقول اليهودي أن أميّز في أعماقي بين ما هو واجب وما هو غير واجب، لذلك كان من الضروري أن أستقي وأتمثَّل، قدر المستطاع، تجربتي الذاتية وما بوسعي تمثله ههنا[4].

ورغم أن حياته كغربي وحداثي منعته من أن يتحول إلى حَصيدي، إلاّ أنه توجه إلى ذلك الينبوع أكثر من أي مصدر آخر ليستقي منه ما يُفترض أن يكون عليه الإنسان المعاصر. فحسب المفهوم الحَصيدي، وكما عبرت عنه فلسفته في الحوار، ليس بوسع الإنسان أن يحب الله ما لم يحب أخاه الإنسان. وهذا الحبُّ يجب أن يكون حقيقياً ولكل كائن بشري منفرد ومتميز، ولا يتوخى أي ثواب خاص، بل بلا مقابل، ولا حتى من أجل الخلاص أو من أجل تحسين أحوال نفس واحدة.

فالحَصيدية تصوّف يُجِلُّ المجتمع والحياة اليومية ويرفض الانسحاب منها، لذلك نراها ترفض الزّهد ونكران الحياة الحسّية من أجل سعادة بوسعها أن تحوّل، وتعيد توجيه، "الأفكار الغريبة" والأوهام التي تلهي الإنسان عن حبَّ الإله. فاليأس، بالنسبة للحًصيدي، أسوأ من الخطيئة لأنه يقود المرء إلى الاعتقاد بقوة هذه الخطيئة والاستسلام لها. لذلك يتوجب على المرء التخلي عن كبريائه التي تقوده إلى مقارنة نفسه بالآخرين، إذ عليه ألاّ ينسى أن في داخله، كما في داخل كل إنسان، مثالاً أساسيًا يتوجب تحقيقه إن أراد تحقيق الكمال في هذا العالم.

لذلك، وكما قال أحد معلمي الحًصيدية، يجب أن يكون لكل منّا جيبان. في الجيب الأيمن يحتفظ الإنسان بكلمات تقول: "من أجلي خلق هذا العالم"؛ وفي الجيب الأيسر: "أنا غبار ورماد". والحَصيدية تؤكد على الإيمان البسيط والتقوى أكثر مما تؤكد على الذكاء الفكري، أو على محاولة تفسير الأسرار الإلهية. لأنّ، كما قال أحد كبار معلميها: كما لكل قفل مفتاحه المناسب، كذلك لكل سرٍّ تأملٌ يستطيع اختراقه. "فالله يحب اللصّ الذي يكسر القفل ويفتحه، وأنا أعني بهذا الإنسان الذي يكسر قلبه من أجل الله.".

وفق الحَصيدية، فإن ما يميزنا خاصة هو مقاربتنا الشخصية للألوهة. ما يعني أنْ ما من شيء أو قاعدة إلاّ ويمكن تجسيدها وتقدسيها. فـ"المدنس"، بالنسبة للحَصيدي الكامل، هو مجرد تعبير للدلالة على ما لم يصبح مقدسًا بعد. لأن القداسة حوَّلت "الحاجات السيئة" لتواجهها وتصبح، بالتالي، مسؤولة تجاهها؛ ما يعني أنْ ليست تقوانا وحدها ولا تصعيدنا الفرويدي، الذي يستعمل العلاقة مع الخارج كوسيلة، هي الأساس والأهم للتغيير الداخلي؛ إنما الأساس والأهم هو تلك العلاقات المتبادلة مع الآخرين التي تمكننا من خدمة الله عن طريق مخاوفنا، غضبنا، حبنا، وشهواتنا الجنسية. لأن مشيئة الله هي أن "نصبح مقدسين كبشر".

وعلى الرغم من أن كتابات بوبر عن الموضوع هي على شكل تعليقات على حكايات حَصيدية، إلا أن طريق الإنسان وفق التعاليم الحَصيدية (1948) يتجاوز بكثير مجرد تفسير للحَصيدية، حيث لا تعطينا أية أعمال لبوبر مثل ذلك القدر من الحكمة البسيطة التي تقدّمها لنا تحليلاته المميزة. لذلك فإني أصنف طريق الإنسان إلى جانب أنا وأنت، ومن أجل السماء كأكبر كلاسيكيات بوبر الخالدة. فالإنسان، كما كتب بوبر، يبدأ من ذاته باحثًا عن قلبه ليجد طريقه الخاص. حيث يتوجب على الفرد لاحقًا ألا يهتم بذاته بل أن يترك أمرها "لإله هذا العالم"، ما يعني أن على كل إنسان اكتشاف رغباته الأساسية، تلك التي تحرّك أعماقه، والتي لا نتعرَّف إليها أحيانًا إلاّ كـ"دعوة لشرٍّ" تبدو كأنها تقودنا، بالصدفة، نحو الضلال والفشل والخطيئة. وهنا لا يتوجب علينا بأي شكل استئصال ذلك الشرّ الملح بل، على العكس، توجيهه إلى حيث الحياة الحقيقية التي نحياها لأننا "ههنا نقف"، لأننا إذا كنّا نملك القدرة فيما يتعلق بنهايات هذا العالم، فإن هذه القدرة لن تعطينا ذلك الامتلاء الوجودي الذي يمكن أن تعطيه لنا، في هذه الحياة، مجرد علاقة هادئة ومخلصة.

* * *

طريق الإنسان وفق التعاليم الحَصيدية

 

مقدمة

يَعتَبِرُ المؤمن، في معظم المنظومات، أن في وسعه تحقيق علاقة كاملة مع الله حين يتخلى عن العالم الحسّي، لكن الحَصيدية ليست كذلك. طبعًا ترى الحَصيدية في "شق الطريق" إلى الألوهة الغاية الأسمى للكائن الإنساني، لكن تحقيق هذه الغاية لا يفرض عليه التخلي عن العالم الخارجي والداخلي ككائن دنيوي، بل التأكيد على حقيقته، وعلى جوهره الموجه إلهيًا، ما يجعله تقدمةً للألوهة.

الحَصيدية ليست من العقائد المنادية بوحدة الوجود، فهي تدعو إلى تصعيد كامل للألوهة، تصعيد مقرون في الوقت نفسه بحلولية مشروطة. لأن الكون إشعاع إلهي، ولكن بما أن الكائن وهب وجودًا مستقلاً ومقدرةً على السعي الدؤوب، فإنه مهيأ دائمًا، وفي كل مكان، لبناء قوقعة حول نفسه؛ وهكذا نجد الشرارة الإلهية في كل شيء ولدى كل كائن محاطةً بقوقعة عازلة. وحده الإنسان يستطيع تحرير تلك الشرارة وإعادة وصلها بأصولها من خلال الإمساك بالأضاد المقدسة للشيء، واستخدامها بطريقة قدسية؛ أي عبر إبقاء رغبته في الفعل موجهة نحو الله. هذا ما يجعل التجلي الإلهي نابعًا من قلب ما أصبح منفيًا داخل قوقعته.

في كل كائن حيٍّ قوة إلهية، لكن هذه القوة موجودة في الإنسان أكثر بكثير من باقي الكائنات. وهي قوة من الممكن إفسادها وإساءة استعمالها. وهذا ما يحدث حين ندعها تسير على غير هدى وفي كل الاتجاهات. ما يجعلها تتمسك بكل ما يقدم لها، عوضًا عن التوجه نحو الأصول. فعوضًا عن تقديس الحبِّ نراها تجعل منه شرًّا. لكن هنا أيضًا هناك طريق مفتوح للخلاص: ذلك الذي يجعل الإنسان "يتوجّه" نحو الله بكامل قوته، فيرتقي به التجلي الإلهي من ذلك المكان من الكون الذي يخصه من ذاك الانحطاط الذي تسبب به.

فمهمة الإنسان، مهمة كلِّ إنسان، وفق التعاليم الحَصيدية، هي التأكيد، (كرما لله)، على العالم وعلى النفس، وتحويلهما.

1-البحث عن القلب

كان الرابي شنوير زالمان[5]، رابي شمال روسيا البيضاء (وقد توفي عام 1813)، سجينًا في بطرسبرغ لأن خصومه من الميتناجديم[6] شَكوا إلى الحكومة الروسية مبادئه وطريقة حياته. وكان ينتظر استدعاءه إلى المحكمة حين دخل رئيس الشرطة زنزانته. لفَتَ الوجه الوقور والهادئ للرابي، الذي كان غارقًا في التأمل بحيث لم يلحظ دخول رئيس الشرطة في بادىء الأمر، انتباه رئيس الشرطة الذي كان رجلاً ذا فكر عميق، ما جعله يتساءل عن طبيعة هذا الإنسان الجالس أمامه، فبدأ يتحدث إلى سجينه وسأله عدة أسئلة راودته حين كان يقرأ المخطوطات المقدسة. وفي النهاية سأله: كيف نفسّر، يا ترى، سؤال الله، العليم بكل شيء، لآدم: أين أنت مختبىء؟ فأجابه الرابي: هل تؤمن بأن المخطوطات المقدسة أزلية، وأنها تشمل كل مجال وكل جيل وكلّ إنسان؟ فأجابه الآخير: نعم، أؤمن بهذا. عندئذٍ أجابه الصدّيق[7]: إن الله، في كلِّ مجال، يسأل كلّ إنسان: أين أنت في عالمك؟ كم من الأيام الممنوحة لك مضت، وما مقدار ما جنيته من عالمك؟ وكأن الله يقول لنا ما معناه: "لقد عشت حتى الآن 46 سنة، فإلى أي حدٍّ ذهبت؟". عندما سمع رئيس الشرطة ذكر سنِّه ثاب إلى رشده، ووضع يده على كتف الرابي وصاح: "مرحى!" لكن قلبه كان يرتعش.

ما الذي حصل في هذه الحكاية؟

لأنها حكاية تذكّرنا، للوهلة الأولى، ببعض القصص التلمودية حين يطرح روماني أو وثني آخر على حكيم يهودي تساؤلات تتعلق بمقطعٍ من التوراة بهدف إظهار تناقض مفترض في العقيدة الدينية، فيتلقى جوابًا يشرح له لما لا يوجد هكذا تناقض، أو يفنّد حجج السائل بطريقة أو بأخرى. وأحيانًا يضاف إلى هذا الجواب تحذير شخصي. لكننا سرعان ما نتبين الفارق بين القصص التلمودية والقصص الحَصيدية، ونتبين أن هذا الفارق غالبًا ما يبدو أكبر مما هو عليه. لأنه في الحقيقة، بالنسبة للقصة الحَصيدية، يأتي الجواب على مستوىً آخر يتجاوز ذلك الذي يتضمنه السؤال.

فرئيس الشرطة يريد إظهار تناقض مفترض في العقيدة اليهودية، لأن ما يبشّر به اليهود هو الاعتقاد بأن الله يعلم بكلّ شيء، لكن التوراة تجعل الإله يطرح أسئلة يطرحها عادة من يريد معرفة أمر يجهله. فالله يبحث عن آدم الذي كان متخّفيًا، ويناديه في الحديقة متسائلاً: أين هو، ما يعني للوهلة الأولى أن الله يجهل مكان آدم، وبالتالي فهو لا يعرف كلّ شيء. الآن، وعوضًا عن تفسير النصّ، وحلّ ما يبدو وكأنه تناقض، ينطلق الرابي من النص كمجرد نقطة بداية ليؤنّب الرئيس على حياته الماضية، وقلة جديته، وطيشه، وقلة شعوره بالمسؤولية. إذ يسأله سؤالاً ليس بالشخصي لكنه، وأيًا كانت جديته، معنيٌ بالوضع الراهن. فالسؤال، في الواقع، ليس سؤالاً حقيقيًا، إنما هو، بشكل خاص، شكل من أشكال الاختلاف الذي يستدعي جوابًا شخصيًا، أو بالأحرى تحذير يحلّ محلَّ الجواب. ما يبدو للوهلة الأولى، وكأن هذا السؤال لم يُبقِ شيئًا من الإجابات التلمودية، سوى ذاك التحذير الذي كان يرافقها أحيانًا.

لكن دعونا نتفحص القصة عن قرب أكثر. فالرئيس يستفسر عن مقطع من القصة التوراتية التي تتحدث عن خطيئة آدم، وجواب الرابي يعني، في الواقع، "أنك أنت ذلك الآدم الذي يسأله الله أين أنت؟" ما يبدو وكأنه جواب لا يعطي تفسيرًا للمقطع بحدّ ذاته، إنما يضيء وضع كل إنسان في كلّ زمان أو مكان. لأنّ رئيس الشرطة، بمجرد أن يسمع ويفهم أن الله يطرح السؤال عليه مباشرة، يغدو ملزمًا بأن يحقق ما يعنيه الله حين يسأله: أين أنت؟ وسواء كان هذا السؤال موجهًا إلى آدم أم إلى أي شخص آخر، فإن الله، حين يسأل ما يسأل، لا يتوقع معرفة شئ يجهله، إنما يبغي إحداث أثر في الإنسان؛ أثر لا يخلقه إلاّ سؤال كهذا، شريطة أن يدخل هذا السؤال قلبه - أو بالأحرى أن يسمح له الإنسان بذلك.

فالإنسان يختبىء ليتجنب تقديم الإجابات، والإنسان يختبىء ليتهرب من مسؤوليته المتعلقة بطريقة حياته. كلُّ إنسان يختبىء لهذا السبب لأن كلّ إنسان هو آدم، ويجد نفسه في موضع آدم. لذلك، وللتهرب من مسؤوليته في هذه الحياة، يحوّل الإنسان حياته إلى منظومة من المخابىء. وهكذا يختبىء المرة تلو الأخرى من "وجه الله"، ما يورطه أكثر فأكثر، وبشكل أعمق، في الانحراف. وهكذا يتولد واقع جديد، واقع يجعل الإنسان أكثر فأكثر عرضة للتساؤل كل يوم ومع كل اختباءٍ جديد. وهذا التساؤل يمكن تعريفه بدقة كما يلي: ليس بوسع الإنسان الهرب من عين الله لأنه، حين يحاول ذلك، يهرب من نفسه. إذ هناك شيء في داخله يبحثُ عنه، والإنسان، بعمله هذا، يصعّب مهمة عثور هذا الشيء عليه. على أرضية هذا الواقع يأتي سؤال الله، لأن الغاية من السؤال هي إيقاظ الإنسان، وتحطيم منظومة مخابئه. الغاية هي أن تبين له مأزقه الذي هو فيه الآن، وضرورة أن يستيقظ ليخرج من هذا المأزق.

ويصبح كل شيء متوقفاً على الطريقة التي يجابه بها الإنسان المسألة. هنا، طبعًا، سيرتعش قلب كلِّ إنسان، كما ارتعش قلب رئيس الشرطة في القصة حين سمع ما سمع، لكن منظومة مخابئه ستساعده على تجاوز انفعالاته. لأن الصوت لم يأت كهدير العاصفة الرعدية التي تهدد المصير، إنما "ما زال صوتًا خافتاً" يسهل إسكاته. لذلك، وطالما بقي الأمر هكذا، لن تصبح حياة الإنسان دربًا مهما كان مقدار النجاح، أو مقدار المتعة، التي حققها، أو مقدار السلطة التي بوسعه بلوغها، أو الأفعال التي بوسعه القيام بها؛ ستبقى حياته بلا درب ما لم يواجه الصوت الذي في داخله.

لقد واجه آدم هذا الصوت، فوعى ما تورط به، واعترف به: "لقد خبأت نفسي" - هذه هي بداية درب الإنسان.

فالبحث الحتمي عن القلب هو بداية الطريق في حياة الإنسان، وهو، أيضًا وأيضًا، بداية الدرب الإنساني. لكن البحث عن القلب لا يكون مصيريًا إلاّ إن أوصلنا إلى تلك الدرب، لأن هناك نوع عقيم من البحث عن القلب، هو ذاك الذي لا يقود إلاّ إلى تعذيب الذات، إلى اليأس، وإلى مزيد من التورط.

عندما وصل الرابي جير[8]، وهو يتصفح المخطوطات، إلى تلك الكلمات التي حدّث بها يعقوب عبده قائلاً:

إن صادفك عيسو أخي، وسألك فقال: من أنت، وإلى أين تمضي، ولمن هذا الذي بين يديك؟[9]

قال لتلاميذه:

انتبهوا كم تشبه أسئلة عيسو قول حكمائنا، انتبهوا لهذه الأشياء الثلاثة: اعرف من أين أتيت، وإلى أين أنت ذاهب، ولمن يتوجب عليك تقديم الحساب. وكونوا حذرين جدًا، فالحذر الشديد مطلوب من الذي يأخذ هذه الأشياء الثلاثة بعين الاعتبار، لأن عليه أن يدع عيسو الذي في داخله يتساءل. فعيسو أيضًا، قد يسأل أسئلة كهذه، وهذا ما يجعل الإنسان كئيبًا.

يبقى أن هناك تساؤلٌ شيطاني، تساؤلٌ زائف، يشوه ذلك الإلهي الذي يبحث عن الحقيقة. وما يميز هذا التساؤل أنه لا يكتفي بـ"أين أنت؟" إنما يتابع فيقول "لأنه حيث أنت واقف لا طريق إلى الخلاص". وهذه طريقة خاطئة في البحث عن القلب، لأنها طريقة لا تحث الإنسان على التحول، ولا ترشده إلى الدرب؛ لأنها، من خلال تصوير استحالة التحول، تدفع الإنسان إلى الحياة مستندًا فقط إلى كبريائه الشيطاني، الذي هو كبرياء منحرف.

2-الدرب الفريد

ذات مرّة، قال الرابي بايير رودوشيتز لأستاذه "سيد" لوبلين: أرشدني إلى طريق عام واحد لخدمة الله. فأجابه الصِّدّيق: مستحيل أن نرشد البشر إلى الطريق التي يتوجب عليهم سلوكها لأن إحدى طرق خدمة الإله قد تكون من خلال التعلّم، وأخرى من خلال الصلاة، وأخرى من خلال الصيام، وغيرها من خلال الطعام؛ لذلك على كل فرد أن يتبين الدرب التي تقوده إليها قلبه، ومن ثم فليختر طريقه بكل ما أوتي من قوة.

تخبرنا هذه الحكاية، في المقام الأول، عن علاقتنا بخدمة الله كما كان يقوم بها آخرون من قبلنا. وهو ما يجب علينا إجلاله والتعلّم منه، ولكن ليس تقليده. فالأفعال العظيمة والمباركة، التي قام بها آخرون، هي قدوة لنا، لأنها تبين، بشكل مباشر، ماهية العظمة والبَرَكَة؛ لكنها ليست نماذج يتوجب علينا نسخها. لأنه، ومهما كان ما ننجزه صغيرًا مقارنة بما أنجزه أسلافنا، فإن قيمته الحقيقية تكمن في أننا نقوم به على طريقتنا، وبجهودنا الخاصة.

"سُئِل مبشِّر[10] زلوتشوف[11] من قبل حاصيدي: قيل لنا إنّ من واجب كل شخص في إسرائيل أن يتساءل: "متى ستقارب أفعالي أفعال آبائي، إبراهيم وإسحق ويعقوب؟" فكيف يجب علينا فهم هذا القول؟ كيف بوسعنا أن نتجرّأ فنفكّر أنّ في مقدورنا القيام بما قام به آباؤنا؟ فأجابه الرابي شارحًا: كما أوجد آباؤنا طرائق جديدة للخدمة، وكلٌّ بما يتناسب مع طبيعته: كان أحدهم يخدم عن طريق المحبة، والآخر يخدم عن طريق صرامة العدالة، والثالث عن طريق الجمال؛ كذلك يجب على كلٍّ منا، كلٌّ بطريقته، وعلى ضوء ما تعلمه، تحقيقَ شيء جديد؛ وما يتوجب عليه من خدمة هو أن يقوم بما لم يقم به أحد سواه من قبل.

كل مولود في هذا العالم يمثل شيئًا جديدًا، شيئًا لم يتحقق من قبل، شيئًا مميزًا وفريدًا. لذلك يجب على كل شخص في إسرائيل أن يعرف ويأخذ بعين الاعتبار أنه، من حيث طبيعته الخاصة، مميّز في هذا العالم، ولا مثيل له. إذ لو كان له مثيل، فلا حاجة إليه (في هذا العالم) عندئذٍ. وبما أنّ كلّ إنسانٍ كائنٌ جديدٌ في هذا العالم، فهو مدعو لأن يلعب دوره الخاص. ولأن هذا لا يحدث يتأخر قدوم المسيح. فمهمة كلِّ إنسان هي تجسيد إمكاناته المتفردة، غير المسبوقة، والتي لن تتكرر؛ وليس تكرارَ ما سبق أن قام به وحققه شخص آخر، مهما كانت عظمته، وعظمة ما قام به.

ذات مرة قال الرابي بونمن، وكان قد بات أعمى، وبلغ من العمر عتيًا:

لستُ أرغب في تبادل الأدوار مع والدنا إبراهيم، لأنه ماذا يفيد الله إن صار إبراهيم أعمى كبونمان، وصار بونمان كإبراهيم؟ أعتقد أنّ من الأفضل أن أحاول تحقيق نفسي.

وقد عبّر عن نفس الفكرة، لكن بمزيد من الخصب، الرابي زوسيا حين قال، قبيل وفاته بوقت قصير:

لن أُسأل في العالم الآخر: لماذا لم تكن كموسى؟ بل سأسأل: لماذا لم تكن زوسيا؟

ونجدنا أمام عقيدة تنطلق من منظور يقول إنّ البشر ليسوا متشابهين أساسًا، ولهذا فإن هذه العقيدة لا تسعى إلى جعلهم متشابهين. لكل إنسان مدخله إلى الله، ومدخل كل إنسان يختلف عن مدخل الآخر. والجنس البشري محظوظ، تحديدًا، لعدم التشابه بين البشر، محظوظ لعدم تشابه صفاتهم وميولهم. فالله بشموليته يتجلى عبر طرق لامتناهية في تعدديتها، وكل الطرق تقود إليه. كل واحد منها مخصص لإنسان واحد فقط. لذلك، عندما جاء بعض تلاميذ الصدّيق المرحوم "سيّد" لوبلين إليه، وعبّروا عن دهشتهم من أن عاداته تختلف عن عادات معلمهم الأسبق، قال لهم "السيد" شارحًا:

أي إله هذا الذي لا يملك إلاّ طريقًا واحدةً لخدمته!

لأن الواقع الذي يقول إنّ كل إنسان، انطلاقًا من مكانه وبالطريقة التي تحددها طبيعته الخاصة، قادرٌ على التواصل مع الله، يعني أنْ ليس بوسع البشرية الوصول إلى الله بالطريقة ذاتها، وإنما من خلال التقدم عبر كل تلك الطرق المختلفة.

لم يقل الإله: "هذا الطريق يوصل إليّ، وذاك الطريق لا يوصل"، بل قال: "كل ما تفعله يمكن أن يكون طريقًا إليّ، شريطة أن تقوم به بطريقة توصلك إليّ". وما يقوم به هذا الشخص، وحده، يُوحى له من داخله. بهذه الطريقة، وكما قلت سابقًا، قد تكون مضلّةً دراسة منجزات شخص آخر، والسعي إلى التشبه به. لأننا إن فعلنا ذلك فسنضيع عما نحن، تحديداً، وكلٌّ على حدة، مدعوون إليه. هذا ما قاله بعل شيم[12]:

على كل إنسان أن يسعى انطلاقًا من "درجته"، فإن لم يفعل وتعدى على درجة سواه، فلن يحقق شيئًا.

ما يعني أن الطريق التي سيصل بها الإنسان إلى الله تمر من خلال معرفته لذاته، ومن خاصيته الأساسية وميله. "ففي داخل كل إنسان شيء نفيس، غير موجود لدى أي إنسان آخر." وهذا الشيء النفيس الذي في داخل الإنسان لن يوحى إليه ما لم يتمكن من تلمّس حقيقة أقوى مشاعره، بمعنى تلك الرغبة الأساسية التي بوسعها تحريك كيانه الداخلي.

طبعًا، وفي غالب الأحيان، لا يعرف الإنسان مشاعره العميقة إلاّ من خلال شغف خاص لـ"إلحاحٍ شرير" يدفعه إلى الخطأ. لأنّ من الطبيعي أن تندفع رغبة الإنسان الأولى، والتي تتطلب الإشباع، نحو الأشياء التي تعترض طريقه. لذلك من الضروري ههنا تحويل قوة هذا الشعور، أو هذا الدافع، نحو مسببها الأساسي؛ بمعنى أن نحوِّلها من النسبي إلى المطلق. وهكذا، يستطيع الإنسان أن يجد طريقه.

قال صدّيق ذات يوم: في ختام الكتب المقدسة نقرأ أننا "في النهاية نجد دعوة واحدة هي مخافة الله." وأيًّا كان الشيء الذي نتابعه حتى النهاية، فسنسمع شيئًا واحدًا هو "مخافة الله". وهذا الشيء الوحيد هو الكلّ لأنه لا يوجد في هذه الحياة إلاّ ما يشير إلى مخافة الله وخدمته.

ولأن كل شيء وصية. لذلك ليس من الممكن، بأي شكل من الأشكال، أن تكون مهمتنا، في هذا العالم حيث خلقنا، الابتعاد عن الأشياء والكائنات التي تصادفنا وتنجذب نحوها قلوبنا، لا بل من واجبنا التواصل معها من خلال تقديس علاقتنا بها، وبما ينعكس عبر هذه العلاقة من جمال ومتعة وفرح. الحَصيدية تدعو إلى الاستمتاع بهذا العالم من خلال تقديسه بكامل كياننا، لأن هذا الاستمتاع هو ما يقودنا إلى الغبطة في الله.

نقطة واحدة فقط من حكاية "السيّد" تبدو وكأنها تتناقض مع ما ذهبنا إليه. وتحديدًا، من بين أقاصيصه، تلك التي تشير ليس فقط إلى تناول الطعام إنما أيضًا إلى الصيام. لأننا، إن نظرنا إلى الأمر من منظور التعاليم الحَصيدية بكليتها، نرى أن الانقطاع عن الطبيعة، الذي قد يبدو انقطاعًا عن الحياة الطبيعية، بوسعه، بالنسبة للبعض، أن يكون نقطة البداية على الطريق؛ أو، ربما، فعل اعتزال ذاتي وضروري في لحظات حرجة في الحياة، لكنه لا يمكن، البتة، أن يشكل كامل الدرب. بعض الناس قادرون على بدء الصيام وتكراره مرارًا، فالتقشف، بالنسبة لهم، هو الطريق الوحيد للتحرر من العبودية تجاه العالم، وللتعمق في البحث عن المطلق في أعماق قلوبهم؛ إلاّ أنه لا يجوز، البتة، أن يهيمن هذا التقشف على حياة الإنسان. فغاية انقطاع الإنسان عن الطبيعة يجب أن تكون إعادة التواصل مع الطبيعة من جديد، ويكون هذا من خلال تقديس العلاقة بها. ومن خلال هذا الطريق نتلمّس الطريق إلى الله. يفسّر الرابي زوسيا هذه الفقرة من التوراة التي تقول:

جعل هذا بين أيديهم وهو واقف أمامهم تحت الشجرة فأكلوا.[13]

من منطلق أن مرتبة الإنسان أعلى من مرتبة الملائكة لأنه يعرف أمورًا لا يعرفونها كالطعام الذي تقدسه، ههنا تحديدًا، نيّة الآكلين. فعن طريق إبراهيم أكل الملائكة، الذين لم يكونوا معتادين على الطعام، ما كان مقدّمًا من الله. كل فعل، إن قُدِّس، يقودنا إلى الله. والطبيعة بحاجة إلى الإنسان الذي يستطيع ممارسة قداسة لا تستطيعها الملائكة.

3-قرار

صام أحد الحَصيديم، من أتباع رابي لوبلين، من السبت إلى السبت الذي تلاه، لكنه، مساء يوم الجمعة، بدأ يشكو من الظمأ إلى حد اعتقد معه بأنه سيموت. رأى عينَ ماءٍ فتوجه إليه، وهمَّ بأن يشرب، لكنه تنبه فجأة إلى أنه، بسبب ساعة قصيرة ما زال عليه تحملها، سيدمّر ما قام به خلال أسبوع بكامله، فلم يشرب وابتعد عن النبع. وراودته مشاعر فخر لأنه اجتاز مثل هذا الامتحان الصعب، لكنه تنبّه لذلك وقال لنفسه: "لعلّ من الأفضل أن أذهب إلى النبع وأشرب من أن أدع قلبي يقع فريسة التفاخر، فعاد إلى النبع. ولكن ما أن همّ بشرب الماء حتى لاحظ أن ظمأه قد زال. بعد ذلك، وعندما باشر السبت، دخل منزل أستاذه الذي دعاه، وهو يجتاز العتبة: يا كشكول!.

وأتذكر أنني حين كنت شاباً، وسمعت هذه الحكاية أول مرة، صدمت من الطريقة الفجّة التي عامل بها المعلم تلميذه، خاصةً وأن التلميذ كان قد بذل قصار جهده للقيام بعمل تزهّدٍ صعب، فقد شعر بإغراء عدم الاستمرار وتجاوز هذا الإغراء، فكانت مكافأته الوحيدة، بعد كل هذا العناء، تعبير استنكار من معلمه. لأنه إن كان صحيحًا أن ما كبته، أولاً، كان مردّه سلطة الجسد على الروح، وهي طاقة يفترض تحطيمها، فإن ما نجم عن ذلك، ثانيًا، كان من أجل غاية نبيلة: حيث فضّل السقوط على الوقوع في براثن خطيئة الكبرياء؛ فكيف يوبخ إنسان على صراع داخلي كهذا؟ ألا يعني هذا طلب الكثير؟

بعد فترة طويلة ( لا تقلّ عن ربع قرن)، وعندما أستعيد هذه القصة التراثية، أفهم أنْ لا علاقة لها بمسألة محددة مطلوبة من الإنسان. فصدّيق لوبلين لم يكن من مؤيدي التقشف، ما يعني أن الصوم الحَصيدي لم يكن يعجبه إلاّ بمقدار تصعيده روح الحَصيدي إلى "مرتبة" أعلى. لأنه نفسه كان قد أقرّ أن بوسع الصيام خدمة هذا الهدف سواء في المراحل الأولى لتطور الشخص أو لاحقًا في مراحل حرجة من حياته. أيهما أَوْلى؟.

لكن يبدو أنه، وبعد متابعة تطور العلاقة بين المغامرة والتّفهم الحق، من دون أدنى شك، قال للمريد: "(ما فعلته) ليس الطريق الصحيح للارتقاء إلى المرتبة الأعلى." محذرًا إياه من شيء طارئ قد يعيق تحقيق غايته. وهذا ما أضحى جليًا إلى حدّ كبير، لأن الغاية من التوبيخ هي التطور والخلوة اللاحقة، وهذا أمر جعلته الطبيعة المترددة والمتذبذبة للشخص موضع تساؤل. لأن نقيض كون الفعل مرقّعًا هو أن يكون قطعة واحدة. أمّا كيف بوسع المرء أن ينجز الشيء كقطعة واحدة؟ فهذا ليس ممكنًا إلاّ إن كانت النفس موحّدة.

وتجدنا مضطربين مرة أخرى من تساؤل قد يطرح نفسه حول ما إذا كان هذا الرجل قد عومل بفظاظة، لأنّ كل شخص، وككل الأشياء في هذا العالم، يملك - سواء "بشكل طبيعي" أم "كنعمة"، فهذا يعود لخياره الشخصي - نفسًا متكاملة، نفسًا من قطعة واحدة تؤهله للقيام بأعمال متكاملة، بأعمال من قطعة واحدة. ونفسه، على ما هي عليه، هي التي تمكنّه من القيام بذلك. لأنّ الإنسان، حين يمتلك نفسًا ممزقةً ومعقدةً ومتناقضةً، فإن هذا سيؤثر بشكل طبيعي على أفعاله التي تنبع كوابحها واضطراباتها من كوابح نفسه واضطراباتها؛ وهذا ما يعكس الاستياء من أفعاله. حيث ماذا بوسع إنسانٍ كهذا أن يفعل كي يتجاوز الإغراءات التي يتعرض لها خلال سعيه لتحقيق هدفه؟ ماذا بوسعه أن يفعل في كل مرة، وهو في قلب عمله، سوى "تمالك نفسه"، بمعنى إعادة تجميع هذه النفسه المتأرجحة؛ ثمّ، المرة تلو المرة، وبعد جمعها، إعادة توجيهها نحو الهدف - لا بل أكثر من هذا، ماذا بوسعه أن يفعل غير أن يكون، كالحَصيدي الذي في القصة، مستعدًا، حين تواجهه الكبرياء، للتضحية بالهدف مقابل إنقاذ الروح؟

فقط عندما نعيد التمعن في قصتنا هذه، على ضوء هذه التساؤلات، نستطيع أن نفهم الدرس الذي يتضمنه انتقاد السيد. فهو تعليم يقول إنّ بوسع المرء توحيد نفسه، وإنّ الإنسان ذا النفس الممزقة والمعقدة والمتناقضة ليس ميؤسًا منه، إذ توجد في نواة نفسه تلك القوة الإلهية، التي في أعماقها قادرة على الفعل والتغيير وإعادة وصل القوى المتصارعة ومزج العناصر المتعارضة؛ هي القوة القادرة على توحيد النفس. وهذه الوحدة يجب أن تتحقق قبل المباشرة بأي فعل غير اعتيادي لأننا فقط حين نمتلك روحًا موحدة نستطيع القيام بعمل متكامل كتلك القطعة الواحدة وغير المرقّعة. ما يعني أن انتقاد السيد للحَصيدي هو بسبب مباشرته عمله قبل توحيد نفسه. لأن وحدة النفس لا يمكن أبدًا أن تتم أثناء العمل. كما أنه لا يجب أن نتصور أن هذه الوحدة يمكن أن تتحقق من خلال التقشف، فالتقشف يمكن أن يطهِّر النفس، ويساعد على التركيز، لكن ليس بوسعه الحفاظ على ما أنجز إلاّ حين يتحقق الهدف. التقشف لا يستطيع حماية النفس من تناقضاتها.

هناك شيء واحد يجب ألا يغيب عن ناظرنا، ويقول بأن وحدة النفس لا يمكن أن تكتمل. فكما تواجه النفس الأكثر توحدًا منذ ولادتها مصاعب داخلية أحيانًا، كذلك ليس بوسع النفس التي تكافح بقوة من أجل وحدتها تحقيق هذه الوحدة بشكل كامل. لكن أي فعل أقوم به من خلال نفس موحدة يرتد إلى نفسي، فيدفعها نحو المزيد من التوحد. وهذا ما يقودني، من خلال مختلف أنواع التفرعات، إلى وحدة أكبر من تلك التي سبقت. هكذا يصل الإنسان بشكل كامل إلى نقطة يستطيع فيها الاعتماد على نفسه، لأن وحدة نفسه بلغت حدًا يمكّنه بسهولة من تجاوز تناقضاته. طبعًا تبقى اليقظة ضرورية هنا أيضًا، لكنها تكون في هذه الحالة يقظة غير متوترة.

في أحد الأيام خلال عيد الأنوار ("الهانوكا" بالعبرية) دخل الرابي ناحوم ابن الرابي ريشين بيت الدراسة في وقت لم يكن مجيئه متوقعًا، فوجد تلامذته يلعبون الداما على عادتهم في تلك الأيام. وعندما رأى التلاميذ الصدّيق توقّفوا عن اللعب، لكنه أشار إليهم إشارة لطيفة وسألهم: "هل تعرفون قواعد لعبة الداما؟"، وعندما لم يجيبوه بسبب خجلهم أجابهم: "سأخبركم قواعد لعبة الداما. القاعدة الأولى: لا يجب القيام بحركتين مرة واحدة. القاعدة الثانية: يجب التقدم دائمًا إلى أمام وليس إلى الخلف. والقاعدة الثالثة: حين تصل إلى الصف الأخير يمكنك التحرك كما تشاء".

على أية حال، نحن نسيء فهم وحدة النفس إن لم نفهم أن النفس تعني كلية الإنسان، أي إنها تعني الروح والجسد معًا. فالروح لا يمكن أن تكون موحدة فعلاً ما لم تكن كل الأعضاء موحدة. من هذا المنطلقة يفسر بعل-شيم المقطع التالي من العهد القديم:

كل ما تصل إليه يدك من عملٍ فاعمله بجميع قوتك[14]...

من منطلق أن كل أعضاء المرء يجب أن تساهم في أفعاله، بما فيها كل جسمه الذي يفترض أن يكون مشاركًا، بحيث لا يبقى أي جزء منه غير مشارك. هكذا يصبح الإنسان واحدًا روحًا وجسدًا - ذلك الإنسان الذي يصبح فعله قطعة واحدة أيضًا.

4-المباشرة بالذات

ذات مرة، كان الرابي إسحق من فوركي يلعب دور المضيف لبعض الشخصيات النافذة في إسرائيل، وكانوا يتناقشون حول التدبير المنزلي لخادم نزيه وفعّال. وقالوا إن الخادم الجدي خلق من أجل القيام بإدارة جيدة، وقارنوه بيوسف الذي يزهر كل شيء بين يديه. فاعترض الرابي إسحق، وقال: "أنا أيضًا كنت أعتقد ذلك، لكن معلمي بين لي أن كل شيء يتوقف على سيد الدار. فعندما كنت شابًا، كنت أعاني الكثير من المتاعب بسبب زوجتي، ورغم أني كنت أعاملها على أفضل وجه، كنت أحزن لأوضاع الخدم. لذا ذهبت لرؤية أستاذي، الرابي ديفيد من لولوي، وسألته: هل يتوجب عليَّ مواجهة زوجتي؟ فكان جوابه: لِمَ تسألني؟ اسأل نفسك! ففكرت في هذه الكلمات لفترة طويلة قبل أن أتمكن من فهمها. وقد فهمتها عندما تذكرت قولاً لبعل- شيم يقول فيه: "هناك فكر وقول وفعل. الفكر ينطبق على زوجة المرء، والقول على أبنائه، والفعل على خدمه. فمن يقوّي نفسه في هذه الأمور الثلاثة سيرى أنّ كل شيء يزهر بين يديه." عندها فهمت ما الذي عناه معلمي حين قال إنّ كل الأمور تتوقف عليّ أنا.

تتعرض هذه القصة إلى إحدى أعمق وأصعب المسائل التي نواجهها في هذه الحياة: المسبّب الحقيقي للصراع بين الإنسان والإنسان.

عادة ما تفسَّر مظاهر هذا الصراع بالأسباب التي تعيها الأطراف كأساس لخلافاتها، أو بالوقائع الموضوعية والطرق المستخدمة، الكامنة خلف تلك المسبّبات؛ أو حين نحلل الأمور، ونحاول استكشاف العقد الكامنة خلف تلك المبررات المسببة لتلك الإضطرابات العضوية بحدِّ ذاتها. والتعاليم الحَصيدية تتوافق مع هذا التوجه من منطلق أن المشكلات الخارجية تنبع من المشكلات الناجمة عن الحياة الداخلية، لكنها تخالفه في نقطتين أساسيتين، إحداها رئيسية والثانية عملية لكنها تفوق الأولى في أهميتها. الفارق الأساسي هو أن التعليم الحَصيدي لا يتدخل في استكشاف التعقيدات الجسدية بل ينظر إلى الإنسان ككل. وهذا بحد ذاته يشكِّل فارقًا نوعيًا؛ فالمفهوم الحَصيدي ينبع من يقينٍ يقول إن عزل العناصر، والمعالجات الجزئية للكلّ، يعيق فهم ذلك الكلّ، وأن التحول الحقيقي، والاستعادة الحقيقية التي تبدأ من الشخص وتتطور لتشمل علاقته بالآخرين، لا يمكن تحقيقها ما لم نتفهم الكلّ بكلّيته. (ما يضعنا أمام معضلة تقول إن البحث عن مركز الثقل يبعدنا عن، ويحبط محاولتنا لتجاوز، الإشكالات المطروحة.) لكن هذا لا يعني أن لا ضرورة من أن نأخذ بعين الاعتبار كل مشكلات النفس، وإنما يعني أن أية واحدة منها لا يجب أن تتحول إلى مركز انتباه يحوِّل باقي المشكلات إلى تابعة لها؛ بل يجب التعامل معها جميعها كنقاط انطلاق - ليست منفردة بل متصلة حيويًا.

الفارق العملي هو أن الحَصيدية لا تعامل الإنسان كموضوع للتحليل، وإنما تدعوه إلى "تصويب نفسه" لأنّ عليه، منذ البداية، إدراك أن حالات الصراع بينه وبين الآخرين ما هي إلاّ نتاج حالات صراع في داخل نفسه؛ ما يعني بأن عليه محاولة تجاوز ذلك الصراع الداخلي، ليتمكن بعدئذٍ من التوجه إلى أنداده من البشر، والشروع في علاقات جديدة معهم.

والإنسان غالبًا ما يحاول تجنّب هذا التحول المصيري - لأن من المنفِّر جدًا بالنسبة له تغيير علاقاته المعتادة مع العالم - الذي يدعوه إلى العودة إلى ذاته، إلى نفسه؛ وخاصةً حين تكون نفسه هي صاحبة النداء. ومن واقع أن كل صراع يفترض وجود طرفين، وأنه إذا كان عليه تحويل اهتمامه من الصراع الخارجي إلى صراعه الداخلي الخاص، فإن عليه أن يتوقع من خصمه أن يعامله بالمثل. لكن، من هذا المنظور تحديدًا، حين يرى الإنسان نفسه كفرد في حال تعارض مع سواه، وليس كشخص حقيقي يساهم من خلال تحوله في تحويل العالم؛ يكمن الخطأ الرئيسي الذي تنتقده التعاليم الحَصيدية.

فالشيء الأساسي هو البدء بالذات، لأنه في هذه اللحظة لا يبق شيء جدير بالاهتمام سوى هذه البداية. إذ إن كل موقف آخر يلهيه عما هو مزمع على مباشرته، ويضعف مبادرته، ويحبط تطلعاته الجريئة برمّتها.

من تعاليم الرابي بونان: يقول حكماؤنا: "ابحث عن السلام في مكانك". ليس بوسعك أن تجد السلام سوى في نفسك. ونقرأ في المزامير: "لا سلام في عظامي بسبب من خطيئتي." لذلك عندما يتصالح الإنسان مع نفسه يمكنه نشر السلام في العالم أجمع.

رغم هذا، فإن القصة التي ابتدأت بها لا تحصر نفسها بالإشارة إلى المسبب الحقيقي للصراعات الخارجية، أي الصراع الداخلي، بشكل عام. فالقول المقتبس لبعل- شيم يشير بوضوح إلى الطبيعة الحقيقية للصراع الداخلي، الذي هو صراع بين ثلاثة مبادئ يتضمنها وجود الإنسان وحياته، وهذه المبادىء هي: مبدأ الفكر، ومبدأ الكلام، ومبدأ الفعل. ذلك أن مسبب كل الصراعات بيني وبين أندادي من البشر هو أني لا أقول ما أعنيه، ولا أفعل ما أقول.

وهذا ما يربك ويسمّم، أيضًا وأيضًا وبشكل متزايد، العلاقة بيني وبين الآخر عن طريق تفككي الداخلي الذي لا يعود باستطاعتي التحكم به وقد أصبحت عبدًا لأوهامي. ومن خلال تناقضاتنا وكذبنا نغذي حالات صراعية، ونمدها بالقوة اللازمة لتجعلنا عبيدًا لها. من هذا المنطلق، لا سبيل إلى الخروج من المأزق إلاّ من خلال التحقق الحازم. لأن كل شيء يعتمد على ذاتي، وعلى قراري الحازم: هكذا أصوّب نفسي.

لكن، لكي يتمكن الإنسان من القيام بمثل هذا الفعل العظيم عليه أن يجد الطريق ليتجاوز العناصر العرضية والملحقة في حياته، ويصل إلى ذاته. تلك الذات الحقيقية للإنسان الحي والمرتبطة بالعالم. وهذا أيضًا يتعارض مع كل ما اعتدنا عليه.

لذلك سأختتم هذا الفصل بدعابةٍ يقال إنّ الرابي هانوخ نقلها ذات يوم حين قال: كان هناك إنسان عرف بغبائه الشديد، إذ كان يجد صعوبة كبيرة، حين يستيقظ صباحًا، في تذكّر أين وضع الثياب التي خلعها قبل أن ينام، مما جعله يتردد في اللجوء إلى الفراش خوفًا مما قد يعانيه حين يستيقظ. ذات ليلة، وبعد أن بذل جهدًا كبيرًا، أخذ ورقةً وقلمًا، وكلما كان يخلع قطعة من ملابسه كان يسجل على الورقة موضع الثياب التي خلعها. في صباح اليوم التالي، كان مسرورًا جدًا من نفسه إذ قرأ "بنطال" بدلاً من "قبّعة" - ها هي ذي، واعتمرها، ها هو ذا هناك، وارتداه. واستمرّ حتى لبس ثيابه كلها، وعندها تساءل بهلع: "هذا جيد جدًا، لكن أين أنا الآن؟ أين أنا يا ترى؟". بحث، وبحث، لكن دون جدوى، ولم يستطع أن يجد نفسه.

وهكذا هي حالنا، قال الرابي.

5– أن لا ننشغل بأنفسنا

زوّج الرابي حاييم من زانس[15] ابنه لإبنة الرابي أليعازر. وفي اليوم التالي قام بزيارة والد العروس وقال له: "الآن وقد أصبحنا أقارب، بتًّ أشعر أني أقرب إليك، وأن بوسعي أن أخبرك بما يتآكل قلبي. انظر! كيف شابَ شعر رأسي ولحيتي، وأنا لم أكفّر بعد عن ذنوبي!" أجابه الرابي أليعازر:" يا صديقي، أنت لا تفكر إلاّ بنفسك. ماذا لو نسيت نفسك وفكرت في العالم؟"

ما قلته ههنا يبدو لأول وهلة متناقضًا مع كل ما سبق وأوردته من تعاليم الحَصيديم. حيث سمعنا أن على كل إنسان أن يبحث في أعماق قلبه، وأن يختار طريقه الخاص، وأن يسعى لتحقيق الوحدة في ذاته، وأن يبتدئ بنفسه؛ وها نحن نسمع الآن أن عليه أن ينسى نفسه. لكن، إن تمعنّا بعمق أكثر في هذه النصيحة، لوجدنا أنها لا تنسجم فقط مع ما سبقها، بل تشكل صلة لا بد منها معها، كمرحلة ضرورية، وفي المكان المناسب. لأن كل ما نحتاجه للفهم هو أن نسأل أنفسنا: "لماذا؟". لماذا يتوجب علي اختيار طريقي الخاص؟ من أجل ماذا يجب عليّ توحيد ذاتي؟ الجواب هو: ليس من أجل ذاتي. لهذا كانت الدعوة السابقة بأن نبدأ بذاتنا. وأن نبدأ بذاتنا لا يعني أن تكون هذه الذات هي النهاية؛ أن نباشر بالذات نعم، لكن أن لا تكون هذه الذات هي الغاية. أن نفهم ذاتنا نعم، لكن لا أن ننشغل بها.

وتجدنا أمام صدّيق حكيم تقي، أمام إنسان لطيف، يلوم نفسه، وقد بلغ به العمر ما بلغ، لأنه لم يحقق تحوله الحقيقي بعد. والجواب الذي قُدِّم له يبدو وكأنه جاء متعجلاً حين يؤكد على أنه يغالي جدًا في تقدير خطاياه ويسهو عن الجزاء الذي تعرّض له. لكن ما قاله الرابي أليعازر يتجاوز هذا الأمر، لأنه يعني بشكل عام أن: "لا يؤرقنّك ما ارتكبته من خطأ، إنما استخدم قوة الروح، التي تبددها الآن على لوم ذاتك، من أجل تمتين علاقة فعالة مع العالم الذي خلقت لأجله. ما يعني أنه يجب أن لا تشغلك ذاتك بل أن يشغلك العالم."

علينا أن نفهم بشكل صحيح ما سبق أن قيل حول التحوّل. من المعروف أن التحوّل يشكل مركز اهتمام الفهم اليهودي لطريق الإنسان، فالتحول يجدد الإنسان من الداخل، ويغير موقعه في عالم الألوهة. وهو تحوّلٌ يبدو أعلى مرتبة من الصدّيق الذي لم يواجه هاوية الخطيئة. فالتحول يتجاوز هنا الندم والكفارة. ما يعني أنه حين يتحول المرء في كيانه، فإن ذاك الذي كان ضائعًا في متاهة الأنانية، التي كانت دائمًا هدفه، قد وجد طريقًا إلى الله، طريقًا لتحقيق تلك المهام التي خلقه الله من أجلها تحديداً. لذلك ليس بوسع الندم إلاّ أن يكون حافزًا لهذا التحول الفاعل. لهذا فإن من يحطّ من قيمة ذاته عبر لومها، ومن يؤرّق نفسه معتقدًا أن ما فعله للتكفير عن ذنوبه لا يكفي، يكبح أفضل ما عنده من طاقات تؤهّله للقيام بهذا التحول.

في خطبة ألقاها في يوم التكفير، حذّر الرابي غار من تعذيب الذات، فقال:

إنّ من فعل سوءًا، وفكّر فيه، وتحدث عنه طوال الوقت، لم ينتزع أساس ما فعل من أفكاره. لأنه مهما فكر المرء، فإنه يبقى واحدًا ههنا، وتبقى نفسه بالكامل أسيرة ما يفكر فيه، ما يبقيه في الأسفل. مما يجعله عاجزًا عن التحول، ويجعل نمو نفسه رديئًا، وقلبه مستعصيًا، وتسيطر عليه الكآبة. ما الذي تفعله حين تقلب الروث بهذه الطريقة أو بتلك؟ الروث يبقى روثًا. هل أخطأت أم لم أخطىء يا ترى؟- ما الذي، بربك، تجنيه السماء من كل هذه التساؤلات، في وقت كان بوسعي تجاوز الأمر وقطف اللألىء التي تغتبط لها السماء؟ لهذا قيل: "ابتعد عن الشر وافعل الخير". تحول بالكامل عن الشر ولا تقع به وافعل الخير. هل أخطأت؟ لا بأس، صحح ما فعلت إذًا وافعل الخير.

لكن المعنى الحقيقي لقصتنا يتجاوز أيضًا هذا الأمر. لأن من يعذّب نفسه بلا كلل متفكرًا بأنه لم يكفّر بشكل كاف عن ذنوبه، يهتم بشكل أساسي بخلاص نفسه، وبمصيره الخاص في الأزلية. والحَصيدية حين ترفض هذه الغاية، إنما تستخلص استنتاجًا أساسيًا من التعاليم العامة لليهودية. لأن هناك نقطة رئيسة تختلف المسيحية فيها عن اليهودية ألا وهي أنها (أي المسيحية) تجعل من خلاص الإنسان غايته الأساسية، أما اليهودية فتنظر إلى كل نفس بشرية كعضوٍ يخدم الخليقة الإلهية المدعوة لأن تصبح مملكة الله من خلال فعل البشر؛ لهذا لا تجد أيّ نفس غايتها في ذاتها، أي في خلاصها الخاص. صحيح أنّ على النفس أن تعرف ذاتها، وأن تتطهر، وتسعى إلى الكمال، لكن ليس من أجل ذاتها، ولا من أجل سعادتها المؤقتة، ولا من أجل هنائها الأزلي؛ إنما من أجل ذلك العمل التي يتوجب عليها القيام به في هذا العالم.

فهنا يُنظر إلى سعي الشخص لخلاصه الخاص كأحد أقصى أشكال العزيمة الذاتية، وهذا ما ترفضه الحَصيدية بشكل قاطع، وخاصة بالنسبة للإنسان الذي وجد وطور ذاته الخاصة. قال الرابي بونام: جاء في الكتاب: "وأخذ قورح". ما الذي أخذه (قورح) يا ترى؟ لقد أراد أن يأخذه لنفسه - لهذا لن تكون هناك أية قيمة لأي شيء يفعله.

لهذا واجه بونام قورح الأزلي بموسى الأزلي، واجهه بذلك الإنسان المتواضع الذي لا يبغي فعله لأجل ذاته. وما علّمه الرابي بونام هو أنه في كل جيل تعود فتتجلى رُوحا قورح وموسى. لكن ذات مرة، في أيام ستأتي، سترغب روح قورح بالانصياع لروح موسى، وسيتم التحول.

وهكذا يرى الرابي بونام، تاريخ الجنس البشري، على ما هو عليه، من خلال سعيه للفداء، كعملية يقوم بها نوعان من البشر: الفخور الذي قد يبلغ أحيانًا أقصى أشكاله جلالاً ويتفكر بنفسه فقط، والمتواضع الذي يفكر في العالم في كل ما يفعل. لأنه فقط حين يخضع الفخر للتواضع يكون بوسع المرء أن يتحول، وحين يتحول الإنسان سيتحول العالم معه.

لقد لاحظ الرابي غار - المذكور أعلاه -، الذي استقيت من خطبته في يوم التكفير بعض العبارات، أن "الرابي بونام امتلك مفاتيح كل السموات. ولم لا؟ فالإنسان الذي لا يفكر بنفسه يُمنَح جميع المفاتيح."

ذات مرة، قال الرابي مندل من كوتزك، وهو من أعظم أتباع الرابي بونام، وأحد الوجوه الأكثر مأساوية بين الصدّيقين؛ لرعيته:

ما أطلبه منكم، في النهاية، هو ثلاثة أشياء فقط: لا تنظروا إلى خارج أنفسكم خلسةً، ولا تنظروا إلى الآخرين خلسةً، ولا تجعلوا من أنفسكم غايةً بحد ذاتها.

ما يعني، أولاً، أنه يجب عل كل واحد أن يحافظ على نفسه ويقدسها من خلال خاصيتها وحيث هي، فلا يحسد خاصية ومكانة الآخرين؛ وأنه يتوجب على كل منّا، ثانيًا، أن يحترم السرّ الكامن في نفس قرينه الإنسان، فلا يقحم نفسه عليه ويستغله من خلال فضوله الوقح؛ وثالثًا، أنه يتوجب على كل واحد منّا، في علاقته بهذا العالم، أن يحرص بأن لا يجعل من نفسه غايةً بحد ذاتها.

6– ههنا حيث نقف

اعتاد الرابي بونام أن يقصّ على الشبّان الذين يأتون للمرة الأولى لزيارته قصة الرابي إسحق ابن الرابي ميخائيل من كراكوفيا الذي، بعد أن قضى سنوات عديدة في فقر مدقع لم يؤثر البتة على إيمانه بالله، حلم بأنّ شخصًا دعاه كي يذهب إلى براغ ليبحث عن كنز يقع تحت جسر يقود إلى قصر الملك. ولمّا تكرر معه الحلم للمرة الثالثة، استعد الرابي إسحق للرحلة وذهب إلى براغ. لكن الجسر كان محروسًا ليلاً ونهارًا بحيث لم يتجرّأ على المباشرة بالحفر. ورغم هذا، كان يذهب كل صباح إلى الجسر ويطوف حوله حتى المساء. في نهاية الأمر، سأله نقيب الحرس الذي كان يراقبه بطريقة لبقة، ما إنْ كان يبحث عن شيء و/أو ينتظر أحدًا. فقصّ عليه الرابي إسحق قصة الحلم الذي جلبه من بلده البعيد إلى هنا. فضحك النقيب وقال له: "هكذا إذًا، ومن أجل تحقيق حلم رأيته أيها المسكين انتعلت حذاءك كي تأتي إلى هنا! لو كنتُ أؤمن بالأحلام لكان عليَّ، إذ دعاني الحلم ذات مرة، الذهاب إلى كراكوفيا والحفر بحثًا عن كنزٍ موجودٍ تحت المدفأة في غرفة يهودي اسمه إسحق بن ميخائيل، أتخيل ما الذي كان سيحدث لو كان علي البحث في كل منزل هناك حيث نصف اليهود يدعون إسحق والنصف الآخر يدعى ميخائيل!". أذعن الرابي إسحق، وغادر عائدًا إلى منزله حيث حفر ليجد الكنز تحت موقده، ويبني دارًا للصلاة سُمّيت "مدرسة الرابي إسحق ابن الرابي ميخائيل".

يضيف الرابي بونام على عادته:

احفظ هذه القصة في قلبك، ثم افعل ما يقوله لك قلبك. لأن هناك شيء لا تستطيع إيجاده في أي مكان في هذا العالم، ولا حتى لدى الصدّيق؛ ورغم هذا، هناك مكان بوسعك دائمًا أن تجده فيه.

هذه قصة قديمة أعاد الحَصيديم صقلها. قصة لم تنقل فحسب إلى الوسط اليهودي، إنما أعيدت صياغتها من خلال اللحن الحَصيدي الذي عبّر عنها وإن كان هذا أيضًا ليس الشيء الأساسي، لأن التغير الأساسي هو أنها أصبحت، إن صح القول، شفافة، ما جعل الحقيقة الحَصيدية تشعّ من خلال كلماتها. وهي لا تتضمن "أخلاقية" ملحقة، لكن الحكيم الذي أعاد نقلها اكتشف حقيقة المعنى وأبرزه، وهذه الحقيقة تقول: هناك شيء لا يمكن اكتشافه إلاّ في مكان واحد. إنه كنز كبير نستطيع أن ندعوه ملاء الحياة. وهذا الكنز موجود ههنا، حيث نقف.

معظمنا يتحقق بشكل جلي، وفي لحظات نادرة، من أنه لم يتذوق البتة ملاء العيش، وأن حياته لم تشارك، في الحقيقة، ملاء وجودٍ يبدو وكأنه تجاوز حقيقته. ورغم هذا، نحن نشعر، بذلك النقص في كل لحظة، ونجاهد إلى حدٍّ ما لنجد، في مكان ما، ما نبحث عنه. نسعى لنجده في مكان ما، في مقاطعة ما من عالمنا أو من عقلنا، ما عدا في ذلك المكان حيث نقف، في ذلك المكان حيث نحن - لكن في هذا المكان تحديدًا، وليس في أي مكان آخر، نستطيع أن نجد الكنز.

البيئة التي أشعر فيها أني طبيعي، والأوضاع التي نُسبت إليّ كقدر، والأشياء التي تحدث معي كل يوم، والأشياء التي تستدعيني يومًا بعد يوم؛ كلها تتضمن واجبي الرئيسي في هذه الحياة، لأنه عن طريقها ينفتح أمامي ملاء حياتي. قيل عن معلم تلمودي أنّ طرق الجنّة كانت، بالنسبة له، مضيئة كشوارع مدينته، أمّا الحَصيديم فقد قلبوا ترتيب هذا القول بحيث أصبح: هنالك شيء أكبر، موجودٌ في شوارع مدينة أي إنسان، وهو مضيءٌ بالنسبة له كدروب الجنة.

لأنه ههنا، حيث نقف، يتوجب علينا العمل من أجل جعل النور الخفيّ للحياة الإلهية يشعّ. لأنه إن كنّا نملك القدرة على التأثير في نهايات هذا الكوكب، فإن هذا لن يعطينا ذلك الشعور بالامتلاء الوجودي الذي تعطيه مجرد علاقة هادئة ومخلصة مع هذه الحياة القريبة. لأننا إن كنّا نعرف أسرار العوالم العليا فإن هذا لن يعطينا ذلك الشعور بالامتلاء الذي يعطينا إياه القيام خاشعين بواجبنا في حياتنا اليومية. ما يعني أن كنزنا موجود في قلب منزلنا الخاص.

لقد علّمنا بعل- شيم أنْ ما من لقاء يتمُّ مع كائن، أو شيء، خلال حياتنا إلاّ ويحمل معنىً مستورًا. فالناس الذين نحيا معهم أو نلقاهم، والحيوانات التي تساعدنا على العمل في المزرعة، والأرض التي نحرثها، والمادة التي نعطيها شكلاً، والأدوات التي نستعملها؛ جميعها تحتوي عنصرًا روحيًا دفينًا يتوقف علينا مساعدته كي يتخذ شكله النهائي ويصل إلى الكمال. فإن تجاهلنا هذا العنصر الروحي الذي يتقاطع مع دربنا، وإن تفكرنا فقط من منطلق غايات مؤقتة، من دون أن نطور علاقة صادقة مع تلك المخلوقات والأشياء التي نشاركها الحياة، كما تشاركنا هي إياها؛ سنجنح عن درب الحياة الممتلئة والصادقة التي نريد.

وإنّي مقتنع من أن هذه العقيدة صحيحة بالكامل؛ لأن أقصى ثقافة للروح تبقى جافة أساسًا وعاقرة ما لم نَسقِها كل يوم بمياه الحياة التي تخترقها في العمق من خلال تلك اللقاءات الصغيرة التي يتوجب علينا إعطاءها حق قدرها؛ لأن أكبر قوة تبقى من حيث العمق بلا حول ما لم تحتفظ بذلك السرّ المتوافق مع تلك اللقاءات المتواضعة والمفيدة مع ذلك الكائن الغريب والقريب معًا.

لا تنظر بعض الديانات إلى إقامتنا المؤقتة على هذه الأرض كحياةٍ حقيقية، فهي تبشر إمّا بأن كل ما يتبدى لنا مجرد مظهر يتوجب علينا اختراقه، وإمّا بأن هذه الإقامة مجرد حديقة أمامية للعالم الحقيقي، حديقة يجب علينا اجتيازها من دون أن نعيرها المزيد من الاهتمام؛ أمّا اليهودية فتبشر بعكس ذلك: ما يفعله الإنسان الآن وههنا، وبنيّة مقدسة - بمعنى أنه يجب أن نكون حقًا وبكل واقعية، أبناء هذه الأرض، ما يوصلنا بالكائن الإلهي - لا يقل أهمية وحقيقية عن الحياة في العالم الآتي. وقد وجدت هذه العقيدة تعبيرها الأمثل بالحاصيدية.

قال الرابي هانوخ:

تؤمن باقي الأمم أيضًا بوجود عالمين. وهم أيضًا يتحدثون عن العالم الآخر. لكن الفارق بيننا وبينهم هو أنهم يعتقدون بأن هذين العالمين منفصلين ومنقطعين عن بعضهما، بينما تبشر إسرائيل بأن هذين العالمين عالم ٌواحدٌ في الحقيقة.

يشكل هذان العالمان عالماً واحدًا من حيث الجوهر، لكنهما يتحركان كلٌّ بمفرده. إلاّ أنهما سوف يتّحدان مجددًا، من منطلق أنهما يشكلان واحدًا من حيث الجوهر. وقد خُلق الإنسان لكي يوحِّد هذين العالمين. وبهذا، يساهم الإنسان في هذه الحياة المقدسة، من خلال صلته بالعالم الذي خلق فيه، وبالمكان حيث يقف.

أخبروا الرابي فنحاس ذات مرة عن البؤس المدقع للمحتاجين، فأصغى، واستغرق بحزن، ثم رفع رأسه وصاح قائلاً: "فلنجلب الله إلى هذا العالم، وستلبّى كل حاجاتنا."

لكن هل هذا ممكن، هل بالإمكان جلب الله إلى هذا العالم؟ ألا تراها فكرة وقحة ودعيّة؟ وكيف تتجرّأ هذه الدودة من الأسفل التعرّض لقضية ذات علاقة كاملة بالنعمة الإلهية: بمعنى كم سيمنح الإله لخليقته من ذاته؟

ونجد أنه هنا أيضًا تختلف العقيدة اليهودية عن باقي الديانات، وأنها مرة أخرى تجد تعبيرها الأمثل بالحَصيدية. فالنعمة الإلهية تتجلى تحديدًا في أن الله أراد أن يدع نفسه ملكًا للإنسان، بمعنى أنه وضع نفسه، إن أمكن القول، بين يديه. لأن الله يريد أن يحلّ في هذا العالم، من خلال الإنسانية تحديدًا. فهذا هو سرّ وجودنا، والحُظوة الفائقة للجنس البشري.

"أين يقع بيت الله؟" بهذا السؤال فاجأ رابي كوتزك عددًا من المتعلمين الذين أتوا لزيارته؛ فسخروا منه قائلين: "ما هذا الذي تسأله! أليس العالم كله مليئًا بمجده؟" وأجاب بنفسه على سؤاله: " يسكن الله حيث يدعه الإنسان يسكن."

ما يعني أن الغاية الأساسية هي أن ندعو الله إلى حيث نحن. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلاّ حيث نقف حقيقةً، إلاّ حيث نعيش ونحيا حياةً حقيقية. حين نحافظ على علاقة عضوية ومقدسة مع هذا العالم الصغير الذي ائتُمِنّا عليه، إن ساعدنا المادة المقدسة كي تتحقق بذاتها في ذلك القسم من الخليقة حيث نعيش؛ عندئذٍ فقط بوسعنا أن نبني، حيث نحن، منزلاً للوجود الإلهي.

*** *** ***

ترجمة: أكرم أنطاكي

مراجعة لغوية: هڤال يوسف

 


 

horizontal rule

[1]  راجع في القاموس الفلسفي لمعابر: مارتن بوبر http://www.maaber.org/philosophy/Buber.htm

[2]  نَشر وتَرجم لمارتن بوبر: الحَصيديم ودرب الرجال: الجزء الأول، الحَصيديم والإنسان المعاصر، أما الجزء الثاني الذي نشر عام 1958، فهو أصل ومعنى الحَصيدية New York: The Horizon Press, 1960. كَتب عن مارتن بوبر: حياة  الحوار، صادر عن Harper Torchbook, 1960، والذي يعتبر أول دراسة منهجية لفكره.

[3]  الحَصيدية والإنسان المعاصر، من كتاب طريقي إلى الحَصيدية، ص 59.

[4]  المرجع السابق، ص 24.

[5]  المعروف بشنور زالمان من اليادي، ولد في أيلول 1745، وتوفي في كانون الأول 1812. هو رابي يهودي أرثوذوكسي ومؤسس أول فرع للحًصيدية اليهودية التي كان مركزها بلدة ليادي في روسيا الإمبراطورية.

[6]  كلمة عبرية تعني: الخصوم. وهي جماعة من اليهود الأوروبيين كان يرأسهم الرابي إلياهو بن شلومو زالمان (1720-1797)، وكانوا يعارضون توسع وانتشار الحَصيدية اليهودية التي أسسها في حينه الرابي إسرائيل بن أليعازر (1698 – 1760) المعروف باسم بعل شيم توف.

[7]  هو نفس التعبير الذي يستعمل في العربية والعبرية. وهو بالنسبة للحَصيديم يعني ذلك المعلم الروحاني الذي يعتقد أنه متواصل بشكل أو بآخر مع الألوهة.

[8]  وهي بلدة غورا كالفايرا قرب وارشو.

[9]  سفر التكوين، 32، 17.

[10]  بالعبرية مجيد.

[11]  بلدة تقع شرق غالاسيا.

[12]  المعلم باسم الله كما كان يدعى مؤسس الحَصيدية الرابي إسرائيل بن أليعازر (1700-1760).

[13]  تكوين: 18 – 8.

[14]  العهد القديم، سفر الجامعة 9 – 10.

[15]  نوفي زاس أو Nowy Zacs في غالاسيا الغربية.

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود