|
الرسالة الثانية من الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
اليوم أكملت لكــم دينكــم
نحمدك اللهم، ونستهديك، ونستعينك، توطئة البحث عندما استعلن النور الإلهي بمحمد الأمي من جبال مكة في القرن السابع الميلادي، أشرقت شمس مدنية جديدة، بها ارتفعت القيمة البشرية إلى قمة لم يسبق لها ضريب في تاريخ البشرية. ولقد قامت تلك المدنية الإنسانية الجديدة على أنقاض المدنية المادية الرومانية في الغرب، وعلى أنقاض المدنية المادية الفارسية في الشرق. ولقد بلغت هذه المدنية الإنسانية الجديدة أوجها، من الناحية النظرية على الأقل، غداة أنزل الله تعالى على نبيه الآية التي صدرنا بها هذا السفر، وهي قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا. وذلك في نهاية الثلث الأول من القرن السابع، ثم أن النبي لم يلبث أن التحق بربه، فانثلمت بذلك قمة هرم هذه المدنية الإنسانية الجديدة، ومن أبلغ ما بلغنا في ذلك عبارة أحد الأصحاب حين قال: ما كدنا ننفض أيدينا من تراب قبر رسول الله حتى أنكرنا قلوبنا وظهر صدق هذه العبارة عمليًا في أخريات خلافة عثمان، مما انتهى إلى ما يعرف في التاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى. وهذه المدنية الإنسانية الجديدة، التي عاش محمد في أوجها، والتي انحسرت قمة موجتها بهذه السرعة المذهلة لدى موت محمد، كما جاء في عبارة أحد أصحابه؛ ما زالت قمتها تطمئن، وقاعدتها تتسع، حتى عادت مدنية مادية تشبه، من بعض الوجوه، المدنية الرومانية والمدنية الفارسية، اللتين أسلفنا القول بأن مدنية الإسلام قامت على أنقاضهما. يقولون أن التاريخ يعيد نفسه، وهذا حق، ولكنه ليس كل الحق، ذلك بأن التاريخ لا يعيد نفسه بصورة واحدة، وإنما يعيدها بصورة تشبه من بعض الوجوه، وتختلف من بعضها، عما كان عليه الأمر في سابقه. فالمكان ليس كرويًا، ولا الزمان، تبعًا لذلك، بكروي، وإنما هما لولبيان، يسيران من قاعدة إلى قمة، تشبه فيهما نهاية الحلقة بدايتها، ولا تشبهها. وكما أن الزمان، على كوكبنا هذا، يسير على رجلين، من ليل ونهار - ظلام ونور -، وكما أن الإنسان يمشي على رجلين من شمال ويمين، فكذلك الحياة تتطور على رجلين من مادة وروح. وعندما يقدم المجتمع البشري، في ترقيه، رجل المادة، ويثبتها، ويعتمد عليها، يكون في حالة تهيؤ ليقدم رجل الروح، وهو لا بد مقدمها، (كان على ربك حتمًا مقضيًا). ذلك بأن تقدم الحياة لا يقف إطلاقًا، ولا يتأخر، ولا يكرر نفسه، وإنما يسير قدمًا في مدارج مراقيه، حيث تطلب الحياة أن تكون كاملة في الصور، كما هي كاملة في الجوهر. وهيهات! أو قل أن سير الحياة، في مراقيها، كسير الموجة، فهي لا تنفك بين سفح وقمة، وهي عندما تكون في السفح إنما تحتشد لتقفز إلى القمة، وإنما يمثل السفح التقدم المادي للمجتمع البشري، وتمثل القمة تقدمه الروحي، والذين لا يرون صورة سير المجتمع مكتملة، وإنما يرونها بالتفاريق، ينعون عليه تقدمه المادي، ولا يعتبرونه إلا انحطاطًا، ويحسبونه رجسًا من عمل الشيطان، والله هو المسير الحياة إليه، على هذين الرجلين، من المادة والروح. وفي الحق، أنه لدى التوحيد، إنما المادة والروح شئ واحد، ولا يقع بينهما اختلاف نوع، وإن وقع بينهما اختلاف المقدار. من أجل البعث الإسلامي من أجل استيعاب فكرة البعث الإسلامي هذه نوصي، بالإضافة الى قراءة هذا الكتاب، بقراءة الكتب الآتية: رسالة الصلاة، الإسلام، لا إله إلا الله، طريق محمد. قراءة طريق محمد تمامها بالعمل به (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم). الباب الأول المدنية والحضارة المدنية غير الحضارة، وهما لا يختلفان اختلاف نوع، وإنما يختلفان اختلاف مقدار. فالمدنية هي قمة الهرم الاجتماعي والحضارة قاعدته. ويمكن تعريف المدنية بأنها المقدرة على التمييز بين قيم الأشياء، والتزام هذه القيم في السلوك اليومي، فالرجل المتمدن لا تلتبس عليه الوسائل مع الغاية، ولا هو يضحي بالغاية في سبيل الوسيلة، فهو ذو قيم وذو خلق. وبعبارة موجزة، فالرجل المتمدن هو الذي حقق حياة الفكر وحياة الشعور. هل المدنية هي الأخلاق؟ هي كذلك، من غير أدنى ريب! وما هي الأخلاق؟ للأخلاق تعاريف كثيرة، ولكن أعلاها، وأشملها، وأكملها هي أن نقول أن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة. ولقد قال المعصوم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). فكأنه قال ما بعثت إلا لأتمم مكارم الأخلاق، ومن أجل ذلك قلنا أن محمدًا عاش في أوج المدنية التي جاء بها الله عن طريقه، ووصفه تعالى فيها بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم). وحين سئلت عائشة عن أخلاق النبي قالت: (كانت أخلاقه القرآن)، ومعلوم أن القرآن أخلاق الله، وأخلاق الله إنما هي في الإطلاق. ومن ههنا جاء التعريف بأن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة. ولقد كان محمد أقدر الناس على حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة، وذلك لشدة مراقبته لربه، ولدقة محاسبته لنفسه، على كل ما يأتي، وما يدع، في جانب الله، وفي جانب الناس. أليس هو القائل (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا)؟ بل إن حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة إنما هو سنة النبي، التي طالما تحدث عنها الناس، من غير أن يدركوا حقيقتها. وهذه السنة هي التي أشار إليها في حديثه المشهور عن عودة الإسلام، وذلك حيث يقول: (بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها.) فسنته هي مقدرته، في متقلبه ومثواه، وفي منشطه ومكرهه، على حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة، وتلك هي قمة الأخلاق، وهي أيضًا قمة المدنية. وأما الحضارة فهي ارتفاق الحي بالوسائل التي تزيد من طلاوة الحياة، ومن طراوتها. فكأن الحضارة هي التقدم المادي، فإذا كان الرجل يملك عربة فارهة، ومنزلاً جميلاً، وأثاثًا أنيقًا، فهو رجل متحضر، فإذا كان قد حصل على هذه الوسائل بتفريط في حريته فهو ليس متمدنًا، وإن كان متحضرًا. وانه لمن دقائق التمييز أن نتفطن إلى أن الرجل قد يكون متحضرًا، وهو ليس متمدنًا، وهذا كثير؛ وأنه قد يكون متمدنًا، وهو ليس بمتحضر، وهذا قليل. والكمال في أن يكون الرجل متحضرًا متمدنًا في آن، وهو ما نتطلع إليه منذ اليوم. المدنية الغربية على هذا الفهم الدقيق، فإن المدنية الغربية الحاضرة ليست مدنية، وإنما هي حضارة؛ وهي ليست مدنية لأن موازين القيم فيها قد اختلت، فتقدمت الوسيلة وتأخرت الغاية. ولقد ورد في رسالة الصلاة قولنا إن المدنية الغربية الآلية الحاضرة عملة ذات وجهين: وجه حسن مشرق الحسن، ووجه دميم. فأما وجهها الحسن فهو اقتدارها في ميدان الكشوف العلمية، حيث أخذت تطوع القوى المادية لإخصاب الحياة البشرية، وتستخدم الآلة لعون الإنسان؛ وأما وجهها الدميم، فهو عجزها عن السعي الرشيد إلى تحقيق السلام، وقد جعلها هذا العجز تعمل للحرب، وتنفق على وسايل الدمار أضعاف ما تعمل للسلام، وأضعاف ما تنفق على مرافق التعمير. فالوجه الدميم من المدنية الغربية الآلية الحاضرة هو فكرتها الاجتماعية، وقصور هذه الفكرة عن التوفيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة. حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، وفي الحق أن العجز عن التوفيق بين هاتين الحاجتين: حاجة الفرد، وحاجة الجماعة؛ ظل آفة التفكير الاجتماعي في جميع عصور الفكر البشري. وهذا التوفيق هو، إلى اليوم، القمة التي بالقياس إليها يظهر العجز الفاضح في فلسفة الفلاسفة، وفكر المفكرين، ويمكن القول بأن فضيلة الإسلام لا تظهر، بصورة يقصر عنها تطاول كل متطاول، إلا حين ترتفع المقارنة بينه وبين المذاهب الأخرى إلى هذه القمة الشماء. هذا ما قلناه في رسالة الصلاة يومئذ، ونقول اليوم أن من آيات اختلال موازين القيم، في هذه المدنية الغربية المادية، أن الشيوعية الروسية أعطت اعتبارًا للمجتمع، وهو وسيلة، فوق ما أعطت الفرد، وهو غاية؛ وأن الاشتراكية فيها تقوم على حساب الحرية الجماعية، وعلى حساب الحرية الفردية، وليست الرأسمالية في الغرب بأحسن حالاً، في هذا الباب، من الشيوعية الروسية. فشل المدنية الغربية وهذه المدنية الغربية الآلية الحاضرة قد بلغت نهاية تطورها، وقد فشلت فشلاً نهائيًا وظاهرًا في أن تنظم حياة المجتمع البشري المعاصر، وآية هذا الفشل أن مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يذق الاستقرار الذي ذاقه مجتمع ما بعد الحرب العالمية الأولى، حين كانت هذه المدنية الغربية لا تزال غنية بأفانين الحلول لمشاكل ذلك المجتمع، فقد كان المنتصر في الحرب العالمية الأولى منتصرًا في السلام أيضًا، وقد كان بذلك قادرًا على تنظيم المجتمع العالمي يومئذ، بصورة من الصور، مهما يكن عيبها، فقد كانت كافية لتحقيق نزع السلاح، ولو إلى مدى، وإلى حين، وكانت كافية لتحقيق لون من الاستقرار. وأما المنتصر في الحرب العالمية الثانية، وهو بريطانيا، فقد أصبح منهزمًا في السلام الذي أعقبها، وان أردت الدقة فقل لم يكن في الحرب العالمية الثانية منتصر ومنهزم، وإنما أصبح الجميع في مركب واحد، تلفهم الحيرة في جناحها الأسود، وها قد انقضى على نهاية الحرب نيف وعشرون عامًا، ولا تزال البشرية من خوف الحرب في حرب، فهي تتحدث عن السلام، وتنفق على التسلح أضعاف ما تنفق على مرافق التعمير وما ذاك إلا لأنها لا تعرف طريقًا إلى السلام إلا طريقًا يقوم على تخويف العدو من عواقب المجازفة بإشعال نار الحرب. وسبب فشل المدنية الغربية الآلية الحاضرة في تنظيم المجتمع الحاضر هو أنها بلغت نهاية تطورها المادي الصرف في هذه المرحلة الحاسمة من مراحل تحولات المجتمع البشري المعاصر، وأصبحت تفتقر إلى عنصر جديد تشفع به عنصرها القديم، وتلقحه به، وتزيد بذلك من طاقتها على التطور، ومن مقدرتها على مواكبة وتوجيه حيوية المجتمع الحديث. روسيا، وهي تواجه الفشل اليوم في تحقيق الاشتراكية، بله الشيوعية، وتنكص على أعقابها إلى إجراءات هي أدخل في الرأسمالية منها في الاشتراكية، تتوخى بها إيجاد حوافز للإنتاج جديدة؛ تعطي أكبر الدليل على أن المدنية الغربية الحاضرة بلغت نهاية تطورها المادي الصرف، ووقفت عند نهاية الطريق المسدود، وسيصبح لزامًا عليها أن ترجع إلى مفترق الطرق حيث تبدأ بسلوك طريق آخر، كانت شرة الثورة قد أذهلتها عن سلوكه منذ نصف قرن مضى. ولن تجد الصين فرصة التجربة الطويلة التي وجدتها روسيا، ذلك لأن الزمن قد أزف، وأن المفارقة الكبيرة بين طاقة المجتمع البشري الحديث، وقصور المدنية الغربية أصبحت تتضح كل يوم، وقد أخذت الصين تشعر بهذا التناقض الرهيب، ولكنها لم تهتد إلى متنفس له إلا في هذه الحالة العصبية، التي أسمتها سخرية، بالثورة الثقافية يقوم بها، في الشوارع والأماكن العامة، المراهقون ضد أساتذة الجامعات والعلماء؛ وهي تستهدف، فيما تستهدف، تأليه ماو تسي تونغ، وجعل كتاباته مصادر الثقافة الوحيدة، ومناهل الحكمة التي ينتهي عندها رأي كل ذي رأي. وليس من الضروري أن نذكر الغرب الرأسمالي هنا، لأن مفارقات المدنية الغربية تمثلها الشيوعية في روسيا وفي الصين أكثر مما يمثلها الغرب، ولأن الغرب الرأسمالي ليس بصاحب رأي جديد في المدنية الغربية، وإنما هو مقيم على القديم، على تطوير يسير سببه تطرف الثورة الشيوعية، مما اضطره إلى ملاقاتها في منتصف الطريق، في محاولة الإبقاء على نظامه القديم في وجه الثورة المجتاحة. فسبب فشل المدنية الغربية الآلية الحاضرة، إذن، هو أن تقدمها المادي والآلي لم يشفع بتقدم خلقي يصحح موازين القيم، ويضع الآلة في مكانها من حيث أنها خادم الإنسان وليست سيدته، فالتقدم المادي غير متناسق، ولا متساوق، مع التقدم الروحي. وفي تفكيرنا الاجتماعي المعاصر، كما سبق بذلك القول، الرغيف يجد اعتبارًا فوق ما تلقى الحرية، وهذه الظاهرة تنطبق على المذاهب الاشتراكية، كما تنطبق على الرأسمالية. وفي الحق أن الشيوعية لا تختلف عن الرأسمالية إلا اختلاف مقدار، فهي، كالرأسمالية، مادية في الأصل، ولكنها أكفأ منها من حيث المقدرة على تحقيق الوفرة المادية، وعدالة توزيعها. وما ينبغي أن نخدع عن هذه الحقيقة بملاحظة العداوة النائرة بينهما، فإنما هي بمثابة العداوة التي تكون بين الفرق المختلفة في الدين الواحد، فهي عداوة لا تدل على اختلاف المنبت كما تدل على وحدة الأديم الذي تقوم عليه هذه الفرق المتناحرة. وإذا أردنا أن نضع سبب فشل المدنية الغربية الآلية الحاضرة وضعًا محددًا، وجب علينا أن نقرر أن مرد هذا الفشل هو عجز هذه المدنية عن الإجابة على سؤالين ظلا بغير جواب صحيح طوال الحقب السوالف من التاريخ البشري، وقد أصبحت الإجابة عليهما ضربة لازب. والسؤالان هما: ما حقيقة العلاقة بين الفرد والجماعة؟ وبين الفرد والكون؟ الباب الثاني الفرد والجماعة في التفكير الفلسفي أما الفلسفة الاجتماعية، عبر العصور وإلى أن انتهت بالشيوعية المعاصرة، فإنها قد فشلت في إدراك العلاقة بين الفرد والجماعة. فهي قد ظنت أن الفرد إذا وجد الفرصة لممارسة حريته فإن نشاطه سيكون ضد مصلحة الجماعة، ولما كانت الجماعة أكثر من الفرد، فان مصلحتها أولى بالرعاية من مصلحته، ومن ثم أهدرت حرية الفرد، في سبيل مصلحة الجماعة، متى ظهر أنهما تتعارضان. ومتى نظرت إلى تاريخ المجتمع البشري، منذ نشأته وإلى يوم الناس هذا، ظهر لك جليًا أن حرية الفرد كثيرًا ما تتعارض مع مصلحة الجماعة، بل ظهر لك أن الجماعة لم يقم نظامها ولم تصن مصالحها إلا على حساب تقييد حرية الفرد، ذلك بأن الفرد البشري ارتفع من حيوانية متوحشة، لا هم لها غير تحصيل شهوة البطن والفرج. ولما كان المجتمع البشري في أولياته لم يكن لينشأ إلا إذا قيدت هاتان الشهوتان، فقد قام العرف الذي ينظم العلاقات الجنسية، فيحرم الأخت على الأخ، ويحرم البنت على الأب، ويحرم الأم على الإبن، ويحرم زوجة الإبن على الأب، ويحرم زوجة الأب على الإبن، قبل أن يقوم العرف الذي يحرم الزنا عمومًا. وقد أعان هذا العرف، أو سمه القانون الأول، على تهدئة الغيرة الجنسية التي كانت تفرق الأسرة البشرية، كلما بلغ الأبناء فيها مبلغ الرجال، فقد أصبح، بعد هذا العرف، من الممكن أن يتعايش، في منزل واحد، أو في منازل متجاورة، الأب والإبن البالغ والصهر والإبن المتزوج، وكل منهم آمن على زوجته من الآخرين. ولربما يكون العرف الذي ينظم احترام الملكية الفردية قد نشأ مع هذا العرف من الوهلة الأولى، فإنه، في المجتمعات البدائية، ليس هناك كبير فرق بين ملكية الزوجة، وملكية الآلة أو الكهف، وإذا كان لا بد للمجتمعات الصغيرة أن تعيش في وئام، وفي مكان واحد، وفي أعداد تتزايد دائمًا، تصيد معًا، وتحارب أعداءها معًا، وتقابل صروف الأيام متحدة، فإنه لا بد من التواضع على هذين العرفين، اللذين ينظمان السلوك في الجماعة، ويصونان كيانها. ولا بد أن عقوبة القتل كانت تنفذ في الفرد لدى ثبوت تهمة الزنا، في هذه الدوائر، عليه، يستوي في ذلك الرجال والنساء. ولقد كانت عقوبة القتل توقع على الفرد أيضًا لدى السرقة من عشيرته الأقربين، ثم عممت فأصبحت تطبق لدى السرقة من حيث هي، وذلك عندما اتسعت الجماعة، ثم خففت، فأصبحت تستأصل طرفًا من السارق بدلاً من استئصال حياته كلها، ذلك بأن الأفراد قد بلغوا من الرفعة والذكاء بحيث يرتدعون بعنف أخف من العنف الذي كان ضروريًا لردع أسلافهم. وليس معنى هذا الحديث أن المجتمعات كلها نشأت بصورة واحدة في كل مكان، ولكنه مما لا شك فيه أن المجتمعات البشرية، حيث نشأت، فقد نشأت حول طائفة من العادات والأعراف، التي تمثل نشأة القانون، والتي يرجع إليها الفضل في نشأة المجتمع البشري. ولما كان الفرد البشري الأول غليظ الطبع، قاسي القلب، بليد الحس، حيواني النزعة فقد احتاج إلى عنف عنيف لترويضه، ولنقله من الاستيحاش إلى الاستيناس. وكذلك كان العرف الاجتماعي الأول، شديدًا عنيفًا، يفرض الموت عقوبة على أيسر المخالفات، بل إنه يفرض على الأفراد الصالحين أن يضعوا حياتهم دائمًا في خدمة مجتمعهم، فقد كانت الضحية البشرية معروفة تذبح على مذابح معابد الجماعة، استجلابًا لرضا الآلهة، أو دفعًا لغضبها حين يظن بها الغضب. ولقد كانت هذه الشريعة العنيفة، في دحض حرية الفرد، في سبيل مصلحة الجماعة معروفة ومعمولاً بها، إلى وقت قريب. ففي زمن أبي الأنبياء، إبراهيم الخليل وهو قد عاش قبل ميلاد المسيح بحوالي ألفي سنة، كانت هذه الشريعة لا تزال مقبولة دينًا وعقلاً، فإنه هو نفسه قد أمر بذبح ابنه إسماعيل، فأقبل على تنفيذ الأمر غير هياب ولا متردد، فتأذن الله يومئذ بنسخها فنسخت، وفدي البشر بحيوانية أغلظ من حيوانيته، وكان هذا إعلامًا بأن ارتفاع البشر درجة فوق درجة الحيوان قد أشرف على غايته. ولقد قص الله علينا من أمر إبراهيم وإسماعيل فقال: وقال إني ذاهب إلى ربي سيهديني، رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أنى أذبحك، فانظر ماذا ترى، قال يا أبتي افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على إبراهيم. (وتركنا عليه في الآخرين) تعني، فيما تعني، إبطال شريعة العنف بالفرد البشري، لأنها لبثت حقبًا سحيقة، وقد تم انتفاعه بها، فارتفع من وهدة الحيوانية وأصبح خليقًا أن يفدى بما هو دونه من بهيمة الأنعام. ولا عبرة ببعض صور العنف التي لا يزال يتعرض لها الأفراد في المجتمعات البشرية المعاصرة، فإنها آيلة إلى الزوال كلما أتيحت لها فرص الوعي والرشد. فان التضحية الحسية بالفرد البشري لم تنته بجرة قلم على عهد إبراهيم الخليل. والتاريخ يخبرنا أن المسلمين، لدى فتح مصر، قد وجدوها تمارس في صورة عروس النيل، فإنه قد قيل أن عمرو بن العاص، فاتح مصر وأميرها يومئذ، قد انتبه ذات يوم على جلبة عظيمة، فسأل عنها، فأخبر أن القوم قد جرى عرفهم بأن يتخيروا بنتًا، من أجمل الفتيات، ومن أعرق الأسر، يزفونها كل عام إلى النيل، يلقونها في أحضانه فداء لقومها من القحط، لأنها تغري النيل بأن يفيض عليهم باليمن والبركات؛ فطلب إليهم عمرو بن العاص أن يستأنوا بها، حتى يستأمر عمر بن الخطاب في ذلك، فكتب إلى عمر، فرد عمر بجوابه المشهور الذي قال فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم وأمر عمرو بن العاص أن يلقيه في النيل، ففعل، وفاض النيل، وأبطلت من يومئذ تلك العادة، وتم بالعلم فداء جديد للفرد البشري. وهذا العنف العنيف بالفرد البشري، الذي استمر منذ فجر المجتمع البشري، وهو قبل فجر التاريخ بآماد سحيقة، وظلت صوره إلى وقت قريب، كالذي سقنا عليه المثالين الماضيين، ضلل المفكرين الاجتماعيين، فظنوا أن حرية الفرد، قياسًا إلى ما جرى به التاريخ، تتعارض دائمًا مع مصلحة الجماعة، وأن الرشد إذن في أن يضحى بحرية الفرد في سبيل مصلحة الجماعة. وتورطت في هذا الوهم الشيوعية، وهي طليعة الفلسفة الاجتماعية المعاصرة، وصاحبة الدور التقدمي الذكي في المدنية الغربية الآلية الحاضرة. الفرد والكون في التفكير الفلسفي وعجز الفلسفة الاجتماعية المعاصرة في إدراك العلاقة بين الإنسان والكون، أكبر من عجزها عن ادراك العلاقة بين الفرد والجماعة، ولكن أثره أقل ظهورًا. ذلك بأن علاقة الفرد بالجماعة واجهت التطبيق العملي، في السياسة والتشريع والتنفيذ، بينما لا تزال العلاقة بين الفرد والكون في الحيز النظري، وما ذاك إلا لأننا لا نزال في قبضة غريزة القطيع، لم يقو بنا الفكر حتى نبرز إلى منازل الفرديات. ولكن، مما لا ريب فيه، أن عهد الجماعة أصبح يخلي مكانه لعهد الفرد الذي أخذت شمسه تؤذن بشروق، وسيحل يومه حين يتم نظريًا، ثم عمليًا، فض التعارض المتوهم بين الفرد والجماعة، وهو أمر سنتحدث عنه بالتفصيل بعد قليل، إن شاء الله. والفهم الدقيق للعلاقة بين الإنسان والكون ليس أمر فلسفة نظرية يمكن أن تلحق بالترف الذهني، وإنما هو أمر عملي، عليه يتوقف تحقيق الفردية، في مضمار المجهود الفردي، وفي مضمار تنظيم الجماعة، لتكون والدًا شرعيًا للأفراد الذين يرجى لهم أن يحققوا فردياتهم. وضلال الفلسفة الاجتماعية عن فهم العلاقة بين الإنسان والكون فهمًا صحيحًا إنما يلتمس سببه في استقراء التاريخ البشري منذ بداياته، ذلك بأن الإنسان الأول، عندما وقف على رجليه لأول مرة، واستقبل بعقله البيئة الطبيعية التي عاش فيها، وجدها تزخر بالقوى الهائلة التي، فيما يبدو له، تتركب بطريقة تختلف عن تركيبه، وتتصرف بأسلوب لا يستقيم مع تفكيره ومع رغباته، وهي بعد لا تبالي بحياته أو موته، بل إن كثيرًا منها ليسعى في إهلاكه سعيًا حثيثًا، والذين يشاركونه الحياة، بين هذه القوى الصماء الهائلة، هم بين صيد وصياد - صيد يصيد ويصاد، وصياد يصيد ويصاد، فكأن البيئة كلها، أنياب زرق، ومخالب حمر؛ وأصبح عليه هو، إذا كان لا بد له أن يحفظ مهجته، أن يكيد أصناف الكيد، وأن يحتال لنفسه ألوان الحيل. ثم إن هذه القوى الصماء، منها الهائل الرهيب الذي يعجز حيلته، ويعيي عقله، ومنها ما يغلب منه الضرر، ومنها ما يغلب منه النفع، فهدته حيلته إلى التزلف إليها جميعًا، بدوافع الخوف، أو بدوافع الحب، فتذلل، وتخشع، وقدم الهدايا، وقرب القرابين، ورسم مراسيم العبادات. ومن القوى التي تموج بها البيئة الطبيعية التي عاش فيها، قوى تنالها الحيلة، وتبلغ منها المناجزة، فاحتال أفانين الحيلة، فبنى البيوت فوق الأشجار، وعلى قمم الجبال، وعلى أعمدة اتخذها من سيقان الشجر وغرزها في أرض برك المياه، وفي الأماكن المحصنة الأخرى. ثم هو باتخاذ الآلة، من فروع الأشجار، ومن قطع الأحجار، قد مد في قدرته على المناجزة. والإنسان، بين العبادة والمناجزة، تغلب عليه الوحشة، ويساوره القلق بأنه وحيد من نوعه، يحتوشه الأعداء من جميع أقطاره، يتحينون منه الغرة، ويتربصون به الدوائر، ومن ههنا قام في خلد الإنسان أن مكانه من الكون مكان اللدد والخصومة. ولقد انتهت الفلسفة ببعض أبنائها الآن إلى أن يقرروا أن التدين، الذي دفع إليه الإنسان الأول، بالعوامل الطبيعية التي جرى ذكرها آنفًا، إنما هو لازمة من لوازم الطفولة؛ وأن الدين، حيث وجد وإلى اليوم، إنما هو ظاهرة طفولة، إذ لجأ الإنسان الأول إلى إله تخيله ليسد به حاجة الطفل إلى أب يحميه. وأن الأصل في مواجهة البيئة هو المناجزة، لا التمليق، وما دفع الإنسان إلى التمليق إلا العجز عن المناجزة. والآن، وبتطويره لسلاحه الأول، من فروع الأشجار وقطع الأحجار، إلى أن بلغ به القنبلة الهيدروجينية، فإن مقدرته على المناجزة اكتملت، أو كادت، ويجب إذن أن يقلع عن التمليق، أو قل عن التدين، وعن الأديان، وعن الله. وإلى خروشيف ينسب قول، زعموا أنه قاله، وهو أن قاقارين عندما دار في الفضاء الخارجي وكان ذلك لأول مرة في تاريخ تقدم العلم الحديث، لم يجد ذلك الكائن الذي يدعونه الله، فكأن خروشيف لا يتصور الله إلا من نوع المادة التي يزعم أنه يعرفها. وفي الحق، أن فلسفتهم، حين عجزت عن تصور شئ وراء المادة، اتخذت من عجزها فضيلة، فأنكرت وجود كل شئ وراء المادة، وذلك لكي يستقيم لها القول بأن الإنسان، أثناء مناجزته لبيئته المادية، يتطور في فهمه لها، ويحسن من وسائله في مناجزتها، حتى يتم له قهرها وتسخيرها، ويصبح بذلك سيد مصيره. إن الضلال في فهم علاقة الإنسان بالكون لم يبلغ، في أي وقت من الأوقات، هذا البعد الذي بلغه على عهد الشيوعية، وباسم العلم والفلسفة. والشيوعية هي طليعة الفلسفة الاجتماعية المعاصرة، وهي صاحبة الدور التقدمي، الذكي، في المدنية الغربية الآلية الحاضرة. على أيسر تقدير، هذا ما يبدو للشعوب الآن. أم تقولون أن الغرب المسيحي يختلف في مسألة الدين، وفي أمر الله، عن الشرق الشيوعي. قد يكون هذا حقًا من الناحية التقليدية، ولكنه ليس بحق من الناحية العملية، وليس في فكرة الغرب عن الدين، وعن الله، ما يعصم الغرب من أن يصبح شيوعيًا، ولقد كانت روسيا، قبل الثورة الشيوعية، مسيحية، وكانت أورثوذكسية في ذلك. وفي الحق، إن الدين، سواء كان مسيحية أو إسلامًا، إن لم يستوعب كل نشاط المجتمع، ونشاط الأفراد، ويتولى تنظيم كل طاقات الحياة الفردية والجماعية، على رشد وعلى هدى، فإنه ينصل من حياة الناس، ويقل أثره، ويخلي مكانه لأية فلسفة أخرى، مهما كان مبلغها من الضلال، ما دامت هذه الفلسفة قادرة على تقديم الحلول العملية لمشاكل الناس اليومية، أو حتى ما دامت قادرة على تضليل الناس، إلى حين، باسم خدمة مصالحهم المعيشية. فإن الناس، ما داموا أصحاب معدات وأجساد، يجب ألا تهمل دعوتهم إلى الفضيلة حاجة معداتهم وأجسادهم، بل إن المعرفة بطبائع الأشياء تقضي بأن تكون دعوتهم إلى الفضيلة عن طريق معداتهم وأجسادهم. مهما يكن من الأمر بين الشرق الشيوعي، والغرب المسيحي، فإن المدنية الغربية الآلية الحاضرة ليست مسيحية، وهي قد عجزت عن إدراك العلاقة بين الفرد والجماعة، كما عجزت عن إدراك العلاقة بين الفرد والكون، وهي من جراء هذا العجز قد منيت بالقصور العملي عن الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية وذلك أكبر مظاهر فشلها. ولسنا نحن الآن بصدد الزراية عليها، ولا بصدد التقليل من شأنها، وإنما نحن بصدد دراسة علمية لها، تضعها في موضعها، وتعرف لها حقها، وتدعو إلى سد النقص فيها لتغدو مدنية بعد أن أصبحت حضارة. *** *** *** |
|
|