english Arabic

الطب الاجتماعي: نشأته وتطوره

 

دوروثي بورتر[1]

 

مقدمة

طوال قرن كافح الفرع الأكاديمي المختص بالطب الاجتماعي social medicine لإيجاد تعريف دقيق له. وتمثَّل هذا الكفاح في المنهاج الكلاسي للطب الاجتماعي الصادر في كتاب مختارات الطب الاجتماعي الذي حررته الهيئة التدريسية في قسم الطب الاجتماعي في جامعة نورث كاليفورنيا، تشابل هيل. وفَّر الكتاب رؤية ثمينة لاهتمامات الطب الاجتماعي. وقد تراوحت هذه الاهتمامات بين النظرات المبكرة إلى الفرع، وكانت تركز على موضوعات من قبيل تدابير الرعاية الصحية والسياسة الصحية، والنظرة الكلية السريرية، وصولاً إلى المفاهيم المتطورة في الحقل من قبيل الاهتمام بعلاقات الطبيب/المريض في مجتمعات متنوعة ثقافيًا.

وقد تنوع تطوُّر الطب الاجتماعي بوصفه موضوعًا أكاديميًا وبقي التعريف الدقيق له مراوغًا. وفي هذه المقالة، سوف أفحص بإيجاز بعض التطورات المتنوعة للطب الاجتماعي كفرع أكاديمي و روابط ذلك بالتطورات السياسية لدور الطب في المجتمع. وبعد ذلك أنتقل لتحليل الاتجاهات المستقبلية المحتملة المفتوحة أمام الفرع في السياق الأنغلو أميركي. إن فهمًا أفضل لنشوء الطب الاجتماعي بإمكانه مساعدتنا في التركيز على دوره في الإيفاء بالمتطلبات الصحية في العالم ما بعد الصناعي المعولم.

فترة ما بين الحربين: برامج الإصلاح الاجتماعي

في العام 1945 عُيِّن رينيه ساند Rene Sand أستاذًا للطب الاجتماعي في جامعة بروسل Brussels، وهو من أوائل الأساتذة الذين عينوا في هذا الفرع. وقد استُحدث المنصب استنادًا إلى منحة مالية قدمها صندوق روكفلر. آمن ساند بأن جذور الطب الاجتماعي تمتد إلى فلسفات الإغريق القدامى في الطب والصحة.

وقد قام جورج روسين George Rosen، المعاصر الشاب لساند، وهو مؤرخ وأستاذ للصحة العامة في جامعة ييل؛ بتعقب أصول المفهوم الحديث عن الدور الاجتماعي للطب إلى القرن التاسع عشر. شدد روسين على الدور الذي لعبه الإصلاحيون الاجتماعيون والصحيون الألمان والفرنسيون، بما فيهم جوليس غورين وألفريد غروتجان، وقبل ذلك كله، رودلف فيرتشو، السياسي الليبرالي ومؤسس علم أمراض الخلية.

ولقد اهتم الإصلاحيون الاجتماعيون والصحيون في القرن التاسع عشر بتنمية وتطوير الدور السياسي للطب في خلق مجتمعات متساوية. واستمر هذا الاهتمام ليكون هدفًا أَوْلَى لأكاديمييّ الطب في القرن العشرين، على غرار ساند، الذي أراد دمج الدور الاجتماعي للطب في إطار تدريب الأطباء وذلك من خلال إحداث فرع أكاديمي جديد هو الطب الاجتماعي. وقد قام فيرتشو بمَفْصلة الحاجة إلى تطوير الطريقة السوسيولوجية في البحث مع الشروط التي تُعظِّم الصحة والوقاية من المرض. ومدفوعين بالتجارب في ميدان الطب السوسيولوجي وعلم الصحة الاجتماعي في المجتمع السوفيتي الثوري خلال العشرينات، اعتقد إصلاحيو الطب الاجتماعي بين الحربين على كلا جانبي الأطلسي أن إحداث دور اجتماعي سياسي للطب يمكن الوصول إليه عبر تحويله إلى علم اجتماعي.

شهدت الأعوام بين الحربين تنوعًا عريضًا من التطورات العالمية في الطب الاجتماعي بوصفه فرعًا أكاديميًا. ففي جامعة ييل، أنشئ معهد العلاقات الاجتماعية في العام 1931 بإدارة ميلتون وينتيرنيتز، عميد مدرسة الطب. وكان هدف المعهد دمج الطب في البحوث حول التفاوتات الاجتماعية، وهو ما سيجعل الأطباء المتدربين يصبحون، كما يقول وينتيرنيتز، "علماء اجتماع سريريين."

وفي العشرينات والثلاثينات، لعب ساند دورًا جوهريًا في التشجيع العالمي للفرع الأكاديمي الجديد المسمى الطب الاجتماعي خصوصًا في أمريكا اللاتينية، حيث دعم، بعمله لصالح هيئة روكفلر للصحة العالمية، إنشاء معاهد الطب الاجتماعي وأقسامه في جامعة سان ماركوس في ليما عاصمة البيرو ومعهد أوزوالدو كروز في ريو دي جانيرو في البرازيل. وفي جامعة تشيلي، درَّس ماكس ويستنهوفر، وهو تلميذ سابق عند فيرتشو، رئيسَ التشيلي لاحقًا سلفادور الليندي. طوَّر الليندي فهمًا ماركسيًا أثر بعمق في التطور اللاحق للطب الاجتماعي الأمريكي اللاتيني (LASM) الذي انعكس في إنشاء مصلحة الصحة الوطنية في ظل رئاسته أثناء السبعينات.

مسيرة تأييد للرئيس الليندي الذي أثر في نشوء الطب الاجتماعي الأمريكي اللاتيني

وضمن منظمات الصحة العالمية في الفترة بين الحربين، حاول أنصار الطب الاجتماعي كفرع أكاديمي إضعاف أي تركيز حصري على الطب السريري ودفعوا باتجاه المزيد من التوسع في البرامج الاجتماعية. ومنذ تأسيسها، قامت اللجنة المقرِّرة في منظمة الصحة العائدة لعصبة الأمم بإعطاء الأولوية لتطوير الطب الاجتماعي. وقد حاجَّ ممثلو منظمة العمل الدولية في اللجنة وعلى الدوام بأن قضايا الطب الاجتماعي لا يمكن فصلها عن مسألة الوصول إلى الخدمات والمرافق التي تؤثر بشكل أساسي على صحة العمال. وقبل الحرب العالمية الثانية، حددت لجنة الصحة العالمية في مؤسسة روكفلر الضمان الاجتماعي كقضية محورية للتشجيع السياسي.

وكما أشار بول ويندلينغ، فإن الاهتمام بتطوير تحليلات متعددة العوامل للصحة والمرض في فترة ما بين الحربين قد استحثَّته الأزمات الاقتصادية في الثلاثينات وتأثيرات الحرمان الاجتماعي. وتاليًا، الكثيرون من الأفراد المتميزين في منظمات الصحة العالمية، من أمثال جون. أ. كينغسبري وإدغار سيدينستريكر من صندوق Milbank Memorial، رأوا في الطب الاجتماعي مسألة تتعلق بالمواطنة الصحية، وهذه كانت الحالة في سياقات وطنية. ففي بريطانيا، مثلاً، في فترة ما بين الحربين، حدث تداخل وتقاطع بين النقاشات المتصلة بالطب الاجتماعي وتلك المتصلة بتخطيط خدمات الصحة الوطنية وتأمين الوصول الحر إلى الخدمات عند الحاجة إليها وذلك بوصفه حقًا اجتماعيًا أساسيًا من حقوق المواطنة الديمقراطية.

ولذلك فإن أهداف الطب الاجتماعي، كما تطور في فترة ما بين الحربين، كانت على صلة صريحة ببرامج الإصلاح الاجتماعي السياسية. وقد وضعت حركة الطب الاجتماعي العالمية قبل الحرب العالمية الثانية هدفًا يتمثل في إبتكار دور اجتماعي جديد للطب بحيث يرتبط بالتحول الوبائي الذي أنتجته التطورات الاقتصادية والاجتماعية في القرن العشرين. وإن هذا البرنامج البين- مناهجي الذي يقوم على العلاقة بين الطب والعلم الاجتماعي سوف يزود الطب بالمهارات الفكرية اللازمة لتحليل الأسباب الاجتماعية للصحة والمرض بالطريقة ذاتها التي حصل فيها التحالف بين الطب وعلوم المختبرات وما نتج عنه من تبصرات جديدة في الأسس الكيميائية والفيزيائية للمرض. لكن هذه التطورات حدثت وكانت مقيدة أصلاً بالنقاش العالمي المتصل بترسيخ طب ذي توجه اجتماعي واستئصال التفاوتات الصحية والاقتصادية الاجتماعية.

من البنية الاجتماعية إلى السلوك الاجتماعي: صعود طبابة نمط العيش

بعد الحرب العالمية الثانية، اتّخذت مَأْسسة الطب الاجتماعي أشكالاً متنوعة بشكل واسع في إطار السياقات الوطنية. وثمة مَثَلان متعارضان على ذلك هما: الطب الاجتماعي الأمريكي اللاتيني وطبابة نمط العيش الأنغلو ساكسونية.

السياق الأمريكي اللاتيني: تركيز على المحدِّدات الاجتماعية والبنيوية للصحة

في أعقاب الحرب العالمية الثانية أصبح الطب الاجتماعي الأمريكي اللاتيني مختلفًا على نحو متزايد عن الصحة العامة كفرع أكاديمي وذلك بفضل هدفه الساعي إلى غرس النظرية السياسية والاجتماعية الماركسية وما بعد الماركسية في البحوث والتعليم. فقد ركز هذا الطب على التحول الاجتماعي والسياسي في حين استمرت الصحة العامة في إعطاء الأولوية للتنفيذ العملي للسياسة العامة بوصفها هدفًا محوريًا تجريبيًا وفكريًا.

والمَثَل على الأسلوب الذي ركز فيه الطب الاجتماعي الأمريكي اللاتيني على التحولات الاجتماعية هو المفهوم الذي أطلقه أرنستو تشي غيفار وأسماه "الطبابة الثورية" واعتمد على تثقيف العاملين في حقل الرعاية الصحية، بما في ذلك الأطباء، بالأصول الاجتماعية للمرض وبالحاجة إلى إحداث تغيير اجتماعي من أجل تحسين الشروط الصحية. وقد لعبت تفكرات تشي غيفارا دورًا عميقًا في كوبا وتشيلي ونيكاراغوا وفي الإصلاحات الحكومية الثورية لمنظومات الرعاية الصحية والطبابة والتعليم.

وقد اتسعت هذه التطورات على نحو إضافي بفضل شخصية بارزة في الطب الاجتماعي الأمريكي اللاتيني في السبعينات هو جون سيزار غارسيا، الذي تدرب كطبيب في الأرجنتين وكعالم اجتماع في تشيلي. كان غارسيا عضوًا باحثًا في منظمة بان أميركان الصحية منذ العام 1966. وفي أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات عقد سلسلة من اللقاءات الطبية الاجتماعية، وأنشأ و وزَّع منحًا وعقودًا وزمالات تدريسية عبر المنطقة، ونشر مجلدات ضخمة في ميدان الطب الاجتماعي. وعندما توفي في العام 1984، أنشأ الإصلاحيون البارزون في الطب الاجتماعي من مجموعته البحثية الرابطةَ الأمريكية اللاتينية للطب الاجتماعي LASMES التي أصبحت ذات حضور أكاديمي وسياسي في كل بلدان القارة.

"الطبابة الثورية" التي اقترحها تشي غيفارا شدَّدت على الأصول الاجتماعية للمرض وعلى الحاجة إلى التغيير الاجتماعي من اجل تحسين الشروط الصحية.

وقد شجعت الرابطةُ أساسًا مفهوميًا متماسكًا عن الطب الاجتماعي في التعليم الطبي في كل من هذه السياقات الوطنية المختلفة جدًا مدَّ جذوره في النظريات الاشتراكية المعاصرة حول الصحة والمجتمع. ولذلك استمر الطب الاجتماعي في أمريكا اللاتينية بالانخراط المباشر في النقاشات الرئيسية النظرية والمنهجية ضمن العلوم الاجتماعية وضمن الماركسية التي اكتشف المحدِّدات البنيوية الاجتماعية للمرض، كالتفاوت الاقتصادي، مثلاً.

السياق الأنغلو- أمريكي: صعود "طبابة نمط العيش"

في مقابل الطب الاجتماعي اللاتيني، طور الطب الاجتماعي في السياق الأنغلو أمريكي نموذجًا للوقاية ركز بشكل رئيسي على تغيير السلوك الفردي بديلاً عن الانكباب على المحددات الاجتماعية البنيوية للصحة والمرض. وخلافًا للطب الاجتماعي الأمريكي اللاتيني، كافح الطب الاجتماعي الأنغلو أمريكي كي يتمأسس كفرع أكاديمي أثَّر في التعليم الطبي.

كان وقع الطب الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية كالمصيبة على الفجوة المتسعة بين الطب الوقائي والطب العلاجي. فقد أظهر آلان براندت ومارثا غاردير الأسباب الكافية وراء الفرقة المتسعة والعدائية بين الطب والصحة العامة منذ بداية القرن العشرين. اشتملت هذه الأسباب على الرؤى النظرية المتعارضة حول التحكم بالمرض وتدبيره، والأهداف المتنازعة وراء امتهان الطب، وظهور السلطة الطبية مع توسع الممارسات المتخصصة المستندة إلى المشافي.

لكن براندت وغاردير حاجَّا بأنه في أعقاب الحرب العالمية الثانية تم التوصل إلى تسوية في الولايات المتحدة بين الصحة العامة كفرع أكاديمي وكمهنة حِرَفية، عندما تبنَّت الصحة العامة نموذجًا طبيًا حيويًا وليس طبيًا اجتماعيًا للمرض وذلك ضمن فلسفة وقائية مدفوعة بتدبّر عوامل المخاطرة الفردية للأمراض المزمنة. وقد تمثلت حجتهم بقوة في الأطر التحليلية التي قادت الاستراتيجيات الوقائية في الأمراض القلبية الوعائية وسرطان الرئة والبدانة. وقد أَسندَ هذه الأطرَ تطوّرُ ما دافع عنه غيرالد شوبنهاور، وهو نموذج سلوكي إلى حد كبير في الوبائيات السريرية في العقود الأولى بعد الحرب.

منذ العشرينات، شرع الإحصائيون العاملون في صناعة التأمين على الحياة في الولايات المتحدة بفحص العلاقات بين نمط العيش وكل من زيادة الوزن ونسبة انتشار الأمراض الوعائية ومعدل الوفيات. وعند نهاية الحرب استهلَّت خدمةُ الصحة العامة في الولايات المتحدة دراساتٍ جديدة عن أثر التحول الوبائي إلى أمراض مزمنة، فقد استخدم جوزف ماونتن الباحثَ غيلس ميدورس في العام 1946 للقيام بما دُعي لاحقًا دراسة فرامينغهام عن مرض القلب في العام 1947. قدم ميدورس الدراسة الأولية بهدف معلن هو الوصول إلى "توصيات بتعديل العادات الشخصية والبيئة" بحيث نمنع تفاقم مرض الشريان التاجي.

وفي حين ألقت دراسة فرامينغهام الضوء على دور الحمية والكوليسترول، كان جيري موريس وزملاؤه في أوائل الخمسينات في بريطانيا، من وحدة الطب الاجتماعي لدى مجلس البحوث الطبية، يلقون الضوء على محدِّدٍ آخر من محدِّدات نمط العيش المتصل بمرض الشريان التاجي؛ إنه التمارين الرياضية. في تلك الأثناء، وفي العام 1948، قدَّم آيو ميلتون مورياما وثيودور وولسي تحليلاً ضخمًا لأمراض الأوعية القلبية بالعلاقة مع التغيرات العُمْريَّة لدى السكان مستخدمين بياناتِ مسحٍ سكاني تضمن أيضًا مناقشة لقضايا نمط العيش، من قبيل البدانة.

في تشرين الأول من العام 1952، موَّلت مؤسسة الفيتامينات الوطنية ندوة في جامعة هارفرد حول الشراهة والوزن الزائد والبدانة تضمنت أبحاثًا حول تكوّن الدهون وسيكولوجيا الشراهة وفيزيولوجيا الوزن الزائد، وكذلك بحثًا قدمه ب.س. فراي بعنوان البدانة: الخط الأحمر للصحة. وطوال الخمسينات، جذبت الانتباهَ تلك المضامينُ على الصحة العامة والفردية التي تحملها معها البدانة والوزن الزائد. وكذلك انصبَّ اهتمام كثير من المؤلفين في حقل الصحة العامة على قضية الوزن الزائد وأصدروا عناوين مثل: وزنك وحياتك، أسلوب خفض الدهون لأجل حياة صحية وطويلة؛ دليل شامل نحو صحة أفضل عبر ضبط الوزن آليًا والمُكَمِّلات الغذائية الحديثة والوجبات منخفضة الدهون. وأجرى طلاب البحوث السيكولوجية دراسات على شاكلة أبعاد الشخصية وصلتها بالبدانة لدى النساء.

كذلك في بريطانيا، بدأ مثل هذا التحليل السلوكي في الحلول محل التفسيرات البينوية التقليدية (السياسية/الاقتصادية) لقضايا الصحة العامة الأساسية من قبيل وفيات الأطفال. فمنذ القرن التاسع عشر أعطت بحوث وفيات الأطفال الأولوية للتفاوت الاقتصادي بوصفه سببًا رئيسيًا للنسب المتفاوتة بشدّة تبعًا للطبقة. لكنَّ استقصاءاتٍ أخرى سلوكية اجتماعية بدأت في اكتشاف عوامل جديدة في أوائل الخمسينات. ولأنه في تلك الأيام كان من الصعب إلى حد كبير تحديد الحوادث داخل الرحم التي ربما تؤدي إلى موت المواليد خلال الأسابيع الأولى من حياتهم، فإن سبب الموت الذي غالبًا ما كان يذكر في شهادات الوفيات هو ببساطة "عدم اكتمال النضج."

لكنَّ ستيورات و ويب و هيويت من معهد اكسفورد للطب الاجتماعي اقترحوا أن هذا المصطلح كان يصف في الواقع طريقة الموت وليس السبب الفعلي له. وقد حاولوا في العام 1955 ربط 1078 حالة ولادة لأجنة ميتة ووفيات مواليد في الشهر الأول بمجموعة من العوامل بما فيها بنية جسم الأم خلال فترة الحمل. لكن نتيجة هذا الاستقصاء الذي كان من المتوقع أن يبين الشروط البيولوجية المتصلة بالوفيات، أفضت إلى تحديد السلوك الاجتماعي بوصفه العامل الرئيسي. فقد اكتشف الباحثون الثلاثة في دراستهم عام 1955:

لا تختلف النساء " النحيلات" و"المتوسطات الوزن" في قدرتهن على إنجاب مواليد أحياء، لكنْ من بين 212 إمرأة وصفن بأنهن "سمينات" فإن مخاطر الجنين الميت أو موت المولود حديثًا كانت نسبتها 60% فوق الحد الطبيعي. وقد بدا أن هذه المخاطر لا تزال أكبر لدى النساء اللواتي وصفن بأنهن "سمينات" و"قصيرات".

وهكذا تم تحدي التفسير البنيوي الراسخ حول العلاقة بين الفقر ووفيات الأطفال من خلال حجة سلوكية تعدّ بدانة الأمهات المحدِّد الرئيسي لولادة أجنة ميتة وموت المواليد الجدد. وقد زعمت هذه الحجة الجديدة أن أنماط العيش، بما فيها السلوكيات غير الصحية كالاستهلاك المفرط للطعام والافتقار إلى التمارين الرياضية، أفضت إلى مخاطر كبرى بأكثر مما فعلت شروط العيش من شاكلة التفاوت الاقتصادي.

في بريطانيا، أسَّس ريتشارد دول وأوستين برادفورد واحدًا من أكثر الروابط إثارة بين العادات السلوكية لنمط العيش والمرض المزمن، وذلك في تحليلهم للعلاقة بين استهلاك السجائر والمستويات المرتفعة من سرطان الرئة، وقد نشرت دراستهم في BMJ عام 1950.

كان كلا دول وهيل عضوين مؤسِّسين في الرابطة البريطانية للطب الاجتماعي عند إنشائها عام 1957 وكانا منخرطين في المجتمع الفكري المحيط بالطب الاجتماعي. ومع أن التدخين كان ينظر إليه بوصفه عادة وليس اعتمادًا وفق التعريف السيكولوجي الدقيق للإدمان، فقد جرى توصيفه كمسؤولية فردية. وقد مثَّلت الحملة ضد التدخين التي أعقبت النتائج التي توصل إليه دول وهيل رسالةً جديدةً عن نموذج سلوكي للوقاية من الأمراض المزمنة. وكان مفتاح التدبير الاجتماعي للأمراض المزمنة- على شاكلة سرطان الرئة- يكمن في تغيير السلوك الفردي، وزيادة الوعي الصحي، وتشجيع العناية الذاتية بالصحة.

وفي أعقاب الحملة المضادة للتدخين، فإن استراتيجية الوقاية من المرض المزمن عبر تربية السلوك الفردي قد اكتسبت زخمًا في السياق الأنغلو- أمريكي. وقد وفرت الحملات اللاحقة للحرب طرائق سلوكية ومتصلة بنمط العيش من أجل الوقاية من مرض القلب وأشكال متنوعة من السرطان، ومرض الكبد، والاضطرابات الهضمية، والأمراض التناسلية، والبدانة. ولم يعد النموذج السلوكي لنمط العيش قابلاً للتمايز عن الطب الاجتماعي كفرع أكاديمي خلال هذه الفترة، ذلك أنه تجذَّر على نحو متزايد في علم الأوبئة الفردية وهو القطاع المهيمن في علم أسباب المرض الذي يبحث في الأمراض المزمنة.

قاد البحث الذي أجراه دول و هيل إلى حملة على التدخين في بريطانيا مثَّلت نموذجًا سلوكيًا عن الوقاية من المرض المزمن.

وقد أعطى تحليل العلاقة بين التدخين وسرطان الرئة شرعية جديدة لعلم الأوبئة بوصفه الأساس العلمي لكشف نموذج طبي- بيولوجي- نفسي- اجتماعي للمرض المزمن. وأصبح بذلك نموذجًا تفسيريًا حاسمًا يضمن مقاربة جديدة للوقاية من المرض عبر تنظيم أنماط العيش الفردية. وهذا الأساس المنهجي الفردي، بتركيزه على الوقاية من المرض عبر تغييرالسلوك ونمط العيش، عَكَس التركيز الفردي على الطب العلاجي. وكلاهما سوية، الطب الوقائي والطب العلاجي، نشرا نموذجًا سلوكيًا فرديًا للعلاقة بين الصحة والمرض في النصف الأخير من القرن العشرين.

اتجاه جديد للطب الاجتماعي الأنغلو- أمريكي: عودة إلى التركيز على الأصول الاجتماعية للمرض

بعد الحرب العالمية الثانية، بقي الطب الاجتماعي في السياق الأنغلو- أميريكي ملتزمًا عن قرب النموذجَ الاجتماعي- النفسي- البيولوجي للمرض المزمن معزِّزًا بذلك نماذج الوقاية المستندة إلى السلوك ونمط العيش. لكنَّ التطورات السياسية الأخيرة فيما يخص الوقاية من المرض المزمن، خصوصًا ما يتعلق بمعضلة البدانة، ربما تشجع نُقْلَة أنموذجية paradigmatic shift  أخرى. وربما تعيد هذه النُّقلة ربط الطب الاجتماعي الأنغلو- أمريكي بجذوره الضاربة في التحليل البنيوي الاجتماعي للوبائيات وكذلك بالتركيز التحليلي البنيوي الاقتصادي الاجتماعي المتواصل في الطب الاجتماعي الأمريكي اللاتيني.

وكما ناقشنا أعلاه، فإن البدانة برزت بشكل جلي بعد الحرب العالمية الثانية في سياق تطوير الإطار السلوكي الوبائي في تحليل الأمراض المزمنة، وفي التصور السلوكي للوقاية عبر التغييرات في نمط العيش الفردي. ولكنْ، منذ التسعينات، خضع هذا الإطار السلوكي للتحدي من قبل إصلاحيين في ميدان الصحة جذريين فكريًا ركَّزوا على دور الرأسمالية الإدماجية corporate capitalism  في إنتاج الأمراض. وقد ركز الخطاب الصحي الجذري منذ التسعينات على تفكيك النموذج النيو ليبرالي في النظر إلى الوقاية بوصفها مسؤولية فردية. فقد أُلقي الضوء، على مدى فترة طويلة، على دور المنظمات الصناعية الإدماجية في إنتاج الأمراض المزمنة، وذلك من قبل مؤرِّخي الأمراض المهنية ومؤرِّخي التدخين، إلى جانب المعارك التي خاضها الإصلاحيون والوكالات الحكومية مع صناعة التبغ منذ الثمانينات. وفي وقت أحدث، فإن حرب الإصلاح الصحي الجذري على "الإفراط في الطعام" حَاكَت الكثير من الأفعال والحجج الإستراتيجية التي رافقت الحروب الأولى على "الإفراط في التبغ" و"الإفراط في الأدوية".

في حربهم على "الإفراط في الطعام"، رفض إصلاحيو الصحة الجذريون التفسير الوبائي السلوكي للبدانة وركزوا بدلاً من ذلك على التفسير البيئي. وللمفارقة، فإن أحد أوائل الداعمين لهذه الفكرة كان كيلي برونيل، وهو عالم سلوكي متميز، الذي اقترح أن سبب البدانة وزيادة الوزن هو إنتاج بيئة غذائية إدمانية سامة تشتمل على التسويق الواسع والتقنيات الدعائية التي تقوم بها الصناعة الغذائية الإدماجية. ولقد قام برونيل وزملاؤه المؤسِّسون لمجموعة الإصلاح الصحية في المركز العلمي للمصلحة العامة، بالدفاع لأجل التدخل الحكومي في ضبط البدانة والوقاية منها عبر فرض ضرائب على الأغذية عالية السعرات الحرارية ومنخفضة القيمة الغذائية، والتصريح الإلزامي للعموم عن المركِّبات الحرارية والكيماوية في المنتجات الغذائية، بما في ذلك وجبات المطاعم.

اقترح كيلي برونيل أن تقنيات التسويق والدعاية التي تمارسها الصناعة الغذائية الإدماجية تلعب دورًا في بروز معضلة البدانة.

وقد أُقِرَّ الإطار التحليلي البيئي الذي أجراه" محاربو الطعام" الإصلاحيون من قبل معظم الباحثين في منظمة الصحة العالمية في العام 2003 عندما أصدروا "مسودة استراتيجة عالمية حول الحمية والنشاط البدني والصحة." توصي هذه الإستراتيجية بأن تُدخل الحكومات في المجتمعات الأكثر غنى ضريبة غذائية تلحق بإنتاج ومبيعات الأطعمة المغذية، وتفرض تدابير قانونية على المنتجات غير المغذية عالية السعرة الحرارية التي تباع للأطفال، وتنظم النشاطات التسويقية والدعائية للصناعة الغذائية بحيث تحمي الجمهور المستهدف. وقد جرى التأكيد بصورة خاصة في الإستراتيجية على منع الصناعة الغذائية الإدماجية من محاولة جعل الأطفال يدمنون على أطعمة معينة من خلال آليات تسويقية (هذه الآليات التسويقية التي استعملتها صناعة التبغ لجعل الأطفال يدمنون على السجائر.)

إطار جديد للطب الاجتماعي في الوبائيات المرضية

يواجه الباحثون في الطب الاجتماعي والمدرِّسون الأكاديميون مهمة إدماج الحكمة التاريخية التي حُصِّلت خلال نشوء وتطور الفرع في إطار جديد. وهذا الإطار مطلوب من أجل فهم التفاعل المعقد بين البيولوجيا والعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في القرن الواحد والعشرين.

والنماذج الوبائية البنيوية الاجتماعية والبيئية الأكثر انتشارًا حاليًا للمرض المزمن والتي تكشفت في سياق "حروب البدانة" تتيح سبيلاً ممكنًا لحدوث نُقلة جديدة في الطب الاجتماعي. تعيد هذه النماذج ربط الفرع بالأطر التحليلية البنيوية الاقتصادية الاجتماعية التي نشأ في الأصل في رحمها، كما تعيد تعريفها في سياق البنية الإدماجية للإنتاج الاقتصادي في القرن الواحد والعشرين. وفي الوقت ذاته، فإن هذه النقلة الفكرية سوف تُكَامِل بين التطور المستقبلي للطب الاجتماعي الأنغلو أمريكي والنموذج الأمريكي اللاتيني ذي البنية الاقتصادية الاجتماعية الكلانية في الوبائيات المرضية. إن خطابًا طبيًا اجتماعيًا أكثر تكاملاً على الصعيد العالمي قد يكون الأكثر ملاءمة من أجل مواجهة تحديات فهم نظام عالمي جديد للصحة والمرض والطب والتفاوتات في الرعاية والموارد.

ترجمة: معين رومية

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] Dorothy Porter أستاذة تاريخ العلوم الصحية، ورئيسة قسم الأنثروبولوجيا والتاريخ والطب الاجتماعي في جامعة كاليفورنيا، سان فرانسيسكو. والمقال نشر في عدد تشرين أول عام 2006 من مجلة PLOSmedicine ضمن ملف عن الطب الاجتماعي. وعنوان المجلة الألكتروني هو: plosmedicine.org.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود