|
من
الحياة إلى... الحياة تأمُّلات
تأبينيَّة في ذكرى أربعينيَّة الأب سامي علام مجموعة
من أصدقاء معابر "إن
ما يأتينا ترافقه الأبواقُ والطبولُ لا بدَّ
أن يرحل عنا جارًّا وراءه أذيال الخيبة" –
هذا ما كتبنا منذ سنوات خلت. أما مَقدَم "الأب سامي"
علينا، وتغلغلُه في أعماقنا، فلم ترافقهما
أبواق ولا طبول! لقد رحل عنا، مثلما جاء،
عاريًا عن كلِّ برقع أو زخرف، مستغنيًا عن
كلِّ شيء بمحبة صافية وحكمة لا لبس فيها –
محبة صامتة، متميزة النكهة، لا يمكن لها إلا
أن تمهر القلب بخاتمها إلى الأبد، وحكمة
عميقة، لا تدري أنها حكمة، ولا يهمها أن تدري! فمَن هذا الرجل؟[1] * ولد
سامي يواكيم علام في دمشق في 9 كانون الأول 1946،
وأتم تحصيله الابتدائي في بلدة صيدنايا.
عُرِفَ منذ صغره بميله التركيبي الواضح الذي
تجلَّى، مثلاً، في صنعه، وهو بعدُ طفل،
نموذجًا من الورق المقوى طبق الأصل عن "كنيسة
التجلِّي" في البلدة. وفي صيدنايا العريقة،
التي كانت منذ القديم مركز إشعاع روحي قوي،
شعر بالدعوة الداخلية إلى حياة الكهنوت،
مفتاح الأسرار المسيحية. دخل دير المخلِّص في العام
1960، حيث نشأ على حياة الرسالة، التي شرع مذ
ذاك في تعميق أبعادها الداخلية. أنهى دراساته
الفلسفية واللاهوتية في جامعة القديس يوسف
ببيروت. ويعود إلى فترة وجوده بلبنان لقاؤه
بالأب المرشد أندره سكريما الذي فتح أمامه
آفاق الإمكانات الروحية للاهوت المشرقي،
الذي لم تتمايز فيه العقيدةُ عن الحياة
الروحية الداخلية، والذي دلَّه، على ما
نقدِّر، على كتب اللاهوتي الروسي الكبير
فلاديمير لوسكي، ولاسيما كتاب اللاهوت
الصوفي لكنيسة المشرق، الذي كشف له أن "كل
لاهوت فهو لاهوت صوفي، بما هو يُظهِرُ السرَّ
الإلهي ومعطيات الوحي"، وأنه "ليس ثمة
تصوف مسيحي من غير لاهوت [معرفة إلهية]، ولكن،
بصفة خاصة، ليس ثمة لاهوت من غير تصوف" (الكلام
ما بين أهلَّة للُوسكي). بذا استشف الأب سامي
بخبرته، التي غذَّتْها مطالعاتُه اللاهوتية
آنذاك، أن "الإنسان عيِّنة كونية، يتمتع
كمونيًّا بقدرات خارقة"، كما أكد فيما بعد
في المقدمة التي عقدها على ترجمته لكتاب پيير
داكو علم النفس الجديد، أو هو "إله
بالقوة"، كما يقول القديس غريغوريوس
النيقي؛ أي أنه، بالنعمة، مدعو إلى التأله
– ذلك المفهوم المركزي في اللاهوت المشرقي
الذي يلخِّصه القديس أثناسيوس الإسكندري
بقوله: "لقد صار الله إنسانًا لكي يستطيع
الإنسان أن يصير إلهًا." إلى تلك الفترة، على ما نظن،
يعود حدسُ الأب سامي، كما صرح لنا ذات مرة،
بأن عقيدة الفداء المسيحية ليست النصر
على الخطيئة والموت وحسب، بل هي تتضمن، أيضًا
وقبل كلِّ شيء، تأليه الإنسان. هذا
المنظور الأنثروپولوجي الغني إلى الوجود
الإنساني، الذي استشعره الأب سامي بوصفه رحلة
تأله لا تنتهي، ألهب فيه احترامًا للإنسان
عميقًا ومحبةً له بريئةً من كلِّ رياء، تجسدا
فيما بعد في تفانيه في الخدمة الذي لم يفتر قط. هذا التعبير المسيحي عن
تألُّه الإنسان، يتمِّمه الكاهنُ من خلال سر
الشكر الإلهي أو "القربان المقدس"،
الذي يرمز إلى الاتحاد بطبيعتَي المسيح
الروحية والجسدية عبر شرب دمه وأكل جسده. ولقد
شاء الأب سامي أن يكون كاهنًا حقًّا بهذا
المعنى، ينقل إلى رعيته، سرانيًّا، خبرة
الاختبار الشخصي لحضور الله. ولقد حظينا
مرتين برؤية الأب سامي في موقف وَجْد انخطافي
صامت، أكد لنا أن قناعاته اللاهوتية كانت
نابعة من صميم خبرته الروحية. * من
ناحية ثانية، دلَّه الأب سكريما على مؤلَّفات
مُواطِنه الروماني مرشيا إلياده، مؤرخ
الأديان الكبير، الذي برهن أن تحليل الظاهرة
الدينية يبلغ، فيما يتعدى الاختلافات
النسبية بين "الأديان"، الأصل الروحي
المشترك للدافع الديني للإنسان. ويلوح لنا
أن دراسة مؤلفات إلياده هي التي حصَّنتْ الأب
سامي ضد جميع صنوف التحزب والتعصب ومنحتْه
القدرة على الانفتاح على الأديان والمذاهب
والمعتقدات كافة، لا بل وعلى النهل منها
أيضًا (ولاسيما التصوف الإسلامي الذي تعمق
فيه) لرفد مساره المسيحي الأساسي. ويبدو أن
قراءة كتاب إلياده الأساطير والأحلام
والأسرار، الذي يبحث في العلاقة بين
اللاوعي، كما يتجلَّى في الخيال والرؤى، وبين
البُنى الدينية الأساسية، هي التي دلَّتْه
على أعمال العالم النفساني العظيم كارل يونغ. لقد كان من المنطقي أن
ينشدَّ الأب سامي إلى فكر يونغ ومنهاجه
النفساني – وهو الوَلوع منذ شبابه بالتهام
كتب علم النفس – لأنه وجد في مؤلَّفات
العالِم السويسري مصادقةً على صحة ما كان شرع
باختباره في نفسه، من جهة، ولأنه وقع في النظرة
الكلية لعلم النفس التحليلي، القائلة بأن
"المبدأ الذي يحكم خافيتنا [= لاوعينا] هو
عينه المبدأ الذي يحكم الكون وما فيه" (علم
النفس المركب، مقدمة المترجم)، على تعبير
يكاد أن يتطابق مع الجذور الروحية العميقة
لثقافته العربية، بأبعادها اللغوية
والفلسفية والدينية والفنية. إذ إن يونغ، كما
كتب الأب سامي، [...]
قبل فرويد، أطلق اسم "المركَّبات" [=
العقد] على تلك التبلُّرات النفسية التي
تعبِّر عن المكبوتات وتحكم سلوك الفرد على
نحو غير متكيف. وهو، قبل فرويد، رَسَمَ بنيان
الخافية [= اللاوعي] عندما تكلم عن القناع
والظل والذات. وهو الذي طرح مصطلحات الانطواء
والانبساط ووظائف النفس الأربع، وفتح
طريقًا جديدة لدراسة الأحلام وتفسيرها. ثم
أضاف إبداعَه المتميز بطرحه لنظرية الخافية
الجمعية والأعيان الثابتة [= الأنماط
البدئية]، مثل القرين والقرينة والرباعي
والدائرة والشجرة. لقد وجد الأب سامي أن ضخامة
إنتاج يونغ التأليفي واتساع أمدائه
بالمقارنة مع غيره من علماء النفس كانا، إلى
حدٍّ ما، سببًا في تأخر اطلاع الجمهور الواسع
على نظرياته ومناهجه العلاجية، بالإضافة إلى
العداء الصهيوني الذي شنَّ عليه حملةً شعواء،
متهمًا إياه بمعاداة السامية. غير أن تلك
المقاومات لم تفلح في إعاقة انتشار مؤلفاته
التي أخذت، منذ الستينيات، طريقها إلى بلدان
العالم كافة. وإنا لنهتبلها هاهنا فرصةً
لإيراد مقتطفات مما كتب الأب سامي في يونغ
لاحقًا، مقارنًا بينه وبين فرويد: لم
يكن يونغ مكرِّرًا لما قاله فرويد. فهو، وإن
كان قد وافقه على بعض ما جاء به نظريًّا
ومنهجيًّا، إلا أنه ناقَضَه في أكثر طروحاته
وقدَّم مفاهيم جديدة؛ وإذا كانا يتفقان على
الألفاظ أحيانًا فإن المضمون ليس هو نفسه. فالليبيدو
عند فرويد هي طاقة جنسية. أما يونغ فيعتبرها طاقة
نفسية شاملة، تتجلَّى في ضروب الإبداعات
الإنسانية كافة. يقْصِرُ
فرويد دور الخافية على مكبوتات طفولية وعقدة
أوديپية هي التي تتحكم بالسلوك الفردي
والاجتماعي للإنسان؛ فهي، من هذا المنظور،
ناتجة عن الواعية [=
الوعي]. أما عند يونغ فالخافية خافيتان:
أولاهما شخصية أو فردية، وثانيتهما جمعية؛
وهذه غير مريضة أبدًا، بل ترتبط بطاقات الكون
وتستقي منها الإبداعَ كَمِنْ ينبوع. ونظرًا
لذلك فإن الواعية هي التي تصدر عن الخافية،
مثلها مثل جزيرة تكتنفها المياه. يرى
فرويد بأن "الدين والأخلاق والمجتمع والفن"
جملةُ مكبوتات وهلوسات وأوهام عُصابية،
منشؤها العقدة الأوديپية، يُسقِطُها
الإنسانُ على الأحداث والأشخاص التاريخيين. [...] أما يونغ فيرى
أن الأديان مصدر غنى حضاري عظيم، بما هي
منظِّم لحياة الناس ومهذِّب لسلوكهم
الاجتماعي. فالدين، في نظره، حاجة إنسانية
عميقة وعلاقة اتحادية مع الله والبشر
والكون. * سيم
الأب سامي شماسًا إنجيليًّا في العام 1974 على
يد المطران غريغوار حداد، الذي تأثَّر بفكره
الاجتماعي الإصلاحي والعَلماني، فشارك مدةً
في تحرير مجلته آفاق. ثم سيم كاهنًا على يد
المطران إلياس نجمة في كنيسة التجلِّي
بصيدنايا في العام 1975. وقد بدأ حياته
الكهنوتية والرسولية في كنيسة القديس
جاورجيوس بباب المصلَّى بدمشق، حيث مكث خمس
سنوات؛ انتقل بعدها إلى حمص، حيث عمل في خدمة
الرعية مدة ست سنوات متوالية، سعى في أثنائها
إلى بناء كنيسة في بلدة المعمورة، باذلاً
كلَّ ما بوسعه لإنجاح المشروع، غير مستنكف عن
العمل بيديه، جنبًا إلى جنب مع أهالي البلدة.
في تلك الفترة، كانت حياته الداخلية تتفتح
عبر اختبار روحانية العمل والخدمة: لقد
تزامَن لديه بناءُ الهيكل الخارجي مع بناء
"الهيكل الداخلي". * ومع
بلوغه "وصيد الأربعين" – تلك السن التي
يحددها يونغ سنًّا لانكفاء طاقات النفس إلى
الداخل ونضجها – ترك الأب سامي، بإلهام
داخلي، العمل مع الرعايا الذي طالما أحبه،
متفرغًا لتعميق المعطيات الداخلية التي
تنامت إبان فترة خدمته العملية، ومن بعدُ،
للنشاط الفكري والتأليفي، دون أن ينقطع، مع
ذلك، عن العمل اليدوي في الزراعة التي كان
يعتبرها، نظرًا لتوفيرها تماسًّا مباشرًا مع
الطبيعة، عنصرَ توازُن داخلي في الإنسان. في
تلك الفترة، انهمك في القراءة والبحث، وانكب
على متابعة اختصاصه في علم النفس التحليلي
اليونغي. ولقد حرص على ترجمة كتب تسهم
في "تحرير الذات من السجون التي احتجزتْها،
خاصة في مرحلتَي الطفولة والمراهقة، ومن
المفاهيم المزيفة الشائعة إلى حدٍّ بعيد بين
الناس"، وتساعد على تفتح "الذكاء، تلك
الخاصية العظيمة التي يتمتع بها الكائن
البشري [...]، بحيث يكون حقًّا جؤجؤ الفرد في
خضم التصرفات البشرية والأحداث الاجتماعية
والكونية"، وصولاً إلى ترسيخ "الأفكار
الإيجابية بدلاً من الأفكار السلبية
المحبطة، والأحاسيس الصافية الفعالة بدلاً
من مشاعر الخيبة والإثمية والفشل" (من
السجون إلى الحرية، مقدمة المترجم). ظل الأب سامي على دأبه هذا
طوال أربع سنوات، ترك في غضونها ستة كتب
مترجَمة، قدم لبعضها بمقدمات رفيعة المستوى،
إن دلَّت على شيء فعلى موهبته في الكتابة
وصواب نظرته التحليلية التي رأت في التضاد
"مظهرًا جدليًّا للأشياء، وظيفته توليد
الزخم في الأفاعيل الإنسانية وبعث الحياة من
الجماد وإظهار الجمال الكامن إلى نور الواعية".
وهذه الكتب[2]
هي، على التوالي: 1.
علم
النفس الجديد وطرقه المدهشة (پيير داكو) 2.
علم
النفس المركب: تفسير أعمال يونغ (شارل بودوان) 3.
من
السجون إلى الحرية
(پيير داكو) 4.
الإنسان
يبحث عن نفسه
(كارل يونغ) 5.
النفس
الخافية
(كارل يونغ) 6.
الأنماط
النفسانية
(كارل يونغ) جدير بالذكر أن الأب سامي
كان قد بدأ بوضع معجم خاص بمصطلحات علم النفس
عمومًا، وعلم نفس الأعماق خصوصًا، حيث وضع
نصب عينيه العثور على مكافئات عربية
للمصطلحات الغربية التي اعتمدها يونغ وسواه
من تلامذته. وقد اعتمد لذلك معايير ثلاثة حاول
أن يطبقها لدى ترجمة كلِّ مصطلح: 1.
أن تعبِّر
الكلمة العربية تعبيرًا جليًّا، كاملاً
وبليغًا، عن المعنى المقصود؛ 2.
أن تكون
مستمَدة من التراث ما أمكن؛ و 3.
أن تكون
الأقرب إلى الشيوع. والواقع أنه ترك ملاحظات
عديدة تتعلق بمشروع المعجم، كما كان قد باشر
فعلاً كتابة تعريفات ببعض المصطلحات
الأساسية، من نحو: "الأعيان الثابتة" (استفاد
هذا المصطلح من ابن عربي) و"الظل" و"القناع"
و"القرين" و"القرينة" (استفادهما من
التراث الإسلامي ومن جبران) و"الذات" و"المنظومة
النفسية" و"الليبيدو" و"الوظائف
النفسية" و"الأنماط النفسانية" إلخ.
لكن المرض حال دونه وإتمام ما بدأ، على الرغم
من عمله الحثيث. ولعله يتيسر لنا مستقبلاً
النهوضُ لإنجاز هذا العمل الذي كان يرى فيه
لبنةً في بناء صرح علم نفس أصيل باللغة
العربية. وعندما شعر بدنوِّ الأجل،
بدأ يستعد للمواجهة النهائية لأعماق الخافية
– تلك المواجهة التي لا مناص منها لمن كان
الموت في نظره ولادةً جديدة وانتقالاً
روحيًّا – موكِلاً إلى بعض أصدقائه ممن عايشه
وتتلمذ عليه وعمل معه طوال السنوات الثلاث
الأخيرة من حياته إتمامَ ما بدأ. توفي الأب سامي يواكيم علام
فجر يوم الأحد، 7 شباط 1993، وسط رفوف مكتبته
الغنية. د.أ. دمشق،
أواخر شباط 1993 *
* * معلِّم
في حياته... ومعلِّم في مماته! انصرفت
الأختُ العزيزة لتخبر الآخرين بأن كيمياء
الموت قد تمَّمتْ سرَّها... شهقتان قصيرتان متواليتان،
تلتْهما ثالثة أطول، وأسلم الأبُ الحبيب
الروح... انفتحت العينان على اتساعهما، وكأن
الروح غادرت الهيكل الترابي من خلالهما. أطبقتُ العينين الحبيبتين،
وأنا لا أدري في الواقع على أي سرٍّ
أُطبِقُهما. نظرت إلى الوجه، فإذا به يعود
إليه شبابُه الأزلي ويتألق بجمال لا يوصف! واستغرقتُ في شبه غيبوبة... غام كل شيء من حولي، وألفيتُ
نفسي تكتنفُني ضبابةٌ أثيرية تسبح فيها
الأشياءُ ساطعةً بنورها الداخلي. ثم أبصرتُ
نقطةً زرقاءَ مضيئةً تتراقص فوق جبهة الجسد
الطاهر المسجَّى أمامي – نقطة مشعَّة ذات ألق
أسطع من الضوء بمرات عديدة، سرعان ما انفصلت
عن الرأس وراحت تسبح في جو الغرفة. شعرت وأنا
أحدق فيها – لا بعينيَّ الترابيتين – بدفء
أليف وطمأنينة علوية. لكنها ما لبثت أن خرجت
من النافذة المفتوحة، قبل أن أتمنَّى لو تبقى
أكثر. واضطربتُ بالروح... ثم عدت رويدًا رويدًا إلى
حواسي، وأنا أتمتم في سرِّي: "أنا القيامة
والحياة... إنا لله وإنا إليه راجعون..." * من
دون الإحساس ومن دون الشعور، يكون الفكرُ في
عالمنا أشبه بدوامة الغبار التي تعلو في
الصحراء عندما تعصف الريحُ بالرمال... الأفكار تمضي وتعود دون أن
تخلِّف أثرًا يُذكَر – اللهم إلا أن يمتصها
الدمُ، فتتغلغل في الصدور والأحشاء، لا بل
وفي أعمق أغوار الأصلاب... ألقُ الأفكار قد يُبهِر،
مثل أصداف البحر في الشمس، لكنه سرعان ما
ينطفئ مع زحف الموج وحلول الليل... ما لم يصادق القلبُ والحس
على الفكرة محالٌ أن يخترقنا الحق، كما السيف
البتَّار، ويحوِّلنا... إلى الأبد. هذا ما علَّمنيه الأب
الحبيب! *
* * خواطر
على هامش وداع الصديق الراحل الأب سامي علام 1 كانت آخر مرة قابلتُك فيها
في محاضرة للجمعية الكونية [السورية]. سلَّمتَ
عليَّ بحرارة، كعادتك، وسألتَني عن "حالي"،
وسألتك عن "حالك"، كما هي العادة هاهنا.
وكعادتي، أجبتك أن "حالي وسط". أما أنت
فلم تجب. ثم تحدثنا قليلاً، قبل أن أتركك،
لنستمع كلانا إلى ما جئنا نستمع إليه. وقد لفت
شحوبُك يومذاك انتباهي، وكذلك [سقوط] شَعرك.
وراودتْني تلك الفكرة الحزينة بأنك مصاب بما
لا يرحم! لكني أبعدتُ الشبح عن تفكيري.
فلعلِّي مخطئ هذه المرة. يا إلهي! 2 ثم كان ذلك اليوم السابق
لوفاتك، حين أخبرني أخٌ مشترك حبيب أنك كنت
على مشارف النهاية. وفي اليوم التالي، أخبرني
أن النهاية قد تمَّتْ وأنك ودعت حياتك هذه. في تلك الليلة، وقد رافقناك
إلى أقرب ما نستطيع من مثواك الأخير، لم أستطع
البكاء. وقرأت ما لم أفهمه من كتاب قديم من
التيبت، فوجدتني أكرِّر ما لم أفهمه أيضًا،
من أجلك، ويردِّدونه هناك: "أوم
ماني پادمي هوم... أوم ماني پادمي هوم..."[3] يا صديقي، لقد كان بودي
التعرف إليك أكثر، لكنْ... هكذا شاءت الآلهة! 3 كنَّا في ذلك اليوم الحزين
ستة من أصدقائك، جمعنا الألمُ بين أهلك
ومحبيك عند مثواك الأخير هناك. د. جلب معه
وردة ووضعها على نعشك لوداعك، أيها الحبيب! وقد تقدمنا جميعًا إلى أقرب
ما نستطيع من نعشك قبل أن يحملوه، لنقول لك،
للمرة الأخيرة هاهنا: وداعًا أيها الحبيب! وداعًا... وفكِّر فينا حيث
أنت الآن، وسامحنا إنْ حصل وأسأنا إليك، كما
كنت دائمًا، على سُنَّة إلهنا، تُسامِحُ مَن
أساء إليك، وكما سامحتَ، أيضًا، مَن تنكَّر
لك من "إخوانك" في هذه الحياة، ثم اجتمع
معهم لوداعك واحتضانك بعد وفاتك (وأحدهم قد
شكرنا مرتبكًا، لكنْ في صدق، على مشاركتهم
فاجعتهم بك)... فسامحنا... كما تُسامِحُ – وأنت تراه –
ذلك الرجل الذي "سرق" تلك الزهرة
الوحيدة، الحزينة، التي وضعها د. فوق
نعشك، ولسان قلبك يقول: "فليأخذها، وليفرح
بها، لأنه يحب الزهور!" في تلك اللحظة، وقلبي يقطر
ألمًا، قلت لـف.: "أتراه لا يوجد سوى ذلك
الحزن يجمع بين قلوب البشر؟!" فأجابني بما
كان يجول حقًّا في خاطره من خلال الألم: "يبدو
أن الحياة هاهنا قصيرة جدًّا، يا أكرم،
والوقت يضيق بنا لنقول خلاله ما عندنا..." 4 ها صديقنا المشترك د. قد
طلب مني، مشكورًا، أن أعبِّر لك، بكلمات
قليلة، عن مشاعري... الأفكار تختلط مع الألم،
وأنا أكتب إليك الآن، وقلبي يبكي، حزينًا
ووحيدًا... إلهي، كم كان بودي خلال
حياتك لو تعرفت إليك أكثر، ولو فهمت مأساتك
أفضل، وأفهمتك مأساتي أفضل... ولكن، هكذا شاءت الأقدار –
ومشيئة الأقدار لا تُناقَش! "الأصدقاء"
في أثناء زيارة لدير مار توما الأثري في
صيدنايا، ربيع العام 1992. من اليمين إلى
اليسار، الصف الأمامي: سامي علام، ندره
اليازجي، موسى الخوري، غسان الخوري؛ الصف
الخلفي: رجاء جبر، أكرم أنطاكي، فايز فوق
العادة، عبد الإله الملاح، منال المأمون. وأستعيد من "خافيتي"
نتفًا من لقاءاتنا القليلة: ملاحظاتك
القيِّمة على كتاب لي لم أنشره بعد، بعض
ملاحظاتك "الواقعية" حول أحلامنا بإصدار
مجلة ثيوصوفية، محاضرتك الصغيرة لنا حول كتاب
كارل غوستاف يونغ الذي ترجمتَه... وأشعر بغصة
لأني لم أتعرف إليك أفضل... فسامحني، واقبل مني، مرة
أخرى، ذلك الابتهال الذي لا أفهمه، لكن قلبي
يحدثني بأنه أقصى ما بوسعي اليوم تقديمه لك...
فمرة أخرى: "أوم
ماني پادمي هوم..." ووداعًا، يا صديقي، وإلى
اللقاء... *
* * حلم:
إنسان نادر في مثل هذا العصر! يتجاوز
الشعورُ كلَّ تعبير. فالحرف قاصر عن بيان
التواصل الإنساني العميق. أجل، ليس أبسط من
التواصل المباشر، دون كلمات... وليس أعمق من
المحبة، بلا لغات... منذ المرة الأولى التي
التقيتُ فيها الأب سامي، عرفتُ أن لا حدود
عنده ولا حواجز: يتقبلك كما أنت، وكيفما كنت،
فتشعر أنك أكثر من قريب منه، وتعرف أنك تستطيع
الركون إليه واللجوء له، في أيِّ وقت وفي أيِّ
ظرف... عدد
من "الأصدقاء" خلف دير مار توما. من
اليمين إلى اليسار: رجاء جبر، أكرم أنطاكي،
فايز فوق العادة، سامي علام، موسى الخوري. وعندما عرفته أكثر فأكثر،
كانت دهشتي تزداد باستمرار لغنى محبته. "هذا
إنسان نادر في مثل هذا العصر!"، كذا كنت
أحدِّث نفسي. لكني، في يوم تالٍ من الأيام،
عرفتُ الأب سامي كما لم أعرفه من قبل: عرفته
إنسانًا فتح لي أعماقَه حتى كشف لي عن أعماقي.
لم أقف يومًا في وقفة الذات كما أوقفني، فرأيت
ما لم أرَه فيَّ من قبل، وعرفتُ نفسي كما لم
أعرفها يومًا. فيا لعظمة محبته! * أفقت
البارحة، وغبطة عارمة تملأ نفسي! لقد شاهدته
في الحلم شابًّا موفور الصحة، والنور يشع من
وجهه الذي كستْه لحيةٌ خفيفة سوداء. كان يرتدي
ثوبًا كهنوتيًّا أبيض اللون عليه نقوش صفراء
وحمراء، ويعتمر تاجًا ذهبيًّا تزينه اللآلئ.
لا أذكر تفاصيل كثيرة من الحلم، لكنني شاهدت
نفسي أفتِّش عن أسرة مشتتة، وكأن يد الأب سامي
كانت معي. ثم وجدت الأسرة مجتمعةً كأنما في
علِّية. وإذا بي أقرأ في كتاب يشبه في إخراجه
الكتاب المقدس. لكني كنت أقرأ ما يشيد بالأب
سامي وبجهوده وإخلاصه في لمِّ شتات هذه
الأسرة، وكان صوت يناديني: "لا عليك، لا
تقلق... فقد قام الأسقف سامي بالمهمة على
خير وجه!" وتكررت كلمة "أسقف" عدة مرات
في أثناء قراءتي. وعند ذاك، بكيت بكاءً
حارًّا، ونظرت إليه جالسًا قبالتي يحتضن
أطفال الأسرة الصغار، وقد بدا في حالة مهيبة
والنور يطل من وجهه. وأفقت... كان هذا الحلم رسالةً رائعة
لي، أرجو أن يجد فيه كل مَن عرف الأب سامي مثل
هذه الرسالة. تحية لروحك الطيبة، "أب
سامي"! دمشق،
في 16/02/1993 *
* * الفاتحة! الذكرى الطيبة التي خلَّفها
الأب سامي علام في نفسي ليس بوسع الموت أن
يمحوها، والمحبة التي تبادلناها – صامتَين –
كان باعثها الالتقاء الحقيقي في الداخل،
على الرغم من المباينة الظاهرية في الظاهر.
لهذا السبب، أحبَّني مسلمًا، وأحببتُه
مسيحيًّا – إذ كان الهدف عند كلينا الارتقاء
بالإنسان إلى ما فوق الإنسان، لا النزول به
إلى ما دونه. لذلك لا أجد في نفسي حرجًا –
وأنا المسلم – أن أقرأ الفاتحة على روحه
الطاهرة وأن أسأل الله – تعالى – أن يتغمَّده
بواسع رحمته ويُسكِنَه فسيح جناته. فهو
بُضْعة منا، وهي بُضْعة منه، آلت إلى التراب. *
* * قوم
مُسْتَخْفون... باقُون لا يفنون! إلى
الأب سامي سلافة
الشريف حيث
أنت الآن، حيث نشتاق – ونهاب – أن نكون... ما أكثر الذين يمرون في هذه
الحياة مرور الطبول الجوفاء الصاخبة! وما أكثر الذين يمرون أقسى
من الحجارة الصماء، لا تنبثق نبعًا، ولا تحبس
قطرًا، ولا تتندَّى ندًى، ولا تخرُّ خشعة! وما أقل مَن يمر مرَّ الجبال
كالسحاب، مرور النسمة العطرة والأثير العابق
بالنغم المنسجم والدفق الشفاف! وأقل من هذا القليل قومٌ
مُسْتَخْفون، لا يعلمهم إلا المقرَّبون،
يمرون مرور الفجر المنفلق كاللَّمح في الليل
المعتم الطويل، لكنهم باقون لا يفنون! إليك، متدثرًا بالطيب
والعطف والتواضع والحزن المستكين المترفِّع
– كما لمحتك... إليك، حيث كنت كما كنت، وحيث
أنت الآن، زهرات بيض وعطفة محبة خالصة الود،
لأنك باقٍ، ليس في قلوب وعيون الذين عرفوك
وأحبوك وسمعوا ترانيم قلبك المشتاق وشاركوك
الشوق والبوح والمسار فحسب، بل وفي قلوبٍ
وعيونٍ ما عرفتْك إلا كما يُعرَف الطيفُ
الواعدُ الجميل! 20/02/1993 *
* * الزمان
والكشف عندما
رأيتُه بعد غيبة قصيرة، أدركتُ على الفور أن
الأب المفكر في محنة. سألت الصديق العزيز عن
الخطب، فامتنع الصديق عن الإجابة. كان الأبُ
حريصًا ألا تُعرَف حقيقةُ مرضه العضال، ذلك
لأنه كان ينبوعًا للشفقة والرحمة – ولم يكن
الينبوع يومًا مصبًّا – وأنَّى للمصبِّ أن
يعلو إلى حيث الينبوع! هكذا أسرَّ الأبُ إلى
الصديق بأمر أيامه المعدودات وطالَبَه
بالكتمان، حرصًا منه على استمرار "الرسالة"
في إيقاعاتها المألوفة. أشار الأبُ إلى شيء من
هذا القبيل في وصيته إلى الصديق. استقلينا السيارة معًا في
صحبة مفكر كبير، حرص الأب على الاستماع إليه،
حتى في الظروف الحالكة. جهد الأبُ يومئذٍ في
إبقاء أمارات الصحة والعافية على وجهه. لم أشأ
التطرق إلى الموضوع؛ لا بل لقد أنساني مسلكُ
الأب كلَّ ما كان يمت إلى الموضوع بصلة. وبعد
فترة قصيرة، أدخل الأبُ في روعي أنه في أحسن
أحواله. أن نتعلم من إنسان عظيم مواجهة
الموت في شجاعة وجرأة – لعمري، تلكم عظة
كبيرة وعِبْرة ومأثرة! * يفرض
الهم الوجودي أن نكون جديين، حتى في اللحظات
المنبسطة. إننا لا ندري مَن نحن، من أين
أتينا، وإلامَ مآلنا. والحق نقول، إنه همٌّ
وجودي، وأي هم! لو سبرنا المعنى المجرد للحياة
لتحسَّسنا الهمَّ الوجودي في مركز ذلك
المعنى، ولخلُصنا إلى الجدية كمقابل لا
بدَّ منه لذلك الهم. كان الأب جديًّا، في
أعماقه وفي ظاهره على حدٍّ سواء، بما يتناسب
والهمَّ الوجودي؛ فكانت تقطيبته الدائمة
التي لم تفارقه، حتى في لحظاته المرحة. أما
ابتسامته فلم تكن لتظهر إلا كخلفية لتلك
التقطيبة، وكأنه قد شاء، على الدوام، أن
يذكِّر بحقيقة ما نحن عليه من جهل ولاأدرية. ذات مرة، روى لنا فكاهة. لم
تكن "فكاهة" بالمعنى المألوف؛ كانت أقرب
إلى العظة في سياق مواجهة شظف العيش. طلب منا
أن نضحك للفكاهة – ضحكة خلفية في مقدمتها
حقائق صعبة، بالغة الجدية. * أكَّدتْ
معرفتي به قلةَ ما للأثر الكمِّي لظاهرة
الزمان من أهمية، وأعادت إلى ذهني طيف
الزمان، كونه حالة من حالات الإلهام الذي لا
ينفصل عن الإدراك. الزمان ليس كمًّا
أزليًّا، وليس مصادرةً على الإطلاق. إنه
ينضغط ويمتط في عوالم الأنفس كما في ظواهر
الطبيعة. تنقاد الطبيعةُ في تعديلها للزمان
بنواميس الفيزياء؛ أما الأنفس فتحقِّق ذلك
بفعل الحدس. لا غرو في أنني، منذ
التقيتُه أول مرة، أيقنت أنه مفكر مخلص، نذر
نفسه للحقيقة – ولها حصرًا. لم تكن بي حاجة
إلى أية هنيهة زمنية، طالت أم قَصُرَتْ، لكي
أتفهم ذلك الإنسان. لقد تبنَّيتُ موقفَه في
أحد الإشكالات اليومية دون أن أحظى بمؤيدات
معلوماتية لدعم ذلك التبني. حسبي منه – ومن
أيِّ إنسان آخر – استشفاف أبعاد البنية
الداخلية. * أي
خيار ذاك الذي يُقدِمُ عليه ملاكُ الموت؟
أحقًّا هو ضرب من ضروب الاختبار؟ أم أنه مجرد
فعل خبط عشواء؟! لربما كانت تجربة كونية لا
نستطيع لها تعليلاً – وكيف نعلِّل اختطاف
ساعٍ إلى الحقيقة وتَناسِيَ متنكِّر لها! لست في صدد توثيق احتجاج!
إننا نفتقر إلى تعريف للاحتجاج في أحوال كهذه.
وحسبنا من الفاجعة خلود الفكرة وتوريثها. إن مَن
يحاور الأفكار الخالدة لا يموت. من هنا كانت
قيامة السيد المسيح التي حدثنا عنها الأب
الراحل، في حقيقتها، تثبيتًا لمبدأ محبة
الآخر، بما يتجاوز حدود الذات – ولأنها
فكرة خالدة، فقد عاد إلى الحياة صاحبُها. * كرَّس
الأبُ الراحل فعالية أفكاره في المراحل
الأخيرة للبحث في الأصول الجمعية التاريخية
للجنس البشري، من حيث إن ذلك الجنس كلٌّ
موحَّد. لكن البحث بقي مفتوحًا. والعزاء أنه
ليس من شأن أيِّ بحث أن يُغلَق. فاهتمام
الأخلاف بالبحث إنما هو من روح الأسلاف، وكل
خلف سيغدو سلفًا. إن البحث عن الحقيقة، بهذا
المضمون، هو فعل لازمني. لكنها لحظة
الفراق، وكأنما سُلِخَتْ عن الصيرورة
وأودِعَتْ مكانًا خاصًّا لتذكِّرنا بمآلنا
وبضرورة أن نعطي بسرعة قبل أن نصبح أسلافًا.
هكذا زاد الأبُ من وتائر عطاءاته زيادةً
مطَّردةً مع اقتراب منيَّته. فلتهبط عليه الرحماتُ من
كلِّ حَدَب وصوب... *
* * لقاء
المعرفة والإيمان عبد
الإله الملاح الأب
سامي ينتمي، إنْ جاز التعبير، إلى ذلك النمط
الذي، حين تلتقيه، يتهيَّأ لك أنك تلتقي
صاحبًا قديمًا، وإذا غادرَك أخذتَ تتطلع إلى
لقائه من جديد. تلك كانت حالي معه يوم
تعرفتُ إليه. ولست أحسب أن الحال تختلف مع
سواي. فالمرء لا يملك أن يغالب ذلك الانطباع
الذي يحمله مع اللقاء الأول من فكر لمَّاح
وقوة داخلية، تغلِّفهما رقةُ طبع وهدوءٌ بلا
قرار. "الأصدقاء"
أمام كنيسة دير مار توما. من اليمين إلى
اليسار: رجاء جبر، ديمتري أفييرينوس، أكرم
أنطاكي، سامي علام، عبد الإله الملاح، غسان
الخوري. وكنت أحار – ولا أحسب أني
تجاوزت هذه الحيرة – في أمر هذا المزيج في
شخصية الأب سامي، التي جمع فيها بين رجل
الإيمان والباحث عن الحقيقة في العلم. ولكن
الرجل كان مطمئنًّا إلى إيمانه، ويجد دعامةَ
هذا الإيمان في العلم، ولا يرى حرجًا في هذا
الجمع وهذا المزج، وبذلك يقدِّم لمن عرفه
مثالاً لنزعة إنسانية جديدًا، وعلى أحسن ما
يكون عليه المثال. ولست أذكر أني وقعت في هذا
"الأب" على أيِّ قدر من التعصب، على
الرغم من اختياره العمل سابقًا في نطاق
المؤسسة الدينية. وإذا كان ثمة غلبة في هذا
فهو تمثُّله لأفضل الفضائل المسيحية – عنيت
فضيلةَ التسامح. فقد كان للإيمان عنده
المقام الأول، وسوى ذلك مجرد منهج ونظام
للحياة والعمل ليس إلا. ولست أحسب أيضًا أن هناك
مثالاً على قوة إيمان الأب سامي أبلغ من
احتماله المرض بلا شكوى أو إعلان عن الألم،
وهو يعاني، ويكتم معاناته، وكأنه لا يبالي –
حتى اختصر حياته في لحظة كان يرسم فيها
أعمالَه للمستقبل! قد يكون غادرنا اليوم بجسده.
ولكن... هل يغيب مثالُه؟! لا أحسب! *
* * لأمثاله
تُفتَح أبوابُ الفردوس! الأب
سامي علام مسيحي حقيقي في كهنوته، حقَّق
المبادئ المسيحية المتميزة بالمحبة والخدمة
والمعرفة والإيمان. وقد جعل هذا الأب الجليل
من عبارة: "من ثمارهم تعرفونهم" غايةً
لحياته – هذه العبارة التي جعل منها المسيحُ
غايةً لمن يريد أن يحقق ملكوت السماء في ملكوت
الأرض. لقد أبى الأب سامي الحبيب أن يجعل من
عبارة: "اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم"
– الموجَّهة إلى التلاميذ ليتجنبوا
الفريسيين الذين وصفهم المسيح بـ"القبور
المكلَّسة" – شعارًا له. "الأصدقاء"
ودير مار توما يبدو خلفهم. من اليمين إلى
اليسار، جلوسًا: ندره اليازجي، فايز فوق
العادة، رجاء جبر؛ وقوفًا: منال المأمون، عبد
الإله الملاح، أكرم أنطاكي، سامي علام،
ديمتري أفييرينوس، غسان الخوري. على صعيد المحبة، تعاطف
الأب سامي مع جميع الناس، واعتبر أبناء
البشر، على اختلاف مذاهبهم ومللهم وعقائدهم
وجنسياتهم وأعراقهم، إخوة في الإنسانية. وعلى صعيد الخدمة، اتخذ
الأب سامي من عبارة المسيح: "رأيتموني
جائعًا فما أطعمتموني، وعطشانًا فما
سقيتموني، وعريانًا فما كسوتموني" هدفًا
لبشارته الإنجيلية. لقد آمن بخدمة الإنسان،
بإعلاء شأنه على المستوى الاقتصادي
والاجتماعي، وبإكرامه، كصورة إلهية تستحق
الإجلال. ففي مبدأ الخدمة، طبَّق ما نادى به
المسيح: "مَن أراد أن يكون فيكم رئيسًا
فليكن لكم خادمًا." وعلى صعيد المعرفة،
اطَّلع الأب سامي على فلسفات وآداب وعلوم
العالم الأرضي، بأنواعها وفروعها، واحترم
المبادئ التي تؤدي بالإنسان إلى تحقيق
إنسانيته، ورأى أن المعرفة تعانق الإيمان،
دون أن تتناقض معه، واعتقد أنها سبيل للخلاص.
وبهذا حقق قول المسيح: "تعرفون الحق، والحق
يحرركم." لذا أخذ على عاتقه ترجمة مجموعة من
أمهات الكتب النفسانية التي تساعد القارئ على
الحياة في نور وعيه والانعتاق من ظلام جهله. وعلى صعيد الإيمان،
توطَّد معتقدُه على صخرة قوية لا تهزها
الأعاصير والعواصف. لم يكن إيمانُه سطحيًّا.
فقد أدرك أن الإيمان هو فعل الروح في عمق
الكيان، هو هذا التوق والحنين إلى الحقيقة
الإلهية، هو الدافع الأساسي الذي يعود
بالإنسان إلى الله. * رأيت
الأب سامي يتألم في صمت. لم يشكُ، لم يتذمر، لم
ينفعل، لم يتحدث عن مرضه. تحمَّل المعاناة
بروح التضحية. تألَّم بقدر ما يُعتبَر الألمُ
تطهيرًا للنفس والعقل ونقاءً للروح. أخي سامي... كنت عظيمًا في حياتك، وفي
تجربة المرض، وفي انتقالك من عالمنا الأرضي.
فلأمثالك تُفتَحُ أبوابُ الفردوس! ***
*** *** [1]
ما يلي بضعة مقتطفات (منقحة) من دراسة أوسع
تناولنا فيها فكرَ الأب سامي وجهاده
الإنساني، قدمنا بها للتأملات التأبينية
التي أصدرناها بعد وفاته في كراس صغير
بعنوان: "من الحياة إلى الحياة: الأب سامي
علام في ذكرى أربعينيته" (آذار 1993). (د.أ.) [2]
ظهرت الكتب الثلاثة الأولى إبان حياته،
بينما لم تحالفه الأقدارُ لرؤية الرابع (الذي
ترجمه بالتعاون مع ديمتري أفييرينوس)
والخامس، اللذين كانا تحت الطبع حين وفاته.
أما الكتاب الأخير (الذي ترجمه بالتعاون مع
الأستاذ فائز بشور)، فمازال مخطوطًا قيد
التدقيق، والمزمع أن يصدر في أقرب مناسبة. [3]
عبارة سنسكريتية مفادها: "الجوهرة في قلب
زهرة اللوتس." (د.أ.)
|
|
|