|
الحقيقة
ليست في حيازة أحد! يجب
الدفاع عن الإنسان والمحافظة على التعدُّدية منذ شبابي
حيَّرتْني هذه المسألة: كيف يعمل المخ؟
وقادني ذلك إلى سؤال أهم: هل يمكن للمخِّ أن
يفهم المخ؟ ... هكذا تعاملتُ مع الكومپيوترات
الأولى، تلك الوحوش العملاقة التي كان يتمُّ
فيها تسجيلُ البرامج بدلاً من كتابتها. وذات
يوم، بدأت أتفكَّر في أمر هذه الآلات... مارسو فلدن Marceau Felden
أستاذ
الفيزياء النووية وفيزياء الپلازما في جامعة
باريس الحادية عشرة – سوپلك Supelec. كان قد أسَّس في العام 1962 مختبر
فيزياء الأوساط المتأيِّنة (المشرَّدة) في
جامعة نانسي الأولى الذي أداره حتى العام 1985.
وفلدن باحث
معروف في حقل فيزياء الپلازما. وقد اهتم منذ
سنوات عديدة بالآثار الثقافية والحضارية
المختلفة للتكنولوجيات الحديثة، فنشر حول
هذا الموضوع أربعة كتب[1]،
أشهرها حلم منيرفا[2].
وقد استجوبناه حول هذه الموضوعات، وخاصة عن
إمكانية صنع آلة ذكية أو كائن يتفوق على
الإنسان. *
* * سمير كوسا:
مارسو فلدن، أنت فيزيائي، اختصاصك دراسة
الأوساط المُشرَّدة. وإلى هذا، نعلم أنك
اهتممت بالمعلوماتية informatique:
فهي تفيدك في تحسين الحسابات وتسريعها، وحتى
في القيام بحسابات أخرى كانت متعذرة سابقًا.
والسؤال هو: كيف اهتممتَ بالذكاء الاصطناعي (ذ.ا.)
Intelligence Artificielle
وبمحاولات محاكاة قدرات المخ بواسطة الآلة؟
– حتى إن كتابك حلم منيرفا بات مرجعًا في
هذه المسألة. مارسو فلدن:
إنها لقصة طويلة. كنت قد باشرتُ في السنوات
1968-70 بتفكُّر موسَّع يتعلق بصيرورة
التكنولوجيات الجديدة وببعض الاكتشافات التي
تمتْ بعد الحرب العالمية الثانية، ذات الآثار
طويلة الأمد، على ما أعتقد. وقد بدا لي في كتاب
سابق، وفي عدد من دراساتي الفكرية، أن أربع
تكنولوجيات كبيرة ستحتل الصدارة في القرن
الواحد والعشرين، وهي: المعلوماتية، الذكاء
الاصطناعي (ذ.ا.)، الاندماج الثيرمونووي [النووي
الحراري] fusion thermonucléaire
– وهو إمكانية لحلِّ مشكلات الطاقة ولإقامة
الإنسان في الفضاء التي ستمكِّنه من الإفادة
من مصادر طاقة جديدة، من الحصول على مواد
أولية، من دراسة الكون، إلخ – وأخيرًا
البيوتكنولوجيات [التكنولوجيا الحيوية] biotechnologies،
وهي إمكانية أن يؤثر الإنسان على الحياة وأن
يعدل البيوسفير [النطاق الحيوي للأرض] biosphère
تمامًا، في اتجاه صحيح على
ما أرجو. هذه التكنولوجيات الأربع
تحملنا على التفكير: إذ إنها سوف تسمح للإنسان
بحيازة وسائل جديدة متعددة، ليتخطى بذلك عتبة
نموٍّ جديدة. وهنا نجد، بالطبع، عددًا لا يحصى
من المخاطر المُحْدِقة بنا، إنْ قمنا
باستغلال غير عقلاني وغير مخطَّط له على أيدي
الاختصاصيين ورجال السياسة. لا يكفي، إذن،
تطوير هذه التكنولوجيات، بل لا بدَّ من ضبطها
– وتلك قضية كوكبية. لم يعد من الممكن أن
نتصور دولاً تنمو في حين تبقى دولٌ أخرى في
غياهب التخلف، لا حول لها ولا قوة. النقطة الثانية من جوابي هي
أنني فيزيائي متخصص في حقل الپلازما؛ أي أنني
أهتم بالاندماج الثيرمونووي بهدف استخدام
إحدى طاقات الكون الأساسية: طاقة النجوم.
والمشكلة تكمن في كيفية إجراء العمليات
الجارية في الشمس والنجوم في المختبر. فإذا
نجحنا، أمكن لنا، بواسطة المواد المتوفرة على
الأرض، وبخاصة الدوتيريوم[3]،
أن نحصل على منبع من الطاقة لن ينضب حتى نهاية
الأرض بعد حوالى مليار أو مليارَي سنة، إذ
تكون الشمس قد تحولت إلى عملاق أحمر وأحرقت ما
على سطح البسيطة كله! الحساب
بالكومپيوتر ومداه والاندماج الثيرمونووي هو
أحد المناهج الحديثة التي تحتاج، في كثرة،
إلى المعلوماتية. فكلما أجرينا حسابات احتجنا
إلى القيام بأخرى. لنأخذ الأرصاد الجوية على
سبيل المثال: المسألة هنا هي إمكانية التنبؤ
بحالة الطقس في الأيام المقبلة. فإذا أردنا
معرفة الطقس الذي سيكون بعد عشرة أيام،
يلزمنا، بواسطة الوسائل المعلوماتية
المتوفرة اليوم، حوالى ثلاثين يومًا من
الحسابات! إنها عملية غير مجدية. يمكن لنا
الآن التنبؤ بالطقس تنبؤًا شبه أكيد في
الأيام الثلاثة أو الأربعة المقبلة، وفي صورة
تقريبية في اليوم الخامس – ومن المتعذر الآن
القيام بأفضل من هذا؛ إنها مسألة وسائل
حسابية. إليك مثال آخر: يلزم لتصميم شكل – وهو
بنية واحدة في وضع معيَّن – لمكوك فضائي
القيام بحوالى عشرة مليارات عملية حسابية.
كان ذلك يتطلب حتى الثمانينيات حوالى ثلاثين
يومًا من العمل المتواصل على كومپيوتر من دون
أن يطرأ أي عطل. إنها لعملية بهلوانية! أما مع
الجيل الحديث (السنوات 85-87)، فقد أمكن القيام
بالحساب ذاته خلال اثنتَي عشرة ساعة. والوضع
المثالي هو أن نصل إلى أقل من ساعة واحدة. يجب
أن نعرف أنه، للقيام بدراسة كاملة لمكوك، لا
بدَّ من أشكال متعددة؛ وكان إنجاز ذلك يتطلب
حوالى عشر سنوات. أما مع أجيال الكومپيوترات
الحديثة، فقد تم تقليص هذا الزمن إلى سنة
واحدة. توجد أمثلة كثيرة أخرى. يمكن
اليوم للكومپيوترات المتفوقة، كالسيبر 3.5 أو
الكراي 2، القيام خلال ثانية واحدة بعدد من
العمليات الحسابية يعادل ما يقوم به 250
رياضيًّا طوال حياتهم المهنية، أي رياضيون
يعملون طوال خمسين سنة، ثماني ساعات في
اليوم، خلال 300 يوم في السنة! وإنني أقصد
الحسابات فقط؛ فلحسن الحظ، يقوم الرياضيون
بعمليات أخرى غير حسابية! مَعْلَم آخر للقضية
هو أنه منذ أن تم تصميم الكومپيوتر حوالى سنة
1946، تبين أنه قادر على القيام كذلك بعمليات
غير حسابية: فهو يستطيع التعامل مع الرموز،
واستعمال بعض العمليات المنطقية، ومعالجة
قواعد المنطق الصوري. وهذا ييسِّر له في
النهاية التعامل مع المنطق على مستوى صناعي
وحلَّ عدد من المسائل. في صورة موازية، كانت تجري
دراساتٌ منطقية بدأت في الثلاثينيات قبل
الحرب مع مدرسة فيينا، مع فريغِه[4]
وفتغنشتاين[5]
وآخرين. وشيئًا فشيئًا، تبيَّن أن من الممكن
صياغة طرائق صورية خالصة تشبه الجبر العقلي
الذي تكلم عليه كل من بول[6]
ودو مورغان[7]
في القرن التاسع عشر والذي يمكِّن من حلِّ
المسائل. كانت تلك هي الفكرة الأولى للذكاء
الاصطناعي (ذ.ا.). وحوالى السنة 1946، كان
الهدف تصميم منظومات، كان أولها "المُصرِّف
العام للمسائل" General
Problem Solver، الذي وضعه
الأمريكيون سايمون ونيووِل وشو Simon, Newel & Show
في الخمسينيات والذي سمح بحلِّ مسائل كثيرة،
كالألغاز ومسائل المنطق البسيطة وبعض الحيل
الرياضية التي يصعب على الذهن البشري حلُّها
في صورة عامة. وقد تجلَّت بذلك سرعة
الكومپيوتر المذهلة في العمل. وتمتْ كذلك
دراسة الآثار المترتِّبة عن لعب الكومپيوتر
لألعاب معروفة، كالشطرنج، حيث لم يُوفَّق
الكومپيوتر، في حين أن الأمر كان أسهل مع لعبة
"الضامة". ثم جاءت نتائج أعمال أخرى من
ميدان فهم اللغة، لكنها لم تعطِ نتائج كبيرة.
إلا أنه في البداية، في الخمسينيات، ساد
الاعتقاد بأن الكومپيوتر سيصبح "المخ
الاصطناعي"، لكننا لم نكن نحيط تمامًا
بعناصر المسألة كلها. وبين الستينيات
والسبعينيات، تم إحراز فتوح تقنية مهمة، منها
على وجه الخصوص استخدام الترانزستور، الذي
يعود اختراعُه إلى العام 1948 والذي سمح بزيادة
سرعة الآلة وتخفيض استهلاكها للطاقة
وتقليصها. وفي الوقت ذاته، تبيَّن أن نجاحات
اللحظات الأولى بلغت حدَّها الأقصى؛ إذ لم
يعد من الممكن في حلِّ الألغاز، مثلاً،
الانتقال إلى الدرجة الأعلى. وتبيَّن كذلك،
في ميدان فهم اللغة، أنه لا تكفي للقيام
بالترجمة صياغةُ معجم للمفردات، بل لا بدَّ
كذلك من معرفة المضمون العام والسياق
الإجمالي إلخ؛ وفي الشطرنج، لم نتمكن حتى
الآن من تجاوُز مستوى لاعب رديء، إلخ. بذلك أعقبَ الطورَ الأول
المتفائل طورٌ طابعه التشاؤم. ففي العام 1969،
طرح الاختصاصي الأمريكي دريفوس Dreyfus
المسألةَ طرحًا أعمق، إذ قال إن المخ لا يعمل
كالكومپيوتر! في البداية، بين السنوات 48 و55،
مع ولادة السيبرنيتيكا والروبوطية robotique
وأعمال
فون نويمَن[8]
والأعمال المتعلقة بأسُس الكومپيوتر، ساد
اعتقاد، متسرِّع، بأن عمل المخ يشابه عمل
الآلة. فلم نكن نعرف من المخ سوى النشاط
الكهربائي للعصبونات [الخلايا العصبية] neurons؛
أما النشاط البيوكيميائي المرافق فكان
مجهولاً. قال دريفوس، إذن، إن الكومپيوتر
والمخ مختلفان، لا يعملان على النحو ذاته.
وكانت ردود الفعل عنيفة، أثارت جدالاً كبيرًا
في الولايات المتحدة الأمريكية. (وهنا ألفت
النظر إلى أنه قبل السبعينيات كان العاملون
على ذ.ا. قلائل. كانت المراكز الرئيسية
موجودة في الولايات المتحدة، في كاليفورنيا؛
وكان هناك مركز مهم في بريطانيا (اسكتلندا)،
وربما مركز أو اثنان في الاتحاد السوفييتي،
ولا شيء يُذكَر في بقية أنحاء العالم.) ونتيجة
لهذا الجدال، تم طرح المسائل وتحديدها
تحديدًا جيدًا، ودار تفكُّر كبير حول هذه
المسائل حتى السنتين 73-74. الدارات
التكاملية: ثورة تقنية كبرى لكن الدارات التكاملية circuits intégrés
ظهرت
في العام 1973، آتيةً بثورة تكنولوجية كبيرة.
فحتى ذلك العام، كان حجم الكومپيوتر يزداد
يومًا بعد يوم؛ لكنه منذ ذاك راح يتضاءل، حتى
إنه يمكن لنا اليوم جمع مليون مُركِّبة
إلكترونية على قرص واحد لدارة تكاملية. من
الواضح أنه منذ ذلك الوقت صارت لقدرات
الكومپيوتر أبعاد جديدة: فقد أمكن زيادة
السرعة والقيام بحسابات جديدة، وكذلك القيام
باستدلالات منطقية على نحو جديد. لقد
طُرِحَتْ المسائلُ من جديد، وعادت لعبة
الشطرنج إلى الحلبة على أسُس جديدة؛ وكذلك
الأمر في خصوص آلة الترجمة والمحادثة. وعلى
الرغم من أن ذلك لم ينجح تمام النجاح، فقد
أمكن، من حيث الكفاءات الحسابية أولاً
والاستدلالات المنطقية ثانيًا، أن نمضي
قُدُمًا. وبهذا ظهرت المنظومات
الخبيرة (م.خ.) التي مثَّلتْ ثورةً حقيقية.
الـم.خ. منظومة معلوماتية قادرة على حلِّ
مسألة محددة تمامًا: بمعنى أننا نختار حقلاً
معينًا، كتشخيص مرض في الدم، مثلاً، أو غيره،
فتقوم م.خ. بمعالجة هذه المسألة فقط. لقد
أصبحت الـم.خ. في الثمانينيات تتمتَّع
بكفاءة عالية وتستطيع حل مسائل صعبة. فهكذا،
يمكن للـم.خ. Maxima
حل بعض المسائل حلاًّ يتفوق على ما يمكن لأفضل
خريجي مدرسة الپوليتكنيك – وهي إحدى أفضل
مدارس الرياضيات في فرنسا وفي العالم –
القيام به! هذا ولا تقدم الـم.خ. حلاًّ
عدديًّا فقط، بل تقدم، كذلك، حلاًّ حرفيًّا.
فإذا أعطيناها، مثلاً، معادلة من الدرجة
الثانية: ax2
+ bx + c = 0 ، فإنها لن تقدم، كما
في السابق، a,
b, c، بل ستجيب: x
= -b + 4 – 4 ac2 a. يلزم، بفضل الـم.خ.
وأجيال الكومپيوترات الحديثة القادرة على
القيام بمليار عملية بسيطة في الثانية،
القيام وسطيًّا بألف عملية بسيطة لإنجاز
استدلال من الشكل: "إذا... عندئذٍ...". إليك
المثال التالي: لننظر إلى م.خ. صُمِّمت
بهدف تصليح سيارة: إذا أدرتَ المحرك، تضاء
عندئذٍ الإشارةُ الحمراء المنبِّهة؛ فإذا
أضاءت الإشارة الحمراء المنبِّهة، التفتْ
عندئذٍ وانظر إلى المشغِّل، فإذا لم تكن
الإشارة المنبِّهة الحمراء مضاءةً، انظر
عندئذٍ إلى البطارية... وهكذا يمكن لنا، بفضل
هذه الـ"إذا... عندئذٍ..."، حل غالبية
المسائل؛ لكن العملية بطيئة بالنسبة إلينا.
يمكن للكومپيوتر الحالي أن يقوم بمليون عملية
استدلال في الثانية، في حين أن المخ البشري لا
يقوم سوى باستدلال واحد في الثانية. ظهرت كذلك لغات برمجة جديدة
وتصميمات جديدة للكومپيوترات. لنذكر، على
سبيل المثال، لغة "پرولوغ" Prolog:
إنها لغة من الدرجة الثانية؛ فهي تسمح
عمليًّا للمستخدِم أن يتحادث مع الآلة بلغة
شبه طبيعية، مما يجعل الآلات أكفأ من حيث
قدرتُها على استثمار الاستدلال المنطقي. عقب
ذلك، جرى طرح عدد من الفرضيات، اعتمدتْها
مدارس أمريكية، وتبعتْها في ذلك مدارس
أوروبية وروسية ويابانية. تقول هذه الفرضيات
بأن ذ.ا. – وأنا أفضل استخدام مصطلح "إلكترونيات
التعقد" (إ.ت.) – سيضاهي المخ، ليسبقه من
بعدُ. وإننا لندخل عصرًا جديدًا، حيث إن
المعلوماتية المُعمَّمة وإ.ت. وعلوم
الاصطناعي sciences
de l’artificiel الجديدة ستتفوق على
الإنسان بحيث تشكِّل خطرًا ممكنًا عليه. حلم
منيرفا كان ذلك هو الهدف من كتابي حلم
منيرفا – ومنيرفا إلهة كاپيتولية، هي إحدى
الإلهات الثلاث الرئيسية في روما، إلى جانب
جوپيتر وجونون. ومنيرفا هي إلهة الحكمة
والحرفيين، وبالتالي فهي إلهة الحساب، وإذن،
الرياضيات. بناءً على هذا، من المسموح
لمنيرفا أن تنجرَّ إلى بعض من نزواتها. يتمثل
"حلم منيرفا" في تساؤلات ثلاثة تتعلق
بهذه القضايا الأساسية، حاولت أن أجيب عنها.
أعتقد أن بعض المعلوماتيين وبعض فسيولوجيي
الأعصاب وعددًا من كتَّاب الخيال العلمي
الذين يقولون بأن المعلوماتية ستنحِّي المخ
من على عرشه – أعتقد أنهم مخطئون تمامًا وهم
واقفون على هامش الموضوع. لهذا السبب، فحصت عن
أحلام منيرفا الثلاثة كي أردَّ عليها بحجج
علمية. النقطة الأولى هي أن المخ
لا يعمل كالكومپيوتر. لقد خصصت نصف كتابي
لدراسة المخ. ودراستي خاصة بعض الشيء، لأنني
فيزيائي ولست بيولوجيًّا. ولهذا طلبت من بعض
الاختصاصيين التحقق من صحة هذا العمل. قمت
بعرض إجماليٍّ لأحدث الدراسات في حقل
الفسيولوجيا العصبية – فقد تطورت العلوم
العصبية سريعًا في السنوات الأخيرة، بفضل
الاختبار بواسطة "السكانر"،
المُشِعَّات، الكاميرا البوزيترونية، تحليل
الإشارة، إلخ – وحاولت النظر إلى هذه الأبحاث
بالتفصيل، وقمت بتفسيرها على طريقة
المعلوماتي. س.ك.:
لماذا؟ م.ف.:
أعتقد أنني كنت من أوائل الذين تعاملوا مع
المعلوماتية في فرنسا. فقد دخلتُ حقل البحث
العلمي في العام 1955 عند بداية ظهور
المعلوماتية، وتعاملتُ باستمرار مع
المعلوماتية كأداة عمل، وقمت، مع الفريق الذي
كنت أرأسه، بصياغة برامج بهدف إنجاز حسابات.
وكنا دائمًا نحتاج إلى برامج جديدة مع تقدم
البحث. هكذا، تعاملت مع الكومپيوترات الأولى،
تلك الوحوش العملاقة التي كان يتم فيها
تسجيلُ البرامج بدلاً من كتابتها. ثم عايشت
سائر التطورات التي قادتنا إلى كومپيوتر
اليوم. وذات يوم، بدأت بالتفكُّر في أمر هذه
الآلات. وقد سمحت لي أسفاري المهنية بمتابعة
قضية دريفوس التي جذبت اهتمامي إلى الموضوع. وفي الواقع، كنت مهتمًّا،
منذ البداية، بفلسفة العلوم. فلا يكفي القيام
بالبحث، بل يجب أيضًا طرح أسئلة عن غائية
هذا البحث. وهكذا بدأت في السبعينيات بتدوين
ملاحظات وقراءة كتب أنتقدها وأربط في ما
بينها إلخ، حتى توصلت في النهاية إلى كتابي: حلم
منيرفا. منذ شبابي، حيَّرتْني
المسألة الآتية: كيف يعمل المخ؟ وقادني ذلك
إلى سؤال أهم: هل يمكن للمخ أن يفهم المخ؟
ينتمي هذا السؤال إلى أسرة جديدة من المسائل،
تمَّ اكتشافها حديثًا ولا تعرفها سوى قلة من
الناس. إنها المسائل ذات "المرجعية الذاتية"
autoréférentielles.
مثال آخر عن مسألة ذاتية المرجعية: هل يمكن
للرياضيات تحليل قواعدها وتبريرها؟ يوجد عدد
كبير من المسائل المماثلة. فمن المعروف أن
الرياضيات مرَّتْ بمرحلة عصيبة. ففي نهاية
القرن التاسع عشر، كان مُفاد المسألة معرفة
إمكانية اختزال الرياضيات كلِّها إلى علم
الحساب؛ ثم إنْ كان ممكنًا اختزال علم الحساب
إلى نظرية الزُّمَر؛ وإذا اقتصرنا على علم
الحساب، فإن المسألة هي في معرفة إنْ كانت
مسلَّمات علم الحساب الأساسية تامة ومنسجمة
وغير متناقضة. وقد جاء غودل[9]
وبرهن أن منظومة حسابية، وإن كانت تامة، لا
يمكن البرهان على أنها غير متناقضة؛ وإن كانت
غير متناقضة، فإنه لا يمكن البرهان على أنها
تامة. حاول الباحثون، طويلاً، معرفة سبب ذلك،
فتبيَّن لهم حديثًا أن مردَّ ذلك إلى وجود فئة
خاصة من المسائل، هي المسائل ذاتية المرجعية.
وهذا يعني أنه لا يمكن لمنظومة دراسة ذاتها
من الداخل من دون الخروج من المنظومة. فحتى
ندرس الرياضيات لا بدَّ من ميتارياضيات métamathématiques.
إلا أن السؤال ذاته ينطرح مجددًا: لكي نفهم
الميتارياضيات، لا بدَّ من ميتاميتارياضيات!
إنها عملية لانهائية، لا مخرج منها. فنحن نقوم
كلَّ مرة بحمل المسألة إلى مستوى أعلى فقط. س.ك.:
يشبه ذلك العين التي لا يمكن لها رؤية نفسها
والأسنان التي لا تستطيع عضَّ نفسها... م.ف.:
هناك مثال أفضل. فربة البيت تجد نفسها أمام
مسألة ذاتية المرجعية عند تنظيفها الدار. ففي
النهاية، تكون أدوات التنظيف قد اتسخت. فأين
سيتم تنظيفها؟ إذا قامت بذلك في الحمام فإنه
سيتسخ، وستكون لديها أدوات نظيفة وحمام وسخ!
أعتقد أن هذا المثال واضح تمامًا. جميع المسائل الفلسفية،
والدينية هي الأخرى، ذاتية المرجعية: فهي،
بالتالي، لا حل لها. والمدهش أن الإغريق
القدامى كانوا قد اكتشفوا هذه المسائل. فقد
قال پرمنيدس، مثلاً: "إن الكرواتيين جميعًا
كذبة، بيد أنني كرواتي..." هذا القول من
الشكل: "الجملة التالية خاطئة، الجملة
السابقة صحيحة." إنها مسألة ذاتية المرجعية.
لكن الفلاسفة تسلوا بهذه المسائل، ولم يقوموا
بدراستها جديًّا. أما اليوم، فقد تبيَّن أن
أحد حدود المعرفة العلمية – معرفة الأسُس –
هو هذه المسائل الذاتية المرجعية. ولحسن
الحظ، ليس لذلك أي أثر على التطبيقات العملية:
لن يمنع ذلك الكومپيوترات من العمل ولا
التكنولوجيا من التقدم! أما عندي، فإن المسألة
ذاتية المرجعية الأولى، التي عنها تفرعتْ
بقيةُ المسائل كلِّها، هي: هل يمكن للمخ أن
يفهم المخ؟ قمت بتحليل هذه المسألة في نهاية
كتابي، وذهبت أبعد عندما طرحتُ سؤالاً ثانيًا:
هل يمكن للمخ أن يصنع آلية أعقد من المخ؟
الجواب عشوائي، ذاتي المرجعية، بمعنى: إذا
توصَّل المخ إلى بنية أعقد منه فلا بدَّ أنه،
من أجل الوصول إلى ذلك، قد بدأ بمرحلة ما؛
وحتى ينتقل إلى مرحلة لاحقة، عليه فهم
سابقاتها وإتمامها؛ ثم عليه فهم هذه المرحلة
الجديدة حتى ينتقل إلى أخرى إلخ. إنها عملية
لانهائية تتشابه مع: رياضيات، ميتارياضيات،
ميتاميتارياضيات، إلخ. حلم
منيرفا الأول الجواب على حلم منيرفا
الأول هو، إذن، أن المخ يبقى في الوضع الحالي
للأمور أعقد في عمله، في بنيته، في مبادئه
الأساسية، وفي آلياته الخاصة – أعقد بما لا
نهاية له من أيِّ نتاج للـإ.ت. ولنبين ذلك
بمثال: يتصف النوترون بمَعْلم
كهربائي وآخر كيميائي. وهذا الأخير تم
اكتشافه في السنوات 70-80 فقط، على الخصوص بفضل
غيومان[10].
أما الترانزستور أو الدارة التكاملية، فإنها
لا تعمل سوى بالاعتماد على المعلومة
الكهربائية. لكننا بتنا نعرف اليوم أن
المعلومة الكيميائية تضاهي المعلومة
الكهربائية، إن لم تكن تفوقها أهمية. على هذا
الأساس، فإن الكومپيوتر أشبه بالعاجز: إنه
يمتلك جزءًا من المعلومة الكهربائية، في حين
أن المعلومة الكيميائية تنقصه كليًّا. المخ،
إذن، هو كومپيوتر في بعض أجزائه، لكن ليس
في كلِّيته؛ إنه في الواقع أكثر من ذلك. س.ك.:
ولكن، ألا تتم اليوم معالجةُ هذا الجانب
الكيميائي بفضل اختصاص البيوإلكترونيات [الإلكترونيات
الحيوية] bioélectroniques
الجديد؟ م.ف.:
إن "البيوقرص" biokuce،
أي الترانزستور الكهربائي البيوكيميائي، هو
موضوع دراسات مهمة، على غاية من السرية
عمومًا لأسباب عسكرية. إلا أن لدينا بعض
المعلومات في هذا الخصوص. يمكن لي أن أقول إنه
سيتم إخراج "البيوقرص" قبل نهاية هذا
القرن[11].
ويجب قبل ذلك قطع أشواط عديدة. بدأنا، أولاً،
بصنع بيودارات [دارات حيوية]؛ أي بدلاً من
الدارات ثنائية البُعد [دارات موصولة على
مستوٍ] نصنع دارات ثلاثية الأبعاد، ثم دارات
أصغر وأقدر. إلا أننا، في الوقت الحالي،
نستفيد من البيوإلكترونيات في صنع بيودارات
تبقى إلكترونية. ويأمل الباحثون، فيما بعد،
في استخدام مركَّب كيميائي يشبه ما لدى
العصبون. سيتم، إذن، افتتاح منظورات جديدة.
لكنني أشك في إمكانية تشغيل هذه المنظومات
بالانسجام والترتيب الكائنين نفسهما في مخ
ثديي بدائي حتى. ومن الممكن كذلك استعمال
أمخاخ الحيوانات وتبديلها بهدف صنع
كومپيوترات عصبونية. ولكن، ليست أمور كهذه
محسومة. لا يمكن لنا، إذن، أن نجيب. من المؤكد
أنه ستنشب ثورات واختراقات علمية جديدة. وليس
ممكنًا، من وجهة نظر علمية، القيام بأي
توقُّع. سنشهد، جزمًا، ظهور نوع جديد من
الكومپيوترات: الكومپيوترات
الإلكتروبيولوجية، التي يلعب "البيوقرص"
فيها دور العنصر الأساسي. ولكن، هل هذا "البيوقرص"
اصطناعي بكلِّيته، نحصل عليه بفضل الهندسة
الوراثية أم بفضل تكنولوجيا جديدة تنتظر
الظهور؟ وهل هو آلية حيوانية تم تدبيرها؟ لا
أستطيع الإجابة. لدي شعور شخصي، لا تؤيده
عناصر منطقية، بأننا سنصل في نهاية المطاف
إلى صنع "بيوقرص" يحتوي على المَعْلَمين
معًا. ولكن، ماذا سنفعل بهذا "البيوقرص"؟
لست أدري. لقد بيَّنتُ، بواسطة حساب بسيط
نسبيًّا، أنه مع "البيوقرص"، وبأخذ
الحدود المرتقبة للبيوتكنولوجيات في
الاعتبار، نستطيع أن نصنع بنية لها حجم المخ
نفسه، ذات كفاءة تزيد مليون مرة عن كفاءته –
وأقصد بـ"الكفاءة" القدرة والسرعة في
الاستدلال. فهل ستكون لتلك البنية قدرات
المخ؟ ليس بالضرورة. فبحسب معلوماتنا
الحالية، ستبقى هذه البنية كالجهاز الذاتي
الحركة automate
في عملها. ويجب أن نعرف إنْ كانت تتصف بحالات
محددة جيدًا أو إنْ كان من الممكن الانتقال
إلى بنية يصير فيها مفهومُ الحالة مشوَّشًا.
فمن المعروف أنه لا يمكن لكومپيوتر أن يعمل
إلا من خلال الانتقال عبر حالات متتالية
محددة؛ لكننا نعرف، منذ السبعينيات، أن
العنصر الرئيسي في المخ ليس العصبون، بل الدارة
العصبونية. فلو كان العصبون هو هذا العنصر،
لكانت معلومات كثيرة قد فنيت بفناء العصبونات
المستمر، ولتناقصت، بالتالي، قدرة الإنسان
سريعًا. فهل سيمكن لنا الكلام على حالة دارة؟
مازال الموضوع سابقًا لأوانه. المخ
ما يزال متفوقًا على الكومپيوتر استنتاجي الأول، إذن، هو
التالي: في وضع معارفنا الراهن، يبقى المخ
بنيةً أقدر بكثير من الكومپيوتر؛ وتلزمنا
ثورات عدة حتى يمكن لنا الاقتراب من كفاءات مخ
بسيط. إلا أننا سنقع مجددًا في المسائل ذاتية
المرجعية. ومن جهتي، أشك في تمكُّن المخ من
خلق بنية أعقد منه، بسبب أسُس العلم عمومًا
والفيزياء في صورة خاصة. فالإنسان بنية حسنة
التكوين، وهي أكفأ من الاعتقاد السائد؛ وعلى
هذا، لا يمكن زيادة كفاءتها. فحتى لو كنا لا
نستخدم سوى 1 إلى 2% من المخ، فلن نتمكن من
زيادة هذه النسبة، وذلك لسببين: الأول، هو أن
المخ يستهلك 20% من طاقة الجسم الكلِّية؛ فإذا
ضاعفنا مردود المخ (أي إذا انتقلنا من 1% إلى 2%
فقط) يجب أن يزداد حجم الرئتين بحوالى 20% لكي
يتوفر الأكسجين اللازم. وحتى ذلك لن يكفي، كون
المنظومة الدموية المُعدِّلة ستتوقف عن
العمل. هنالك، إذن، مشكلة طاقة في الأصل.
السبب الثاني هو أن العصبونات تفنى كلَّ يوم
بسبب الشيخوخة وسائر الإشعاعات التي
تَرِدُها. ويعود الفضل إلى ذخيرة هائلة من هذه
العصبونات في احتفاظنا بقدراتنا ثابتة
تقريبًا طوال الحياة وفي عدم تقهقرها سريعًا.
وبالتالي، فإن زيادة استعمال المخ سيجعلنا
نستهلك عصبونات أكثر مما ينقص من هذه الذخيرة. لا نستطيع، إذن، زيادة
مردود المخ، لكننا نستطيع استعماله
استعمالاً مختلفًا عبر تربية مناسبة خلال
السنوات العشر أو الخمس عشرة الأولى من
الحياة. وأعتقد هنا أن نظام الصفوف التي نضع
فيها الأطفال وفقًا لسنِّهم سيزول، لتحل
محلَّه أساليب تربوية جديدة ومعلوماتية،
ستسمح للمخ أن ينتظم انتظامًا مختلفًا؛
وستقدم إ.ت. العناصر الأساسية لذلك من
خلال محاكاتها لوظائف المخ. حلم
منيرفا الثاني حلم منيرفا الثاني هو: هل
سنتمكن في النهاية من صنع روبوط، أدوات،
أدوات خبيرة، بحيث تتشكل بنيةٌ كلِّية تهدد
الإنسان؟ الجواب: لا – لسبب بسيط، هو أن
للبيولوجيا أفضليةً هائلةً بالمقارنة مع إ.ت.
كلها. فهذه الأخيرة لا تحتاج إلا إلى شريطٍ
وإلى منبع كلِّي؛ أي أننا إذا قطعنا الشريط
توقف كل شيء، كما في التلفزيون أو الكومپيوتر.
أما الخلية الحية، فإنها تمتلك تغذية مستقلة،
لها برنامجها الخاص، وهو الـDNA
الذي يمتلك مادته الأولى، وهي السيتوپلازما
التي تمتلك مصنعها وهو الريبوسوم... وهنا لا
يمكن قطع الشريط! إن الانتقال من منظومة
طاقتها موزَّعة، كالمنظومة البيولوجية، إلى
منظومة من إ.ت. تمتلك منبعًا كليًّا
للطاقة هو انحطاط بحسب داروِن. وتبيِّن
قوانين داروِن أن نظامًا منحطًّا كهذا سيزول
من غير استثناء. س.ك.:
يمكن لنا دائمًا – نظريًّا – أن نتصور في
روبوط ما يشبه مكثِّفة طاقة شمسية، موزعة على
الروبوط كلِّه... م.ف.:
مع ذلك لا تجوز المقارنة. إذ إن الروبوط
سيعتمد اعتمادًا كليًّا على هذا النوع من
الطاقة. نقطة أخرى هي أن الروبوط لا دوافع له؛
إذ لا بدَّ من دافع أو أكثر للقيام بشيء ما.
والروبوط لا يمتلك سوى الدوافع التي وضعها
فيه صانعُه، ولا يمكن له، بالتالي، تصوُّر ما
لم يوضع فيه. إنه لا يملك أي استقلال، ولن
يتمكن أبدًا من إيجاد مَرجعياته الخاصة. لست
هنا في صدد التحدث عما سيحدث بعد ألف سنة، بل
لنقل عما يمكن أن يحدث في القرن المقبل. حلم
منيرفا الثالث أما حلم منيرفا الثالث فهو:
هل ستصبح الأمور أفضل في خير العوالم؟! هل
سنحصل على روبوط يستطيع القيام بكلِّ شيء
ويحول الأرض إلى جنة؟ لا، لأن الروبوطات ليست
سوى آليات مساعدة. إنها قد تسمح للمرأة،
مثلاً، أن ترتاح من التنظيف والطبخ وأن تتاح
لها الفرصةُ للقيام بأشياء أخرى؛ وهي قد تسمح
للإنسان بممارسة مهن عديدة وتوفِّر له
تسهيلاتٍ تيسِّر له العمل في المنزل والتنقل
في صورة مختلفة. على الرغم من ذلك كلِّه، سيحتفظ
الإنسان بدوافعه، بعلاقته مع الطبيعة ومع
الحضارة، وبقدراته النفسية والعقلية
والروحية كافة. إن المسألة الكبرى المطروحة
على الإنسان، التي ستزداد إلحاحًا، تتلخص في
الجملة الشهيرة المنسوبة إلى أندريه مالرو:
"سيكون القرن الواحد والعشرين دينيًّا،
وإلا فلن يكون." أما أنا فأقول إنه سيكون فلسفيًّا
وإلا فلن يكون. أي أن الإنسان يحتاج إلى غايات،
إلى دوافع، إلى عدد من المفكِّرين يرجع إليهم
لكي يُحسِنَ قيادةَ حياته. يجب أن نفهم اليوم أن
نموذجًا روحيًّا واحدًا سيمثل نهاية البشرية.
يلزمنا تنوع كبير، كما يُعلِّمنا التطور.
أهمية التكنولوجيات الجديدة هي أنها ستسمح
للإنسان بالوصول إلى درجة تطور جديدة.
والتطور يتم على درجات. ولندلِّل على ذلك ببعض
الأمثلة: كان الانتقال من العصر الپاليوليثي [العصر
الحجري القديم] إلى النيوليثي [العصر الحجر
الأخير] مرحلةً أساسية، تحول الإنسانُ فيها
من الصيد والترحال إلى الاستقرار والزراعة،
وسمح ذلك للبشرية أن تتكاثر في سرعة، أن تنتظم
اجتماعيًّا، وأن تظهر الحضارة أخيرًا. رسالة
البشرية العميقة هي ارتياد الفضاء بتنا نعرف الكثير من
الدرجات الأخرى. وكانت إحدى كبريات الدرجات
هي العصر الصناعي، الذي بدأ في أوروبا مع
الآلة البخارية والفحم الحجري، مما سمح
بولادة الصناعات الكبيرة وتبديل أنماط
التنظيم بكليتها. أعتقد أننا، كذلك، سنرتقي
درجةً جديدةً يقيم الإنسان معها في الفضاء.
أعتقد أن رسالة البشرية العميقة هي ارتياد
الفضاء والإفادة القصوى من الكواكب، من
الشمس، تلك الطاقة الهائلة. ولأسباب علمية،
شرحتُها في كتابي أبعاد المستقبل الجديدة[12]،
يبدو أن ظاهرة الحياة الذكية مقتصرة على
أرضنا[13].
ظهرت الحياة، في الواقع، بسبب تضافُر عدد
هائل من العوامل الفائقة التعقيد والعشوائية.
بمعنى أن فرقًا ضئيلاً في أحد هذه العوامل
يمنع الحياة من الظهور. لهذا، وعلى الرغم من
مليارات المنظومات في الكون التي من المرجح
أن تتشابه مع منظومتنا، فإنه يلزم عددٌ لا
يُعقَل من الشروط لكي يُتاح للحياة أن تظهر.
على سبيل المثال: إذا تبدل مسارُ الأرض بمقدار
1% زيادةً لصارت الأرض محرقة، ولتبخَّر الماء؛
أما إذا كان التبدل بمقدار 1% نقصانًا لأمست
الأرض باردةً والماءُ صلبًا. وتوجد عوامل
أخرى عديدة. س.ك.:
هل تقصد بذلك "المبدأ الأنثروپي"[14]
(الإنساني) Anthropic Principle؟ م.ف.:
بالضبط. أعتقد أننا الكائنات العاقلة
الوحيدة في الكون، وأن رسالتنا هي، أولاً،
تقويم المجموعة الشمسية، لننطلق في ما بعد
إلى أبعد. وستدوم البشرية هكذا؛ أي أن عمرها
سيزيد عن عمر الشمس الذي يُقدَّر بأكثر من
خمسة مليارات سنة! غلاف
كتاب فلدن ماذا لو كان الإنسان وحده في
الكون...؟ س.ك.:
لنرجع، في هذا القسم الأخير، إلى الميادين
الحيوية الثلاثة الأخرى في القرن المقبل،
التي جئت على ذكرها في مطلع حديثنا. فهل لنا
بلمحة سريعة عنها؟ م.ف.:
لنبدأ مع الاندماج الثيرمونووي. يعتمد كل
مجتمع بشري على ثلاثة عناصر رئيسية: أولها
الموارد الغذائية والمواد الأولية؛ ثانيها
التكنولوجيات التي تستثمر هذه الموارد؛
وثالثها الطاقة – فالتكنولوجيات لا تفيد في
شيء من دون طاقة. الطاقة هي، إذن، مشكلة حرجة.
وقد عرفت غالبية الحضارات المندثرة أزمةً في
أحد هذه العناصر الثلاثة؛ وكان العنصر الأكثر
تأثيرًا عمومًا هو الطاقة. يمكن لنا حل مشكلة الطاقة
حلاًّ نهائيًّا مادامت الشمسُ مستمرةً في
الحياة بواسطة الاندماج النووي. ومن المرجح
أن نتوصل في هذا الميدان إلى نتائج حاسمة في
السنوات المقبلة. يعمل الاندماج الثيرمونووي
بنجاح في النجوم، لكننا لا نستطيع أن نصنع على
الأرض مُفاعلاً تبلغ أبعادُه أبعادَ نجم.
يجب، إذن، أن نبحث عن طُرُق أخرى. يمكن لنا
القيام باندماج نووي غير مضبوط؛ إنه القنبلة
الهدروجينية. والمشكلة هي في أن نقوم بهذا
الاندماج في صورة مضبوطة، بحيث يدوم بقدر ما
نشاء. توجد حاليًّا طُرُق مختلفة للوصول إلى
ذلك؛ وهي تنتظر إثبات صلاحيتها. توجد آلتان في
العالم هما، على ما يبدو، على وشك التوصل إلى
هذا الإثبات، وهما: الـ"جِتْ" Jet
الذي صنعتْه المجموعة الأوروبية، ومن
المتوقع أن يصل إلى المنطقة الحرجة، أي منطقة
البرهان على الصلاحية، قبل التسعينيات؛ والـ"توكاماك"
الأمريكي في پرنستون، وهو آلة مشابهة. توجد
طُرُق أخرى للتحكم في الاندماج، على وجه
الخصوص "الاحتجاز العطالي بواسطة الليزر"
Confinement Inertiel par Laser؛
لكنني لا أظن أن هذه الطريقة ستمكِّننا من
إنتاج منسوب كبير من الطاقة. مستقبل
استكشاف الفضاء: ثلاثة مَحاور في المقابل، فإن طريقة "الاحتجاز
المغناطيسي" تبشِّر بالنجاح. وسوف
يُستخدَم الدوتيريوم، وهو موجود بكثرة في
الماء. وقدرة الدوتيريوم الموجود في لتر من
الماء العادي يعادل 220 لتر من الوقود. وبما أنه
يوجد 1.9 مليار من الكيلومترات المكعبة من
الماء على سطح الأرض، فإن ذلك يمثِّل مليارَي
سنة من المخزون الطاقي بمعدل الاستهلاك في
العام 2000 – وذلك كله من غير نفايات، من دون
خطر انفجار، ومن دون خطر انتشار الأسلحة. وتتناسب هذه الطاقة تمامًا
مع استكشاف الفضاء وإقامة الإنسان فيه. فعلى
سبيل المثال، توجد مشاريع لإقامة الإنسان في
المريخ. المريخ كوكب بارد، ليس له جو؛ ويهدف
المشروع إلى إيجاد، أولاً، جوٍّ يلعب دور "الفخ"
للأشعة الشمسية ويحتجزها، مسخنًا بذلك
السطح، مما يسمح لشروط الحياة أن تكون مقبولة.
ويلزمنا للقيام بذلك عشرة آلاف سنة؛ وهو زمن
قصير جدًّا بالمقارنة مع عمر الأرض البالغ 4.55
مليارات سنة، حيث ظهرت الحياة منذ حوالى 3.5
مليارات سنة، وظهر الإنسان العاقل منذ 40 ألف
سنة. عشرة آلاف سنة هي فترة قصيرة جدًّا –
إنها غدًا![15] غلاف
كتاب فلدن عند تخوم الكون: من الانفجار
الكبير إلى الكوارك ميدان آخر هو إقامة الإنسان
في الفضاء الذي تحدثنا عنه. توجد حاليًّا
عناصر عدة من مشروع مسكن دائم، بدأ الروس في
إنجازه؛ إنه محطة مير Mir.
وهذه تمثل الآن مجموعة طولها 34 مترًا؛ وستأتي
عناصر أخرى لتكمِّلها، حتى يصبح الكل، في
النهاية، بنية هندسية معقدة. أما الأمريكيون،
فإنهم سيبدؤون، فور انتهائهم من مشكلات
قاذفهم، في بناء محطتهم الخاصة "كولومبوس"
Columbus،
التي ستكون محطة مدارية أمريكية مع قسم
أوروبي. ويتحدث الأوروبيون كذلك عن مشروع
محطة خاصة. سيقيم الإنسان في الفضاء من
دون شك، لأسباب ثلاثة: الأول عسكري، بالطبع؛
الثاني لأسباب علمية: مراقبة الكون والأرض،
الاتصالات، وتطبيقات أخرى، عسكرية في
غالبيتها؛ أما السبب الثالث فصناعي: من
الواضح أن الفضاء في غياب الجاذبية يوفِّر
وسطًا مناسبًا لصناعة مواد عديدة تتعذر
صناعتُها على الأرض. فلا يمكن لنا، على سبيل
المثال، دمج التنغستين مع الألمنيوم على
الأرض؛ في حين أن ذلك ممكن في الفضاء. وسيسمح
هذا بصنع عاكسات فائقة الخفة، وإحداث ثورة في
محركات السيارات والصواريخ، إلخ. يمكن كذلك
صناعة أدوية وغيرها. ستنمو هذه المَحاور الثلاثة
قبل نهاية القرن العشرين. ومن المتوقع، في
مطلع القرن المقبل، صناعة محطات فضائية ضخمة،
ستكون كروية غالبًا، يمكن أن يعيش فيها ألف
شخص. وسيتم، في صورة موازية، إنشاء قاعدة على
القمر، كما يفيد مشروعٌ لوكالة الفضاء
الأمريكية NASA.
والمأمول هو أن نرى رحلات استكشاف أمريكية–روسية
مشتركة إلى كوكب المريخ وغيره. وستظهر مشاريع
استثمار قواعد على المريخ قبل منتصف القرن
المقبل. وسيقيم الإنسان كذلك في
البحار: سيستثمر، أولاً، سطحها، ثم يقيم في
داخلها. وسيسمح الاندماج بتوفير طاقة رخيصة
بفضل دوتيريوم الماء. ستصبح البحار مصدر
إنتاج مهم. آخر تكنولوجيا كبيرة هي
البيوتكنولوجيات، أي إمكان تأثير الإنسان
على الذخيرة الوراثية لدى الكائنات الحية
وخلق أنواع جديدة وتغيير أخرى... س.ك.:
وهذا يقودنا مجددًا إلى سؤالنا الأول: هل من
الممكن إنتاج كائن يعادل الإنسان أو يتفوق
عليه؟ م.ف.:
إنها لمشكلة في حدِّ ذاتها. سنستطيع قطعًا صنع
بشر لهم أرجل قصيرة أو رؤوس كبيرة – وهو أمر
يجب تجنبه في رأيي. كما يمكن لنا تصور عالم
يقوم بصنع قردة متفوقة أو بشر متخلفين! لذلك
لا بدَّ من تقويم تكنولوجي معمَّم ورقابة
عالمية. أعتقد أن على الهندسة
الوراثية أن تفيدنا، في الأساس، في تحسين عدد
من الأنواع النباتية والحيوانية، ميسرةً لنا
بذلك الحصولَ على المزيد من الغذاء، وربما أن
نحيا حياةً مختلفةً، شريطة المحافظة على
البيوسفير والإبقاء على توازُن السطح
الحيوي، بحيث لا نرفع قسمًا منه على حساب كلِّ
ما تبقى. صحيح أن من الممكن تصور توازُنات
أخرى غير التوازن الحالي، لكن على كلِّ
توازُن أن يحافظ على الوظائف الرئيسية. وهنا لسنا نعرف العلاقة
القائمة بين الـDNA
والمخ. الـDNA
بنية بسيطة بالمقارنة مع تنظيم المخ الفائق
التعقيد. ومن شبه المؤكد أن كلَّ شيء ليس
مبرمَجًا ومحددًا سلفًا في الـDNA
وأنه يبقى للبُعد الثقافي والبيئي دوره. ويتم
وصل الدارات العصبونية في السنوات العشر
الأولى وفقًا لخطط ليست مبرمجة كلها في الـDNA.
هناك، إذن، حرية. ولن تتغير معطيات
الموضوع إذا أجرينا تلاعُبات وراثية. لقد
كانت الطبيعة حذرة. والمخ موجود على مستوى
أعلى من الـDNA.
ويحتوي الـDNA
في صورة كامنة على نوعية العصبونات وعلى
الدارات الأساسية، لكنه لا يحتوي على الدارات
كلِّها، كتلك الدارات الكائنة في قشرة الدماغ
الحديثة néocortex. ليس من المؤكد، إذن،
أنه سيمكن التأثير على الذكاء الإنساني من
خلال التلاعب بالـDNA.
فنحن لسنا نعرف بعدُ كيف يتم انتقال
المعلومات بين الاثنين. لكن، في صورة مستقلة عن هذه
المسألة، سيمكن لنا حتمًا خلق أنواع جديدة
أقل أو أكثر كفاءة وإعادة خلق أنواع منقرضة.
لكن ذلك يمثل عددًا هائلاً من المخاطر. نظامنا
السياسي أمسى اليوم في أزمة، والنظام العالمي
بلغ حدود إمكاناته. فبفضل طاقة الاندماج
الوفيرة والرخيصة، بفضل موارد الفضاء غير
المحدود، بفضل قدرات ذ.ا. وإ.ت.، مع
إمكانات الهندسة الوراثية العديدة، صار
لزامًا علينا مراجعة النظام العالمي برمته.
يجب إعادة بناء الدول على أسُس مختلفة. أتمنى
أن يبدأ سياسيون، رجال علم، رجال دين،
وغيرهم، في التفكير في خصوص هذه المسائل
ومناقشتها سوية. لا أعرف ما سيكون عليه
المستقبل. لكنني أعتقد أنه إن لم يكن التسامح
وقبول الآخر هو محرِّك القرن الواحد
والعشرين، فإننا سنواجه مغبَّة الوقوع في
مشكلات لا حل لها. أعتقد أن البشر متساوون،
ولست أرى مذهبًا فلسفيًّا أو دينيًّا أفضل من
آخر؛ بل أعتقد، على العكس، أنه لا بدَّ من
العديد منها. إن أحد الشروط الأساسية
لانسجام عالم الغد هو وجود اتجاهات متعددة،
وليس في أن يصير البشر كلهم كاثوليكيين أو
مسلمين إلخ. ليس ذلك بالممكن. يجب أن نقبل
التعدد من خلال فلسفة تحتويه وتكون غايتها الإنسان.
يجب الدفاع عن الإنسان وجعله قادرًا على
النمو، بعيدًا عن الإيديولوجيات والخلافات
السياسية والاقتصادية. لم يعد من المقبول
وجود دول غنية جدًّا وأخرى فقيرة جدًّا. ولا
يحق للدول الصناعية فرضُ نمط الحياة فيها على
الدول الأخرى. لماذا نفرض على أفريقي طريقة
عيش الأوروبي؟! ولا سبب للقيام بالعكس. لكن
هذه المشكلات صعبة الحل. يجب المحافظة على التعددية
من خلال التسامح – إذ ليست الحقيقة في حيازة
أحد، لأن المخ لا يمكن له فهم المخ. إنها
مسألة ذاتية المرجعية. وعلى كل حال، "الحقيقة"،
ماذا تعني؟! ***
*** *** حاوَرَه:
سمير كوسا تنضيد:
نبيل سلامة [1]
حتى العام 1987. (المحرِّر) [2]
Marceau Felden, Le songe de Minerve : le cerveau et les sciences de
l’artificiel, Lieu commun/Sciences, 1987. [3]
الـDeutérium: نظير ثقيل من
نظائر الهدروجين، رمزه D وكتلته
الذرية 2؛ جسم غازي يتم الحصول عليه من تفكك
الماء الثقيل D2O.
(المحرِّر) [4]
هو غوتلوب فريغه Gottlob
Frege
(1848-1925): مناطقي ورياضي ألماني؛ واضع صورية
الرياضيات والمذهب المنطقي لأساس
الرياضيات. (المحرِّر) [5]
هو لودفيغ فتغنشتاين Ludwig
Wittgenstein (1889-1951): مناطقي
نمساوي حصل على الجنسية البريطانية؛ واضع
نظرية "الذرانية المنطقية" Logical
Atomism – ومُفادها أن
ثمة علاقة تقابُل مثنى مثنى بين الكلمات
والأشياء وأن العبارات التي تُسَلسِلُ
الكلماتِ تؤلف "صورًا" عن الواقع (رسالة
منطقية فلسفية،
1921) – التي أثرت على "حلقة فيينا"
والتي تخلَّى عنها واضعُها من بعدُ لصالح
تصور أضيق وأكثر عيانية، وُصِفَ بكونه "لعبة
لغوية"، بيَّن من خلاله المظهرَ
الإنساني للغة، أي المظهر غير الدقيق
والمتبدل بحسب المواقف (استقصاءات فلسفية،
1953). (المحرِّر) [6]
هو جورج بول George
Boole
(1815-1864): رياضي بريطاني؛ واضع الجبر المنطقي
الحديث المعروف باسمه، وهو عبارة عن بنية
جبرية تطبَّق على العلاقات المنطقية،
تعبِّر فيها عملياتُ الضم والتقاطع
والتكميل، على التوالي، عن علاقات الفصل
والاقتران والنفي المنطقية. (المحرِّر) [7]
هو أغسطس دو مورغان Augustus
de Morgan (1806-1871): رياضي
ومناطقي بريطاني؛ أسَّس، بالتزامن مع ج.
بول، منطق الصفوف والعلاقات. (المحرِّر) [8] هو يوهان فون نويمَن Johann von Neumann (1903-1957): رياضي أمريكي مجري المولد؛ واضع "نظرية الألعاب" ومحدِّد البنية الممكنة لآلة ذاتية الحركة لمعالجة المعلومات. (المحرِّر) [9]
هو كورت غودل Kurt Gödel
(1906- 1978): مناطقي ورياضي أمريكي نمساوي
الأصل؛ واضع نظريتين (1931) مُفادهما أنه لا
يمكن لأيِّ حساب غير متناقض أن يشكل منظومة
تامة لأن عدم التناقض في هذه المنظومة قضية
غير قابلة للتقرير. (المحرِّر) [10]
هو روجيه غيومان Roger
Guillemin
(1942- ): طبيب أمريكي فرنسي الأصل؛ حدد بنية
هرمونات ما تحت السرير البصري hypothalamus
وعزل الإندورفينات (حائز على جائزة نوبل،
1977). (المحرِّر) [11]
يعود إجراء المقابلة إلى أواخر
الثمانينيات. (المحرِّر) [12]
Cf. Marceau Felden, 21e
siècle : les nouvelles dimensions du futur,
Entente, 1981. [13] Cf.
Marceau Felden, Et si l’homme était seul dans l’Univers… ?
Grasset, 1994. [14]
فرضية فيزيائية كونية مفادها أن
تطور الكون غائي منذ بداياته، وكان لا
بدَّ له من أن يؤدي حتمًا إلى ظهور الإنسان
على الأرض. (المحرِّر) [15]
Cf. Marceau Felden, Aux frontières de l’univers : du Big Bang au
quark, Ellipses, 2005.
|
|
|