|
المُراهِقة العربية و"الخُروج
على القَطيع" يتألَّف
هذا البحث*
من جزأين: نعالج في الجزء الأول الشروط
الاجتماعية العامة للإبداع. فالمراهق
والمراهقة جزء من وضع اجتماعي وثقافي له
خصوصيته التي يتفاعلان معها بأشكال مختلفة.
أما الجزء الثاني فيتعلَّق برصد بعض المؤشرات
التي قد تشير إلى إمكان مستقبلي للإبداع عند
المراهِقة (سوف نشير إليها وقتئذٍ)، هذا دون
أن ننسى الإشارة إلى اعتمادنا على مفهوم عام
وشامل للإبداع، يشكِّل، بدوره، الإبداع
العلمي والثقافي والأدبي والفني. في
العام 1927، كانت فيرجينيا وولف أول مَن تنبَّه
إلى مسألة مهمة وأساسية بخصوص موضوع الإبداع
عند النساء، وذلك في كتابها غرفة تخص المرء
وحده؛ وهو يُعَدُّ أول بيان نسوي متبلور في
مسيرة الدفاع عن حقوق المرأة. وقد أشارت فيه
إلى ضرورة توافُر حدٍّ أدنى من المقوِّمات
المادية (غرفة ومردود مادي) تساعد المرء –
وهنا المرأة – على الإنتاج الفكري أو
الإبداع، أكان ثقافيًّا أو غير ذلك. ومع
أن وضع المرأة في بلادنا لم يتحسن كثيرًا
عمَّا كان عليه في الفترة التي كتبتْ فيها
وولف كتابها – إذ لا تزال المرأة تعاني في
بلادنا من عدم الاعتراف بحقوقها كإنسان تام –
تجدر الإشارة بداية إلى أن شروط الإبداع
العامة (التي تتخطَّى الفرد والنوع الاجتماعي
gender،
كي تشمل المجتمع ككل) غير متوافرة بشكل عام في
بلادنا. وإذا كانت المرأة – كفرد – تحتاج، كي
تنتج فكرًا أو فنَّا أو أيَّ شيء آخر، إلى
غرفة وعمل (وتعليم بالطبع قبل ذلك)، فإن
الإبداع، كما يرى ألفرد كرويبر، ليس مجرد
موهبة شخصية: إن العبقرية
الفردية ليست لها أدنى قيمة تفسيرية عندما
نناقش الإبداع (وهو في حدِّ ذاته بيِّن إذا
اضطر للدفاع عن قضيته). إن ما يُسمَّى
بالعبقرية المبدعة ليس موزعًا توزيعًا
عشوائيًّا عبر التاريخ، ولكنه يتجمع، بدلاً
من ذلك، على هيئة تشكيلات. وتشمل هذه
التشكيلات العصور الذهبية؛ وهي عصور تفصل
بينها فجوات طويلة أو عصور ظلام يركد فيها
الإبداع الثقافي. لقد
استبعد كرويبر أيَّ تأثير للعرق على إبداع
الجنس البشري، وقال إن المناخ الثقافي الذي
يوجد فيه الفرد هو المحدِّد الوحيد للإبداع.
والإبداع في حضارة معينة ينمو وينمحق، ليس
باعتباره أمرًا يتزامن مع ممارسات الزواج
الإنسانية، بل مع النمط الثقافي وتشبُّعه
واضمحلاله. وهنا
لا يمكن لنا أن نخدع أنفسنا وندَّعي أن
مجتمعاتنا العربية هي مجتمعات تشكِّل تربة
خصبة للإبداع، من أيِّ نوع كان. فعدا عن مشكلة
الأمِّية (70 مليون أمِّي بحسب إحصاءات
اليونسكو)، وعدا عن وضع المرأة غير المُرضي،
نجد أن الرقابة، على الأقلية التي تقرأ، تنحو
لأن تشمل مجمل أوجُه نشاطنا، خصوصًا تفكيرنا
وقراءاتنا. يجعلنا
ذلك نسأل: ما الذي يعوِّق هذه المجتمعات
ويبعدها عن الإنتاجية الإبداعية، بكلِّ
أوجهها؟ زعم مكليلاند أن الدراسة العملية
لدافع الإنجاز ستساعدنا على فهم ازدهار
الحضارات وسقوطها، وقام بدراسة قارَنَ فيها
أدب الأمم، باعتباره مستودعًا للقيم
القومية، كما تمَّ فحص الرسوم أيضًا. وقد
أظهرت الدراسة اختلافات بين الخربشات التي
ينتجها شعب يتميَّز بدرجات عالية من الإنجاز
وبين تلك التي ينتجها شعب يتصف بدرجات منخفضة
من دوافع الإنجاز. يؤدي الدَّمج بين هاتين
المجموعتين من المقاييس إلى استنتاج أن دافع
الإنجاز يحفز النموَّ الاقتصادي (وهذا صحيح
تاريخيًّا أيضًا). ومن
أجل تفسير التاريخ الاقتصادي للولايات
المتحدة، بدءًا من العام 1850 وحتى العام 1950،
ومن أجل الحصول على مقياس للصور الذهنية
الأمريكية حول الإنجاز في هذه الفترة، قام دي
تشارمز ومويلر بدراسة أكثر كتب القراءة
الخاصة بالأطفال شيوعًا في المدارس
الأمريكية. وهذا الخيار شبيه بالخيار الخاص
بالأعمال الأدبية، لكنه يمتاز عنه بأن هذه
الكتب تحاول، بالإضافة إلى تعليم مهارة
القراءة، أن تغرس القيم الأساسية. وقد وجدا أن
معدل ظهور الصور الذهنية الخاصة بالإنجاز في
كتب القراءة هذه يتزايد تزايدًا لا انقطاع
فيه حتى العام 1890، ليظهر بعده انحدارٌ حاد،
دون حدوث صحوة مؤقتة، ولو ضئيلة. وبحلول العام
1950، كان دافع الإنجاز قد ضعف إلى المستوى الذي
كان عليه قبل 100 عام. وقد
وجدا كذلك أن المؤشر الذي ينسب عدد براءات
الاختراع إلى عدد السكان يكشف عن اتجاه زمني
مماثل تمامًا لما وجد بخصوص دافع الإنجاز:
فعدد الاختراعات يتزايد تزايدًا مطردًا حتى
العام 1890، ويستمر معدله المرتفع حتى ظهور
كساد العام 1929، ثم ينحدر انحدارًا دراميًّا
بعد ذلك. والارتباط بين التصورات الخاصة
بالإنجاز في كتب قراءة الأطفال وعدد براءات
الاختراع بالنسبة إلى عدد السكان هو 0.79، وهو
مُعامِل ارتباط لا يستهان به. وبما أن منحنى
الصور الذهنية الخاص بالإنجاز يبدو وكأنه
يتوقع منحنى مؤشر براءات الاختراع، فلا غرو
إن قلنا إن دافع الإنجاز قد يسبِّب النموَّ
التكنولوجي. فالانكماش الاقتصادي حلَّ بعد
حوالى أربعين سنة من الانحدار الذي حَدَثَ في
الصور الذهنية الخاصة بالإنجاز؛ وقد احتاج
التلاميذ الصغار الذين تربَّوا على كتب قراءة
أقل توجُّهًا نحو الإنجاز إلى بعض الوقت لكي
ينمو ويتضح ضمورُ الطموح لديهم على المستوى
الاقتصادي. ويظل السؤال قائمًا مع ذلك: ما
الذي يقدح شرارة تطلُّب الإنجاز نفسها؟ يبرهن
العديد من الأبحاث عن عمق تأثير البُنى
الاجتماعية على بنية الشخصية. إن التغير في
تنظيم الثروات وإنتاجها وتوزيعها يغير في
بنية الفرد النفسية، كما يؤثر في مجموع
أحكامه الأكسيولوجية (= القِيَمِية)
والتربوية. فالتغير على المستوى النفسي يسبقه
تغيُّر على المستوى الاجتماعي. المجتمع هو
الذي يحدد أيَّ نمط من الشخصية هو سويٌّ أو
مرضي، يحدِّد القيم المقبولة أو المرفوضة.
وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى تغير مفهوم العمل
كقيمة في الغرب في الحقبة الصناعية وإبان ما
عُرِفَ بالثورة البرجوازية: فبعدما كان العمل
مُعتبَرًا كقصاص (التوراة)، صار العمل هو الذي
يعطي الحياة معناها، وتم استبدال الحيوانات
الرمزية: الأسد والذئب والنسر حلَّتْ محلَّها
النملة والنحلة والسلحفاة (لافونتين) وصار
"الفراغ أم الرذائل". يشير
هنا تونيس إلى أنه في العلاقات البدائية يغلب
تطلُّب المتعة على تطلُّب العمل والإنجاز.
لكن تطلب المتعة مازال سائدًا في بلادنا.
وأورِد في ما يلي استشهادًا من كتاب تربية
مدنية يدرَّس لطلاب السنة الأولى الابتدائية
(كان يدرس فيه ابني حوالى العام 1994)، حيث
يعلَّم التلاميذ ما يأتي: "إن الفلاح
والمزارع يعملان، والعمل متعب. والتاجر
والكاتب يعملان، وذلك متعب. التلميذ يدرس،
والدرس عمل، وهو متعب." (من دون تعليق!)
العمل لم يتحوَّل بعدُ في بلادنا إلى قيمة،
ولم يصبح بعدُ مصدرًا للمتعة أو مرادفًا لها.
فالمتعة هي في التبطل! دور
التربية يجعلنا
هذا نطرح على أنفسنا السؤال الآتي: في حال
توافر المقعد الدراسي للجميع، ما هي القيم
التي تنتقل إلى الأجيال الجديدة؟ وهل تقوم
التربية في بلادنا بدورها في بلورة شخصيات
يمكن لها أن تكون قادرة على استيعاب الماضي،
عبر اتخاذ مسافة منه، وليس عبر الاندماج
الالتحاقي به؟ وكيف نواجه الحاضر؟ وكيف نستعد
من أجل تهيئة المستقبل وتطويره؟ في
عالم ثابت ومؤطَّر، تلعب التربية دور
نَمْذَجَة الحاضر انطلاقًا من الماضي. لكن
هذا النموذج لم يعد يصلح الآن بسبب التربية
التقليدية في بلادنا، التي تظل تردِّد رجع
أصداء أزمنة غابرة. فالمعارف الإنسانية
تتضاعف كلَّ أقل من 10 سنوات. ولقد ولَّى الزمن
الذي يمكن فيه لجيل راهن أن يضع قدميه في
الموضع نفسه للجيل السابق. فالعالم يتغيَّر
بوتائر سريعة، وعلى الفرد أن يكون مهيأ
للتأقلم معها من أجل التبادل مع العالم
الخارجي وإيجاد حيوية داخلية تجعلنا فاعلين
في عالم متغيِّر، كما يصف ذلك عالم الاجتماع
الفرنسي آلان تورين، الذي يرى أن الثقافات
والعلاقات الاجتماعية تتغير. فالفكر
الاجتماعي صار تحليلاً للتغير الاجتماعي،
بحيث "لم يعد يتم تعريف الأفراد حسب
انتمائهم، بل حسب حركتهم، وحسب علاقات
التنافس أو التعاون أو النزاع المنخرطين
فيها، أكثر مما يتم حسب المجتمع الذي ينتمون
إليه ويتماهون مع قيمه وتاريخه". لذا نجد أن
التأهيل المتواصل (المستديم) الذي يجعل الفرد
مهيأ للتعلُّم (الاكتساب) طوال فترة النشاط من
حياته، يُكسِبُه حركيةً وظيفية تسمح له
باستخدام المعلومات استخدامًا مناسبًا
وسريعًا وفعالاً، ومن بعدُ نسيانها عندما يجب
ذلك. يُعَدُّ التكيف مسألة خيال. على الإنسان
أن يغرف ما هو جوهري له من قيعان إبداعية
فعلية. فأين يجدها؟ لكي
يتمكن الناس من تنمية قدراتهم والمشاركة
مشاركة حيوية في مجتمع ينمو ويتطور، من المهم
تكوين أشخاص أحرار وخلاقين، يمتلكون القدرة
على المبادرة والابتكار، وليس مجرد شخصيات
جامدة، بحيث يكون في استطاعتهم أن يكونوا
ذواتهم، وأن يتحملوا مسؤولية أنفسهم، في
الوقت الذي يأخذون فيه على عاتقهم التغيير
المحيط بهم، والمتعلق بالأشخاص وبالأشياء،
ويكون باستطاعتهم استخلاص قواعد سلوك وتنمية
مقدرة على الفعل والتفكير والصداقة
والانفتاح. وكلما كانت هذه البُنى الاجتماعية
جامدة قلَّتْ فرصُ الإبداع عند الشبيبة. وكان
هذا الأمر واضحًا في عيِّنتنا من المراهقات
اللواتي قمت بدراستهن. فالمدرسة ليست فقط
مكانًا لنقل معلومات جامدة، غير مساعدة على
الإبداع، بل هي طاردة لفئات معينة من
الفقيرات، ولا تأبه لمصير البنات اللواتي
يجدن صعوبات في الانتماء إليها. عوامل
تَرْك المدرسة تتعدد
أسباب ترك المدرسة. لكن إذا أخذنا نموذج
أميرة، نجد أنها تركتْ المدرسة بسبب صعوبة
المواصلات، من ناحية، وبسبب التعامل السيئ
معها وعدم متابعة الأهل لوضعها المدرسي، من
ناحية أخرى. وهذا يعود إلى بيئتها الفقيرة،
التي "تخجل"، ربما، من التعامُل مع
مدرِّسات ومدرِّسين "عندهم شوفة حال [مغرورين]"،
الأمر الذي يُشعِرُها بالدونية حيالهم
ويُبعِدُها عنهم. يضاف إلى ذلك طبعًا غيابُ
الدافع الأساسي لدى أميرة. وهي تركت المدرسة
ببساطة، وذلك بسبب عدم توافر مساعدة لها: "ما
في حدا يساعدني، وبضل [أظل] أتعلم لحالي [وحدي]." هبة
تقول إنها كانت تحب معلمة اللغة العربية في
السابق، وتحكي لها كلَّ شيء، كلَّ ما يحصل
معها وما قامت به في يومها؛ تحب هذه المعلمة،
وتشعر أنها مثل "أمٍّ لها". لكن الوضع
تغير في المدرسة التي انتقلت إليها في ما بعد:
صارت المعلِّمات "ناشفات [عديمات الحرارة
الإنسانية]"، ولم تعد تحب أن تبقى في
المدرسة، وأحست أنها صعبة. غيَّرتْ هبة خمس
مدارس (وهذا ما يحصل، في معظم الأحيان، في هذه
الأوساط)، بوتيرة مدرسة كلَّ عام. لكنها تجد
أن ما جعلها تكره المدرسة وتفكر في تركها هو،
ربما، موقف معلِّمات المدرسة اللواتي لم تعد
تحبهن، خاصة عندما ترى الواحدة منهن ممسكة
بالسيكارة وقاعدة تدخن، فلا يعجبْنها، وتجد
أنهن "بيشوفوا حالهن [مغرورات]". وهي لا
تحب المعلِّمة التي "تشوف حالها"، بل
تحبها أن تكون مثل الأم؛ أي أنها تجدهن
متكبرات أو مغرورات. أما ندى فتقول عن سبب
قرارها بترك المدرسة: "ما حبيت عيد [رسبت]،
أنُّو كون أكبر واحدة برفقاتي و...". وهي لم
تنجح: "أهملت شوي [ قليلاً] بالدروس، التهيت
برفقاتي، ومنحكي كتير بالصف [تلهيت مع
رفيقاتي، ونحن نتكلم كثيرًا في الصف]." من
الملاحظ أن المدرسة تستكمل ممارسة رقابة
الأهل، من جهة، بالإضافة إلى أن بعض الفتيات
الفقيرات (هبة وأميرة وندى) لم يستطعن التكيف
مع متطلبات المدرسة لجهة متابعة الدروس (ندى
وأميرة)، ولا مع صورة المرأة–المدرِّسة
المختلفة والمتناقضة مع صورة الأم (في حالة
هبة)، وقررن الابتعاد عن هذا الجوِّ المقلق
الذي يزعزع صورتهن عن أنفسهن وعن المرأة،
ويطلب منهن القيام بتحدٍّ للذات يعجزن عن
القيام به. بينما نجحت سارة (الأسرة مهاجرة من
تركيا) نتيجة عاملين: عامل تطلُّب الأسرة
نفسها التي لا تزال تحمل ديناميَّة ذاتية
للتغير، وعامل سُكنى المدينة والالتحاق
بجمعية أهلية تقدِّم برامج متخصصة من أجل
توعية الفتيات الفقيرات المعرَّضات للأخطار
وحمايتهن. وهذا
ما يعطينا فكرة عن وضعية مدارسنا، وعن عدم
قدرة الجهاز التعليمي على تلبية المتطلَّبات
التي يفرضها دورُه، وعن عدم ثبات هذا الجهاز
في مدارس البيئات الفقيرة، وعن القسوة التي
يتعامل بها مع التلاميذ، وعن دور هذه المدارس
في نبذ التلاميذ وعدم بذل أيِّ جهد من أجل
كسبهم ومساعدتهم على اجتياز المراحل الصعبة
التي يمرون بها. فهل
يمكن لهؤلاء الفتيات أن يبدعن في أيِّ مجال
كان؟ فكما يستنتج سايمنتُن، لقد انقضت أيام
كان يمكن لشخص لم يذهب إلى المدرسة، مثل
فاراداي، أن يأمل فيها بأن يقوم بمساهمة
أساسية في علم الطبيعة (ونضيف: في أيِّ علم أو
إبداع آخر على الأرجح). إن تأمين التعليم هو
المطلب الأساسي في مطلع القرن الحادي
والعشرين، وعلى مستوى العالم العربي ككل.
وهذا أمرٌ مُخْزٍ بما فيه الكفاية. ومن
دون الغرق في نقاش دور الموهبة في الإبداع
والخلق أو الفطرة، نورد ما كان يردِّده
إديسون من أن "العبقرية هي 1% وحي و99% جهد
وعَرَق". بعض الناس يعتقدون أن العبقري "يولد"
كذلك، والبعض الآخر يعتقدون أنه "يُصنَع".
ولعل الحقيقة توجد في تركيب معيَّن بين
المقولتين. لكن لذلك شروطًا معينة في
الحالتين، إلى وجوب توافر حدٍّ أدنى من
الشروط الموضوعية. وهكذا،
فالتعليم هو الشرط الأولي من أجل توفر إمكان
الإبداع عند أجيالنا الطالعة. أما بعض الشروط
أو المؤشرات الأخرى التي اعتُمِدَتْ في هذا
البحث فهي: وجود قدوة ومثال أعلى يمكن المراهق
أن يتماهى معه ويقلِّده، قبول فكرة الاختلاف
عن الآخرين والنظرة النقدية إلى الذات وإلى
الآخرين، الموقف تجاه التمييز الممارَس ضد
المراهقة في المنزل، وجود نوع من الذكاء،
وجود حاجة إلى الإنجاز، الرغبة في المغامرة
والمخاطرة وعمل شيء مهم، كيفية تزجية الوقت
واتساع الاهتمامات، دور القراءة والمطالعات
الجدية. لكن ذلك لا يعني أنه ليس للمعاناة من
دور، في أحيان كثيرة، في الإبداع. ومن ذلك
الصعوبات الأسرية واليتم. اليُتْم
والصعوبات الأسرية ليس
المقصود بالشروط البيئية الجيدة ما هو متعارف
عليه بالمعنى السائد، أي غياب المعاناة وقسوة
الحياة؛ لكن العكس ربما يكون صحيحًا. فلقد
برهنت الأبحاث على أن فقد أحد الوالدين هو سمة
مشتركة للعديد من القادة أو العباقرة: فلقد
مات والد لينين بينما كان في سنوات مراهقته،
وفقد بيتهوفن أمَّه عندما كان في السادسة
عشرة، وأصبح نابليون معيلاً لأسرته في سنِّ
الخامسة عشرة عندما مات أبوه، وفقد يوليوس
قيصر والده في العمر نفسه تقريبًا، ومات والد
نيوتن قبل ولادته. وقد أثارت هذه الحالات
العديد من الباحثين لكي يتساءلوا مندهشين حول
ما إذا كان لليُتْم أيُّ فضل في نموِّ
العبقرية. والشواهد
المجتمعة حتى اليوم يبدو أنها تؤيد وجود مثل
ذلك الفضل. فهناك نسبة تتراوح بين 22% إلى 31% من
المشاهير (عيِّنة كوكس) فقدوا أحد والديهم قبل
سنِّ الرشد. لقد أرجع آيزنشتات أثر فقدان أحد
الوالدين إلى صدمة الفاجعة، لكنه لم يتتبَّع
كلَّ النتائج العملية المترتبة على هذا
التفسير داخل بياناته. وهناك تفسير آخر يتعلق
باختلال الهوية الجنسية الذي يسبِّبه غياب
الوالد المنتمي إلى جنس الولد (مارتنديل، 1972). وفي
عيِّنتنا، لاحظنا أن لين، التي تنتمي إلى
أسرة مفكَّكة وتعاني من صعوبات جمة، تمضي
وقتها في القراءة، ولديها من الآراء الشخصية
والنقدية ومن الاستقلالية ما يتعدَّى النسبة
الموجودة عند الأفراد العاديين، وهذا على
الرغم من رسوبها في صفهِّا مرتين. أما ريم،
الأصغر كثيرًا في السن، فهي متمردة، ولكنها
لا تعرف ماذا تريد أن تصبح، ولم تتبلور بعدُ
مواهبُها، وهي ترفض طريقة تَعامُل محيطها
معها والعنف الممارَس عليها. كذلك نلاحظ أن
مشكلات ريَّا الأسرية لم تمنعها من الاتجاه
نحو التعبير الفني؛ بل ربما كانت هي الدافع،
بالإضافة إلى نموذج أختها الكبرى. أما معاناة
دانة مع القمع الممارَس في بيئتها وفي
أسرتها، فيدفعها نحو الاستقلالية والرغبة في
العيش بعيدًا عن الأهل في بيروت من أجل
الانطلاق. لكن الانسجام أيضًا في أسرة نادين
ووجود نموذج تقتدي به (والدها رسام)، بالإضافة
إلى الموهبة بالطبع، ربما جعل منها رسامة
مهمة. النظرة
إلى الذات وقبول الاختلاف وقد
تبيَّن، على كلِّ حال، أن الطريقة التي تعيش
بها المراهِقة تجاربها، وكيفية نظرها إلى
نفسها، لهما دور أكيد في نوع الشخصية التي
تنمِّيها. فرفيف، التي ينعتها الآخرون بأنها
"كتير هادية ورايقة [هادئة ومتزنة جدًّا]"،
تجد نفسها معارِضة. تخبرني، وهي تبتسم بلطف،
أنها "تعارض كلَّ شيء"، دائمًا عابسة
وساكتة، وترفض التقاليد؛ بل إنها تعمل عكسها. نلاحظ
هنا أن هناك فئة من الفتيات يعرفن أنفسهن،
ويقبلن باختلافهن، ويقدرن على احتمال هذا
الاختلاف، على عكس الفتيات المنتميات إلى
الفئات الاجتماعية الدنيا، اللواتي تركن
المدرسة؛ فمن الملاحظ عدم قدرة هؤلاء على
بَلْوَرَة آراء خاصة أو أخذ مسافة من الذات
ونقدها، وعدم امتلاكهن أية إمكانية لتنمية
شخصية مستقلة يمكن لها أن تتمتع ببعض
المعارضة. وربما
برز ذلك بسبب الخوف من الابتعاد عن آراء
الآخرين، وعدم تحمُّل فكرة "الخروج على
القطيع". الاختلاف من الأمور التي "تضيِّع"
البنت؛ لذا فهن يُعْلِنَّ أنهن مثل جميع
الآخرين في محيطهن. فالطاعة هي من أولى
اهتمامات هذه الفئة. فهل يكون الإبداع عبر
الطاعة والالتحاق بالقطيع، أم عبر القدرة على
احتمال الاختلاف وقبوله؟ ربما متابعة
مساراتهن قد تساعدنا يومًا على الإجابة. الموقف
تجاه التمييز الجنسي من
الملاحظ هنا أن متطلَّبات المراهِقة تجاه
نفسها، وقدراتها النقدية، وموقفها من
التقاليد، ونظرتها إلى نفسها وإلى علاقاتها
بالآخرين، تتعلق بالمستوى الاجتماعي والفكري
الذي ينعكس، بالطبع، على المستوى التعليمي.
ولقد توزَّعت آراء الفتيات بين موقف محافظ
يستدخل التمييز استدخالاً تامًّا؛ وقد ظهر
هذا عند المنتميات إلى الفئة التي يسود فيها
عاملا الفقر والبيئة الريفية. لم
يبرز هنا العامل الديني في الاختلاف تجاه هذه
المسألة. فنجد أن نسرين، المسيحية الريفية،
تستدخل فكرة التمييز تجاه المرأة مع فذلكة:
فأخوها وحيد بين عدد من البنات، لذلك تجد أنه
من الطبيعي ألا يساهم في الأعمال المنزلية؛
لكنها تعترض قليلاً على الرقابة على أماكن
خروجها وتأخرها. ومن الملاحظ عدم وجود رقابة
على الملابس في هذه البيئة. أما تالة،
المنتمية إلى بيئة شيعية محافظة ومتعلِّمة،
ففسَّرتْ بوضوح ماذا يُفهَم من تعبير تمييز،
وما معنى الإجابة العفوية في أنه لا يوجد
تمييز في الأُسَر. فالذي يُفهَم عامة من كلمة
"تمييز"، على ما يبدو، يحمل معنى عدم
محبة الابنة، وليس معنى الحقوق والواجبات
بالمقارنة مع ما هو معطى للشاب. ***
*** *** *
بُني
هذا البحث انطلاقًا من المقابلات التي
أُجْرِيَتْ مع المراهقات في أثناء القيام
بالعمل الميداني من أجل مشروع الفتاة
العربية المراهِقة الذي يقوم به مركز
المرأة العربية للتدريب والبحوث "كوثر".
|
|
|