|
أطوطميون
نحن أم مسيحيون؟[1] (4
من 4) 4 التقاليد الكنسية: الزواج كنت في مقالة سابقة كتبتُ
عما يثيره فيَّ الكلامُ الذي يردَّد في
الطقوس والشعائر الدينية
الكنسية
من تفكير وشرود عن متابعة تلك الشعائر. وقد
اخترتُ
شعائر "الإكليل" في هذا
المقال
نموذجًا للتقاليد الكنسية التي أدعو إلى
مراجعتها، في سبيل تنقيتها من شوائب التوراة،
وبالتالي تنقية الدين المسيحي مما لَحِقَه من
الأساطير اليهودية. في هذا البحث سوف أحاول
تناوُل أحد
الطقوس الكنسية من حيث محتواه التوراتي،
وبالتالي علاقة الشعائر
الكنسية
بالتوراة الذي تدعوه الكنائس بالعهد القديم
وتدعو الإنجيل بالعهد الجديد – وكأن العهد
الذي أعطاه الله لشعوب الأرض، دونما تمييز،
عن طريق السيد المسيح، هو "طبعة ثانية"
مكمِّلة لعهد كان قد قَطَعَه لشعب خاص عن طريق
موسى. وقبل الدخول في البحث أودُّ الإشارة إلى
استخدامي كلمتي "الأمم" و"أممي"،
للتعبير عن كلِّ ما هو غير يهودي، انطلاقًا من
استخدامها في التوراة والإنجيل. كلما حضرتُ إكليلاً
مسيحيًّا، وسمعتُ تلك القراءة من إنجيل متى
تتكرر في كلِّ إكليل، وذاك الجزء من رسالة
بولس إلى أهل إفسس والاتِّكاءات التوراتية تتكرَّر أيضًا،
انطلَقَ ذهني في فضاء التساؤل، الذي لا يتوقف
إلا عندما يصيح الجمعُ مهللاً: مبارك! مجال
الشرود واسع ومتعدِّد، ولكنني سأتناوله
من النواحي التالية: الأولى ناحية أحكام
الزواج، والثانية
التمييز الجنسي بين الرجل والمرأة في الحقوق
والواجبات،
والثالثة ناحية الاتِّكاءات التوراتية. *** ولأنتقل من العموميات إلى
الخصوصيات، التي تستوقفني عن متابعة القداس
وتُطْلِق العنان لتساؤلاتي، ولأبدأ بإيراد
بعض ما يُتلى في هذه المناسبة وبعض ما يتبع له.
وسأعتمد إنجيل متى لأنه يتميَّز بأن متى،
بخلاف مرقس الذي كان ناقلاً، قد عاين المسيح
وسمع منه مباشرة وكان السابق بكتابة بشارته.
ثم إن رواية متى تتميَّز أيضًا بمتابعة
الحوار بين يسوع وتلاميذه حول موضوع الزواج والطلاق. أحكام
الزواج وردتْ في
الإنجيل العبارات التالية المتعلقة بالنظرة
إلى الزواج: 1.
"جاء الفريسيون إلى يسوع
ليجرِّبوه فسألوه: هل يحلُّ للرجل أن يطلِّق
امرأته لأيِّ سبب؟ فأجاب وقال: أما قرأتم أن الذي
خلق من البدء خلقهما ذكرًا وأنثى." (متى 19) 2.
"من أجل هذا يترك الإنسان
أباه وأمه ويلزم امرأته 3.
فيصيران كلاهما جسدًا
واحدًا، ليسا بعد اثنين بل جسد واحد." 4.
و"ما أزوجه الله لا
يفرِّقه إنسان." واستكمالاً للبحث رأيت أن
أعرِّج على موضوع الطلاق الذي يرتبط ارتباطًا
مباشرًا بسرِّ الزواج المقدس. يستكمل متى
أقوالَ المسيح بهذا الصدد، فينقل عن لسانه: 5.
"من طلَّق امرأته إلا
لعلَّة الزنا وتزوج بأخرى فقد زنى." (متى 19) وفي
نصٍّ آخر: "مَن طلَّق امرأته إلا لعلَّة
الزنا فقد جعلها زانية ومَن تزوج مطلَّقةً
فقد زنى." (متى 5) 6.
"مَن تزوج مطلَّقةً فقد
زنى." هنا ينتهي الحوار مع
الفريسيين وما
جاء في خطبة الجبل، ليبدأ حوارٌ آخر مع
الحواريين (أي الخلصاء). فقد اعترض التلاميذ
بقولهم: "إن كان هذا أمر الرجل مع المرأة
فلا يوافق أن يتزوج." (متى 19) فأجاب: 7.
""ليس الجميع يقبلون
هذا الكلام بل الذين أعْطِيَ لهم. 8.
لأنه يوجد خِصيان ولدوا
هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خِصيان خَصاهم
الناس، ويوجد خِصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت
السماوات. 9.
من استطاع أن يقبل فليقبل." قسَّمتْ أعلاه كلام المسيح
إلى تسعة أحكام منفصلة لتسهيل دراستها: الحكم
الأول يشير إلى قصة آدم وحواء؛ والحكم الثاني
استنتاجي من الحكم الأول، ولكنه استنتاج ناقص
– وهو
أيضًا من سفر التكوين – إذ لو صحَّتْ كفاية
الشرط الأول من أجل فَرْضِ الشرط الثاني، أي
لو صحَّتْ كفاية خلق الإنسان من ذكر وأنثى من
أجل فَرْضِ الشرط الثاني، أي التزام الزوجين
أحدهما بالآخر مدى الحياة، لوَجَبَ أن ينطبق
ذلك على جميع المخلوقات، لا على الإنسان
وحده؛ وهو أمر ينفيه الواقع. ولنتجاوز مؤقتًا
الحكم الثالث المتعلق بالجسد الواحد، وننتقل
إلى الحكم الرابع: ما أزوجه الله لا يفرِّقه
إنسان؛ فنجد أنه لا يعدو كونه تأكيدًا
للبيانين الأول والثاني عن طريق إضفاء
الإرادة الإلهية على عملية الاقتران. في شرقنا، الذي ظهر فيه
المسيح، لم تفرض مِلَّةٌ أو دينٌ أو سُنَّةٌ
ديمومةَ الزواج، لا قبل المسيح ولا بعده،
وتبقى مقولة ما أزوجه الله لا يفرِّقه إنسان
مقولة متعلقة بالإيمان الفردي. لماذا، إذن،
فَرَضَ الله ديمومة الزواج بلسان المسيح فقط،
دون غيره؟ كان المسيح يعرف أن الالتزام بهذا
الفرض أمر صعب؛ وهذا ما أكَّده في حكمه
السابع، حيث اعترف بأن هذا الكلام ليس
مقبولاً لدى الجميع، بل للذين أعْطِيَ لهم،
أي للخاصة التي تؤمن برسالته. ومن ثم يستطرد
في الحكمين الثامن والتاسع، ليضع الإنسان
أمام الخيارات الصعبة، بل أمام خيارين
أحلاهما مرٌّ: فإما أن يقبل الإنسان
بالالتزام بالزوج أمد
الحياة، وإما أن يتبتَّل – هذا الفعل الذي
عبِّر عنه بإخصاء الذات طمعًا بملكوت
السماوات. إن مقولة
الارتباط الأمدي (أي أمد الحياة) بين الزوجين
قد فشلت على الصعيد العملي؛ وسبب فشلها أنها
لا تأخذ بعين الاعتبار كون الإنسان يخطئ
ويصيب، وأنه مخلوق متغيِّر على مرِّ الزمن،
وليس كيانًا مستقرًّا. الدافع الجنسي يطغى،
في كثير من الأحيان، على النظرة العقلانية، لاسيما عند من هم في سنِّ الشباب؛
هذا من ناحية – ومن ناحية أخرى فإن تقدُّم
الإنسان بالسنِّ يرافقه تَخامُدٌ في قدراته
الجسدية وازديادٌ في قدراته الفكرية ناجمٌ عن
تراكم الخبرة بالحياة. ومن ثم فإن نظرته إلى
الأولويات وإلى الحياة عموما تتغيَّر وتتبدل
مادام حيًّا: دوافع ابن الخمسين وطموحاته
وأولوياته تختلف عن دوافع ابن العشرين
وطموحاته وأولوياته. فإذا اختلَّ، بمرور
الزمن، التواؤمُ بين الزوجين بسبب من ذلك
التبدل أو من غيره فإن استمرار الارتباط
يفرض تنازلاتٍ غالبًا ما تكون من طرف واحد
مستعدٍّ للتنازل لقاء قناعات أو ضرورات
معينة؛ وكثيرًا ما تؤدِّي هذه التنازلات إلى
وضع مأساوي بدلاً من أن ترتق الفتق. تقول إحدى الروائيات من
أمريكا الجنوبية، العريقة في الكَثْلَكَة،[2]
حول ردود الفعل على مقابلة نشرتْها مع زوجة
تقيم علاقة مع رجل غير زوجها: من
الصعب أن نتصور اليوم أن أمرًا تافهًا كهذا –
أي ما اصطُلِحَ على تسميته بالخيانة الزوجية
– أثار كلَّ ردود الفعل هذه، وبخاصة أن
الخيانة الزوجية في نهاية المطاف قديمة
قِدَمَ مؤسَّسة الزواج ذاتها. لم يغفر أحد
لبطلة المقابلة قولها إن دوافعها إلى الزنا
هي الدوافع نفسها لدى الرجل: انتهاز الفرصة،
الضجر، الحقد، الدلال، التحدِّي، الفضول.
السيدة التي قابلتُها لم تكن متزوجة من رجل لا
يطاق أو مُقعَد، وإنما كانت تفتقر بكلِّ
بساطة إلى مبرِّرات الحفاظ على الوفاء لزوج
يخونها بدوره. ولعل التبدلات التي حصلتْ
في الدول المتقدِّمة خير دليل على فشل مقولة
الارتباط الأمدي. فتطور شروط الحياة
وتعقُّدها، والتبدلات الاجتماعية
والثقافية، ودخول المرأة إلى معترك العمل –
جميع ذلك وغيره أوْجَدَ ظروفًا جديدة لم يعد
ممكنًا معها الحفاظ على مقولة المسيح، الأمر
الذي حدا بتلك الدول إلى سنِّ تشريعات
قدَّمتْ الزواج المدني على الكنسي، على الرغم
من كون تلك الدول مسيحية، بل بعضها كاثوليكي
متشدِّد. في الولايات المتحدة تبلغ
نسبة الطلاق من الزواج الأول 50%، ومن الزواج
الثاني نحوًا من 30%؛ وفي فرنسا يبلغ تعداد
الأُسَر ذات الأب الواحد – وغالبًا ما يكون
الأم – نحوًا من ثلث مجموع الأسر. وهكذا، ومع
إباحة الطلاق، نكون قد عدنا إلى نقطة البداية
التي حاول السيد المسيح السموَّ بها إلى
مفاهيم جديدة. هنا يطرح الحكمُ الخامس
نفسه: من طلَّق امرأة إلا لعلَّة الزنا
وتزوج بأخرى
فقد زنى.
في بشارة مرقس جاء الحكم عامًّا غير مقيَّد
بحصول فعل الزنا: من طلَّق امرأته وتزوج
بأخرى يزني عليها، وإن طلَّقتْ امرأةٌ زوجها
وتزوجت بآخر تزني. أود الإشارة هنا إلى أن
رواية مرقس تساوي بين الرجل والمرأة في فعل
الزنا الناجم عن الطلاق والزواج التالي،
بينما تحصر روايةُ متى علَّة الطلاق المسموح
بزنا المرأة،
متغاضيةً عن حقِّ المرأة بالطلاق نتيجة زنا
الرجل،
إما لأن الرجل لا يزني، وإما لأن زناه لا
يعتبر مسوِّغًا للطلاق، أو لأن المرأة محرومة
من حقِّ الطلاق. ولكن الحكم، على أية
حال، هو
إباحة للطلاق لعلَّة الزنا دون قيد أو شرط.
وربما أفصحتْ عبارة متى عن الوضع القائم
فعلاً، الذي لا يتيح للمرأة طلب الطلاق. وقد
يكون هذا صحيحًا بالنسبة لرؤية متى التوراتية
مقابل رؤية مرقس المتطورة؛ إذ يبدو من
ازدواجية اسم مرقس (يوحنا مرقس) أنه كان
منفتحًا على الثقافة اليونانية والرومانية (كانت
ازدواجية الأسماء هذه تقليدًا عند اليهود
المتنوِّرين). على أية حال، أودُّ التأكيد
على أن الطلاق وحده، في كلتي الروايتين، لا
يؤدي إلى وَصْمِ صاحبه بالزنا، إلا إذا
لَحِقَه زواجٌ آخر. ماذا يعني هذا الشرط؟ إنه
يحول دون الطلاق الذي لا مسوِّغ له إلا وقوع
أحد الزوجين في هوى جديد، أو لنقل رغبته عن
زوجه إلى غيره. أما إذا كان الطلاق نتيجة
فقدان الانسجام بين الزوجين واستحالة
استمرار الحياة الزوجية، ولم يكن في نية أحد
الزوجين زواجٌ آخر، فإن ذلك لا يُفضي إلى تهمة
الزنا. من هنا نستنتج أن الدين المسيحي لم يقل
مطلقًا بتحريم الطلاق، بل حَصَرَ التحريم
في ذاك الطلاق الذي يهدف إلى استبدال زوج بزوج.
وتبقى مشكلة إسباغ صفة الزنا على طلاق بذاته
منوطة بإثبات أن هذا الطلاق يهدف إلى زواج آخر.
لذا فقد لجأتْ بعض الكنائس إلى السماح
بانفصال الزوجين وتعليق الطلاق لمدة محدودة.
ولكن مثل هذا الإجراء لم يعد ذا معنى في
المجتمعات التي تُمارَس فيها المعاشرة قبل
الزواج. وقبل أن ننتقل إلى التطبيق
العملي الذي بشَّر به بولس أودُّ التوقف عند
الحكم الثالث الذي يقول بوحدانية الجسد في
الزواج: فيصيران كلاهما جسدًا واحدًا. هنا
يكمن القصد من التشدد في تقنين
الطلاق؛ وهنا مَكْمَن الداء الذي يعزُّ دواؤه.
أرى أن عبارة الجسد الواحد إنْ هي إلا
كناية عن تحول الكيانين المستقلين إلى كيان
واحد، وهو الأسرة – هذه الخلية التي مازالت
تُعتبَر النواة السليمة لأيِّ مجتمع، سواء
أكان متخلفًا أم متطورًا. ولا شك أن رحم
الأسرة هو الوعاء الوحيد الذي ينشأ فيه الطفل
وينمو نموًّا عاطفيًّا سليمًا، قادرًا على
التفاعل مع الآخرين وقادرًا على العطاء. ولكن القضية تكمن في أن
المواعظ الدينية لم تعد كافية لمعالجة مشكلة
الطلاق وما ينجم عنها نظرًا لأن تلك المواعظ
تُلقى مرة واحدة في أثناء إقامة الشعائر، ثم
تبتلعها المشاكلُ اليومية بمرور الزمن. ولو
كانت الموعظة الحسنة تكفي لهان الأمر؛ ولكن
عدم كفايتها هو الذي حدا ببعض الدول إلى إنشاء
مراكز بحوث وعيادات نفسية واجتماعية متخصصة
في المشاكل الأسرية، في محاولة لمعالجة
الصعوبات التي تعترض استمرار الوفاق الزوجي
ولرأب صَدْعِ العلاقات الزوجية، وبالتالي
تفادي الوصول إلى "أبغض الحلال". ما هو الحلُّ بالنسبة
لوضعنا، ككنيسة مشرقية عُهِدَت إليها –
حصرًا – سلطةُ إجراء الزواج والطلاق؟ مادام
الأمر بيد الكنيسة فعليها، من أجل الحفاظ على
مصداقيتها، أخذ زمام المبادرة عن طريق استقطاب
رجال دين متزوِّجين مثقفين
متنوِّرين، حائزين على ثقة أبناء
الطائفة، يقومون بدور المؤسَّسات الاجتماعية
في تقصِّي أسباب الخلافات الزوجية، ويعملون
على التوفيق بين الزوجين وإعادة الوفاق
انطلاقًا من خبرتهم في الحياة الزوجية، ومن
إدراكهم للأوضاع الراهنة ولطبيعة الخلافات
ذاتها – من رؤية موضوعية، لا من ترديد ما جاء
في كتب الدين
دون تمييز. * نأتي إلى القسم الثاني من
تلاوات الإنجيل التي تُقرأ في مراسم الزواج،
على سبيل التذكرة والموعظة، أعني ذاك الجزء
من رسالة بولس الرسول إلى أهل إفسس التي وضع
فيها التعليمات التنفيذية لرسالة المسيح
والتي أجتزئ منها أهمَّ مقاطعها: 1.
أيتها النساء اخضعن لرجالكن
كخضوعكن للرب 2.
لأن الرجل هو رأس المرأة كما
أن المسيح هو رأس الكنيسة. 3.
أيها الرجال أحبوا نساءكم
كما أحب المسيح الكنيسة. 4.
كما تخضع الكنيسة للمسيح
كذلك أيضًا تخضع النساء لرجالهن في كلِّ شئ. 5.
وأما أنتم فليحبَّ كلُّ
واحد امرأته كنفسه والمرأة يجب أن تخاف رجلها. التمييز
الجنسي بين الرجل والمرأة في الحقوق
والواجبات هنا يقسِّم بولس الالتزامات
الزوجية المتبادلة تقسيمًا واضحًا بين
النساء والرجال: المرأة تلتزم بالخضوع
والطاعة والخوف، والرجل يلتزم بحبِّ الزوجة:
خضوع مقابل محبة. هنا يكمن نوع من أنواع الخلل
في تكافؤ العلاقة ذاتها؛ إذ توضع ممارسة
الفعل مقابل العاطفة. فالخضوع فعل يقبل
صيغة الأمر؛ أما الحب فهو عاطفة تأبى،
ككلِّ العواطف، تلك الصيغة، أي صيغة الأمر؛
إذ لا يمكن القول للإنسان: اكرهْ، اشتقْ (من
الشوق)، حِن (من الحنين)، جِدْ (من الوجد). العاطفة
تعبير عن حالة شعورية وليست ممارسة. وقد يعترض
معترضٌ، محتجًّا بقول المسيح: تحب قريبك
كنفسك. والجواب على ذلك هو أن أمر الحب
ذاك الذي دعا إليه بولس يختلف كثيرًا عن وصية
الحب الذي دعا إليه المسيح في تلك العبارة
التي لا تُلزِم، وإنما تصف شرط دخول ملكوت
السموات، والتي يمكن تفسيرها على أنها دعوة
إلى التعامل مع الآخر من منطلق الإيمان
بالخير الذي يحمله. فحين ينتفي الشك بالناس،
وتبطل معاملتُهم على أساس من سوء النية، تسود
الثقة والمحبة والسلام بفعل ردود الأفعال
الإيجابية. الظلم الذي أوْقَعَه بولس
على المرأة المعاصرة لم يقف عند حدِّ طلب
الخضوع، بل حدَّد درجة الخضوع هذا ونوعه
بقوله: كخضوعكن للرب. الخضوع للربِّ ناشئ
عن الإيمان به وحبه وابتغاء مرضاته؛ إذ هو
مصدر الخير ومبدع الكون، وهو منزَّه عن الخطأ.
أفهل نجعل من الرجل ربًّا آخر للمرأة؟ وماذا
لو تعارض أمرُ الربَّين؟ وماذا يهمُّ الخضوع
إذا غاب الحب؟ كم من النساء اللواتي يخضعن
لرجالهن يتمنين موتهم، في آنٍ معًا، لِما
يُلحقون بهنَّ من أذى جسدي ونفسي؟ تكبلهن
القيود الاجتماعية والحاجة والأولاد والخوف؛
حياتهن إحباط في إحباط، بل مأساة. إن اجتهاد بعض الآباء بأن
الحقوق والواجبات تتساوى بين الزوجين، وأن
خلق حواء من ضلع آدم إنما يشير إلى هذا
التساوي الوجودي بين الرجل والمرأة، هو
اجتهاد تنفيه صراحةً وصايا بولس إلى أهل إفسس.
كما أن الرمز الذي تحمله أسطورة خلق حواء من
ضلع آدم يؤكد أن علاقة حواء بآدم إنما هي
علاقة الجزء بالكل. التشبيه المتوازي الذي
استخدمه بولس، أعني:
المرأة/الرجل – الكنيسة/المسيح،
تشبيه يتجاهل مصدر الخضوع. فخضوع الكنيسة
للمسيح خضوع إيمان يرفع من قَدْر الإنسان. أما
خضوع المرأة للرجل فهو خضوع عبودية، أشبه
بالرقِّ منه بالعلاقة الإنسانية المتكافئة. إذ لا يكفي المرأةَ
الخضوعُ، بل عليها أن تهاب رَجُلَها أيضًا. لم
يقل "توقِّره" أو "تكرِّمه"، بل "تهابه".
من ناحية أخرى فإن خضوع الكنيسة للمسيح هو
خضوع حبٍّ أيضًا، بينما بولس الرسول استكثر
على المرأة حبَّ رجلها، لأنه ربما رأى فيه
عيبًا؛ إذ لا يليق بالمرأة الشريفة أن تحب! أو
أنه رأى أن حبَّ المرأة لزوجها أمر ثانوي لا
يستحق الذكر، ولم يعد شرطًا أساسًا بعد أن
أمَرَها بالخضوع. ثمة تمييز جنسي صريح، بالمفهوم
المعاصر، ضدَّ المرأة، لا يقل فيه الحطُّ
من شأن المرأة عن الحطِّ من شأن الرجل
الملوَّن في الفكر العنصري الغربي. فواجب
الطاعة المفروض على المرأة يفترض ضمنًا أنها
قاصر. لا يمكن الإنكار أن أيَّ نوع من الشركة
الصغرى ينتهي فيه اتخاذ القرار إلى شخص واحد.
ولكن الخضوع المطلق شيء، وإناطة اتخاذ القرار
بأحد الشريكين، بعد التشاور، شيء آخر. نشرتْ مجلة روز اليوسف
فحوى دراسة قامت بها د. هدى بدران في مصر،
بيَّنَتْ فيها أن هناك 22% من الأسر المصرية
تعيلها امرأة، علمًا بأن هذه النسبة تشمل
أسرًا عُطِّلَ الزوجُ فيها عن العمل أو هاجر
ولم يعد. وفي دراسة أخرى أعدَّتْها د. هالة
منصور في مصر تبيِّن مُعِدَّةُ الدراسة أن
ثمة مليونًا ونصف المليون من الأزواج
المهاجرين دون زوجاتهم. ويتدخل أهل الزوجة
وأهل الزوج والجيران والأصدقاء في حياة
الزوجة؛ إذ يرونها ليست أهلاً لاتخاذ
القرارات، سواء ما كان منها يتعلق بحياتها أو
بحياة أبنائها. فالزوج، حتى لو كان بعيدًا،
يبقى هو صاحب القرارات؛ وما على الزوجة إلا
تنفيذها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا
هو التالي: لماذا يتمتع الزوج بالسلطة
المطلقة؟ ألأنه رجل، أم لأنه معيل للأسرة؟
وإذا كان يتمتع بهذه السلطة المطلقة، بحكم
كونه معيل الأسرة، فما هو الحكم حين تصبح
الزوجة هي المعيلة؟ أوليس لها حقُّ التصرف
بما تجني؟ هل كان بولس
الرسول
مخطئًا في طرحه لهذه التعليمات التنفيذية
لرسالة المسيح المتعلقة بالزواج؟ الجواب على
هذا السؤال يتوقف على المعايير التي نعتمدها
في محاكمتنا. فإذا اعتمدنا معايير الكرامة
والمساواة التي ننادي بها في القرن الواحد
والعشرين، كما فعلتُ فيما تقدَّم، نقول ظلمًا
إن بولس الرسول كان مخطئًا. وأستخدم عبارة "ظلمًا"
لأنه لا يجوز استخدام معايير القرن العشرين أو
الواحد والعشرين للحكم
بها على أقوال تعود إلى ألفي عام خَلَتْ. ولكن
إذا اعتمدنا المعايير التي كانت سائدة في عهد
بولس الرسول – والتي يمكن أن نستشفها من
أحكام التوراة ذاتها – نجد أن بولس الرسول حاول رفع شأن المرأة
عن طريق طرح يضمن كرامتها ويُلزِم الرجل
بحبِّها. بولس الرسول كان إنسانًا مثقفًا،
متنوِّرًا بالمسيح، مفعمًا بالإيمان؛ ولكنه
يبقى ابن عصره، عصر
تسلُّط الذكورة؛
ورؤيته لم تمتد إلى القرن الواحد والعشرين.
فهل يمكن أن يكون قد خَطَرَ في باله أن يومًا
سيأتي يكون فيه الزوج قعيد البيت، بينما تكون
المرأة معيلة له ولأولادهما؟ هل خَطَرَ في
بال بولس أن يومًا سيأتي تتسلَّم فيه المرأة
المناصب السياسية والإدارية؟ هل خَطَرَ في
بال بولس أن يومًا سيأتي ينتشر فيه التعليم
والثقافة، ويكون فيه بعض الرجال أقل قدرة على
المحاكمة واتخاذ القرار السليم من بعض
النساء؟ أين مكمن الخطأ، إذن، في تلاوة رسالة
بولس هذه في مراسم الزواج في أيامنا هذه؟ * الاتِّكاءات
التوراتية ثمة أقوال
أخرى من
التوراة أو إشارات
له تتردَّد في صلاة الإكليل الخاصة بسرِّ
الزواج المقدس. يُفتتَح الطقس بمزامير داود،
وتحديدًا بالمزمور 128، الذي جاء فيه ما يلي: -
طوبى لجميع الذين يتقون
الرب السالكين في طرقه. -
إنك تأكل من ثمرة أتعابك.
فلك الطوبى والخير. -
امرأتك مثل كرمة مخصبة في
جوانب بيتك. -
بنوك مثل غُروس الزيتون حول
مائدتك. -
هكذا يبارك الرجل الذي
يتَّقي الرب. -
يباركك الربُّ من صهيون حتى
تنظر خيرات أورشليم جميع أيام حياتك. -
وتنظر بني بنيك والسلام على
إسرائيل. ثم يردِّد الكاهن ما جاء في
سفر التكوين من التوراة: -
وقال ليس جيدًا أن يكون
الإنسان وحده على الأرض فلنصنعن له معينًا
شبيهًا به. وأخذ إحدى أضلاعه وبرأها امرأة
التي لما نظرها آدم قال: هذه الآن عظم من عظامي
ولحم من لحمي. هذه تسمى امرأة لأنها من المرء
أخذت. وفي مرحلة لاحقة يردِّد
الكاهن الأدعية التالية: -
باركهما أيها الرب كما
باركت إبراهيم وسارة. -
باركهما أيها الرب كما
باركت اسحق ورفقة. -
باركهما
أيها الرب كما باركت يعقوب وجميع رؤساء
الآباء. -
باركهما
أيها الرب كما باركت موسى وسيفورة. كذلك يأتي في أواخر الطقس ما
يلي: -
وأنت أيتها العروس
لتُعَظَّمي مثل سارة وتُسَرِّي مثل رفقة،
وتكثري مثل راحيل، مبتهجةً برجلك هذا... ثم يأتي دور التراتيل: -
يا إشعياء اطرب مرتكضًا لأن
البتول حملت في أحشائها وولدت ابنًا وهو
عمانوئيل إلهًا وإنسانًا معًا. أرى أنه لا بدَّ أن أمهِّد
بملاحظة تتعلق بكتابة التوراة، لاسيما سفر
التكوين الذي ضمَّ أخبار المذكورين في
الأدعية. لقد ثبت أن التوراة عمومًا – وبخاصة
سفر التكوين – عبارة عن مزيج من الأساطير
البابلية[3] والكنعانية[4]
وذاكرة شعبية وأدب كنعاني اقتحم المزامير.
وقد تميَّز التوراة بتطور في الرؤية نحو
إلغاء تعددية الآلهة، ولكن دون تطور يذكر في
طبيعة الإله وصفاته وواجباته. لقد بيَّنتُ،
في مقالة سابقة، الطبيعةَ الأسطورية
والسلوكَ المزري لتلك الشخصيات التوراتية
التي أحيطت بهالة من التقديس لا تستحقه في
الواقع. هنا لا بدَّ أن
يتساءل المرء: ألم
يقرأ الكثيرون من المسيحيين التوراة، لاسيما
رجال الدين؟ ألم يطَّلعوا على تلك الصفات التي اتَّصفتْ بها تلك الشخصيات
التوراتية؟
هل تتعمَّد الكنيسة التغطية على السلوك المزري
لتلك الشخصيات وإبراز ما يلائم استمرار
الإيمان بهم وبالتوراة؟ ألا تشعر الكنيسة في هذا
العصر بالذات بأنها تضلِّل رعيتَها وتقدِّم
خدمة سياسية مجانية لليهود، بل للصهيونية؟ (مع
العلم أن مثل هذه الخدمة قد لا تكون مجانية
بالنسبة لبعض الكنائس الغربية!) ما
حاجة الكنيسة إلى ترديد تلك الأدعية في خدمة
قداس إلهي، لاسيما وأن ما تحمله من الإشارات
إلى صهيون وإسرائيل قد اتخذ أبعادًا سياسية،
لدى بعض الطوائف المسيحية الغربية، جعلتْها
تؤيِّد قيام إسرائيل كشرط مسبق لمجيء المسيح[5]؟
وهل كانت بركة الله لهؤلاء بركةً حقيقية
نكرِّرها، ونتمثَّل بها، وندعو الله أن
يمثِّلها مع العروسين الجديدين، أم أنها كانت
مخيِّلة توراتية؟ التساؤل ذاته
ينطبق على تعاليم
بولس الرسول التي اعتبرتْها الكنيسة جزءًا
لا يتجزأ من العقيدة المسيحية، أي
بمثابة الكلام المُنزَل. ولكن، بالنسبة
لموضوعنا بالذات،
لا يجوز اعتبار هذه التعاليم عقيدة في الوقت
الذي لا تعدو كونها حُكمًا زمنيًّا. وما فتئت
الكنيسة تردِّد هذا الكلام الذي ينتمي إلى
القرن الأول الميلادي، تردِّده تعاليم
تجاوزها الزمن وعفا عليها بعد أن انسلخت عن
بيئتها وزمنها. إن ترديد تلك الأقوال في عصرنا
هذا، على أنها أحكام لا يأتيها الباطل من
أمامها ولا من خلفها، إنما هو مُجانِب للحكمة
ومسيء إلى الكنيسة بالذات، وإلى بولس الرسول،
وإلى الدين المسيحي جميعًا، ولا يعمل إلا على
إبراز اغتراب تلك الأقوال وتناقضها مع مفاهيم
العصر،
وبالتالي على الدعوة للاستخفاف بها. ومع اعترافنا
الكامل بأن الأناجيل والرسائل أصبحت جزءًا لا
يتجزأ من التراث المسيحي، وبأنه لا يمكن فصل
هذا التراث عن المسيحية تاريخيَّا، لكن
المسيحية غير مُلزَمة بكلِّ ما جاء فيها
نصًّا من الناحية العملية عندما يؤخذ المحتوى
التاريخي لتلك الأناجيل والرسائل. ولو عدنا
إلى ما سُمِّيَ بالأسرار الكنسية السبعة،
لوجدنا أنها جميعا تنبثق من رؤية لاحقة، لا
علاقة مباشرة لها بالناموس، كما أنها لم
تَرِدْ في الأناجيل نصًّا، بل كانت اجتهادًا
من المجامع الكنسية. *** إن الكنائس
المشرقية الحالية مازالت تعتمد رؤية المجامع
المسكونية التي انعقدت في القرون الأولى بعد
المسيح وقراراتها. وقد آن الأوان كي تتحرك تلك
الكنائس لعقد مجامع مسكونية جديدة لإعادة
النظر في الطقوس الكنسية على ضوء المكتشفات
الحديثة الخاصة بالتوراة، من جهة، وعلى ضوء
التطورات الاجتماعية، من جهة أخرى، وذلك من
أجل الحفاظ
على التراث المسيحي الأصيل متمثِّلاً في
تعاليم السيد المسيح. ***
*** *** [1]
من وحي عنوان مقال للمرحوم الشيخ
عبد الله العلايلي: "أطوطميون أنتم أم
فقهاء؟" [2]
ألليندي، إيزابيل، باولا، دار جفرا
للدراسات والنشر. [3]
راجع: سواح،
فراس، الحدث التوراتي والشرق الأدنى
القديم، وكذلك ملحمة جلجامش. [4]
Deuel, Leo, Testament of Times, Alfred A. Knopf. [5]
د. يوسف الحسن،
البعد الديني في السياسة الأمريكية.
|
|
|