كيف يفعل اللاعنف فعله
تيموثي فلندرز
في
الصفحات السابقة [لكتاب غاندي الإنسان]، سعى إكناث إيسوران
جاهدًا إلى تسليط الضوء على التطور الشخصي لغاندي بوصفه زعيمًا روحيًا
ملهمًا وقائدًا سياسيًا مُجدِّدًا. وهنا، أبغي أن أمضي أعمق في التركيز
على العناصر الأساسية الساتياغراها، كما وضحها غاندي، لنرى كيف يمكن
تطبيق هذا النهج على مشكلاتنا المعاصرة.
جرت العادة على التفكير بالساتياغراها على أنها تقنية للعمل الاجتماعي
استخدمها غاندي من أجل تحرير الهند من الحكم البريطاني. ويصح هذا الفهم
بقدر ما يسفر عن نتائج، لكنه ينتقص مما قصده غاندي. فالساتياغراها
فعليًا هي نهج لمقاربة النزاعات واستنباط الحلول اللاعنفية لها، على
شتى مستويات التفاعل الإنساني. ويبدأ استخدامها فرديًا وفي البيت،
ويمتد إلى المجتمع المحلي والمؤسسات ومن ثم عموم البلاد. فحيثما نشب
صراع، مستترًا كان أم عنيفًا، تتجلى أهمية الساتياغراها.
لم تكن الساتياغراها، كما طوَّرها غاندي، مجرد تقنية أو نظرية، وإنما
نهج حياة. كل أفكار غاندي تحمل هذه البصمة، إذ إن هذه الأفكار لا تحقق
كوامنها إلا في تطبيقها، "فقط في معايشتها". لم يبتكر غاندي
الساتياغراها، وإنما اكتشفها؛ فهي، كما كان يقول، "قديمة قِدَم
التلال". لقد عيَّن غاندي مبادئ الساتياغراها وطبَّقها على أوسع الصُعد
الممكنة لإظهار نجاعتها. لكن طوال الفترة التي كان يعمل فيها على ذلك،
كان من الجلي أن ممارسة الساتياغراها تُوجب البدء بالفرد، "في البيت".
بينما كان ج. د. بيرلا، أحد الأثرياء الهنود الداعمين لغاندي، متجهًا
بصحبة غاندي إلى مكان انعقاد مؤتمر الطاولة المستديرة في لندن عام
1931، تساءل إن كان غاندي قد حضَّر الخطاب الذي عليه إلقاءه ذلك
الصباح. قال بيرلا: "أعتقد أنك قد فكرت في ما تبغي قوله".
أجاب غاندي:
ذهني صفحة بيضاء بالمطلق، لكن قد يعينني الله على تجميع أفكاري في
الوقت المناسب. فبرغم كل شيء، علينا التحدث كأناس بسطاء. ليست لدي
الرغبة أن أبدو فائق الذكاء. فمثل أي ريفي بسيط، كل ما علي قوله هو:
نحن نريد الاستقلال.
لقد طوَّر غاندي الساتياغراها مع الناس "البسطاء" التفكير، وبالتالي
ستكون سهلة المنال بالنسبة للإنسان العادي. فالساتياغراها لا تتطلب
شهادة عليا ولا تدريبًا خاصًا لكونها موجودة في الناموس الأكثر أصالة
للطبيعة البشرية: المحبة. وكان غاندي يؤكد على أننا جميعًا نمتلك
القدرة على الساتياغراها في دواخلنا، لكننا لا نعرف كيف نحرر قوتها
التي "لا تُقهَر".
سأضع بين يديك تعويذة. فحينما تحاصرك الشكوك أو تتضخم الذات لديك،
جرِّب الوسيلة التالية: تذكر وجه أكثر الناس عوزًا وبؤسًا كنت قد
شاهدته وسَلْ نفسك إن كانت الخطوة التي تعتزم القيام بها ستعود
بالفائدة على ذلك الشخص. هل ستمكِّنه من كسب شيء ما؟ هل ستجدد تحكمه
بحياته ومصيره؟ بعبارة أخرى، هل سيؤدي ذلك إلى تمكُّن الملايين من
أبناء بلدنا الجياع ماديًا وروحيًا من التحرر؟ عندها، ستأخذ شكوكك
ومشاعرك الأنانية بالتلاشي.
تحمل الساتياغراها الكثير من المعاني تبعًا لاختلاف الأشخاص، وغاندي
نفسه يستخدم المصطلح بالمعنى الأوسع. عندما تُرَدُّ الساتياغراها إلى
عناصرها الأساسية، لا تعود حركة من أجل الاستقلال ولا تقنية للعمل
السياسي، مع أنها، في الواقع، تُقارب هذين المعنيين في أوقات معينة.
فالساتياغراها، ببساطة تامة، هي قوة روحية – مصدر طاقة فعال وقابل
للتطبيق يصلح للأفراد جميعًا، وإن كان قلة منهم واعية له.
صاغ غاندي برويَّة مصطلح "ساتياغراها" في جنوب أفريقيا في العام 1908.
كانت تجول في ذهنه فكرة واضحة تمامًا عن قوة ما، فجدَّ في البحث عن
عبارة مكافئة تُعرِّفها بدقة، وتحرِّرها خصوصًا من الارتباط بمصطلح
"المقاومة السلبية"
Passive
Resistance.
وانطلاقًا من تبيِّنه للصراع في جنوب أفريقيا، يُعرِّف غاندي
الساتياغراها على النحو التالي:
الحقيقة
satya
تتضمن المحبة، والثبات
agraha
مرادف للقوة. ولذا شرعتُ في تسمية الحركة الهندية "ساتياغراها"
Satyagraha؛
وأعني بذلك: القوة التي تولد من الحقيقة والمحبة أو اللاعنف...
مصطلح "ساتياغراها" مُعرَّف بذاته، ويقبض على جوهر فكرة غاندي، بدءًا
من إدراكها في جنوب أفريقيا في منعطف القرن وصولاً إلى الصدامات
الحاسمة مع الحكم البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية. في غضون ذلك
الوقت، اتخذت الساتياغراها أشكالاً عدة: مسيرات، أنشطة اقتصادية، صوم،
مقاطعة اقتصادية، عصيان مدني. بيد أن الجوهر، بالنسبة لغاندي، بقي
دومًا وعلى نحو جلي قوة متولِّدة من البحث عن الحقيقة والولاء الثابت
للنهج اللاعنفي.
ساتيا، الحقيقة، تعني حرفيًا "ذاك الموجود": الذي لا يتغير البتة، بل
يبقى ذي صدقية في كل الأزمان وتحت كل الظروف. وبالنسبة لغاندي، كان هذا
معادلاً لله: "الحقيقة هي الله"، كما قال، لكنه أضاف من قبيل الاحتراس:
"الله وحده يعرف الحقيقة المطلقة". ومن جانب آخر، لا يسعنا نحن سوى
تعقُّب حقيقة نسبية. لكن غاندي يعتقد أن بحثنا عن الحقيقة لن يؤدي بنا
إلى إيذاء أحد، إن كان هذا البحث طاهرًا ومجردًا من الأغراض الشخصية.
... ما قد يبدو حقيقة بالنسبة لشخص سيبدو على الغالب زيفًا بالنسبة
لشخص آخر. لكن هذا لا يدعو إلى قلق الباحث عن الحقيقة. فحيثما يكون
هناك مسعى نزيهًا، سيُمكن إدراك أن ما تتبدى على أنها حقائق مختلفة هي
أشبه ما تكون بأوراق الشجرة ذاتها المختلفة ظاهريًا والتي لا تحصى...
الحقيقة هي الدلالة الصائبة على الله. لذا، لا يمكن تخطئة أي إنسان
يتبع الحقيقة وفقًا لفلسفته في الحياة؛ إنه واجبه الذي عليه القيام به.
وبالتالي، إذا كان ثمة خطأ من جانب من يتبع الحقيقة، فسوف يُصحَّح
الخطأ تلقائيًا. ويقتضي التماس الحقيقة جهدًا دؤوبًا – مكابدة ذاتية
تمتد أحيانًا إلى حين الرحيل عن هذا العالم. ولا يمكن أن يكون هناك
متسع في هذا المسعى لذرة من المصلحة الذاتية. ففي مثل هذا البحث
اللاأناني عن الحقيقة لن يضلَّ أحد ما سبيله طويلاً...
التعريف المعجمي لكلمة
agraha
يفيد بمعنى "الإصرار على"، "الميل الحازم نحو"، "العناد". ومن الواضح
أن غاندي كان يختار مصطلحاته بعناية؛ فالساتياغراها كانت بالنسبة له
تشبُّث راسخ، بل وعنيد، بالحقيقة، مهما كانت الحالة. وتضفي "الإرادة
القاهرة" للمرء مزيدًا من القوة على المسعى.
بيد أن الحقيقة لوحدها ليست كافية. وكان غاندي يدرك كنه الطبيعة
البشرية ويدرك أن الحقيقة، بذاتها، قد تغدو "لا أخلاقية":
السبب هو أن كل شخص في اللحظة الراهنة يدَّعي أنه يعمل وفقًا لما يمليه
عليه الضمير دون التقيُّد بأية ضوابط مهما كان مقدار الضلال الذي يُنقل
إلى عالم مُتخبِّط.
فما قد يجعل البحث من أجل الحقيقة غير طاهر، "لا أخلاقي"، هو تماهيه مع
"المصلحة الذاتية". وكان ترياق غاندي الشافي من الضلال هو التخفيض
الممنهج للتمركز حول الذات، والذي وضحه بعبارات لا لبس فيها في معتقد
مبسَّط: "خفِّض نفسك إلى الصفر". هذا التخفيض للهوى الأناني هو المبدأ
الذي أشار إليه آنفًا، ومن دونه يمكن للحقيقة أن تفضي إلى الغرور
والغطرسة، بل وإلى الاستبداد حتى.
سيأتي زمن يصبح فيه الفرد تام القوة وتصبح تأثيرات أعماله كلية الشيوع.
سيكون هذا عندما يخفِّض الفرد نفسه إلى نقطة الصفر.
الهوى الأناني يعوق تحرير القوة الداخلية الهائلة للساتياغراها،
والتخلص منه يحررها. ويمكن مقارنة هذه القوة بالنبوغ الذي يشير إليه
الفنانون بقولهم: "لقد حوَّلتُ مساري". وقد دعاها غاندي بـ "قوة
الروح"، إذ يقول:
الساتياغراها هي قوة الروح الطاهرة والبسيطة.
لا يقصد غاندي بقوله هذا أي مجاز، بل القوة بالمعنى الحرفي. كان يعتقد،
ومسيرة حياته شاهدة على ذلك، أن لدى كل فرد، رجلاً كان أم امرأة، في
شرط معين قوة هائلة متاحة له، و"تصبح تأثيرات أعماله كلية الشيوع".
ويصبح "تام القوة" ليس بالتغلب على ما يعترض سبيله بالقوة وإنما
بتفكيكها بلا إرغام عنيف. إن تسمية القوة التي يقصدها غاندي بـ "مقاومة
سلبية" ينمُّ عن جهل بسلطتها الفاعلة. فهذا يُقارب القول أن الضوء هو
"اللاظلمة"، مما يوحي على نحو خاطئ بأن الضوء هو غياب لشيء آخر ويحجب
حقيقة أن الضوء هو شكل من أشكال الطاقة استخدِم لإنارة المدن حين فُهِم
كما ينبغي. وهذه الحالة تشبه كثيرًا الساتياغراها. ثمة قوة هائلة هنا
يُعتِّم عليها الجهل واللغة، والتي يقول عنها غاندي إنها قد توجِد حلاً
لأكثر المشاكل الإنسانية صعوبة إن فُهِمت كما ينبغي. وكما يحقق الضوء
قوة عظيمة عندما يُكثَّف في الليزر، تصبح قوة الفرد لا تُقاوَم عن طريق
الانضباط الذاتي، "عندما يخفِّض نفسه إلى نقطة الصفر". وقد حاول غاندي
أن يبيِّن، من خلال حياته الخاصة، أن الكائن البشري المتجرِّد عن
المصلحة الذاتية هو الوسيلة التي تزيح الستار عن هذه الطاقة وتضعها في
العمل من أجل حل الصراعات على كل الصعد. لكنه يوضح بدقة أن هذه القوة
ليست مقتصرة على قلَّة مختارة، بل متاحة بشكل كامن للجميع:
[الساتياغراها] هي قوة قد يستخدمها الأفراد وكذلك المجتمعات. وقد
تُستخدم أيضًا في الشؤون السياسية كما في الأمور المنزلية. وقابليتها
العالمية للتطبيق هي برهان على ديمومتها وتذليلها للصعاب. كما يمكن أن
يستخدمها الرجال والنساء والأطفال على حد سواء.
بالنسبة لغاندي، كانت أهمسا، اللاعنف، هي التعبير الأكثر نبلاً عن
الحقيقة، أو، على الأصح، الطريق إلى الحقيقة.
أهمسا والحقيقة مجدولتان بجديلة واحدة بحيث يستحيل عمليًا فصلهما عن
بعض. إنهما كوجهي عملة واحدة، أو بالأحرى كقرص معدني مصقول غير ممهور.
من بوسعه القول أن هذا هو الوجه وذاك هو القفا؟ ومع ذلك، أهمسا هي
الوسيلة؛ والحقيقة هي المنتهى.
أهمسا هي أساس الساتياغراها، "الحد الأدنى المتعذر إنقاصه" الذي تلتزم
به الساتياغراها ويُقاس به شأنها.
في المعتقدات التقليدية للهند، ثمة قصة تُروى عن راهب هندوسي عجوز كان
يجلس قرب ضفة نهر يردد تلاواته بصمت. وسقط عقرب في النهر من على شجرة
غير بعيدة عنه. رأى الراهب المخلوق البائس يصارع المياه فانحنى فوق
النهر ومد يده له وأخرجه من الماء وأعاده إلى الشجرة. وبينما كان يقوم
بذلك، لدغه العقرب في يده. لم يُعِر الراهب اهتمامًا للدغة وعاد إلى
جلسته لمواصلة تلاواته. ولم تمضِ برهة حتى سقط العقرب ثانية في الماء.
وكما جرى قبلاً، التقطه الراهب من الماء وأعاده إلى الشجرة، لكن العقرب
لدغه مرة أخرى. تكرر الحدث عدة مرات، وفي كل مرة كان نصيب الراهب لدغة.
وصدف أن كان أحد القرويين، ممن يجهلون نهج الأتقياء، يجلب الماء من
النهر ورأى المشهد كله. لم يستطع تمالك نفسه فاقترب من الراهب وقال له
بغيظ: "أيها الناسك، لقد شاهدتك الآن تنقذ هذا العقرب الأحمق أكثر من
مرة، وفي كل مرة كان يلدغك. لماذا لا تدع هذا الوغد وشأنه؟".
أجابه الراهب: "يا أخي، هذا الرفيق لا يستطيع كبح جماح نفسه. اللدغ من
طبيعته".
قال القروي: "أوافقك الرأي. لكن بما أنك تعرف هذا، لِمَ لا تتجنبه؟".
أجاب الراهب: "يا أخي، كما ترى، لا أستطيع تمالك نفسي أيضًا. أنا كائن
بشري، ومن طبيعتي أن أنقذ الآخرين".
تُترجَم أهمسا عادة بـ "اللاعنف". لكنها، كما رأينا، تعني أكثر من ذلك
بكثير. أهمسا مشتقة من جذر الفعل السنسكريتي
han،
الذي يعني: يقتل. وصيغة
hims
تعني "راغب في القتل"؛ والبادئة
a-
تفيد السلب. وبالتالي تعني أهمسا
a-himsa
حرفيًا "فقدان أية رغبة في القتل"، وهي الفكرة المركزية التي تقوم على
أساسها الأخلاقيات الهندوسية واليانيَّة والبوذية. فقد جاء في شريعة
مانو
Manu
Smriti،
كتاب القانون العظيم لدى الهندوس، "Ahimsa
paramo dharma":
أهمسا هي القانون الأسمى. إنها، كما افترض غاندي، "جوهر الطبيعة
البشرية بالذات".
اللاعنف هو ناموس وجودنا البشري، في حين أن العنف هو قانون البهائم.
فالروح هامدة في الكائن غير العاقل الذي لا يعرف قانونًا سوى قانون
القوة الجسدية. أما كرامة الإنسان فتقتضي طاعة قانون أسمى: الإذعان إلى
قوة الروح...
تنطوي كلمة اللاعنف على معنى النفي، شرط سلبي تقريبًا، في حين أن
المصطلح السنسكريتي
Ahimsa
يدل على حالة العقل الدينامية التي تتحرر فيها القوة. قال غاندي:
القوة لا تأتي من الطاقة الجسدية، بل من الإرادة التي لا تُقهر.
وانطلاقًا من ذلك اكتشف غاندي قوته الخاصة وحضَّ الآخرين على البحث عن
قواهم الخاصة انطلاقًا من هذا المبدأ. فهذه القوة الداخلية، الكامنة في
أعماق الوعي الإنساني، يمكن رعايتها وتنميتها بالتقيد بتمام أهمسا. ففي
حين أن العنف يكبح هذه الطاقة في الداخل ويعطِّلها في النتيجة الأخيرة،
فإن أهمسا، المُدرَكة على نحو صائب، لا تقف في وجهها العوائق مهما علت.
يكتب غاندي: "باتحاد ساتيا مع أهمسا بمقدورك إركاع العالم عند قدميك".
عندما يتحدث غاندي عن أهمسا بوصفها قانونًا، علينا أن نأخذ ذلك حرفيًا.
ففي الواقع، كانت أهمسا قانونًا بالنسبة إليه مثل قانون الجاذبية،
ويمكن إثباته وسط الشؤون الإنسانية. بل أن غاندي يصف ممارسته لأهمسا
على أنها علمًا، وقد قال ذات مرة: "كنت ومازت أمارس النهج اللاعنفي
العلمي وإمكانياته لما يزيد عن خمسين عامًا بلا انقطاع". كان غاندي
رجلاً بالغ الدقة، شديد العناية بالتفاصيل وصارم، مغرم بالاستشهاد
بترنيمة ماراثيَّة
Marath
[شعب هندي] تقول: "يا رب، امنحني المحبة، امنحني السلام، لكن لا تحرمني
من صواب الحكم". كان يثمِّن التجربة باعتبارها اختبارًا للحقيقة، وعلى
اللاعنف الذي كان يسعى إليه، ودعاه "اللاعنف الحقيقي"، أن يعمل وفق
التجربة في كل مستويات الشؤون الإنسانية. وأكد
لقد طبقته [اللاعنف الحقيقي] في كل مجالات الحياة: المنزلية،
المؤسساتية، الاقتصادية، السياسية. ولم تمرّ بي حالة واحدة فشل فيها.
لم يكن غاندي يهتمُّ بما هو دون هذا التطبيق الشامل، لأن أهمسا انبثقت
وعملت في المترابطات ذاتها مثل حياته الدينية والسياسية والشخصية.
وحدها الممارسة يمكن أن تحدد قيمة هذا التطبيق، "عندما يعمل وسط أجواء
متعارضة وعلى الرغم منها". وقد نصح غاندي النقَّاد برصد نتائج تجاربه
بدلاً من تحليل نظرياته.
... اللاعنف ليس فضيلة منعزلة يمارسها الفرد من أجل سلامه وخلاصه
الأخير، بل قاعدة سلوك للمجتمع... من أجل ممارسة اللاعنف في المسائل
الدنيوية يجب معرفة قيمته الحقيقية. وهذا يعني إحضار السماء إلى
الأرض... ولذا أرى أنه من الخطأ قصر استخدام اللاعنف على قاطني الكهوف
[النسَّاك] ومن أجل اكتساب فضيلة تتيح احتلال موقع متميز في العالم
الآخر. فالفضيلة بمجملها تكفُّ عن كونها فضيلة إن اُستُخدِمت بلا غاية
في كل سلوك في الحياة.
لقد نمت مشايعة غاندي للاعنف من خلال تجربته التي كانت السبيل الوحيد
لحلِّ معضلة الصراع بشكل دائم. كان يدرك أن العنف ليس سوى تظاهر بالحل،
ويُنبت بذور المرارة والعداوة التي سوف تُفاقم الوضع سوءًا في نهاية
المطاف.
لكي نفهم الأهمسا يجب أن نمارسها. فلم تكن المجاهرة بالإيمان باللاعنف
كافيًا بالنسبة لغاندي
إذا لم يمارس المرء اللاعنف في علاقاته الشخصية مع الآخرين فإنه يرتكب
خطأ فادحًا. فاللاعنف، مثل المحبة، يجب أن يبدأ في البيت.
اللاعنف ليس شأنًا بسيطًا على الإطلاق، وغاندي لم يصرح بذلك أبدًا.
فباعتباره قاعدة نظام، "مدوَّنة سلوك"، يتطلّب اللاعنف الحقيقي
احتراسًا ويقظة دائمتين طوال حياة المرء، لكونه يتضمن أقولاً وأفكارًا
إضافة إلى الأفعال.
أهمسا ليست فكرة جاهزة مُعَدَّة للإعلان. إن عدم التسبب في أذى أي كائن
حي هو بلا ريب جزء من أهمسا، لكنه التعبير الأدنى عنها. فمبدأ أهمسا
يتأذى بكل فكرة شريرة، وبكل تهور مفرط، وبالكذب، وبالكراهية، وبتمنِّي
السوء للآخرين. كما أنه يُنتهك أيضًا باستحواذنا على ما يحتاجه العالم.
يمكن بسهولة إدراك أن ممارسة أهمسا هي قضية لا يُستهان بها. فمعايشتها
على نحو ملائم سيبدل نسيج الحياة. وتعلم أهمسا الحقَّة قد يستغرق حياة
المرء بكاملها. فغاندي لا يتحدث عن تحول آني أو لهو، وإنما عن تغيير
وجه العالم، وهو جادّ فيما يقول.
اللاعنف في شرطه الدينامي يعني معاناة واعية. إنه لا يعني خنوعًا
لمشيئة فاعل الشر، بل تحريض كامل الروح ضد إرادة المستبد. وفي العمل
وفق قانون وجودنا هذا بوسع فرد واحد تحدي السلطة الكلية لإمبراطورية
غاشمة من أجل الحفاظ على شرفه وديانته وروحه، ووضع أساس انهيار تلك
الإمبراطورية أو انبعاثها من جديد.
أهمسا ليست خنوعًا؛ هذا سوء فهم شائع. أهمسا تواجه الخصم بلطف وعطف،
لكن بعزم أكيد على الصمود مهما كانت العقبات. فخلافًا للعنف، أهمسا
مرهفة ونافذة بشفافية، لذا لا نكون على الأرجح واعين لعملها.
اللاعنف يشبه الراديوم في فعله. فحقن مقدار متناهي الصغر من الراديوم
في ورم خبيث يعمل بصمت وبلا انقطاع على تحويل كامل كتلة النسيج المعتل
إلى كتلة معافاة. وعلى نحو مشابه، قليل من اللاعنف الحقيقي يعمل بأسلوب
هادئ ولطيف ولا مرئي ويكون خميرة للمجتمع برمته.
ترجمة: غياث جازي
*** *** ***