|
أسطورة
منذ القديم، تاق الإنسان إلى الحقيقة. وكان ذلك التوق ناجمًا عن دافع داخلي نحو تحقيق المعرفة والسعادة، وإلى يومنا هذا، مايزال الإنسان باحثًا عن حقيقة وجوده، منقبًا عن أسرار الطبيعة والكون، طارحًا على نفسه تلك الأسئلة الأولية التي تلخص الوجود وغايته: من أنا، كيف وجدت، ولماذا؟! لئن كان الإنسان لايستطيع اليوم إلا أن يتمرد ويثور، معلنًا رفضه لكل تفكير منغلق، لا ينفتح في محاولة مخلصة لمعرفة الحقيقة، فإنه في غمرة بحوثه وفي خضم كثيف ومتشابك من الأسئلة والأجوبة، لايستطيع أيضًا التخلص من إلحاح سؤال يتصعّد من أعماقه فارضًا نفسه! يتعلق هذا السؤال بشكل مباشر بقدرتنا على المعرفة... معرفة الحقيقة.
تعد أساطير الخلق والتكوين من بواكير النصوص الفنية الأدبية التي وصلت إلينا، والتي كانت مبنية على فكرة مفادها أن ما نراه لم يكن موجودًا، ولذا لا بد من مُوجد. ولو كان الوضع غير ذلك لما كان ثمة ما يدعو لكل هذا التفكير الفلسفي الذي غايته تقديم تفسير لكل ما نعاينه، أو نراه، أو نحس به، أو ندركه. فأساطير الخلق والتكوين تجيب عن السؤال الجوهري: ما هو أصل الكون ونظامه؟ وهي تقدم لنا الآلهة موجودة وفاعلة، ولكنها تغفل الحديث عن المرحلة التي سبقت وجود الآلهة وتكتفي بالقول:
بينما في الأعالي
لم تُبْدِ الشعوب القديمة، في غالبيتها، أي اهتمام البتة بالتأريخ لأحداث ماضيها تأريخًا دقيقًا؛ وبعضها حتى لم يستعمل، للدلالة على العصور السحيقة القِدَم على الأقل، غير أعداد رمزية، لا يجوز أخذُها على محمل التواريخ بالمعنى العادي والحرفي للكلمة من غير ارتكاب غلط فادح. أما الصينيون فهُم، من هذا القبيل، استثناء لافت للنظر إلى حدٍّ ما: فلعلهم وحدهم الشعب الذي أوْلى التأريخ لحولياته عنايةً دائمةً منذ أصل منقوله نفسه، وذلك بواسطة أرصاد فلكية دقيقة تتضمن وصفًا لحالة السماء لحظة وقوع الأحداث التي احتفظ بذكراها. في الإمكان إذن الجزمُ فيما يخص الصين وتاريخها القديم أكثر مما يمكن في العديد من الحالات الأخرى؛ وبذا نعلم أن أصل المنقول tradition هذا الذي تصح تسميته "صينيًّا" حصرًا يعود إلى حوالى 3700 سنة قبل العصر المسيحي. وتلك الفترة نفسها، بمصادفة طريفة إلى حدٍّ ما، تتطابق أيضًا مع بداية العصر العبراني، وإنْ يكن من الصعب، فيما يخص هذا الأخير، تعيين الحدث الذي يتطابق في الواقع مع نقطة الانطلاق هذه.
خلقَ الله الإنسان وأعاد الإنسان خلق الله. الله-الخالق ما يزال برسم المعرفة، غير مترفعٍ عنها، يسمى الحياة، يسمى الطبيعة، يسمى الكون، يسمى الله؛ المهم أنه وقوانينه واحدٌ لاخلاف فيه، وهو، فيما يتعلق بموضوعنا، حيادي، وحياده هذا يُسمى العدالة الإلهية؛ أما الله-المخلوق فكامل "معرفيًا"، لا يأخذ ولا يعطي إلا ما شاء وحده. لا يمكن التواصل معه إلا عبر الخضوع لمنظومة كماله المفترض. هو الجبار بانغلاقه على كماله كشيء منفصل عن الكون، متسيد عليه وعلى الحياة التي تحتويه، منفصل عن الحياة ذاتها حتى ليبدو عدوًا لها. أناني وطفولي كتعبير منطقي عن الوعي الذي ابتكره. ولذلك فإن عدالته عدالة متحيزة لأنها قائمة أصلاً على اختيار، والاختيار رغائبي بمعنى أنه يميز بين كائن وكائن حسب قرب هذا الكائن أو بعده عن رغبته حتى لو كانت هذه الرغبة شيئًا شديد "الإجلال" كالإيمان مثلاً؛ كما أنها عدالة مزاجية تجد تمثيلها الأفضل في قصة أيوب محور هذا المقال؛ أي أنها عدالة المستبد المانح الآخذ وفق قوانينه وحده، إذ أن الله-المخلوق يمثل صورة عصره، هذا العصر الموسوم بوضوح شديد، حتى عهد قريب على الأقل حيث بدأت تظهر بوادر انحسار، بالاستبداد. |
|
|