تجليات التراجيدي في أساطير الخلق والتكوين في بلاد الرافدين

 

عبد الرحمن العابو[1]

 

تعد أساطير الخلق والتكوين من بواكير النصوص الفنية الأدبية التي وصلت إلينا، والتي كانت مبنية على فكرة مفادها أن ما نراه لم يكن موجودًا، ولذا لا بد من مُوجد. ولو كان الوضع غير ذلك لما كان ثمة ما يدعو لكل هذا التفكير الفلسفي الذي غايته تقديم تفسير لكل ما نعاينه، أو نراه، أو نحس به، أو ندركه. فأساطير الخلق والتكوين تجيب عن السؤال الجوهري: ما هو أصل الكون ونظامه؟ وهي تقدم لنا الآلهة موجودة وفاعلة، ولكنها تغفل الحديث عن المرحلة التي سبقت وجود الآلهة وتكتفي بالقول:

بينما في الأعالي
لم تكن السماء قد سميت بعد
والأرض اليابسة في الأسفل
لم يكن أطلق عليها اسم
وحدهما أبسو الأول
والدهم
والأم تيامات، والدتهم جميعًا
كانا معًا؟ يمزجان مياههما[2].

وإذًا فأساطير الخلق والتكوين في بلاد الرافدين تتحدث عن أصل الكون، وكيف ظهر هذا الكون إلى الوجود، وعن أصل كل الأشياء، وعلاقة بعضها ببعضها الآخر. يقول فراس السواح:

تتخذ أساطير الخلق والتكوين مكان المركز والبؤرة في أي منظومة ميثولوجية، فهي التي تتحدث عن أصل الكون وعن أصل الآلهة وأنسابها ومراتبها[3].

هذه القصيدة البدئية هي بمثابة الميتوس لأصول الأشياء كلها، فهي تروي قصة ولادة الآلهة وتحديد الأدوار: أدوار الآلهة، وقصة التكوين وإطلاق عناصر الكون على مساراتها وفق نظام أقره الإله مردوخ، كما تروي قصة خلق البشر ووتقرير مصيرهم ودورهم كبشر[4]. وقد كانت هذه الأساطير تتلى وتردد أيام الاحتفالات السنوية، ولا سيما احتفالات الربيع، إذ يعتقد أن الكون يتجدد كل سنة.

لقد حظيت أسطورة عندما في الأعالي بغنى خاص، كما تبوأت في العبادة مركزًا عاليًا، ففي مطلع كل عام كان الكاهن الأكبر للإيزاجيل يلقيها من أولها إلى آخرها كيما يساعد الاستحضار المنتصر لخلق العالم على تجديد الربيع في كل عام[5].

لقد وصلت إلينا أسطورة الخلق والتكوين مكتوبة على سبعة ألواح تتضمن 900 سطر، سجل فيها مؤلفها مجمل الأفكار والمعتقدات الخاصة بخلق الكون. ويتلخص مضمون الأسطورة بما يلي:

في البداية كانت المياه الأولى، وكان الإله أبسو يشكل مياه العمق العذبة، والإلهة تيامات تشكل المياه المالحة. ومن اقتران المياه العذبة بالمالحة ولد إلهان: "آنو" السماء، و"كي" الأرض، ومن زواج الإله آنو بالإلهة كي ولد الإله إنليل "الهواء" الذي قرر أن يباعد بين أبويه وأن يظل في الوسط بينهما، فأبعد والده "آنو" إلى فوق ليشكل السماء وأمه إلى تحت لتشكل الأرض. وظل بينهما.

أنجب الإله إنليل نانا "إله القمر" كي يضيء الظلام الدامس الذي بدوره أنجب أوتو "إله الشمس". عندما تكاثرت الآلهة وأصبح عددها كبيرًا أزعجت الجد أبسو، الذي لم يعد يستطيع الراحة، فأراد القضاء عليها، ونسج خطة محكمة وأطلع زوجته عليها. ولكن الأم، وبدافع من عاطفتها، لم توافق على الخطة بل سربتها إلى الأبناء والأحفاد.

اجتمع الأولاد واستطاعوا بمساعدة إيا "إله الحكمة" أن يجدوا خطة كانت نتيجتها التخلص من الجد. بعد ذلك تزوج إله الحكمة الإلهة دميكنا وأنجب مردوخ الذي سيقع على عاتقه أمر إعادة النظام إلى الكون الذي عمت فيه الفوضى. ينجح مردوخ بمهمته بعد أن يخوض صراعات كثيرة، ويستطيع القضاء على الإلهة تيامات وما تحمل من فوضى وشر، ويقوم بتنظيم الكون بعد أن يحصل على الألقاب الإلهية والصلاحيات الكاملة.

أما أسطورة أنزو وسرقة ألواح القدر فإنها تتشابه في مضمونها تشابهًا كبيرًا مع قصة الخليقة. وهي تتحدث عن الصراع بين آلهة الخير وآلهة الشر، فتبين أن غاية هذا الصراع هي القضاء على كل ما هو شرير وفوضوي وانتصار قوى الخير والنظام. تبدأ الأسطورة بالحديث عن أن الآلهة سمعت بولادة آنزو الشرير واستغربت، لذلك تشير على الإله إيا أن يأخذه ويضعه في خدمته. لكن آنزو الشرير يراقب سيده ويحسده على ما هو عليه من نِعَم. وبنتيجة الحسد يقرر التخلص من سيده، والاستيلاء على ألواح القدر والتاج الملكي ليحصل على المعلومات التي تمنح الإله إيا الحكمة والمعرفة والقوة والسلطة. وحين يقوم بتنفيذ ما قرر تجزع الآلهة لسرقة الألواح التي وقعت بيد شرير يمكن أن يؤدي استخدامه لها إلى كارثة كونية. تجتمع الآلهة وتتشاور فتهتدي إلى حل هو أن يذهب أحد الآلهة فيقضي على أنزو ويعيد الألواح. ولكن الآلهة، التي ذهبت لمنازلة أنزو، خافت وعادت. عند ذلك تختار الآلهة ننورتا (مردوخ) الذي يقضي على أنزو بمساعدة إله الحكمة، ويستعيد الألواح، ويعيدها إلى مركز العبادة، ويحصل ننورتا على الألقاب والصلاحيات الإلهية فيبدأ بتنظيم الكون، وإشاعة النظام بدلاً من الفوضى.

وتتحدث أسطورة ولادة الآلهة ومدينة دونو عن ولادة الآلهة، وهي مكتوبة على لوحين يشكلان حوالي 100 سطر، وتذكر أن هناك إلهين يملكان محراثًا. ومن ضربة محراث في الأرض خلق البحر، ومن ضربة ثانية خلق إله الحيوانات. وبعد توالي عملية الخلق وكثرة المخلوقات أنشئت مدينة دونو لتسكن فيها هذه المخلوقات. وبعد أن تكتمل عملية الخلق، ويسود النظام بدلاً من الفوضى يستولي الابن أماكاندو على الإمارة، ويتزوج أخته، وينجب أولادًا سيقومون فيما بعد برعاية الماشية وتربيتها. عند ذلك يحل النظام بدل الفوضى. ويقوم أماكاندو بتنظيم كل أمور الكون، ويوزع الأدوار فيه. وهي في الحقيقة تتحدث عن خلق المدن والاستقرار والتخصيب والرعاية وبداية الزراعة، وتشير للمرة الأولى إلى عادات كثيرة كعادة دفن الموتى على سبيل المثال.

إننا، من خلال قراءتنا لنصوص الخلق والتكوين، سنحاول تتبع الظاهرة التراجيدية، ونتبيَن كيف تتجلى في هذه النصوص؟

التراجيدي في أساطير الخلق في الشرق القديم:

حين يصل الإنسان إلى مرحلة الوعي يكون قد امتلك القدرة على الإحساس بذاته، وأصبح مدركًا للواقع المحيط به. وحين يصل إلى مرحلة الوعي والإدراك تنتابه مجموعة من الأسئلة عن كل ما يحيط به من أشياء.

من هذا المنطق كان إنسان بلاد الرافدين يحمل عشرات الأسئلة عن أشياء تحيط به، ويشعر بها، ولكن لا يعرف ماهيتها. فما بالنا بقضية كقضية خلق الكون ذاته أصله، نظامه، طبيعته؛ إنها أسئلة تحتاج إلى أجوبة.

من أجل ذلك وجد إنسان بلاد الرافدين في نفسه رغبة في إبداع أساطير خاصة به تعبر عن الذهنية التي كان يتمتع بها، وتجيب عن قلق أثاره الكثير من الأسئلة، فعبر من خلال نصوص الأساطير عن أفكاره الخاصة فيما يتعلق بالكون ونشأته، ووصل به البحث إلى التفكير بقضية خلق الإنسان ذاته.

هذه هي الأفكار التي حاولت الأديان أن تقدم أجوبة لها فيما بعد. ولأن إنسان بلاد الرافدين لم يفهم الآلية التي تتم من خلالها عملية الخلق أقر أنها من اختصاص الآلهة، وأن الإنسان لا يستطيع أن يلعب دورًا فيها.

إننا أمام محاولة كانت الغاية منها الوصول إلى أبعد تفسير ممكن عن ماهية الخلق ذاتها. وقد صاغ إنسان بلاد الرافدين أفكاره في نصوص أدبية جسدت توقه إلى تلك المعرفة. ففي اللحظة التي بدأ فيها إنسان بلاد الرافدين يتشكل معرفيًا وثقافيًا كانت أساطير الخلق تعبر بشكل واضح عن هذا التشكل، بل يمكننا الذهاب أبعد من ذلك حين نقول إن هذا التشكل كان موضوعها الأساسي. فلأول مرة نرى الميل الواضح إلى تجميع الآلهة في إله واحد، ومنحه الصلاحيات كلها، وهو الإله مردوخ؛ وإلى ذلك ذهبت الديانات الكتابية الكبرى فيما بعد. وأعني بذلك التوجه نحو عقيدة التوحيد.

إن خلق إنسان بلاد الرافدين لأساطيره، ولا سيما تلك التي صيغت قصصًا تحمل إيحاء وطاقة مستمرة، جعل النفس الإنسانية في حالة تكيف مع الخوف الذي في داخلها. فالأسطورة لم تكتف بالتعبير عن الموت وحسب، بل عبرت أيضًا عن الانبعاث. ولأن الماء هو العنصر المساعد في عملية بعث الحياة قدَّس إنسان بلاد الرافدين القوة السحرية التي يتمتع بها الماء.

لم ينتج إنسان بلاد الرافدين أساطيره الخاصة إلا حينما وصل إلى مرحلة الوعي التي استطاع أن يعبر من خلالها عن فكره الذاتي، بل إنه جعل الموت ذاته مقابلاً للحياة لا مناقضًا لها، ولذا فإن الموت هو الوجه الآخر للحياة. وقد سيطر مفهوم التراجيدي على مصير الإنسان حين يُخلق وحين يموت - إن صراعه مع الحياة صراع تراجيدي. لقد عبر إنسان بلاد الرافدين عن مجمل المفاهيم والمعتقدات التي كان يؤمن بها، وبرز هذا الإيمان حين راهن على الحياة وتجددها للتخلص من الموت وآلامه. بل ذهب إلى أكثر من ذلك حين نزع عن الموت كل المظاهر السلبية والعبثية، وحوله إلى حالة من السعي للحصول على حياة جديدة، جميلة ومستمرة. ففي أساطير الخلق والتكوين نجد الصراعات القائمة بين آلهة النظام وآلهة الفوضى، كما أن مجمل الفكر المطروح في أساطير الخلق والتكوين قائم على تقديم إجابات لأسئلة كانت تراود ذهن الإنسان الرافدي القديم، وذلك حين حاولت أن تقدم له تفسيرًا لماهية الحياة وكنهها.

إننا في أساطير الخلق والتكوين أمام عالم مصور أسقط عليه الإنسان ما كان يدركه لأنه لا يستطيع أن يتصور أن بإمكان الكون أن يوجد ويستمر دون ذكر وأنثى على الرغم من الإشكالية القائمة في الأساطير، ومحورها أن الحمل الأول لم يكن نتيجة لاتصال ذكر بأنثى وإنما عن طريق الحمل والتناسل الذاتي، فقد كان الإله "نمو" يمثل الذكر والأنثى معًا على الرغم من أنه كبير الآلهة أيضًا، إلا أن الولادات التالية، بما فيها ولادات الآلهة، تمت عن طريق الاتصال الجنسي المعروف.

تبدأ نصوص أساطير الخلق والتكوين بالأسلوب السردي، وهذا الأسلوب يجعلنا أمام حكاية تروى لنا ولذا علينا الإنصات لنستطيع فهمها والتواصل معها.

بينما في الأعالي
لم تكن السماء قد سميت بعد
والأرض اليابسة في الأسفل
لم يكن أطلق عليها أي اسم
وحدهما أبسو[6] الأول
والدهم
والأم تيامات[7]
والدتهم جميعًا
كانا معًا يمزجان
مياههما
فلا منابت القصب كانت قد تكتلت بعد
ولا المقاصب كانت فيها مميزة
آنذاك... لم يكن أي من الآلهة
قد ظهر بعد
ولم تكن قد أطلقت عليهم أسماء
ولم تكن مصائرهم قد قررت بعد[8].

إنه استهلال يريد أن يبين لنا الحالة التي كانت عليها الآلهة قبل بداية الخلق لكي تشرح لنا الأسطورة، فيما بعد، كيف تم الخلق. وهذا الاستهلال مناسب لقصة مطلوبٍ منها أن تقدم لنا أجوبة عن عدد من الأسئلة التي كانت تتفاعل في صدر مبدعها أو مبدعيها الأوائل. وبينما يسير الاستهلال ببطء وهدوء شديدين يبرز الصراع فجأة على السطح ويتقدم إلى الواجهة، فالآلهة منزعجة من المخلوقات التي خلقتها، والتي تسبب الضجيج.

هؤلاء الآلهة إخوته. حين
شكلوا تجمعًا
أثاروا قلق تيامات
وحين أحدثوا الجلبة
وحين جعلوا داخل تيامات يضطرب
أزعجوا بألعابهم
قلب المسكن الإلهي[9].

ولأن المخلوقات أزعجت الآلهة قررت الآلهة إفناءها وإلغاء نشاطها حتى تتمكن من العيش بهدوء وحرية وسعادة، لذلك:

فتح أبسو فمه
رفع صوته
وقال لتيامات
تصرفاتهم تزعجني
وأنا لا أرتاح نهارًا
وفي الليل لا أنام
أريد إفناءهم
وإلغاء نشاطاتهم
لكي يستعاد الهدوء
ولكي نتمكن نحن من النوم[10].

وفي اللحظة التراجيدية التي تقرر فيها الآلهة إفناء البشر يشتد الصراع بين الآلهة، بل يرتفع صوت العتاب بين الآلهة ذاتها، فتوجه تيامات اللوم إلى أبسو قائلة له:

لماذا تريد أن نهدم بأنفسنا
ما نحن صنعناه
نعم تصرفاتهم بغيضة جدًا
فلنتحل بالصبر والتسامح[11].

الآلهة إذًا تدخل في حوار طويل، وهو سمة من سمات أساطير الخلق والتكوين في بلاد الرافدين. هذا الحوار يدور بين شخصيات كثيرة: الأم، الأب، الابن... لكن يبقى دور الأب هو الدور الرئيسي، كما أن الابن يقف إلى جانب الأب ويوافقه في كل القرارات التي يتخذها، ولاسيما قرار إفناء المخلوقات التي تزعجه، ويظهر ذلك من قول الابن:

أَخْمِدْ إذن يا أبي
هذا النشاط الكثير الشغب،
لكي ترتاح نهارًا،
وفي الليل لكي تنام[12]

الصراع القائم في أساطير الخلق بين الآلهة هو في الحقيقة صراع بين آلهة النظام وآلهة الفوضى، ومن المنطق أن تهزم آلهة الفوضى لأن الكون لا يمكن أن يستمر، وينمو، ويعاش فيه إن لم يكن خاضعًا للنظام. يتجلى ذلك بشكل واضح في أسطورة ولادة الآلهة ومدينة دونو، حيث يكون كل إله من الآلهة مكلفًا بتنظيم قسم من أقسام الحياة، وخلق كل ما تحتاجه من أدوات ونباتات...الخ. ويظهر في أساطير الخلق والتكوين أن الحوار المجسد في النصوص يصل إلى نتيجة مفادها "على المخلوقات التي أفسدت النظام الموضوع من قبل الآلهة تحمل العاقبة وهي الفناء". في هذه اللحظة يتدخل الإله إيا، إله الحكمة والمعرفة، ويقوم بفضح السر للأبناء "المخلوقات"، ويخبرهم بقرار الآلهة، وأن عليهم أخذ حذرهم من نيات الآلهة. لكن الأبناء لا يكتفون بالحذر وحسب بل يأخذون قرارًا بقتل الإله الأب، والنص يجسد كيف أن الإله إيا أفشى السر:

إلا أن كل ما أعده أبسو
خلال اجتماعهما
تم نقله
للآلهة أبنائهما
ولدى اطلاعهم على ذلك
اهتاج هؤلاء الآلهة
.........
.........
إيا الذي يتفهم كل شيء
كشف مخططهم[13]

وحين يستقر الأمر للإله إيا، بعد أن ينتهي من القضاء على أبسو ويتخلص من الشر، يعود إلى مقره ليستقر مع زوجه. وبذلك يكون انتصار إيا هو انتصار النظام على الفوضى. وقد كان طبيعيًا أن ينقلنا النص بعد ذلك إلى الحديث عن ولادة الإله مردوخ الذي ستناط به فيما بعد كل الأمور المتعلقة بتنظيم الكون وتدبيره وتوزيع الأدوار فيه. ولأنه معد لدور كهذا فمن المفترض أن يتمتع الإله مردوخ بصفات خاصة ومميزة. فهو:

لم يرضع قط
سوى الأثداء الإلهية
والمرضعة التي ربته ملأته بحيوية فائقة
طبيعته كانت طافحة
ونظرته ساطعة
كان رجلاً كاملاً منذ ولادته
وبكامل قوته منذ البداية[14]

وهو ذات الوصف الذي ينطبق على الإله نينورتا في أسطورة أنزو، حيث للإله نينورتا مواصفات خاصة:

إنه هو ابن ملك الكون المجيد وحبيب مامي
القوي الذي سأنشده بِكْرٌ إنليل
إنه نينورتا المجيد حبيب ماما
إنه من ذرية الإيكور الأول بين ستمئة إله وسند إينونو
إني أريد أن أبيح بقدرته الفائقة[15]

والبطل، إضافة إلى كماله وجماله وجلاله، يحظى بإعجاب الجد "آنو" الذي يهديه الرياح الأربع، مما يثير غضب الإلهة تيامات، ويتفاقم غضبها حين يتلاعب أولاده بعواطفها، ويطالبونها بالقضاء على مردوخ. وهو موقف إنساني يجسد الغيرة والحسد الملازمين للشخصية الإنسانية.

وحين أضمروا الشر
في قلوبهم
توجهوا لأنفسهم
إلى تيامات أمهم قائلين
عندما تم القضاء على أبسو
لم تدافعي عنه
وبقيت خرساء

.........
.........
أبسو قرينك
لم يعد فيك
ولا مومو الذي قيد
وهكذا بقيت وحدك
ألست إذًا أمنا
ونحن الذين لا نستريح قط
أنت: ألم تعودي تحبيننا إذن؟
خلصينا من هذا النير المستمر
لكي نتمكن أخيرًا من النوم[16]

وحين تسمع تيامت خطاب أولادها ويحوز الخطاب رضاها تردد:

بما أنكم قررتم ذلك مجتمعين
فلنصنع العواصف[17]

ولكن مجابهة الإله مردوخ لا يمكن أن تتم هكذا ببساطة، بل لا بد من الإعداد والاستعداد لها وتأمين كل ما تحتاجه المعركة، وتجهيز القوة اللازمة؛ فمردوخ ليس شيئًا عاديًا فهو يتمتع بقوة خارقة - الآلهة راضية عنه –، وهو يشبه الإله نينورتا في أسطورة آنزو (يمكن أن يكون الإله نينورتا والإله مردوخ شيئًا واحدًا).

هذه المجابهة التي هي عبارة عن صراع بين قوة الشر وقوة الخير، الفوضى والنظام، كما أكدنا سابقًا، هي ذروة التوتر في النص، والنتائج التي ستفضي إليها المجابهة هي التي سترسم للكون نظامه، وتصويرها سيرسم للنص طريقة سيره. لقد كان من الطبيعي وضع شخصية تيامات بكل ما تحمل من صفات البؤس والشقاء والبلايا في موضع مناقض لشخصية الإله مردوخ التي تقف على الطرف الآخر حاملةً كل قيم الخير والنظام والمحبة.

كما أن جعل تيامات تحمل كل هذا القبح، وهذه القيم السلبية جعلنا نشعر بالقرف والاشمئزاز والنفور منها، وهذا سيهيئنا لنقف موقف المتعاطف مع مردوخ الذي يمثل كل قيم الخير والجمال والنبل، وهي قيم تشكل لنا كمتلقين قيمًا جمالية، ليس المطلوب معرفتها والتعاطف معها وحسب وإنما تبنيها أيضًا، والحض على ممارستها كي نصل إلى مجتمع أفضل وأجمل.

لقد كان وصف الصراع والجو المحيط به والاستعداد له أمرًا تحضيريًا لنا كي ندرك قيم الجمال التي يقاتل من أجلها البطل، وهي قيم سامية في مواجهة قيم الشر البشعة التي لا تترك أسلوبًا أو طريقًا إلا وتتبعه. لذا كان واجبًا علينا أن نستعد، فالقوى السلبية ليست جامدة تنتظر القوى الإيجابية كي تأتي وتقضي عليها، بل هي في حالة استعداد دائم لمواجهتها.

والأم الهور
التي شكلت كل شيء
أعدت لنفسها أسلحة لا تقاوم
إذ ولدت تنينات عملاقة
ذات أسنان حادة
وأنياب لا ترحم
ملأت أجسادها بالسم عوضًا عن الدم
كما ولدت حيات شرسة
ألبستها ثوب الرعب
وحملتها بالتألق الخارق للطبيعة
من يراها
تنهار قواه[18]

ومرة أخرى يكتشف إله الحكمة والمعرفة ما تضمره تيامات، فيتوجه إلى والده:

أي أبي
مولدتنا تيامات
وجهت نحونا حقدها
عندما عقدت مجلسها
أزبدت غضبًا[19]

ويعدد لوالده أنشار كل ما قامت به تيامات من استعداد، وما صنعت من قوة تريد من خلالها الانتقام والقضاء على البطل مردوخ. وتكرار النص لكل ما صنعت تيامات يؤكد للمتلقي ضرورة التنبه بكل حواسه كي يأخذ موقفًا من الشر وما يمثله من قيمة سلبية. إن إدانة تيامت والقائد الذي عينته "كينغو" والحكم عليهما بالموت ليس قرارًا موجهًا إليهما وحسب، بل هو موجه أيضًا لكل قوى الشر والظلام والفوضى، لذا يبدو تجسيد النص للمعركة وتصويرها وكأننا أمام مشهد واقعي. كل ذلك يجعلنا نقف أمام النص "كفكرة" لا متعاطفين فقط بل منفعلين وفاعلين حين تمتلكنا الرغبة في أن نقوم بمساعدة البطل مردوخ كي ينتصر على تيامت ليكون انتصاره انتصارًا لنا. وهو موقف مشابه لموقف نينورتا حين يقضي على آنزو الذي سرق ألواح القدر وحاول أن يعبث بالحياة.

عندما تعرف أنشار على هذه القضية الخطيرة
ضرب بكفه على فخذه
وعض على شفتيه
وكان داخله غير مرتاح[20]

يأخذ الإله أنشار قرارًا بتكليف الإله إيا كي يواجه تيامات ويقضي عليها، وفي أسطورة آنزو يكلف آنو شاره ابن عشتار بالقضاء على آنزو. لكن إيا فشل في الامتحان فيكلف أنشار من جديد الإله آنو الذي يخاف ويتراجع ولا يقوى على مواجهة تيامت. وهو موقف يجسد دخائل النفس الإنسانية، وهو المنولوج الداخلي لكل ما هو إنساني. لكن حين يفشل المقاتلون العاديون وحين يتعاظم الشر لابد أن يبرز البطل المعول عليه إنقاذ كل قيم الخير والجمال عارضًا نفسه على الإله القائد طالبًا تكليفه القضاء على الشر ومن يمثله.

أي مردوك
استمع إلى نصيحة والدك
أنت ولدي
الذي تفرح به نفسي
تقدم نحو أنشار
مقتربًا منه كثيرًا وأمامه
أعلن عن نفسك وأنت واقف
وسوف يرتاح لرؤيتك[21]

والبطل محكوم بالنصر لا لأنه الأقوى، ولا لأن الآلهة تقف معه فقط، بل لأنه أيضًا يحمل المثال الجمالي والخلقي المطلوب تمثله. فإن سقط المثال الجمالي وانتصرت تيامات بكل ما تمثل من فوضى وكراهية فسد الكون وتنظيمه. ولذا كان تجسيد الصراع التراجيدي بما يحمل من حدة أمرًا منطقيًا ومألوفًا ومطلوبًا وقد أضفى وصف المعركة، بالشكل الذي قدمت به، واقعًا مشابهًا لما نعيشه ونشعر به ونعرفه. كما أضفى تصوير المونولوج الداخلي الحاصل في داخل البطل شيئًا من الإنسانية الواقعية المثيرة للشفقة تجاه البطل الذي أحببناه وتعاطفنا معه أمام صورة الشر البشعة والمجهزة للقضاء على أحلامنا. فالذات الإنسانية عندما تواجه الخطر والمصير التراجيدي بما يحمل من ألم وأمل يمكن أن تتردد، وتبدأ بمناقشة الموقف الذي هي فيه، بل إنها، أكثر من ذلك، تفكر بالعودة عما أقدمت عليه:

عند ذلك اقترب الإله
ودرس نوايا تيامات
وكينغو قرينها
محاولاً كشف خططهما
ولكن لدى اقترابه منهما
اضطرب تفكيره
وتشتت إرادته
وارتبكت قدرته على التصرف
كذلك الآلهة حلفاؤه
وأنصاره
حين شهدوا وضع بطلهم وزعيمهم
تشوشت عقولهم[22]

ولأن الإله مردوخ قبل المنازلة وقبل خوض غمار المعركة كان عليه أن يفكر بالثمن الذي يجب أن يقبضه بعد أن ينتصر، فطالب الآلهة:

أعلن لي شخصيًا
إذا كان علي
الانتقام لكم
والإطاحة بتيامات
لإنقاذكم
اعقدو مجلسًا
وامنحوني سلطةً فائقة[23]

وهو المطلب ذاته الذي طالب به نينورتا حين قرر القضاء على آنزو السارق لألواح القدر، وقد استجابت الآلهة لمطلبه حين أدركت أنه الوحيد القادر على تخليصها من تيامات وكل ما تحمله من شر. فلكي تنعم الآلهة بالهدوء عليها دفع الثمن.

أقاموا من أجله
المنصة الملكية
ومقابل آبائه
استقر عليها كمليك
وحدك - أعلنوا أمامه - أنت الأسمى
بين الآلهة العظام
قدرك لا مثيل له
وسائدة أوامرك
أي مردوك وحدك أنت الأسمى
بين الآلهة العظام[24]

عقب هذا الإعلان يدخل مردوخ المعركة وينتصر على تيامات الحاملة لكل صفات الشر ولكل القيم السلبية، ليدخل هذا النصر الفرح على قلب الآلهة، وهو الفرح الذي ستجسده أساطير الخلق والتكوين وكأنه فرحنا.

إن النص ينتهي هذه النهاية المفرحة لأن قيم الخير والعدالة والنظام التي يجسدها الإله مردوخ هي التي انتصرت. لقد قام مردوخ بالقضاء على تيامات وتخليصنا منها – كما قام بتنظيم الكون. وهو موقف مفرح لنا تجسده أساطير الخلق والتكوين حين تجعل من البطل الذي حمل آمالنا وآلامنا يتمتع في النهاية بالقدرة على إعلاء قيم الجمال والخير وكل القيم النبيلة، مع تذكيرنا بأن على من يطلب هذه القيم بذل الكثير من الجهد ومواجهة الكثير من الصعاب والمخاطر. وعندما ينتهي الإله من تنظيم الكون تبدأ تراجيديا جديدة هي تراجيديا خلق البشر المكتوب عليهم خدمة الآلهة:

سوف أعمد إلى تكثيف دم
وتشكيل هيكل
وبذلك سوف أحدث نموذجًا أوليًا
سوق تطلق عليه تسمية بشري
هذا النموذج الأولي هذا البشري
أريد خلقه
لكي تفرض عليه سخرة الآلهة
ولكي يتوقفوا هم عن العمل للراحة
ومن جديد
أريد تحسين وجودهم[25]

وبذلك تكتمل عملية الخلق والتكوين، لتبدأ دورة جديدة للحياة، كما يمثلها النص، حين يقوم بتعداد الأدوار التي على الآلهة والبشر أن يقوموا بها. هذه الدورة الجديدة للحياة جعلت الإنسان يدور في حلقة متكررة موت، حياة، موت، حياة... وهو أمر مهد فيما بعد لظهور عقيدة الانبعاث بعد الموت. كما مهد الدوران في حلقة مفرغة لظهور تأملات جديدة لعقيدة الخلق والموت، وكان ذلك عاملاً مهمًا من عوامل تجدد تراجيديا الإنسان والعودة إلى البداية. فأحداث التراجيدي كانت تتجدد مع كل دورة متجددة للحياة.

ولأن دورة الخلق متجددة ومتكررة، وهي حاصلة في أماكن متعددة لا مكان واحد، كان من مميزات نصوص الخلق والتكوين غياب تسمية المكان الذي تجري فيه أحداث الأسطورة. كما تؤكد الأساطير عملية التكامل بين كل المخلوقات والخالق، حيث تقوم كل مجموعة بإيجاد الأعمال للمجموعة التي تشرف عليها.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] ماجستير في الآداب، أمين جامعة إيبلا.

[2] ديوان الأساطير، قاسم الشواف وأدونيس، الكتاب الثاني، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط1، 1996، ص 16.

[3] فراس السواح، مدخل إلى نصوص الشرق القديم، دار علاء الدين، دمشق، ط1، 1997، ص 10.

[4] قاسم الشواف، ديوان الأساطير، الكتاب الثاني، ص 114.

[5] رينيه لابات ورفاقه، سلسلة الأساطير السورية، ترجمة مفيد عرنوق، دار علاء الدين، ط 2، دمشق، 2006، ص 40.

[6] آبسو: هو أحد عنصري المياه البدئية، وهو يشكل عنصر الذكورة.

[7] تيامات: هو العنصر الثاني للمياه البدئية، وهو يشكل عنصر الأنوثة.

[8] ديوان الأساطير، الكتاب الثاني، ص 116.

[9] المرجع السابق، ص 118-119.

[10] المرجع السابق، ص 120.

[11] المرجع السابق، ص 120.

[12] المرجع السابق، ص 121.

[13] المرجع السابق، ص 122.

[14] المرجع السابق، ص 124.

[15] سلسلة الأساطير السورية، ص 92.

[16] ديوان الأساطير، الكتاب الثاني، ص 126-127.

[17] المرجع السابق، ص 127.

[18] المرجع السابق، ص 128-129.

[19] المرجع السابق، ص 133.

[20] المرجع السابق، ص 136.

[21] المرجع السابق، ص 143.

[22] المرجع السابق، ص 162–163.

[23] المرجع السابق، ص 150.

[24] المرجع السابق، ص 157.

[25] المرجع السابق، ص 185–186.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود