|
الشيطنة في أمريكا
هو حديث قدمته لدى الزمالة الدولية للموحدين في مورفريسبورو كردٍّ على مقتل شخصين، هما جريج ماك كندري وليندا كريغر، وجرح ستة آخرين في الكنيسة الدولية للموحدين في وادي تنسي في كنوكس فيل يوم الأحد الذي سبق هذا الحديث[1]. نحن نعيش في أزمنة مخيفة. أزمنة يحلُّ الصياح فيها مكان المحادثة، ويصبح فيها جو الحوار المنطقي مملاً. أزمنة نسمح فيها، وباسم حرية التعبير، أن يغرقنا الخطاب الحاقد. أزمنة لا يعود فيها كافيًا الاختلاف مع الآخرين، إنما يصبح من واجبنا أن نشيطنهم. نحن نعيش في زمن يسكنه الشيطان. إن جيم ديفيد أتكيسون، الشخص الذي قتل شخصان وجرح ستة في الكنيسة الدولية للموحدين في وادي تنسي في كنوكسفيل الأحد الماضي، كان يغتال شياطين أسماهم بالليبراليين. وكان يتغذى من تيار لا ينتهي من الأكاذيب الذي يقول له إن هؤلاء الليبراليين الشياطين يكرهون أمريكا، ويكرهون جنودنا، ويكرهون العائلة، والعلم، والجنين، ويكرهون الله؛ وإنهم أتوا ليدمِّروا كل ما تستند إليه أمريكا؛ ما يعني أن قتلهم أصبح واجبًا أخلاقيًا. أن ما يسمعه جيم أتكيسون، ويسمعه مثله عشرات الملايين من الأمريكيين كل يوم، هو شيطنة مضطردة لزملائنا الأمريكيين الآخرين. والشيطنة، وفق ما يراها الدكتور أنطوني ستاهيلسكي من جامعة واشنطن المركزية، هي المرحلة الخامسة من عملية تكييف تتألف من خمس مراحل يتحول المرء بعدها إلى إرهابي. وهذه المراحل هي: إلغاء صفة التنوع، إلغاء تمايز الذات، إلغاء تمايز الآخر، التجريد من الإنسانية، والشيطنة. وأنا بتُّ مقتنعًا أن كامل ثقافتنا الآن رهينة لهذه العملية. حيث نتحوَّل بالقوة إلى أمة من الإرهابيين الذين يسكنهم الشياطين. فإلغاء صفة التنوع يبعدك عن أي تأثير يتعدى تأثير جماعتك الخاصة. فما تقرأه وتشاهده على التلفاز، وتستمع إليه في الراديو، يصبح جزءًا من عبادة يدعم فيها كل عنصر العناصر الأخرى. وهذا لا يعني أنك توقفت عن التفكير، إنما يعني أنه لم تعد لديك الإمكانية لأن تفكر خارج نطاق ضوابط الجماعة التي تنتمي إليها. وإلغاء تمايز الذات يجرِّدك من هويتك الخاصة. بحيث يصبح ما تلبسه، وتشتريه، وتأكله، وتشربه، وتدرسه، وتقوله محددًا من قبل جماعتك. فيصبح تفكيرك الذاتي مستحيلاً. لأنه لن تبقى هناك على الإطلاق أية ذات تفكر. وإلغاء تمايز الآخر يزيل الهوية المميزة للأشخاص الذين تختلف معهم، من تعتقد أنهم "أعداؤك". فيصبحون المرآة التي تواجهك، فكرًا ومعيشةً، أولئك الذين يروِّجون لأفكار ليست فقط مخالفة لأفكارك، إنما لأفكار شيطانية. ما يجعلهم تهديدًا لكل ما هو خير ولائق، ويخاف الله. ما يعني باختصار أنهم ليسوا مثلنا. والتجريد من الإنسانية يفسِّر لماذا يبدو أعداؤك غرباء إلى هذا الحدِّ. حيث من غير الممكن إقناع غير الآدميين هؤلاء بأفكارك؛ لأنه ليس بمقدورهم فهمها. إضافة إلى أنه يبدو وكأنهم يزدهرون ويهددون كل ما تحب. ثم تأتي الشيطنة لتبين كيف أن كل ما تعتقده صحيحًا: فـ"الآخر" ليس فقط غير آدمي، إنما هو معاد للإنسانية. (الآخرون) شياطين متحالفين مع الشرير الذي لا يرغب إلاّ في تدميرك. فالشيطنة تتبع بشكل طبيعي التجريد من الإنسانية. ويصبح الآخرون ليس فقط على خطأ، إنما يصبحون تجسيدًا للشرِّ الواجب استئصاله. وأمريكا اليوم أمَّة من الشياطين. فـ "الآخر" موجود في كل مكان. لم يعد مهمًا إن كنّا محافظين أو ليبراليين، فوباء الشيطنة لوث جسمنا السياسي وأصبحنا فيه متجذرين. وما حدث في الكنيسة الدولية للموحدين في وادي تنسي في كنوكس فيل هو مجرد مؤشر للحياة في أمريكا التي باتت مسكونة بالشياطين. فيما يلي الشهادة تحت القسم للشرطي الذي قام باستجواب أدكيسون: صرَّح أدكيسون خلال استجوابه، أنه استهدف الكنيسة بسبب تعليمها الليبرالي ولقناعته أن يجب قتل كل الليبراليين لأنهم يدمرون البلد، وهو يشعر أن الديموقراطيين كبلوا أيدي بلده في الحرب على الإرهاب وأنهم خرَّبوا كلَّ المؤسسات الأمريكية بمساعدة من وسائل الإعلام. كما صرَّح أدكيسون أنه بسبب عجزه في الوصول إلى قادة الحركة الليبرالية استهدف من صوتوا لهم وأوصلوهم إلى مراكزهم. كما صرَّح بأنه حمل هذه القناعات منذ لا يقل عن عشر سنوات. كما بوسع أي خبير عسكري أن يخبرنا، فإنه يلزم بعض الوقت لتدريب شخص على القتل. لأن البشر لم يلدوا قتلة. وليس بوسعنا النظر إلى ذلك الآخر الذي يواجهنا والضغط على الزناد. لذلك يجب أن نتدرب كي نتجاوز شعورنا بالرحمة والتواصل مع الآخر، وأسهل طريق لذلك هو من خلال التجريد من الإنسانية، والشيطنة. لقد استلزم الأمر 10 سنوات كي يتوصل أدكيسون إلى إنكار إنسانية جيرانه. ونتساءل كم يوجد أشباه لأدكيسون عندنا في أمريكا؟ منذ زمن طويل والحقد يبنى في هذا البلد. ونحن جاهزون لتلقي اللطمة. وأتساءل عمّا بوسعنا أن نفعل؟ ليس كأمة أو كشعب – فمثل هذه التساؤلات السياسية تتجاوزني. إنما ماذا بوسعنا أن نفعل هنا؟ ماذا بوسع الأخوية المتحدة في مورفيسبورو أن تفعل؟ وتراود ذهني ثلاث خيارات: الخيار الأول هو أن نسوِّر العربات، ونفتش الناس بحثًا عن الأسلحة بمجرد أن يعبروا أبوابنا، مفترضين أن أي وجه جديد يمكن أن يكون إرهابيًا بالقوة، وأن من الممكن أن يتسبب لنا بالأذية. مثل هذا الحل قد يكون فعالاً لبعض الوقت، لكن نهايته هي أن نتوقف نحن عن المجيء. أما الخيار الثاني فهو أن نتضامن بشراسة أكثر مع الليبرالية، وأن نهاجم بحدة أكبر النقاد الشريرين للجناح اليميني، والصوت العالي لديماغوجيي الإعلام فاضحين أولئك الذين يقرعون بمثليي الجنس وبالكارهين للنساء، أولئك العنصريون المحافظون المعادين للإنسان. لكن هذا ليس من شأنه سوى ترسيخ حالة الشيطنة التي تهدد أمريكا، ولا يساهم البتة في إنهائها. وأنا أعترف أني أجد كلا الاحتمالين السابقين مغريًا، لكن، في النهاية، أجدني أرجح خيارًا ثالثًا هو الخيار الليبرالي الكلاسيكي. حيث يتوجب علينا فتح أبوابنا على مصراعيها عوضًا عن أن نغلقها. وعوضًا عن أن نغلق الأبواب عن طريق خطاب موجه، أن ندعو جيراننا لشرب الشاي معنا وللتحاور. وفعلاً، لو كنّا نملك المال، لكان علينا استئجار بضع صفحات من جريدة الديلي نيوز، صفحة كل يوم ولمدة أسبوع، وأن نشرح مقاربتنا للأمور المتعلقة بأكثر المواضيع إثارةً للجدل والمتعلقة بثقافتنا الحربية وغير المدنية (ونحن لا نملك هنا رأيًا واحدًا). عندما جلست لأهيء هذا الحديث تفكرت أولاً بأغنية جون ليمون، تخيل. وفكرت بناء خاطرتي حول هذه الأبيات التي تقول:
تخيل أن ليس هناك أوطان / وهذا ليس من الصعب فعله لكنّي لم أفعل. لأني في نهاية الأمر كنت مقتنعًا بأن جون لينون مخطىء. لأن هنالك أشياء تستحق الموت من أجلها. لأنه إن كان علي أن أموت، فليكن ذلك من أجل شيء يستحق الموت. لذلك دعني أموت لأني أرفض شيطنة الأفارقة الأمريكان، والإسبان، واليهود، والنساء، والمسلمين، والكاثوليك، أو أي من الآخرين. دعني أموت لأني أصرُّ على ضرورة احترام كرامة أخوتي من مثنيي الجنس رجالاً ونساء، وعلى ضرورة احترامهم ودعمهم وحمايتهم قانونيًا. دعني أموت لأني أصرُّ على استعمال العقل حتى حين أتعامل مع الوحي. دعني أموت وأنا أقاتل مدافعًا عن دستور الولايات المتحدة، مقاومًا تمزيقه إربًا من قبل حكومة أسكرها الرعب إلى حدِّ أنها فقدت الثقة بالقيم العظيمة التي يفترض أن يحميها. دعني أموت لأني أتجرأ وأحب وأنا أواجه بياض الحرارة الساخن. دعني أموت بسبب ما أعتقد أنه جدير بأن أموت من أجله. أنا لا أقول إن ضحايا جيم ديفيد أدكيسون شهداء، رغم قناعتي بأن بعضهم كانوا أبطالاً عن حق. فالشهداء يموتون من أجل ما يؤمنون به، أما هؤلاء المساكين فقد ماتوا بسبب ما آمنوا به. لقد ماتوا لأن جيم أدكيسون كان ملوثًا بالحقد الذي أصبح اليوم يغذي الحياة الأمريكية. إن جيم أدكيسون هو ضحية كأولائك الذين اغتالهم. وأنا لا أشعر بالأسف على جيم أدكيسون؛ أنا أشعر بالأسف على أمريكا. وليس بوسعي أن أغفر لجيم أدكيسون؛ فقط من آذاهم بوسعهم ذلك. لكنّي لن أطمر رأسي في الرمل وأقول إنه كان وحيدًا، مضطربًا، ومريضًا يستحق الشفقة. فهو ليس كذلك. إن جيم أدكيسون هو جزء من الجنون الذي يكتسح أمتنا. أنه ليس أول من يقتل الشياطين التي يتخيلها ويخاف منها، ولن يكون الأخير. لكن، حتى نقوم أنت وأنا بوضع حدٍّ نهائي للشيطنة التي تهدد أمتنا فإن جيم أدكيسون سيبقى مجرد ملحق لقاتل الشيطان الآخر الذي يعمل من أجل خلاص أمريكا عن طريق قتل الأمريكيين. * * * خمس خطوات ضرورية من أجل وضع حدٍّ للعنف الديني وصلني البارحة إيميل يسألني مراسلي فيه سؤالاً بسيطًا جدًا: "ما الذي تستطيع الأديان أن تفعله لتحرر نفسها من العنف؟" وسأحاول أن يكون جوابي بسيطًا كالسؤال: لاشيء. ليس بوسع الدين أن يفعل شيء لأن الدين بحدِّ ذاته مفهوم، بمعنى مجموعة اقتراحات وممارسات لا تفعل شيئًا بحدِّ ذاتها. ما يعني أننا إن أردنا تحرير الدين من العنف فإنه يتوجب علينا طرح السؤال التالي: "ماذا بوسع المؤمنين أن يفعلوا ليبعدوا أنفسهم، وبالتالي دياناتهم، عن العنف؟" على هذا السؤال لدي خمس نقاط: أولاً، على المؤمنين أن يتحلوا بالتواضع كجوهر لإيمانهم. فالعنف المبرر دينيًا يحدث حين يكون الناس متأكدين أنهم يملكون الحقيقة. من هذا المنظور يتوجب على المؤمنين أن يقولوا: "هذا ما أؤمن به، وإن كنت أقرُّ أنه ليس بوسعي برهان أني على حق فيما أعتقده." ثانياً، يجب أن يتحلى المؤمنون بالشجاعة الكافية للبحث بشكل نقدي في أفكار إيمانهم. يجب أن تكون هناك دراسات نقدية للكتاب المقدس والقرآن والجيتا، ... إلخ، وهذه بوسعها، إن تمت بعقل منفتح، أن تعمق تقويمهم وفهمهم للتعاليم العميقة المتضمنة في هذه الكتب وفي سواها من الكتب المقدسة. فالحرفية تقتل الروح وتغذي نيران الحرب. ثالثًا، يتوجب على المؤمنين أن يتعمقوا فيما يعرف بتأمل ذاتي لأعماق أنفسهم، معيدين صياح الإيغو (الذات) إلى صمت الإله، إلى هذا الحقل من الوعي الصافي الذي تنبع وتعود إليه كل الأشياء. مشيرًا في هذا المضمار أن لكل دين ممارساته الخاصة ما يعني أن لا ضرورة للإستعارة مما يؤمن به الآخرون أو لاختراع طرائق أو تقنيات جديدة. ورغم هذا أقترح على من يتمتع بالفضول أن يقرأ لرامانا ماهارشي، وكريشنامورتي، وطوني باكر، ونيسرغاداتا ماهاراج وغانجاجي، كي يكون فكرة واضحة عما بوسع التأمل أن يقدم له. رابعًا، على المؤمنين أن يخلصوا نصوصهم المقدسة وتعاليمهم من كل كره للغريب والجنس الآخر والمثنية، ومن كل عنف ينسب للألوهة، ومن جميع أنواع التمييز العنصري. مؤكدين على ما يدعم المثل النبوية للعدالة الكونية والتعاطف عوضًا عن المثل الضيقة للانتصارية الروحية. خامسًا، على المؤمنين أن يتحاوروا فيما بينهم. وكما يؤكد شعار جمعيتي نهر واحد، فإننا نبني مجتمعنا عن طريق الحوار. لأنه من الحيوي أن نستمع لأصوات الآخرين، وقصصهم وتجاربهم. لأننا إن ركَّزنا على ممارساتنا وتجاربنا الخاصة عوضًا عن التركيز على العقائد الجامدة لتقاليدنا الدينية فإننا سنجد أرضيةً مشتركة نسطيع أن نستند إليها من أجل بناء مجتمع عادل ومحب. من الممكن أن تكون لديكم أيضًا أفكار أخرى تضيفوها إلى لائحتي، فما طرحته مجرد نقطة انطلاق. ومن منطلق أنه ليس واحدًا فإني أتوقع الكثيرين ممن سيتناولون هذا الموضوع قريبًا. ترجمة: أكرم أنطاكي *** *** *** [1] في 27 تموز 2008، ومن منطلق خلفية سياسية، حصل إطلاق نار على الزمالة الدولية للموحدين في مورفريسبورو في وادي تنسي في كنوكس فيل في الولايات المتحدة. حيث قام جيم ديفيد أدكيسون، من منطلق رغبته في قتل الليبراليين والديموقراطيين، بإطلاق النار على تجمع لهذه المجموعة كانوا يعزفون الموسيقى، فقتل شخصان وجرح ستة آخرين.
|
|
|