|
الأنـــــا
تمهيد يدرس هذا المقال مسألة الأنا the ego بوصفها، حسب مفهوم فرويد، ماهيةً نفسانية تضمُّ ماهيتين نفسانيتين أخريين: الأنا الغائبة[1] the id التي تكمن في المستوى الأدنى (للأنا) والأنا العليا the super-ego التي تستقرّ في المستوى الأعلى (للأنا). إذ ينبني تمثيل النفس بأبعاده الثلاثة هذه في الأساس على ذلك النظام الثلاثي الذي سبق أن تمّ وضعه ليشمل اللاوعيَ وماقبلَ الوعي والوعيَ. فمن خلال الإشارة إلى حتمية الصراع المتبادل بين ظاهرة الدمج وظاهرة عقدة أوديب، سيضع المقال، عندئذ، التوكيد على النواحي التطورية للأنا من حيث العلاقة التي تنشأ بينها وبين الماهيتين النفسانيتين الأخريين (الأنا الغائبة والأنا العليا). بناء على هذا التوكيد، سيتطرّق المقال إلى إمكانية السير المتوازي لعمليتي التطور اللبيدي وتطور الأنا وسيتطرّق، من ثمّ، إلى "العواقب" النفسانية لهذا التوازي. ووفقًا لذلك، سيعالج المقال مسألة الاتكال المتبادل الذي يحدث بين الماهيات النفسانية الثلاث هذه من منظورَي مقدار الوعي واحتواء الدوافع الغرَزية[2]، ليصار إلى اقتفاء تطور محتويات الأنا من "الحالة القبْلية" للنفس (أي الحالة التي تشير إلى ما يقبع في "دُكنة" الأنا الغائبة) إلى "الحالة البَعْدية" للنفس (أي الحالة التي تشتمل على "رقابة" الأنا العليا). بعدئذٍ، سيشرح المقال قضية الصراع المتأصّل، فيما يبدو، بين الأنا والأنا الغائبة لدى الحضور (الناشئ) للأنا العليا، وذلك باعتبارها قضية نزاع مترسّخ بين ما يسمّيه فرويد بمبدأ الواقع (بوصفه المبدأ الذي ينظم عملَ الأنا) وبين مايسمّيه بمبدأ اللذّة (بوصفه المبدأَ الذي يتحكم في عمل الأنا الغائبة) على أثر التكوّن (الناجم) لما تمكن تسميته بمبدأ الخُلق (بكونه المبدأَ الذي يهيمن على عمل الأنا العليا). أخيرًا، سيتمّ التغاير (الصارخ) بين ما يُعرف بالأحكام الخاطئة، تلك الأحكام التي تطلقها الأنا إطلاقًا "واعيًا" (من وجهة نظر ما يدعوه لاكان بـ "سوء الفهم" أو "سوء التبيُّن (المقدَّر)" méconnaissance)، وبين ما تمكن تسميته بالأحكام الصحيحة، تلك الأحكام التي تطلقها الأنا الغائبة إطلاقًا لاواعيًا، على ما يظهر، وذلك من جرّاء التوسّط (أو التفاوض بالأحرى) الذي تجريه الأنا بين العالم الباطني (أي الأنا الغائبة) والعالم الظاهري. وهكذا، سيتمّ أيضًا توضيح هذا التناقض الكامل بين الأحكام الخاطئة والأحكام الصحيحة بالإشارة إلى سيرة المريض الملقب بـ "أبي الجُرَذ" (ذلك المريض الذي خضع لتحليل فرويد) ليصار إلى وضع التشديد على التمييز المتطابق بين ما تمكن تسميته بالقسِيم الموضوعي للأنا الواعية والقسِيم الذاتي للأنا اللاواعية، بحيث يلقي هذا القسِيمُ النفسانيُّ الأخيرُ الضوءَ، بدوره، على ما يُشار إليه عمومًا في التنظير اللاكاني بالمُسْند إليه the subject. الشرح كما تمّت مناقشته في مقال سابق[3]، يمكن لظاهرة الدَّمْج أن تحرّض بسهولة على العَكس الفعلي لظاهرة عقدة أوديب، بحيث إن العكسَ الفعلي هذا يجسّم تحوّلاً نفسانيًا يميل الدامج من خلاله إلى الإنماء الحقيقي لتركيز طاقته النفسية (الكاثكسيس) على المدموج ذاته. ففي هذه الحالة، فإن التمييزَ المُدْرَكَ بين الإضفاء المثالي (أي إضفاء الدامجِ صفة مثالية على المدموج) وبين التشْييء اللبيدي (أي اتخاذ الدامجِ المدموجَ شيئًا لبيديا) ليطابق التمييزَ القابل للإدراك بين النزعة الكينونية (أي أن ينزع الدامجُ إلى أن يكون مثلَ كينونة المدموج) وبين النزعة المِلكية (أي أن ينزع الدامجُ إلى أن يملِك كينونة المدموج بدلاً من أن يكون مثلها)، على الترتيب[4]. ومهما يكن من الأمر، قد يتوقّف ذلك التمييز بين الإضفاء المثالي (أو النزعة الكينونية) والتشْييء اللبيدي (أو النزعة المِلكية) على وجود الكيفية (أو عدمها) التي يسعى بها الارتباط العاطفي الناتج (أو التي تسعى بها الصلة اللبيدية الناتجة) إلى صياغة الأنا المكنونةِ في الدامج على غرارة الأنا المكنونةِ في المدموج: إذ أن حدوث هذا السعي حدوثٌ ممكن في كل من الحالات السوية والحالات غير السوية (أو مَرَضية المنشأ). فلدى التحطيم الحتمي لعقدة أوديب وإذعانها الناجم للكبْت الأوّلي، يتمّ قمعُ الظهور الابتدائي للدوافع الغَرَزية (البدائية) في الأنا الغائبة ذات الوجود السَّبْقي (أي وجودها الاستنتاجي السابق للتجربة)، ممّا يجعل هذه الدوافعَ الغَرَزية في حالة من السُّبات "الجنسي" خلال الدور الكُمُوني (الذي ينتهي في سنّ البلوغ على وجه التقريب). وهكذا، في مرحلة متأخرة من مراحل سير العلاقة الناشئة بين الدامج والمدموج، يتمّ استبدال الأشكال الواهنة لتركيز الطاقة النفسية على الشخص/الشيء بالأشكال الأكثر انتعاشًا لإشراب الدمج، بحيث يجري إشرابُ السلطة (التحريمية) للمدموج في الأنا المكنونة في الدامج ذات الوجود الوَسْطي (أي وجودها القائم بمهمّة الوساطة بين الأنا الغائبة والأنا العليا)، فيشكل، بعدئذٍ، هذا الإشرابُ في نفس الدامج النواةَ لتطور الأنا العليا ذات الوجود اللحْقي (أي وجودها الاستقرائي اللاحق للتجربة). وبالتالي، تستتبعُ الأنا العليا ميلها اللاواعي إلى انتحال، ومن ثمّ إلى إدامةِ، الصرامة المرغوب عنها لتلك السلطة (التحريمية) المعنية لكي تمنعَ الأنا من إعادة تنمية الأشكال (الواهنة) لتركيز الطاقة النفسية ذاتها أو، كبديل آخرَ، لكي تجيزَ لها (أي للأنا) بناءَ هذه الأشكال (الواهنة) من جديدٍ وذلك عن طريق تقويضها الجنسي[5] أو تطبيعها اللبيدي[6]. وبما أن مضموني الدمج الإيجابي والسلبي (أو المَرَضي) يفترضان مقدمًا أن له طبيعةً ازدواجية (أي متأرجحة)، من جهة، ويفترضان أيضًا أن له (أي للدمج) وظيفةً ثنائية مناظرة، من جهة ثانية (تلك الوظيفةَ التي تتجلى في تأسيسه المباشر لأنماط بدائية من أشكال تركيز الطاقة النفسية وفي إسهامه غير المباشر في التقويض الجنسي (أو التطبيع اللبيدي) لهذه الأنماط البدائية)، فإن الترسيخَ الأكثر بُكورًا للدمج (البدائي) ليدلّ، إذن، على التجلي الأكثر بُكورًا للأنا (البدائية)، تجلٍّ ناقص النموّ يتحتم عليه أن يمرَّ بعدد معيّن من أطوار تطور الأنا في تزامن (محتمل) مع عدد موازٍ له من أطوار التطور اللبيدي. ووَفقًا لذلك، فيما يبدو، تترتب على هذا التوازي "عواقبُ" نفسانيةٌ محدّدة كذلك. ومما ينجم عن ذلك أن "العواقبَ" النفسانية الناجمة عن التوازي بين أطوار تطور الأنا وأطوار التطور اللبيدي عواقبُ قد تبدي للعيان تجسيداتٍ متواليةً إلى حدّ ما لكيفيات لبيدية محدّدة في مرحلة الطفولة، كيفياتٍ تتميّز بها إلى حدّ بعيدٍ أطوارُ التطور الأخير (أي التطور اللبيدي). وبالتالي، يمكن لتلك "العواقب" النفسانية أن تفضيَ إلى تشكيل كيفيات أنوِيّة (نسبة إلى الأنا)، مثل "الأنا الفمّية"، و"الأنا الشرجية"، و"الأنا القضيبية"، وما أشبه ذلك، كيفياتٍ أو معاييرَ من المحتمل أن تكون مصدرَ الإلهام المباشر لما يسمّيه أريكسون بـ "مراحل الإنسان"[7]. لهذا السبب، ففي الدور ما قبل الأوديبي الذي تسود فيه تأثيراتُ كلّ من الأطوار الثلاثة المناظرة لهذه "المراحل" (أي الطور الفمّي، والطور الشرجي، والطور القضيبي)، قد يوحي الاختلاف الجوهري بين الأنا الغائبة والأنا، على وجه التقريب، إلى أن التغيّرات الأدنى للتطور اللبيدي (كالتغيّرات التي تحدثها الدوافع الغَرَزية)[8] يتمّ تحفيزها في الماهية النفسانية الأولى (أي الأنا الغائبة)، في حين أن التغيّرات الأعلى للتطور الأنوي (كالتغيّرات التي تسبّبها العمليات الفكرية) يتمّ تحريضها في الماهية النفسانية الأخيرة (أي الأنا). وعلى ذلك، فمن طرف، يجري توجيه التغيّرات الأدنى للتطور اللبيدي توجيهًا لاواعيًا، على ما يظهر، من خلال الطاقات "الرَّغبية" (المولدة داخليًا)، تلك الطاقات التي تقترن بالدوافع الغَرَزية المعنية. ومن طرف آخر، يجري تنظيم التغيّرات الأعلى للتطور الأنوي تنظيمًا واعيًا أو لاواعيًا، فيما يبدو، من خلال القوى "اللارَغبية" (المنشطة خارجيًا)، تلك القوى التي تمكن الطفلَ من السيطرة على الدوافع الغَرَزية ذاتها ومن ثمّ قهرها. علاوة على ذلك، في أثناء التفاعل اللازم بين الطاقات الرَّغبية والقوى اللارَغبية هذه، فإن القدرة الاقترانية (الأكثر تطورًا) للطاقات الرَّغبية عينها ليمكن لها أيضًا أن تؤديَ إلى اقتران تجلٍّ لبيديّ محدّدٍ بتجلٍّ أنويّ معيّن، فيكون هذا الاقتران، بدوره، باعثًا على تشكيل اللبيد(و) الأنويّ الذي يتمّ اشتقاقه اشتقاقًا لحظيًا من نقيضه، اللبيد(و) الشيئيّ، على الأخصّ حين يمتدّ اقترانُ التجلي اللبيدي المقصود امتدادًا أبعدَ ليصلَ إلى مستوى "تمثيل الشيء" (أي التمثيل النفساني للعالم الظاهري)[9]. من هذه الحيثية، إذن، فإن مجرّد تحوّلِ اللبيد(و) الشيئيّ إلى اللبيد(و) الأنويّ (ذلك التحوّل الذي يحدث حدوثًا نرجسيًا والذي يتضمّن التقويضَ الجنسي للبيد(و) الشيئيِّ أو تطبيعَه اللبيدي، كما هي الحال في الدمج) سيتيحُ للأنا اكتسابَ إمكانية الوصول الموجّه إلى (أو المَنال الموجّه من) الأنا الغائبة وسيفضي، من ثمّ، إلى تعميق (أو توطيد) العلاقة بين هاتين الماهيتين النفسانيتين. ومما ينتج عن ذلك أن الاختلافَ الأساسيَّ بين الأنا والأنا العليا، بدوره، سيُصار إلى تسطيحه (أو تخفيفه) كذلك، نظرًا لكون التقويض الجنسي أو التطبيع اللبيدي مهمّة الأنا العليا، تلك المهمّة التي يجري تحفيزُها أصلاً عن طريق السلطة (التحريمية) للمدموج، كما تمّ ذكره آنفًا. وبالتالي، لدى التسطيح (أو التخفيف) ذاته للاختلاف الأساسي بين الأنا والأنا العليا، فإن مجرّد تحوّل اللبيد(و) الشيئيّ إلى اللبيد(و) الأنويّ سيبيح للأنا، بصورة مماثلة، اكتسابَ إمكانية الوصول الموجّه إلى (أو المَنال الموجّه من) الأنا العليا بالإضافة إلى الأنا الغائبة. يتضح مما تقدم، إذن، أن أيَّ كمٍّ من اللبيد(و) يقترن بشخص أو بشيء (ليمثلَ كمًّا من اللبيد(و) الشيئي) سيُصار إلى اقترانه، في آخر الأمر، بالأنا (ليمثلَ، بدوره، كمًّا من اللبيد(و) الأنوي). وتبعًا لذلك، ينزع اللبيد(و) الأنوي الناجم، من طرف، إلى التوسيع من مجال الوعي الذاتي لدى المولود (وعي قد يتأوّج في الحبّ الذاتي حتى) ويسعى، من طرف آخر، إلى التضييق في نطاق "ارتباطه العاطفي" (أو صلته اللبيدية) بالوالد. لهذا السبب، يشير التطور اللبيدي، عادة، إلى التبدّل العاطفي في الغايات الموقفية نحو إشباع الرغبة الحسية/الجنسية في الحصول على اللذة، بينما يوحي التطور الأنوي، على الأرجح، إلى التحقق المتدرّج (تصاعديًا) للتعارض بين الأنا الغائبة ذات الوجود السَّبْقي (القائم على الاستنتاج) وبين الأنا ذات الوجود الوَسْطي (القائم على الوساطة)، ذلك التعارض الذي يتجلى جلاءً أكثر فأكثر أمام الأنا العليا ذات الوجود اللحْقي (القائم على الاستقراء). من هنا، يكشف هذا التطورُ الأنويُّ النقابَ عمّا تمكن تسميته بالتمثيل الثلاثي الأبعاد للجهاز النفساني (أو الحياة الذهنية)، تمثيل يبلغ من التجريد حدًّا بعيدًا في إطار نظرية "ماوراءَ- نفسيةٍ" (ميتا- سايكولوجية) في منتهى التعقيد، إذ سبق لهذا التمثيل أن خضع لبنيتين (أو خطيطتين) طوبوغرافيتين متميزتين على الرغم من كونهما وثيقتي الاتصال ببعضهما البعض. ففي ظاهر الأمر من هذه القرينة، تمّ افتراضُ الوجود الوَسْطي للأنا، بوصفها ماهية نفسانية، ليضمَّ الوجودين "المتناظرين"، فيما يبدو، للماهيتين النفسانيتين الأخريين: أولاً، الوجودَ السَّبْقي للأنا الغائبة في المستوى "الأدنى" للأنا؛ وثانيًا، الوجودَ اللحْقي للأنا العليا في المستوى "الأعلى" لها (أي للأنا). وعلى ذلك، يتمَ النظرُ إلى الماهيات (أو النيابات) النفسانية الثلاث تلك باعتبارها المكوّناتِ الأساسية الثلاثة التي تشكل ما هو معروف على الإجمال بالبنية الطوبوغرافية الثانية، فتحدّد، بدورها، حدودَ الجهاز النفساني برمّته. إذ ليست هذه البنية الطوبوغرافية الثانية، في حقيقة الأمر، سوى تبلوُر نظري ناتج عمّا يُدعى على العموم بالبنية الطوبوغرافية الأولى للجهاز النفساني ذاته، تلك البنية التي تمّ اقتراحُ مكوّناتها الجوهرية الثلاثة، بدلاً من ذلك، على أساس أنظمة متواشجة ثلاثة، أوّلها نظام اللاوعي وثانيها نظام ماقبل الوعي وثالثها نظام الوعي، مع أن هاتين البنيتين الطوبوغرافيتين لاتعكسان، فيما يبدو، علائق متقابلة ومتساوية بين مكوَناتهما الثلاثة. وهكذا، فإن محتوى الأنا الغائبة، على ما يظهر، لمحتوىً يدخل ضمن نطاق نظام اللاوعي دخولاً قَطْعيًّا، في حين أن كلاً من محتويَي الأنا والأنا العليا لاينتمي إلى نطاق نظام الوعي انتماءً قَطْعيًّا البتة، نظرًا لنزوع جزء ما من كلٍّ من هذين المحتويين إلى البقاء في نظام اللاوعي، من جهة، وميول جزءٍ آخرَ من كلٍّ منهما إلى الدخول في نظام ماقبل الوعي لكي يصبح، فيما بعد، جزءًا من نظام الوعي، من جهة ثانية. يعني ذلك، بكلام آخرَ، أن كلاً من (محتويَي) الأنا والأنا العليا ليتحتم عليه أن يقيم علاقة من العلائق بينه وبين (محتوى) الأنا الغائبة. وعلى حسب منظومة فرويد، في هذا السياق، فإن العلاقة التي تنشأ بين (محتويَي) الأنا العليا والأنا الغائبة لأعمقُ (أو أوطدُ) من العلاقة التي تنشأ بين (محتويَي) الأنا والأنا الغائبة[10]. ناهيك، بطبيعة الحال، عن أنّ فرويد قد اشتق مصطلح the id "الأنا الغائبة" في اللغة اللاتينية أصلاً من مصطلح das Es "الهُوَ/الهيَ" في اللغة الألمانية، ذلك المصطلح الذي استخدمه غروديك منذ البداية في مؤلفاته[11]. وناهيك، علاوة على ذلك، عن أنّ هذا الأخيرَ (أي غروديك)، بدوره، قد اشتقّ المصطلحَ المعنيّ فعلاً من أستاذه شفينينغَر (1850- 1924) وعن أنّ هذا الأخيرَ (أي شفينينغَر)، بدوره، قد استعار المصطلح ذاته في الأساس من فكرة (الكائن) "اللاشخصي" الذي يقبع في (خفايا) الطبيعة الإنسانية، بحسب مفهوم نيتشه (1844- 1900)[12]. كما تمّ ذكره آنفًا، فإن الاختلاف الجوهري بين الأنا الغائبة والأنا ليمكن عزوُه إلى ذلك الصراع الدائم، فيما يبدو، بين التغيّرات الأدنى للتطور اللبيدي (تلك التغيّرات التي توجّهها الطاقات الرَّغبية توجيها لاواعيًا في الأنا الغائبة)، من طرف، وبين التغيّرات الأعلى للتطور الأنوي (تلك التغيّرات التي تنظمها القوى اللارَغبية تنظيمًا واعيًا أو لاواعيًا في الأنا)، من طرف آخر. وعلى ذلك، فللاختلاف الجوهري المعنيّ أن يذكرَ بذلك التضادّ القياسي بين العمليات الجسمانية الأوّلية (تلك العمليات التي تستمدّ منها الدوافعُ الغَرَزيةُ طاقاتِها الرَّغبيةَ في الأنا الغائبة)، من جهة، وبين العمليات النفسانية الثانوية (تلك العمليات التي تستمدّ منها العملياتُ الفكريةُ قواها اللارَغبية في الأنا)، من جهة أخرى. فعند الانطباعة الأولى، إذن، قد يوحي هذا الاختلاف الجوهري الصريح والواضح المعالم، فيما يبدو، إلى أنّ الأنا، من حيث تكوينها التطوري الحاضر، سبق لها أن خضعت لطور معين من أطوار التطور اللبيدي والتطور الأنوي على أقلّ تقدير (إن لم يسبق لها أن خضعت لهذه الأطوار كلها)، وإلا فلن يتمّ افتراضُ التشابه (الجوهري) بين الأنا والأنا الغائبة في ذلك الجزء المحدّد من نظام اللاوعي، كما أشيرَ إليه قبل قليل. وكما تمّ ذكره آنفًا أيضًا، ثمّة صنفان متغايران (متضادّان) من الدوافع الغَرَزية التي تستمدّ طاقاتِها الرَّغبية من العمليات الجسمانية الأوّلية (في الأنا الغائبة في الأغلب والأعمّ). أولاً، الدافع الغَرَزي للحياة (أو إيروس)، ويشتمل هذا الصنف، بدوره، على صنفين فرعيين هما: الدوافع الغَرَزية الجنسية والدوافع الغَرَزية الحافظة للذات. ثانيًا، الدافع الغَرَزي للموت (أو ثاناتوس)، ويتضمّن هذا الصنف، بدوره، صنفين فرعيين أيضًا هما: الدوافع الغَرَزية السادية والدوافع الغَرَزية المازوخية (انظر الحاشية: 8). وبما أنّ الدوافعَ الغَرَزية الحافظة للذات لدوافعُ مخصّصة للأنا أو معزوّة إليها تحديدًا، فإنّ التشابهَ (الجوهري) الحاسم بين الأنا والأنا الغائبة لوشيجُ الاتصال بالأقسِماء اللاواعية (والمفرد: "القسِيم اللاواعي") لهذه الدوافع الغَرَزية، إذ أنّ في هذا ما يفسّر الجزمَ على محتوى الأنا (أو على محتوى الأنا العليا، بقدر ما يتعلق الأمر بها كذلك) باعتباره محتوىً لاينتمي إلى نطاق نظام الوعي انتماءً قَطْعيًّا البتة. ويدلّ هذا الجزمُ، أيضًا، على أنّ الشكلَ الأكثر بدائية للأنا (ذلك الشكل الذي يحرّضه بدئيًا الدمجُ (البدائي)، كما تمّت مناقشته في البداية) لشكل يضمّ الأقسِماء ماقبل الواعية لجميع الدوافع الغَرَزية التي يتمّ تخصيصها للأنا الغائبة تخصيصًا لاواعيًا. لهذا السبب، يميل فرويد إلى وصف الأنا تارة وإلى وصف الأنا الغائبة تارة أخرى بتعبير واحد من هذا الخصوص، تعبير يشير إلى أن كلاً من هاتين الماهيتين النفسانيتين يمثل "الاحتياطي المديدَ" للبيد(و)[13]. إذا كان ما يقصده فرويد من هذا التعبير صحيحًا بالفعل، فليست الأنا والأنا الغائبة، إذن، سوى نساختين (متفرّعتين) من ماهية نفسانية أصلية (أو بدائية) واحدة، بحيث يمكن القول بأنّ الأنا ماهية نفسانية (فرعية) متحوّلة وأنّ الأنا الغائبة ماهية نفسانية (فرعية) ثابتة في المسار الطبيعي لعمليتي التطور اللبيدي والتطور الأنوي. فمن خلال هذا الاتكال المتبادل بين الماهيات النفسانية الثلاث وإدراكه من منظور مقدار الوعي، تتبيّن العلاقة الثنائية التي تنشأ بين الأنا الغائبة وبين كلّ من الماهيتين النفسانيتين الأخريين (الأنا والأنا العليا)، تتبيّن من مجرّد تحوّل اللبيد(و) الشيئيّ إلى اللبيد(و) الأنويّ، كما سبقت الإشارة إليه، إذ يجري تنشيط اللبيد(و) الشيئيّ في الأنا الغائبة، من ناحية، ويجري تحريك اللبيد(و) الأنويّ في الأنا تحت "رقابة" الأنا العليا، من ناحية ثانية. ويظهر أيضًا أن تحوّلَ اللبيد(و) الشيئيّ إلى اللبيد(و) الأنويّ ذاته ليلقي الضوءَ على العلاقة الثنائية التي تحدث بين الأنا وبين كلّ من الماهيتين النفسانيتين الأخريين (الأنا الغائبة والأنا العليا)، لأنّ هذا التحوّل يمكن الأنا من اكتساب إمكانية الوصول الموجّه إلى (أو المَنال الموجّه من) الأنا الغائبة والأنا العليا في آن واحد، فينجم عن ذلك تعميقٌ (أو توطيد) في التجاور بين الأنا والأنا الغائبة، من جهة، وتسطيحٌ (أو تخفيف) من التنائي بين الأنا والأنا العليا، من جهة ثانية. ووَفقًا لذلك، فإن العلاقة الثنائية التي تتولد بين الأنا العليا وبين كلّ من الماهيتين النفسانيتين الأخريين (الأنا والأنا الغائبة) لعلاقة مرهونة بالتوسّع التدريجي في وعي الأنا إلى محتواها، من طرف، ومتوقفة على الكيفية التي تمثل بها (هذه) الأنا ذاتها إزاءَ الأنا الغائبة، من طرف ثان. فمن الجليّ أنه، لدى التوسّع التدريجي (الآنف الذكر) في وعي الأنا إلى محتواها (ذلك الوعي الذي يتناسب طردًا مع وعيها إلى محتوى الأنا الغائبة)، لابدّ للأنا من أن تكِنَّ الكمونية في تنسيق محتواها ذاته على وجه التحديد لكي تعينها هذه الكمونية في التعامل بـ"انسجام" مع أصول ذلك الشواش المتأصّل في محتوى الأنا الغائبة. ومن الجليّ أيضًا أن الأنا الغائبة، بمحتواها اللاواعي لاوعيًا قطعيًّا، تميل إلى تأدية دور الوكيل اللبيدي (أو العاطفي) للنزوعات الرَّغبية (كالرغبات أو الأماني) في العالم الباطني بغية السعي وراء الإشباع اللاموجّه، في حين أن الأنا، بمحتواها الواعي وعيًا غير قطعيّ، تميل إلى تأدية دور الوكيل التفكيري (أو الإدراكي) للنزوعات اللارَغَبية (كالصُّوَر أو الفِكر) في العالم الظاهري بغية السعي وراء التكييف الموجّه بدلاً من الإشباع اللاموجّه. وهكذا، فإن الأنا العليا، من طرفها، تلك الماهية النفسانية التي تعي إلى محتوى الأنا الغائبة وعيًا أكثر مما تعي إليه الأنا، لتتسم بسمة القيام بدور الوكيل الاجتماعي (أو الأخلاقي) للنزوعات الرَّغبية في العالم الباطني (أي الأنا الغائبة). لهذا السبب، كثيرًا ما يجري استخدام مصطلح "الأنا العليا" the super-ego (في مؤلفات فرويد على الأخص) كمُرادف لمصطلح "المثال الأنوي" the ego-ideal، كما سيتمّ إيضاحه بعد قليل (انظر أيضًا الحاشية: 28 أدناه). وبالتالي، يظهر أن الأنا العليا، كما هي بدلالة دورها بحرفيته، تتمثل بوصفها ماهية نفسانية مكتسبة، ماهية وظيفتها الرئيسية، إذا جاز التعبير، هي أن تأمر الأنا (بوصفها ماهية نفسانية فطرية- مكتسبة) أمرًا "حَريًّا" بالسيطرة على الدوافع الغَرَزية التي تمّ قمعُها في الأنا الغائبة (بوصفها ماهية نفسانية فطرية)، فتأمرها (أي تأمر الأنا) من ثمّ بالمحافظة على التوازن "المرغوب فيه" بين العالم الباطني (أي الأنا الغائبة) والعالم الظاهري[14]. ومما ينتج عما تقدم أن الاختلاف (الجوهري) الحاسم بين الأنا (باعتبارها ماهية نفسانية منسَّقة) وبين الأنا الغائبة (باعتبارها ماهية نفسانية غير منسَّقة) ليمكن الآن إدراكه، وخصوصًا فيما يتعلق بطبيعة المبدأ ونوعه الذي يميل إلى إرشاد كلّ من هاتين الماهيتين النفسانيتين. إذ يشير هذا الاختلاف (الجوهري) الحاسم، فيما يبدو، إلى الصراع الدائم بين العالم الباطني (أي الأنا الغائبة) والعالم الظاهري، صراع قد تتوغل جذوره في التناقض الكامل بين "عقلانية" العقل (أو الرُّشْد) وبين "لاعقلانية" العاطفة (أو الشهوة). وعلى ذلك، تسعى الأنا إلى تطبيق (أو الإفادة من) ما يسمّيه فرويد بمبدأ الواقع وذلك بفضل تمثيله (الواقعي) للعقل (أو الرُّشْد) ولكلّ ما يتعلق بهما، في حين أن الأنا الغائبة، على ما يظهر، ترضخ رضوخًا من غير قيد أو حدّ لما يدعوه فرويد بمبدأ اللذة، كمبدأ بديل، وذلك بالنظر إلى تمثيله (اللذّي) للعاطفة (أو الشهوة) ولكلّ ما يتصل بهما. ففي ظاهر الأمر من هذا السياق، يبدو أن مبدأ الواقع مبدأ مكتسب بطبيعته (كما هي الحال في الأنا بوصفها ماهية نفسانية "متطورة")، بينما يظهر أن مبدأ اللذّة، على النقيض من ذلك، مبدأ فطريٌّ بطبيعته (كما هي الحالة في الأنا الغائبة بكونها ماهية نفسانية "غيرَ متطورة")[15]. بناء على ذلك، إذن، يدلي فرويد بقوله القياسي (أو التشبيهي) الشهير، ذلك القول الذي تمّ الاستشهاد به في أحايين كثيرة، بأنّ الأنا، في إطار علاقتها بالأنا الغائبة، مثلها كمثل من يمتطي صهوة حصان، عليه [أي الراكب] أن يكبح العنان [دومًا] لجموح قوّته (أي الحصان) المتفوقة[16]. ولكن، إذا لم يكن الراكب المعنيّ يرغب في الانفصال عن ذلك الحصان، إن جاز التعبير، فسوف يكون لزامًا على الراكب، عندئذ، أن يقود الحصان ذاته "قودَ النعاج" بمقتضى طِيَّته (أي الحصان) المُرادة والمرغوب فيها لا بمقتضى طِيَّته هو (أي الراكب). يعني ذلك أن الأنا تضطر بنزوعها اضطرارًا مشابهًا إلى أن تحوّل الإرادة "اللاعقلانية" للأنا الغائبة إلى نشاط ذي شكل متفرّد تحويلاً "عقلانيًا"، كما لو كان هذا النشاط نشاطها (أي الأنا) الخاصّ[17]. وهكذا، يحثّ ذلك القول القياسي (أو التشبيهي) على الاقتراح بأن الأنا العليا (باعتبارها الماهية النفسانية المنسِّقة دون غيرها) لماهية يتحكم فيها ما تمكن تسميته الآن بمبدأ الخُلق وذلك بداعي تمثيله (الخُلقيّ) للمطالب الاجتماعية (أو الأخلاقية) التي تنبعث من أحكام "الضرورة" الحاكمة (كسلطة العائلة وسلطة القبيلة وسلطة الدولة، الخ). إذ يبدو أن فرويد نفسَه يؤيّد هذا المبدأ تأييدًا ضمنيًا من خلال مفهومه الصريح عن النسَب (أو العَزْو) الكمّي والكيفي الذي يتمّ تخصيصه لكلّ من الماهيات النفسانية الثلاث فيما يتعلق بالتوجيه الأخلاقي (أو "التحكم الغَرَزي"، على حدّ تعبيره): فمن طرف أوّلي، ينظر فرويد إلى الأنا الغائبة بوصفها ماهية نفسانية "لاأخلاقية بكليتها"؛ ومن طرف ثانوي، ينظر إلى الأنا العليا بكونها ماهية نفسانية "في غاية الأخلاقية"؛ وفيما بين هذين الطرفين، ينظر إلى الأنا باعتبارها ماهية نفسانية "تسعى جهدَ طاقتها إلى أن تكون أخلاقية"[18]. وبالتالي، قد تتسم الأنا العليا بسِمتي الصرامة والتزمّت بقدر ما تتسم بهما الأنا الغائبة ليس إلا، نظرًا لموقف الأنا النسبي تجاه (نظام) السلوك الأخلاقي، ذلك النظام الذي تقرّره البنية الاجتماعية في نهاية المطاف. يتبيّن مما تقدم، إذن، أن الاختلاف (الجوهري) الحاسم بين الأنا والأنا الغائبة ليمكن تفسيره الآن بلغة التنافر (أو الاختصام) المستمرّ ببقائه، فيما يبدو، بين مبدأ الواقع ومبدأ اللذّة، على الترتيب، ذلك التنافر (أو الاختصام) الذي يتناسب تفاقمه طردًا مع مقدار الصرامة والتزمّت اللذين يقضي بهما مبدأ الخُلق (وذلك استئناسًا بإدراكه الحاليّ كمبدأ يدير شؤونَ الأنا العليا). ومما لا مِراءَ فيه أن هذا التنافر (أو الاختصام) لتتجذر أصوله في نزوع الجهاز النفساني، بوجه العموم، إلى التشبّث الحَرون بمصادر إشباع الرغبة الحسية/الجنسية في الحصول على اللذة، من جهة، و(تتجذر أصوله) في الصعوبة القصوى التي يواجهها الجهاز النفساني ذاته في التخلي عن هذه المصادر، من جهة ثانية. وهكذا، ففي المسار السويّ لعمليتي التطور اللبيدي والتطور الأنوي، ينحو مبدأ الواقع نحو تشطير عملية التفكير إلى شطرين (أو فصّين) تفكيريّين ليسا متناظرين بالضرورة: إذ لا يخضع أحدُ هذين الشطرين (أو الفصّين) التفكيريّين لتلك الآلية التجريبية المعروفة بـ"اختبار(ية) الواقع" Reality-testing، فيصبح الشطر (أو الفصّ) التفكيري، لهذا السبب، مقترنًا بمبدأ اللذة، ويصبح من ثمّ تابعًا لهذا المبدأ دون سواه. فإذا لم يَطفق مبدأ الخُلق في سَرَيان تأثيره على الحالة النفسانية الناجمة، فللدوافع الغَرَزية التي يثيرها (أو يوقظها) مبدأ اللذة أن تسعى وراء "التحقيق" (الإشباعي- الرَّغبي)، فتصبح هذه الدوافع الغَرَزية، عندئذ، مرتبطة بأشيائها الحقيقية تحت إزار التخيّل (الفنتازيا) في مرحلة مبكرة (كما هي الحال في اللعِب الطفولي). ولكن، إذا طفِق فعلاً مبدأ الخُلق في سَرَيان تأثيره على الحالة النفسانية الناجمة، فللدوافع الغَرَزية التي يثيرها (أو يوقظها) مبدأ اللذة أن يصيرَ بها المصيرُ إلى "الكبت" (الإشباعي- الرَّغبي) بدلاً من التحقيق، فتصبح هذه الدوافع الغَرَزية، عندئذ، منفصلة عن أشيائها الحقيقية تحت لِثام حلم اليقظة في مرحلة لاحقة، بحيث يتمثل حلم اليقظة هذا في شكل من أشكال الخيال النهاري، شكل قد يتأوّج في الكتابة الإبداعية، حسبما يقتضيه مدى شدّة القوّة المتخيِّلة وسِعتها. وفي المسار غير السويّ لعمليتي التطور اللبيدي والتطور الأنوي، من ناحية أخرى، ليس في مقدور ذلك التنافر (أو الاختصام) بين مبدأ الواقع ومبدأ اللذة، كما سبق ذكره، أن يمارس تعبيراته "السويّة" في التخيّل (الفنتازيا) وحلم اليقظة بوصفها تعبيراتٍ عن إشباعات نفسانية للدوافع الغَرَزية (المُثارة): إذ يَوْهن، في هذه الحالة، سَرَيان تأثير مبدأ الخُلق على كلّ من المبدأين الآخرين. وهكذا، فلا مبدأ الواقع يفضي إلى نوع من التوازن الرَّغَبي وضرورته في الإمتاع الذاتي للأنا، ولا مبدأ اللذة يخضع لـ"الرقابة" الكمّية أو الكيفية التي يفرضها مبدأ الخُلق. وإنما، من المحتمل جدًا أن تشير تلك الاقتحامات (أو التفجّرات) اللاإرادية للتخيّل (الفنتازيا) وحلم اليقظة إلى تعبيرات غير سويّة (أو مَرَضية المنشأ) عن أعراض اهتلاسية (هلوسية) أو حتى عن نوبات هَرَعية (هستيرية)[19]. يمكنُ، من هذا الشرح (المفصّل) لمجموعة الآليات (أو المبادئ) التي تشكل الأسسَ المحرّكة لأعمال الماهيات النفسانية الثلاث، يمكنُ الآن تكوين صورة أكثر شمولًا حول النواحي التطورية للأنا، وذلك استنادًا إلى علاقة الصراع المتبادل بين ظاهرة الدمج وظاهرة عقدة أوديب، على الأخص، كما تمّت مناقشتها في البداية[20]. من هنا، قد يساعد الترسيخ الأبكر للدمج (البدائي) على إحداث التجلي الأبكر للأنا (البدائية)، بحيث يتعذّر تمييزُ الأنا عن الأنا الغائبة، فيجوز النظر إلى هاتين الماهيتين النفسانيتين كلتيهما، إلى هذا الحدّ، باعتبارهما نساختين (متفرّعتين) من ماهية نفسانية أصلية (أو بدائية) واحدة ليس إلا، ماهية نفسانية ذات طبيعة فطرية. وفي المسار (اللاحق) لعمليتي التطور اللبيدي والتطور الأنوي، تبقى الأنا الغائبة ماهية نفسانية ثابتة (فتستبقي، من ثمّ، فطريّتها)، بينما تصبح الأنا، بدورها، ماهية نفسانية متحوّلة (فتشرع، من ثمّ، في تأسيس اكتسابيّتها): يعني ذلك أن الأنا تتجلى كماهية نفسانية ذات طبيعة فطرية ومكتسبة على حدّ سواء في الحضور (الاستهلالي) للأنا العليا، تلك الماهية النفسانية التي تتصف بطبيعة مكتسبة. ويعني ذلك، بكلام آخر، أيضًا أن الأنا الغائبة (بطبيعتها الفطرية) قد تؤوي في البدء رواسب عدد لامتناه من "الأنوات" (جمعًا لـ"الأنا")، في حين أن الأنا (بطبيعتها الفطرية- المكتسبة)، من خلال تأسيسها الأنا العليا (بطبيعتها المكتسبة) على أساس الأنا الغائبة (بطبيعتها الفطرية)، قد تحْيي تجليات من رواسب هذه "الأنوات" وتعيد بناءَها من غير انقطاع[21]. وفضلاً عن ذلك، فإن هذه الصورة المكوّنة من جديد (حول النواحي التطورية للأنا) لقابلة للإدراك بعكسيّتها على النحو التالي: قد تتضمّن الأنا في الأصل كلَّ ما ينتمي إلى "الحالة القبْلية" للنفس، حتى كلّ ما يقبع في "دُكنة" الأنا الغائبة، تلك الماهية النفسانية التي لا تتضمّن كلَّ ما ينتمي إلى "الحالة البَعْدية" للنفس، بل تشتمل على المادّة الأوّلية (أو الخام) التي تحتاج إليها الأنا من أجل تشكيل الأنا العليا. فحينما تبدأ الطبيعة الفطرية للأنا بفصْل ذاتها عن العالم الظاهري (ذلك العالم الذي تتحقق مواجهته (أو ملاقاته) بدئيًّا في ثدي الأم)، يبدأ قسِيمُ طبيعتها المكتسبة باتخاذ مجراه الطبيعي في عمليتي التطور اللبيدي والتطور الأنوي، وذلك من جرّاء تجاوز تلك المواجهة (أو الملاقاة) البدئية، ومن ثمّ التوسّع في مجال التحقق (أي تحقق العالم الظاهري). يدلّ ذلك على أن الحالة الراهنة للأنا (أو حالتها اللاحقة، بقدر ما يتعلق الأمر بها كذلك) لحالة إن هي إلا نساخة مُصَغَّرة عن حالتها السابقة، بحيث إن الحالة السابقة هذه تدنو من العالم الظاهري أكثر فأكثر وأن الحالة الراهنة (أو اللاحقة) تلك تنأى عن العالم ذاته أكثر فأكثر[22]. ففي حالة من التبدّل والتغيّر المتواصلين، إذن، تستمدّ الأنا، عن طريق كمونيّتها المعرفية، فيما يبدو، وَعيًا متزايدًا إلى مكنونات محتواها من "الحالة البَعْدية" للنفس، مكنونات تأخذ في التناقص، بدورها، مما يفسر كيف أن قدرة الأنا على تنظيم مكنونات محتواها هذه تميّزها عن "دُكنة" الأنا الغائبة تمييزًا أكثر جلاءً، نظرًا لافتقار الماهية النفسانية الأخيرة (أي الأنا الغائبة) إلى القدرة على تنظيم مكنونات محتواها افتقارًا حتميًا. والآن، إذا كانت الأنا الغائبة تلك الماهية النفسانية ذاتَ المحتوى اللاواعي لاوعيًا قطعيًّا (حيث تستمدّ الدوافعُ الغَرَزية طاقاتِها الرَّغبية سعيًا وراء الإشباع اللاموجّه)، وإذا كانت الأنا تلك الماهية النفسانية ذاتَ المحتوى الواعي وعيًا غيرَ قطعيّ (حيث تستمدّ العمليات الفكرية قواها اللارَغبية سعيًا وراء التكييف الموجّه)، فإنّ المهمّة الرئيسية الملقاة على عاتق الأنا، عندئذ، هي أن تجريَ توسّطًا (أو تفاوضًا بالأحرى) بين العالم الباطني (أي الأنا الغائبة) والعالم الظاهري. وبما أنّ التكييف الموجّهَ هذا يتمّ إنجازه من حيثيّة الواقع على وجه التحديد، وأنّ لـ "وَضَح" هذا الواقع أنْ يُجابه "دُكنة" الأنا الغائبة بكافة العوامل التاريخية (الممكنة) والتي تتبدّى في حالة خصام ونزاع (دائمين) معها (أي الأنا الغائبة)، فلا بدّ، إذن، من أن تلجأ الأنا لجوءًا إرغاميًا إلى إجراءات مُلتبسة و(تدابير) وهميّة، فيما يبدو، فتنزع بهذه الإجراءات والتدابير إلى تشويه (أو تعتيم) "وَضَح" الواقع في حدّ ذاته. وفي هذا الصدد، يدلي فرويد، من خلال محاولته البرهان على النظرية القائلة بأن المعرفة سيرورة معرفية تتأصّل أصولها في الإدراك (الحسّي) الخارجي، يدلي بقوله نقلاً عن رأي غروديك (الآنف الذكر) بأنّ "الأنا [المكنونة] فينا تسلكُ بصورة جوهرية سلوكًا سلبيًّا [استسلاميًا] في الحياة" وأنّ ثمّة "قوى مجهولة شديدة المراس تسكن فينا"[23]. لهذا السبب، فإن الأنا، بوصفها وسيطًا (أو مفاوضًا)، "تستسلم إلى الغواية فتصبح متملقة ومُرائية، انتهازية وكاذبة، مثلها كمثل السياسيّ الذي يرى الحقيقة [واضحة] ولكنه يريد أن يُبْقِيَ مكانته في حُظوة شعبية"[24]. ويظهر أن سلوك الأنا السلبي والنفاقي هذا، بجليّته، لهو الباعث الرئيسي، بالفعل، على الرأي الذي ارتآه فرويد (فيما بعد)، ذلك الرأي القائل بأن "الأنا تمثل المَقرّ الحقيقي للحَصَر النفسي" على خلاف الرأي القائل بأن الحَصَر النفسي عينه يمثل شكلاً من أشكال اللبيد(و) المُحَوَّل[25]. ويبدو أيضًا أن سلوك الأنا السلبي والنفاقي ذاته، على وجه الضبط، ليمكن عَزْوُه، بحسب مفهوم لاكان، إلى "رفضها [أي الأنا] الاعترافَ بـ (صحّة) الواقع رفضًا نظاميًا [أو "مبرمجًا"]": إذ يتجلى هذا الرفض في تجلٍّ أنوي لِـ "سوء الفهم" (أو "سوء التبيُّن (المقدَّر)" méconnaissance، تجلٍّ أنوي مُضَلل تضليلاً نظاميًا (أو "مبرمجًا") إنْ هو إلا اندماج (أو تمَلغُم) تعارُضي- شطري لـ"نوايا صالحة ونوايا طالحة"[26]. وللسبب نفسه، على وجه الضبط أيضًا، يوردُ لاكان كلمته الشهيرة من هذا الخصوص، تلك الكلمة القائلة بأن "الأنا تمثل المَقرّ [الحقيقي] للأوهام"، وذلك بالقياس إلى الرأي الذي ارتآه فرويد (فيما بعد)[27]. وعلى ذلك، ففي "التجلي الأنوي" المعنيّ ما يفسّر تفسيرًا مُسْتصْوَبًا المُمْرِضَات (أي الأسبابَ) النفسانية لأعراض الذُّهان (السايكوسيس) في الحالات الخطيرة إلى حدّ ما: إذ أن فيه (أي "التجلي الأنوي") ما سبق أن تمّ إثباته لدى تعليل المُمْرِضَات النفسانية لأعراض الوُهَام (البارانويا) في الحالات "الأقلّ خطورة"، كما هي الحالة في عَرَض وُهَام الاضطهاد الذي تتماثل (أو تتطابق) فيه كلّ من صورة المضطهد (بكليتها) وصورة المثال الأنوي المكنونة في المضطهد (أي المَوْهُوم ذاته) (علمًا بأن مصطلح المثال الأنوي هذا يجري استخدامه كمُرادف لمصطلح الأنا العليا في كثير من الأحيان، كما سبق ذكره)[28]. وهكذا، فإن الأنا، من جرّاء لجوئها الإرغامي إلى الإجراءات المُلتبسة و(التدابير) الوهميّة، تميل إلى إطلاق أحكام خاطئة إطلاقًا واعيًا لكي تخفيَ (أو، بالحَريّ، تموِّهَ) الحضورَ الفعليَّ للصراعات والتناقضات غير المرغوب فيها، تلك الصراعات والتناقضات التي تنبعث من أحكام "الضرورة" المحكومة (كنوبات الغضب وفورات التمرّد وانفجارات الثورة، إلخ). يدلّ ذلك على أن الأنا الغائبة، على العكس من ذلك، ملزومة بالإفادة من إجراءات غير مُلتبسة و( تدابيرَ) لاوهميّة من خلال سعيها إلى إطلاق أحكام صحيحة إطلاقًا لاواعيًا، كبدائل، بحيث تنقادُ هذه الماهية النفسانية صاغرة للنزوعات الرَّغَبية المُثارة في عالمها (الخاصّ)، فتكون في حالة وئام ووفاق تامَّين و"أمينين" معها (أي النزوعات الرَّغَبية). وبالتالي، كلما اتسعت هوّة التنافر المقيت بين النزوعات الرَّغَبية والمطالب الاجتماعية، لجأت الأنا إلى إطلاق أحكام خاطئة إطلاقًا "واعيًا"، وأصبح العَرَضُ الناشئ عَرَضًا غيرَ سوي (أو مَرَضيَّ المنشأ). ولإيضاح هذا التناقض الكامل بين الأحكام الصحيحة والأحكام الخاطئة على سبيل التمثيل، فإن الجزءَ الأوّل الذي يحدّد بواكير سيرة المريض الملقب بـ "أبي الجُرَذ" (ذلك المريض الذي خضع لتحليل فرويد) لجزءٌ يشير إلى حالة وثيقة الصلة بالتناقض الكامل المعنيّ: إذ يجري النظر إلى السيرة هذه باعتبارها الدراسة التحليلية- النفسية الأكثر أهمية من بين الدراسات الميدانية لأعراض العُصاب الاستحواذي. يتعلق ذلك الجزء الأوّل من السيرة هذه بالمدّة الزمنية التي تنتهي بالمُمْرض (أو السبب) النفسي (رقم: 12)، على وجه التحديد، لأنه يستدعي الحدوث الأوّلي للهاجس الذي استحوذ على المريض (هاجس موت أبيه بالذات). ولكن الجزء الأوّل من السيرة يمكن أن يمتدّ إلى المُمْرض النفسي (رقم: 20)، أيضًا، لأنه يستدعي حدوث الهاجس المستحوِذ نفسه مرة أخرى، كما يتبيّن ذلك من المعطيات التسلسلية- الزمنية (الكرونولوجية) التي أوردها محرّرو أعمال فرويد[29]. من المعروف أن دافعًا غَرَزيًا (أو عددًا من الدوافع الغَرَزية) كان يهيمن على هذا المريض (ذي الجنس الذكري) في طفولته المبكرة على نحو لحوح، دافعًا غَرَزيًا مشحونًا بالإثارة الجنسية بشكل أو بآخر جرت العادة على تسميته بـ "الكلف بالنظر" scopophilia (أي رغبة الذكر الجَمُوح في رؤية أشخاص من الجنس الأنثوي في عُرْي تامّ، والعكس بالعكس (قا: "اختلاس النظر" voyeurism). من هنا، يتبيّن بجلاء كيف أن الدافع الغَرَزي (أو عدد الدوافع الغَرَزية) للرغبة الجَمُوح هذه، يتبيّن كيف أنه، في حدّ ذاته، يستجيب مذعنًا لـ "الأحكام الصحيحة" التي تطلقها الأنا الغائبة إطلاقًا لاواعيًا، وذلك لمجرّد أن الأنا "الواعية"، من طرفها، تفتقر إلى وجود الوساطة اللحظية (أو التفاوض اللحظي) بين التحقيق "الإشباعي" والمستلزَم (أو المرغوب فيه) لتلك الرغبة الجَمُوح، من جهة، وبين العواقب "الوخيمة" وغير المستلزَمة (أو المرغوب عنها) للرغبة الجَمُوح ذاتها فيما يتعلق بالواقع، من جهة أخرى. ومن المعلوم، أيضًا، أن الرغبة الجَمُوح نفسها لتأخذ في التوازي (أو التصاحب) مع الهاجس المستحوذ الآنف الذكر فيما بعد، وإلا فإن غياب كيفية الهاجس المستحوِذ عن الرغبة الجَمُوح سيقتضي (ضمنًا) غيابَ تعارضها التامِّ مع العالم الظاهري وغرابتها المُطلقة عن المطالب الاجتماعية التي يفرضها هذا العالم. لهذا السبب، يظهر أن نوعًا من الصراع الوهمي كان يجري في ذهن الطفل منذ البداية، صراع بين الرغبة الجَمُوح عينها وبين خوف هاجسيّ مستحوِذ كان يقترن بها اقترانًا صميميًّا (أي مخافة الطفل من أنّ أباه الذي مات أصلاً سوف يتحتم عليه أنْ يموت)[30]. وبالتالي، تتقيّد الأوهامُ النفسانية لهذا الخوف الهاجسيّ المستحوِذ، على خلاف الدافع الغَرَزي (أو الدوافع الغَرَزية) للرغبة الجَمُوح، تتقيّد بشروط "الأحكام الخاطئة" التي تطلقها الأنا إطلاقًا واعيًا نتيجة لجوئها إلى الوساطة اللحظية (أو التفاوض اللحظي) بين التحقيق "الإشباعي" والمستلزَم (أو المرغوب فيه) لتلك الرغبة الجَمُوح، من ناحية، وبين العواقب "الوخيمة" وغير المستلزَمة (أو المرغوب عنها) للرغبة الجَمُوح ذاتها فيما يخصّ الواقع، من ناحية أخرى يدعو ذلك على الاقتراح، إذن، بأن التناقضَ الكامل والصريح بين "الأحكام الخاطئة" (التي تطلقها الأنا، من طرفها، إطلاقًا واعيًا) وبين "الأحكام الصحيحة" (التي تطلقها الأنا الغائبة، من طرفها، إطلاقًا لاواعيًا) لتناقضٌ يتوافق إلى حدّ بعيد، على ما يظهر، مع تضادّ (مُطلق) وضمني بين قسِيمَيْن نفسانيين للماهية النفسانية الأولى (أي الأنا) على وجه التخصيص: أولاً، القسِيم الموضوعي للأنا الواعية (في حالة "الأحكام الخاطئة")؛ وثانيًا، القسِيم الذاتي للأنا اللاواعية (في حالة "الأحكام الصحيحة")، بحيث أن القسِيم الذاتي هذا لوشيجُ الاتصال بالتشابه (الجوهري) الحاسم بين الأنا والأنا الغائبة، كما تمّت الإشارة إليه آنفًا. وبما أن ظاهرة الدمج التي تمّت مناقشتها في مقال سابق لظاهرةٌ يمكنها أن تفضيَ إلى الارتقاء النفساني أو الارتداد النفساني لهوية الدامج[31]، وأن كلاً من هذين التحوّلين النفسانيين يتوقف على التكوين النفساني لهوية المدموج في أغلب الأحوال، فإن القسِيمَ الذاتي للأنا (اللاواعية)، فيما يبدو عند الوهلة الأولى، لقسِيمٌ قد يرادف بمعناه المعنى (المُدْرَكَ) لتلك الهوية، قسِيمٌ ذاتي يميل إلى عرْض تنفيذه (أو تطبيقة) الموضوعي في أدبيات التحليل النفسي. والآن، إذا كان التحليلُ النفسي (سواءً من حيث جانبه النظري أم من حيث جانبه العملي) فرعًا من فروع الدراسة معنيًّا في نهاية المطاف بشخص مُفرَد ومحدّد، فإن المعنى (المُدْرَكَ) للهوية المُنوَّه عنها، عندئذ، لمعنىً يرادف، بدوره، معنى ذلك الشخص المُفرَد والمحدّد بوصفه تعميمًا أو تجريدًا يُشار إليه في التنظير اللاكاني، على الإجمال، بالمُسْند إليه the subject. خلاصة وجملة القول، إن الأنا ماهيةٌ (أو نيابة) نفسانية تتضمّن ماهيتين (أو نيابتين) نفسانيتين أخريين، هما: الأنا الغائبة في المستوى الأدنى والأنا العليا في المستوى الأعلى، فتعكس تمثيلاً ثلاثي الأبعاد للنفس، تمثيلاً ينبني، في الأصل، على أساس أنظمة ثلاثة (سبق تنظيرها)، هي: نظام اللاوعي ونظام ماقبل الوعي ونظام الوعي. ففي حين أن الأنا الغائبةَ (بوجودها السَّبْقي) ماهيةٌ نفسانية لاواعية لاوعيًا قطعيًا، على ما يظهر، يتبيّن أن لا الأنا (بوجودها الوَسْطي) ولا الأنا العليا (بوجودها اللحْقي) ماهية نفسانية واعية وعيًا قطعيًا، يعني ذلك أن ثمّة علاقةً (لاواعيةً) تنشأ بالفعل بين الأنا الغائبة وبين كلّ من الماهيتين النفسانيتين الأخريين. فأما الأنا الغائبة، من قبلها، فماهيةٌ تتولى أمورَ العاطفة أو الشهوة (ضمن طاقاتها الرَّغَبية)؛ وأما الأنا، من لدنها، فماهيةٌ تعمل على إدارة شؤون العقل أو الرشد (ضمن قواها اللارَغَبية)؛ وأما الأنا العليا، من طرفها، فماهيةٌ تعمد إلى إقرار سلطة الرقابة (ضمن مطالبها الاجتماعية). وبما أن الترسيخَ الأكثر بُكورًا للدمج (البدائي) ليشير، بالتأكيد، إلى التجلي الأكثر بُكورًا للأنا (البدائية)، فإن علاقة الصراع المتبادل بين ظاهرة الدمج وعقدة أوديب تسلط الضوء، بدورها، على النواحي التطورية للأنا، نواحٍ يتبدّى من خلالها ابتداء التوازي المحتمل بين التطور الأنوي والتطور اللبيدي على نحو اطرادي. إذ ليست الأنا والأنا الغائبة، على ضوء هذا التوازي، سوى نساختين (متفرّعتين) من ماهية نفسانية أصلية (أو بدائية) واحدة، بحيث يمكن القول بأنّ الأنا الغائبةَ ماهيةٌ (فرعية) ثابتة بطبيعتها الفطرية وأن الأنا ماهيةٌ (فرعية) متحوّلة بطبيعتها الفطرية- المكتسبة تحت ظلّ الأنا العليا بطبيعتها المكتسبة. ويمكن، أيضًا، تفسير هذا الاتكال المتبادل بين الماهيات النفسانية الثلاث بلغة بديلين (مفهوميين) قابلين للإدراك على النحو التالي: أولاً، تحتوي الأنا الغائبة، في البدء، على رواسبِ عددٍ لامتناهٍ من "الأنوات" (رواسبَ تهدف الأنا إلى إحيائها وإلى إعادة بنائها من غير انقطاع)؛ وثانيًا، تشتمل الأنا، في الأصل، على كلِّ ما ينتمي إلى "الحالة القبْلية" للنفس (أي ما يقبع في "دُكنة" الأنا الغائبة). ففي كلّ من هذين البديلين (المفهوميين)، إذن، تأخذ الأنا، فيما بعد، في التوسيع من مكنونات محتواها لكي تبلغ "الحالة البَعْدية" للنفس ولكي تكتسب (ومن ثمّ توثقَ) المادّة َ الأوّلية (أو الخام) التي تحتاج إليها، بالضرورة، من أجل تكوين الأنا العليا. وهكذا، فإن الصراعَ الدائم بين الأنا والأنا الغائبة في الحضور (الناشئ) للأنا العليا لصراعٌ يمكن عزوُه، بالفعل، إلى ذلك التنافر (أو الاختصام) المستمرّ ببقائه بين مبدأ الواقع (بكونه المبدأ الذي ينظم عمل الأنا) وبين مبدأ اللذة (بوصفه المبدأ الذي يتحكم في عمل الأنا الغائبة)، حتى لدى التنفيذ أو التطبيق (اللاحق) لمبدأ الخُلق (باعتباره المبدأ الذي يهيمن على عمل الأنا العليا). و بالتالي، ينتج عن هذا الصراع الدائم (أو التنافر المستمرّ) أن الأنا، من خلال قيامها بدور الوسيط (أو المفاوض بالحري)، تميل إلى إطلاق أحكام خاطئة إطلاقًا واعيًا (تلك الأحكام التي تعكس تجَليات أنوية لـ "سوء الفهم" أو "سوء التبيُّن (المقدَّر)") بغية الفوز بالتكييف الموجّه، في حين أن الأنا الغائبة تنزع إلى إطلاق أحكام صحيحة إطلاقًا لاواعيًا بغية الإحراز على الإشباع اللاموجّه بدلاً من التكييف الموجّه. أخيرًا، يلقي هذا التناقض الكامل بين الأحكام الخاطئة والأحكام الصحيحة، بدوره، الضوءَ على التضادّ (المُطلق) بين القسِيمَيْن النفسانيين للأنا، على الترتيب: القسِيم الموضوعي للأنا في إطار تمثيلها الواعي، من جهة، والقسِيم الذاتي للأنا في إطار تمثيلها اللاواعي، من جهة ثانية، بحيث إن معنى هذا القسِيم النفساني الأخير للأنا يرادف معنى ما يُسمّى بالمُسْند إليه بوصفه تعميمًا أو تجريدًا. *** *** *** المراجع
Edwards, P. (1972): The Encyclopedia of Philosophy. Ed. P. Edwards. Macmillan, vol. 3. Erikson, E. (1950): Childhood and Society. Norton (1963). Freud, S. (1900): The Interpretation of Dreams. Penguin Freud Library, vol. 4. Freud, S. (1908a): Hysterical phantasies and their relation to bisexuality. Penguin Freud Library, vol. 10. Freud, S. (1908b): Creative writers and day-dreaming. Penguin Freud Library, vol. 14. Freud, S. (1909): Notes upon a Case of Obsessional Neurosis. Penguin Freud Library, vol. 9. Freud, S. (1911): Formulations on the two principles of mental functioning. Penguin Freud Library, vol. 11. Freud, S. (1914): On narcissism: an introduction. Penguin Freud Library, vol. 11. Freud, S. (1915): The unconscious. Penguin Freud Library, vol. 11. Freud, S. (1920): Beyond the Pleasure Principle. Penguin Freud Library, vol. 11. Freud, S. (1923): The Ego and the Id. Penguin Freud Library, vol. 11. Freud, S. (1924a): The dissolution of the Oedipus complex. Penguin Freud Library, vol. 7. Freud, S. (1924b): The economic problem of masochism. Penguin Freud Library, vol. 11. Freud, S. (1926): Inhibitions, Symptoms and Anxiety. Penguin Freud Library, vol. 10. Freud, S. (1930): Civilization and its Discontents. Penguin Freud Library, vol. 12. Freud, S. (1933): New Introductory Lectures on Psychoanalysis. Penguin Freud Library, vol. 2. Freud, S. (1938): An Outline of Psychoanalysis. Penguin Freud Library, vol. 15. Groddeck, G. (1923): Das Buch vom Es. Vienna. [The Book of the It. New York (1950)]. Lacan, J. (1938): Les Complexes Familiaux dans la Formation de l’Individu. Paris: Navarin. Lacan, J. (1953): Some reflections on the ego. International Journal of Psychoanalysis, 34:11-17. Lacan, J. (1953-4): The Seminar. Book I. Freud’s Papers on Technique. Trans./Ed. J. Forrester. Cambridge: C.U.P. (1988). Lacan, J. (1960-1): Le Séminaire. Livre VIII. Le Transfert. Paris: Seuil. Lacan, J. (1966a): Écrits: A Selection. Trans. A. Sheridan. Routledge (1997). Lacan, J. (1966b): Écrits. Trans. B. Fink. Norton (2006). el-Marzouk, Gh. (2007): الدَّمْج / Identification. Damascus: Maaber. (In Arabic and English). [1] لاحظ، هنا، أن مصطلح الأنا الغائبة في اللغة العربية هو أقرب ما يكون لمصطلح the id في اللغة اللاتينية ممّا هو معروف بمصطلح "ألْهذا" أو مصطلح "الهُو" في معظم التراجم العربية، وذلك لسببين أحدهما لغويّ والآخر نفسيّ. فأما السبب اللغويّ فيشير إلى كون المصطلح في اللغة اللاتينية ترجمةً في الأصل عن مصطلح das Es في اللغة الألمانية، ذلك المصطلح الذي يقابله مصطلح the it في اللغة الإنكليزية (أي ضمير الغائب المفرد المحايد "الهُوَ/الهِيَ"). يعني ذلك أن صفة "الغياب" التي أضفيت على تسمية "الأنانة" في مصطلح الأنا الغائبة لصفةٌ ضرورية من حيث مفهومها اللغويّ، كما سيتمّ تفصيله في النصّ بعد قليل. وأما السبب النفسيّ فينوّه عن كون الأنا والأنا الغائبة ماهيتين نفسانيتين متفرّعتين في الأساس من ماهية نفسانية واحدة ليس غير، ماهيةٍ نفسانية أصلية (أو بدائية) تحتوي على ما تحتويه الاثنتان معًا. ففي أثناء التطور النفسيّ، فيما بعد، اكتسبت الأنا درجةً من الوعي لم تكتسبْها الأنا الغائبة، فأصبحت الأولى "شاهدة" بوعيها إلى حدّ ما، وظلّت الأخيرة "غائبة" عن هذا الوعي. يدلّ ذلك على أن تسمية "الأنانة" التي اقترنت بصفة "الغياب" في مصطلح الأنا الغائبة لتسميةٌ ضرورية كذلك من حيث مفهومها النفسيّ، كما سيتمّ توضيحه في النصّ أيضًا. [2] في الطبعة المعتمدة للأعمال النفسية الكاملة لزيغموند فرويد بتحرير جايمز سترايتشي، يجري على نحو نظامي نَقْلُ المصطلح Trieb في اللغة الألمانية إلى مصطلح "الغريزة" instinct في اللغة الإنكليزية. غير أن معظمَ المترجمين والشُرّاح بعدَ سترايتشي يميلون إلى استخدام مصطلح "الدافع" drive بدلاً من مصطلح "الغريزة" مؤيّدين بذلك فَهْمَهُم (العلمي) للتمييز "الحاسم" بين الصطلحين. فمن طرف، يتضمّن مصطلحُ "الغريزة" معنى قدرةِ المتعضّي الفطرية على الاستجابة لحافزٍ معيّن (يعني ذلك أن الغريزة َ مُحَتمة قَبْليًا وقابلةٌ للتنبّؤ على حدّ سواء). ومن طرف آخر، يدلّ مصطلح "الدافع" على الاستجابة المحرَّضة التي تدفع بالمتعضّي إلى بلوغ هدف محدّد (يعني ذلك أن الدافعَ مُحَتّمٌ بَعْديًا وغيرُ قابل للتنبّؤ على حدّ سواء). علاوة على ذلك، ثمّة في علم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجيا) عمليتان وظائفيتان متصارعتان على الدوام: أحدهما عملية الابتناء (التي تمثل الجانبَ البنائيَّ للأيْض الحيوي والتي يقابلها في علم النفس المصطلحُ إيروس "غريزة/دافع الحياة") والأخرى عملية الانتقاض (التي تمثل الجانبَ الهَدْميَّ للأيْض الحيوي والتي يقابلها في علم النفس المصطلحُ ثاناتوس "غريزة/دافع الموت"). وبما أن كلا المصطلحين "الغريزة" و"الدافع" يرتبطان بكلّ من هاتين العمليتين الوظائفيتين ارتباطًا وثيقًا، سيُعمد في هذا المقال إلى استخدام مصطلح "الدافع الغَرَزي" instinctual drive (والجمع: "الدوافع الغَرَزية") كمصطلح يشتمل على المصطلحين معًا. [3] را: المرزوق، 2007. [4] را: المرزوق، 2007، الحاشية: 13. [5] قا: فرويد، 1924 آ، ص 319. [6] قا: لاكان، 1966 آ، ص 2؛ لاكان، 1966 ب، ص 76. [7] قا: إريكسون، 1950. [8] مما يجدر ذكره، في هذه القرينة، أن مصطلح "الدافع الغَرَزي" (انظر الحاشية: 2) يشير إلى صنفين متغايرين (أو متضادّين) من الدوافع الغَرَزية، ذينك الصنفين اللذين وضعهما فرويد في إطار مفهومه الثَّنَوي عن الطبيعة. أولاً، الدافع الغَرَزي للحياة (أو إيروس)، الذي يسعى بغايته إلى تنشيط (أو تعقيد) العالم العضوي وإلى الحفاظ عليه في آن واحد. ويشتمل هذا الصنف، بدوره، على صنفين فرعيين من الدوافع الغَرَزية للحياة، هما: الدوافع الغَرَزية الجنسية (أي المُتَغرِّضة واللامُتَغرِّضة على حدّ سواء) والدوافع الغَرَزية الحافظة للذات (أي المخصّصة للأنا أو المعزوّة إليها تحديدًا). ثانيًا، الدافع الغَرَزي للموت (أو ثاناتوس)، الذي يميل، على النقيض من ذلك، إلى الرجوع بالعالم العضوي إلى الحالة اللانشِطة (أو اللاحيّة). ويتضمّن هذا الصنف، بدوره، صنفين فرعيين من الدوافع الغَرَزية للموت، هما: الدوافع الغَرَزية السادية والدوافع الغَرَزية المازوخية. وبما أن إيروس و ثاناتوس يقترنان، على الترتيب، بعمليتي الابتناء والانتقاض (تينك العمليتين الوظائفيتين المتصارعتين الآنف ذكرهما في الحاشية: 2)، فإن صنفي الدوافع الغَرَزية هاذين يتمّ تنشيطهما معًا في كل خلية من خلايا المتعضّي على نحو غير متكافئ ليصار إلى تنشيط التحامهما وانفصالهما على حدّ سواء (قا: فرويد، 1920، ص 275 ومايتبعها؛ فرويد، 1923، ص 380 ومايتبعها؛ فرويد، 1924 ب، ص 418 ؛ فرويد، 1938، ص 379 ومايتبعها). [9] قا: فرويد، 1914، ص 68 ومايتبعها، ص 94 ومايتبعها؛ فرويد، 1923، ص 368 ومايتبعها، ص 386 ومايتبعها، إلخ؛ قا: أيضًا المرزوق، 2007، الحاشية: 6. [10] قا: فرويد، 1923، ص 389 ومايتبعها. [11] قا: غروديك، 1923. أنظر أيضًا الحاشية:1. [12] قا: فرويد، 1923، ص 345، ص 362، الحاشية: 2. [13] قا: فرويد، 1923، ص 369، الحاشية: 1، ص 387، ص 404 وما يتبعها. [14] قا: فرويد، 1923، ص 367. [15] من القمين بالذكر، هنا، أن مبدأ اللذّة the pleasure principle (كمصطلح) ظهر لأوّل مرّة في كتابات فرويد، على ما يبدو، وذلك من جرّاء إعادة صياغته النظرية لمبدأ (نقيض) كان يسمّيه سابقًا بـ"مبدأ اللالذّة" the unpleasure principle (قا: فرويد، 1900، ص 759 ؛ فرويد، 1911، ص 36). إذ ليس مبدأ اللذّة هذا، في حقيقة الأمر، سوى مصطلح موسّع فيه (نفسيًا) تمّ اشتقاقه في الأصل من الفكرة الكلاسيكية لـِ"مذهب المتعة" hedonism، تلك الفكرة المألوفة في تاريخ الفكر الإنساني مدى ألفيّتين ونصف على أقلّ تقدير. فقد سبق للفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز (1588- 1679) أن استخدم الفكرة ذاتها في سياق تنظيره حول أعمال العقل، فحاول أن يضع مبدأين (أو هدفين) فرعيين: أحدهما السعي وراء اللذّة (وهذا ما يوحي إلى النواحي الإيجابية لمبدأ اللذّة (عند فرويد)) والآخر التفادي من الألم (وهذا ما يشير إلى النواحي السلبية للمبدأ نفسه (عند فرويد أيضًا)). وفضلاً عن ذلك، يعود تاريخ الفكرة المعنية حتى إلى مصادر (أكثر إيغالاً في القدم)، منها الفيلسوف اليوناني أبيقور (341 ق. م.- 270 ق. م.) الذي كتب عنه الكاتب ليرتيوس في القرن الثالث للميلاد قائلاً: "فمن خلال برهانه [أي أبيقور] على أنّ المتعة هي الغاية [الأسمى]، يُدلي بحقيقة مُفادها أن الكائنات الحيّة [بشرًا أو حيوانات]، حالما تولد، لَتشعر بالرضى التامّ تجاه المتعة وبالعداوة نحو الألم" (مقتبسٌ في: إدواردز، 1972، ص 433). وهكذا، يمكن إدراك الطبيعة الفطرية لمذهب المتعة (عند أبيقور) أو مبدأ اللذّة (عند فرويد) إدراكًا جليًّا من العبارة "حالما تولد" في كلام ليرتيوس. [16] قا: فرويد، 1923، ص 364. [17] قا: فرويد، 1933، ص 109 ومايتبعها. [18] قا: فرويد، 1923، ص 395. [19] قا: فرويد، 1908 آ، ص 87 ومايتبعها؛ فرويد، 1908 ب، ص 129؛ فرويد، 1911، ص 39. [20] را: أيضًا المرزوق، 2007. [21] قا: فرويد، 1923، ص 378. [22] قا: فرويد، 1930، ص 255. [23] قا: فرويد، 1915، ص 180 وما يتبعها؛ فرويد، 1923، ص 361 وما يتبعها. [24] قا: فرويد، 1923، ص 398. [25] قا: فرويد، 1926، ص 244. [26] قا: لاكان، 1953، ص 12 وما يتبعها. [27] قا: لاكان، 4-1953، ص 62. [28] كما تمّت مناقشته في بداية الشرح، فإن العَكْس الفعلي لعقدة أوديب يضع التوكيد على التمييز بين الإضفاء المثالي (أي إضفاء الدامج صفة مثالية على المدموج) وبين التشْييء اللبيدي (أي اتخاذ الدامج المدموج شيئًا لبيديًا)، ذلك التمييز الذي يناظر التمييزَ بين النزعة الكينونية (أي كون الدامج مثلَ كينونة المدموج) وبين النزعة المِلكية (أي مِلك الدامج كينونة المدموج بدلاً من كونه مثلها)، على الترتيب (انظر أيضًا: المرزوق، 2007، الحاشية: 13). أما التحطيم الحتمي للعقدة ذاتها فيضع التشديد على إشراب السلطة (التحريمية) للمدموج في الأنا المكنونة في الدامج (ذات الوجود الوَسْطي)، فيشكل، بعدئذٍ، هذا الإشرابُ في نفس الدامج النواة لتطور الأنا العليا (ذات الوجود اللَّحقي). فإذا لم يزل الإشرابُ المعنيّ "يدمج" نفسَه في الإضفاء المثالي (أو النزعة الكينونية)، إن صحّ القول، فإن مصطلحَي الأنا العليا the super-ego والمثال الأنَوي the ego-ideal لَمصطلحان مترادفان بمعنيَيْهما، على الرغم من أن "طباقًا ناقصًا" يجري وضعه في بعض الأحايين بين معنى "الشعور بالذنب" وبين معنى "الشعور بالخزي"، على الترتيب. وينحو لاكان، من هذا الخصوص، فيما يبدو، نحوَ التوسّع في (أو الزيادة من) شدّة هذا "الطباق الناقص" إلى مدىً أبعد ليجعله "طباقًا تامًّا": ففي حين تجسّدُ الأنا العليا الكبتَ اللاواعي لأشكال تركيز الطاقة النفسية (الكاثكسيس) على الشخص/الشيء، يجسّمُ المثالُ الأنوي الانتقاضَ الجنسي الواعي لأشكال تركيز الطاقة النفسية هذه، فيجسّمُ، من ثمّ، مُساماتها (العاطفية) الواعية (قا: لاكان، 1938، ص 59 وما يتبعها). وفضلاً عن ذلك أيضًا، حتى من خلال تنظيره (أي لاكان) حول ما يسمّيه بـ "الأنموذج البصري" (ذلك الأنموذج الذي تمّ اشتقاقه، في الأصل، من استخدام فرويد المجازي للمِقراب (التيليسكوب) (قا: فرويد، 1900، ص 685 ومايتبعها))، يمضي لاكان إلى حدّ أكثر بعدًا ليضع تمييزًا بين المثال الأنَوي بوصفه ماهية نفسانية تشير إلى "الإشراب الرمزي"، من طرف، وبين ما يدعوه بـ "الأنا المثالية" the ideal ego باعتبارها ماهية نفسانية توحي إلى "الإسقاط الخيالي"، من طرف آخر (قا: لاكان،1- 1960، ص 414). وهكذا، كما هي الحال في الفارق التطوري بين الدمج الرمزي والدمج الخيالي، ذلك الفارق الذي تمّت الإشارة إليه في المقال السابق (انظر أيضًا: المرزوق، 2007، الحاشية: 19)، فإن المثال الأنَوي (الذي يقوم بمهمة الدالّ المثالي) لَماهية نفسانية أكثر تطورًا من الأنا المثالية (تلك الماهية النفسانية التي تؤدي دور الصورة المثالية (أي الصورة المقدّسة للذات في طور المرآة)). [29] قا: فرويد، 1909، ص 35. [30] قا: فرويد، 1909، ص 44. [31] را: المرزوق، 2007.
|
|
|