english

أغنيات الأرض:
الشعريات الإيكولوجية وهيدجر ومفهوم الإقامة

 

مايكل بيترز[1]
وروث ايروين[2]

 

في الطبيعة ولغة الإحساس
مرساة
ُ أفكاري الصافية
حاضنة
ُ ودليلُ وحديقةُ
قلبي
وروح وجودي الأخلاقي كله

وليام ووردورث[3]

 

ممتلئًا بالمزايا،
مع ذلك،
شعريًا يقيم الإنسان على الأرض

هولدرلين[4]

 

مقدمة

يناقش هذا البحث فكرة الشعريات الإيكولوجية[5] ecopoetics في صلتها بأعمال مارتن هيدجر ومفهومه عن الإقامة dwelling. إن هدفنا، المعلن بوضوح، أن نجيب على السؤال التالي: ما هي الحالة النفسية التي يمكن أن تؤدي إلى الاستدامة sustainability - وكيف يمكن لنا أن نطورها؟ في الجزء الأول من البحث، نعلّق على فكرة الشعريات الإيكولوجية التي طرحها جوناثان بات[6] Jonathan Bate وعلى مناقشته لأعمال هيدجر. ويبدو جوهريًا هنا السؤال حول ما إذا كان باستطاعتنا أن نقارب الطبيعة بطريقة غير إيديولوجية أم أن كل محاولاتنا في سبيل دَرْك الطبيعة، نظريًا أو شعريًا أو روائيًا، ليست أكثر من استيلائنا الخاص عليها؟[7]. فيمكن تصوّر الشعريات الإيكولوجية كإجابة على هذا السؤال على الرغم من أننا سوف نضع رؤية بات موضع النقاش. في القسم الثاني من البحث، وبتتبع القراءة المتبصرة التي يجريها مايكل هار Micheal Haar، سوف نوسّع المعاني الأربعة التي يقدمها هيدجر عن الطبيعة، وفي القسم الثالث، نعلّق بإيجاز على فكرة الاستدامة التي يمكن أن تتضح بالعلاقة مع معاني هيدجر الأربعة عن الطبيعة.

هل الشعريات الإيكولوجية مستدامة؟

يقول جوناثان بات[8] عن كتابه أغنية الأرض The Song of the Earth[9] إنه يدور حول السؤال التالي : «لماذا يبقى الشعر مهمًا ونحن نعبر إلى ألفية جديدة ستكون محكومة بالتقنية؟» ثم يتوسع أكثر ليقول: «إنه كتاب حول اغتراب الإنسان الغربي الحديث عن الطبيعة وحول قدرة الكاتب على أن يعيدنا إلى الأرض Earth بيتنا»[10]. إن الشعرالإيكولوجي الجيد هو ذلك الذي يستطيع العودة بنا إلى الأرض، والشعريات الإيكولوجية (على نحو أفضل من النقد الإيكولوجي) ليست مجرد موضوعة ريفية، بل كما يؤكد بات متبعًا بول دو مان، ربما تكون "في الحقيقة هي الموضوعة الشعرية الوحيدة"، إنها الشعر ذاته[11]. الشعريات الإيكولوجية ظاهراتية أكثر منها سياسية، وفي الوقت الذي لا تعتمد قوتها على النظم والعروض، فهي تشكل العودة الأكثر توجهًا نحو مكان الإقامة. ويشرح بات[12]:

تتساءل الشعريات الإيكولوجية بأي وجه قد تكون القصيدة تجليًا لمكان الإقامة - واللاحقة eco - مشتقة من الكلمة الإغريقية  [13]eikos التي تعني «البيت أو مكان الإقامة».

ويقول في موضع آخر:

أفكر في هذا الكتاب "كتجربة في الشعريات الإيكولوجية". وهذه التجربة هي التالية: أن نرى ما يحدث عندما نعتبر القصائد حدائق متخيَّلة قد نستطيع فيها أن نتنفس هواء غير ملوث ونكيّف أنفسنا مع نمط من الإقامة غير مغترب.[14]

عندما يستخدم بات مفهوم "الإقامة" فهو يعتمد بوعي كامل على فهمه المبكر للشاعر ووردورث[15] Wordsworth «لأن ووردورث يبقى الأب المؤسس للتفكير حول الشعر في علاقته بالمكان، بإقامتنا على الأرض»[16] كما أنه يضمّ هذا المعنى للمكان إلى المعنى الخاص الذي يعطيه هيدجر[17] للمصطلح في مقالتين اعتمدتا على محاضرتين ألقيتا في أوائل الخمسينات هما: «بناء فكر الإقامة» في عام 1950، و«...يُقيم الإنسان شعريًا...» في عام 1951.

حقًا، هناك مجموعة خصوصية من العلاقات بين المكان والشعر والإقليم الحيوي bioregion. يجد، مثلاً، الكثير من طلاب المدارس في نيوزيلندا أن ووردورث غامض على الرغم من أنهم مرغمون على قراءة شعره واستظهاره غيبًا باعتباره جزءًا من المنهاج الدراسي. هم لا يفهمون شعره لأنهم لا يعلمون تمامًا الطبوغرافيا المحلية والمنظر الطبيعي لمنطقة Lake التي شُذبت كثيرًا من قبل الإنسان طوال عدة أجيال، و"دُجنت" بالمقارنة مع الطابع البرّي نسبيًا وغير المسكون لأراضي نيوزيلندا ومناظرها البحرية. من الواضح أن مجموعة العلاقات بين المكان والشعر والإقليم تولّد مجموعة أخرى من الأسئلة حول بنية المناهج الدراسية والمبادىء المقرِّرة لها، وحول دور الطبيعة وصورتها في تشكيل الهوية الثقافية والقومية، وصياغة المبادىء الأساسية للتدريس[18] - إذا ما عرَّفنا مجموعة من الناس من خلال تمثيل علاقتهم مع موطنهم. ومن السهل أن نرى ضمن هذه المجموعة من العلاقات كيف أن صورة خاصة للطبيعة تغدو هي السائدة. لقد استندت الحركة الرومانسية على الفصل السائد في الغرب بين الطبيعة والثقافة، لأنه قبل أن نفكر بالاتحاد الروحي أو إعادة التوحيد المقدسة، يبدو الانفصال مطلوبًا. لذلك فقد تطورت الحركة الرومانسية عبر سلسلة من الثنائيات - الحدس بدلاً من العقلانية، والمشاعر بدلاً من الاعتقادات إضافة إلى معنى التصوف والواحدية مع الطبيعة - وكأنه كان من الممكن التغلب على الاستلاب والنزعة المادية التي ظهرت مع الرأسمالية والتصنيع والتمدين urbanaization. لقد صور الرومانسيون الطبيعة غالبًا باعتبارها الحديقة أو المنظرالطبيعي أو القرية أو الأرض التي تستحضر إلى الذهن فضاءًا ريفيًا مثاليًا - عدن الفردوس - هو بمثابة الموئل habitat الطبيعي للروح. يقترح ووردورث في مقدمة ديوانه قصائد غنائية أن الشعر هو «الدفق التلقائي لمشاعر قوية»[19] لكنه أيضًا «انفعال يُستحضر بصفاء» ويؤدي إلى خلق انفعال جديد في العقل.[20] ينظر إلى الطبيعة الخلاقة للفعل الشعري باعتبارها القدرة على الانفعال «بالأشياء الغائبة كما لو أنها حاضرة» والتعبير عن كل من «الأفكار والمشاعر» التي تنبثق «بدون توسط الإثارة الخارجية»[21]. يبقى في الحقيقة أن ما يميز ووردورث عن الشعراء الآخرين المنتمين إلى الحركة الرومانسية «نظرته إلى الطبيعة باعتبارها حاملة لمغزى أخلاقي صريح»[22].

مع ذلك، وكما يحاجج ديفيد. س. ميل[23] فإن القراءات التأريخية لقصيدة دَيْر تينترن التي تركز على المواضع الدقيقة التي تتحدث عنها القصيدة، تكشف أن ووردورث يكبت بشكل مخطط وبارع وعيه بمظاهر من منطقة وادي واي لوثت نظرته المثالية إلى الطبيعة، كمشاهد النشاط الصناعي (أفران صهر الحديد) وحركة النقل الكثيفة في النهر ومهاجع الفقراء بين الأنقاض. تؤكد هذه القراءات حساسيتنا ما بعد الحداثية للبنية الأيديولوجية والاجتماعية لتمثيلاتنا الخاصة، ويستشهد ميل بأنتوني إيسوب[24]: «توجد الطبيعة كما نستولي عليها»، وكما يحاجج ميل ذاته: «لا يمكن للطبيعة أن تعرف بشكل مباشر أبدًا» و«لذلك يخدع ووردورث نفسه (وقراءه) في زعمه أنه يشعر هنا بروح تسري في كل شيء». ويمضي ميل ليجادل بأن الموضع الدقيق الذي تتحدث عنه القصيدة مركزيّ بالنسبة لأغراض ووردورث ويسهم بشكل خاص في رؤية ووردورث لوحدتنا مع الطبيعة[25].

يشرح جوناثان بات[26]، باعتباره أحد الرومانسيين الخضر العصريين، أن ما يدعوه «اخضرار الثقافة greening of culture» قد تخلف وراء الثورات الثقافية الأخرى التي حدثت منذ أواخر الستينات، بما فيها نمو الحركة النسوية وحركة حقوق الإثنيات والمثليين والنساء. فبينما ثمة تاريخ نسوي وفلسفة ونظرية للأدب، ليس ثمة مذهب بيئي مناظر ومشجّع، ولا نقد إيكولوجي أو شعريات إيكولوجية. ففي السبعينات والثمانينات لم يكن ثمة نص في النقد الأدبي الإيكولوجي، وبالتحديد لا شيء مما يشكل تراثًا. ويناقش في مسألة الحاجة إلى نظرية (ضد مذهب الفعالية لوحدها) باقتراح أنه «قبل أن تستطيع تغيير السياسات "نحو البيئة"، ينبغي أن تغير المواقف»[27]. ويكتب: «إن قراءةً خضراء للتاريخ - ولتاريخ الأدب والفلسفة وكل ميادين الإنسانيات الأخرى - هي شرط مسبق من أجل فهم أعمق لأزمتنا البيئية».[28]

كان نمو الدراسات الثقافية الخضراء بطيئًا لأن «المذهب البيئي لا يتطابق مع "سياسات الهوية" . بكلمات أخرى، إن مشروع النقد الإيكولوجي يتضمن دومًا الحديث بالنيابة عن موضوعه وليس الحديث بالأصالة: هذا يعني أن الناقد يستطيع أن يتحدث كإمرأة أو كشخص ذي اتجاه معين ولكنه لا يستطيع التحدث كشجرة.»[29] على البيئيين إذًا أن يتحدثوا بالنيابة عن الآخر غير - البشري الذي نشكل جزءًا منه. لكن، في الوقت الذي ينتقد فيه بات[30] "الانغماس ما بعد الحداثي للمعلمين الباريسيين" ضد العمل المؤسسي لرايموند ويليامز وآخرين، إلا أنه ينعطف نحو هيدجر (وهو أحد أسلاف مابعد البنيوية) كي يوضح دعواه بأن «الشعر هو أغنية الأرض.»[31]  وانطلاقًا من هذا يتعقب الترابطات بين ثلاثة أسئلة شغلت هيدجر في أعوامه الأخيرة: لماذا تكتب القصائد؟ مالذي يعنيه dwell أن نقيم كبشر على الأرض؟ ماهي ماهية التقنية؟

يتابع بات إعطاء وصف مقتضب لكنه دقيق إلى حد كبير لنظرة هيدجر إلى التقنية باعتبارها نمطًا من الكشف، وللشكل المميز الذي تأخذه في الحقبة الحديثة، حيث تحجب «القولبةُ inframing» حقيقةَ الأشياء. وبالرجوع إلى المعنى الإغريقي لكلمتي تِقْنِه "فن" techne وشعر "تجلي" poiesis كإحداثٍ للحقّ في الجميل، يصل بات إلى القضية التالية «الشعر طريقنا للخروج من قالب التقنية ولإعادة إيقاظ الدهشة البارقة للامتواري»[32]. يمكن للشعر، عندما نتيح له التأثير علينا، أن يستحضر حالات من قبيل الإقامة أو الاغتراب بمعناهما الماهوي، وليس بمجرد خصوصياتهما اللسانية»[33]. لذلك «الشعر هو القبول الأصلي بالإقامة»[34] والإقامة هي شكل حقيقي للكينونة Being يجنبنا الثنائية الديكارتية والمثالية الذاتية. هذه هي الارتباطات المفهومية التي يقيمها بات كي يصل إلى مفهومه عن الشعريات الإيكولوجية.

الشعريات الإيكولوجية، بمصطلحات بات، اختبارية أكثر مما هي وصفية وتتأسس على ما يقوم به الشاعر من مَفْصَلة للعلاقات بين البيئة والنوع البشري. القصيدة الخضراء كشف للإقامة أكثر مما هي رواية لها، إنها «ظاهراتية قبل أن تكون سياسية».[35] والشعريات الإيكولوجية قبل- سياسية بمعنى أنها «قصّة روسّوية حول تخيّل حالة للطبيعة سابقة للسقوط في الملكية وعدم المساواة والمدنية»[36]. لهذا السبب «يجب على الشعريات الإيكولوجية أن تربط نفسها بالوعي» وعندما تصل إلى السياسة أو الممارسة ينبغي علينا أن نتكلم بلغة خطابات أخرى[37]. ويحاجج بات بأن «معضلة القراءة الخضراء تكمن في أنه يجب عليها، مع أنها لا تستطيع، أن تفصل الشعريات الإيكولوجية عن السياسة الإيكولوجية» - وهي المشكلة ذاتها التي تقلق مارتن هيدجر وتجسد العلاقات بين الإيكولوجيا العميقة[38] والنزعة الفاشية. لا يمكن للمرء أن يشتق باتساق سياسة خضراء من الشعريات الإيكولوجية كما أنه لا يمكن اشتقاق سياسة خضراء من علم الإيكولوجيا. ويعزّز بات هذا الموقف عندما يحاجج بأنه «ليس للأخضر مكان في الطيف السياسي التقليدي...»[39] و«الطبيعة متنوعة جدًا بحيث لا يمكن اشتقاق مبادئ سياسية متسقة منها»[40]. لذلك يرى بات أن «المفهوم الحقيقي لـ السياسة نحو الطبيعة متناقض ذاتيًا: فالسياسة هي ما نحصل عليه عندما نهجر الطبيعة. وتلك هي النقطة التي سبق أن بحثها روسّو في مقالته الثانية»[41].

بذلك يتجنب بات «معضلة هيدجر» (إذا كان لنا أن نستخدم هذا التعبير المختصر كي نشير إلى مشكلة ما إذا كان الاتجاه النازي لهيدجر نابعًا من فلسفته أم لا) بالإلحاح على الانفصال الجذري بين الخطابات - النظري / العملي، الشعري / السياسي - وباقتراح أنه «بينما التواريخ والنظريات والنظم السياسية جميعها قولبات[42] فإن الشعريات الإيكولوجية تنكر سيادة المعرفة المقولبة وتصغي بدلاً من ذلك إلى صوت الفن »[43] كما يقترح «أن القراءة بواسطة الشعريات الإيكولوجية تعني إيجاد «الفسح» و«اللامتواريات»[44]، وبذلك فهو يشارك هيدجر خلاصته الأخيرة:

عندما تقيم المخلوقات البشرية بطريقة تنقذ الأرض، وإذا كان الشعر هو القبول الأصلي بالإقامة، عندها يكون الشعر منقذ الأرض[45].

إن قراءة هيدجر بهذا الشكل (أي، لا- شعريًا إيكولوجيًا!) تعني أن نفصل ما قاله حول الشعر والتقنية عن اتجاهه السياسي النازي، وتعني أيضًا من وجهة نظر بات، أن نتمكن من استعارة الفلسفة الإيكولوجية لهيدجر بمعزل عن سياسته الإيكولوجية. لكن من الواضح أن هذا لا يتمّ. وهو لا يتم لعدّة أسباب نختصرها كما يلي: أولاً، إن تفسير بات يستند إلى نظرية في اللغة باعتبارها خطابًا يفصل بإحكام إحدى ألعاب اللغة عن الأخرى، مثلاً، الشعر عن السياسة وعن الرواية. أكثر من ذلك، ليس ثمة أساليب أدبية أو أنواع أدبية أو خطابات تمتلك حق الدوام بمرور الزمان، فهي جميعًا وببساطة تطورات طارئة ومفتوحة على التغير، فمن الممكن أن تنشأ أشكال متميزة جديدة أو تتكرر أو تختفي. تُرى، ألا توجد سياسة للشعريات الإيكولوجية أو شعريات للسياسة الإيكولوجية؟ ثانيًا، أن نلحّ على الانفصال، خصوصًا فيما يتصل بهيدجر، يعني أن نتجاهل «بيئة الأفكار» التي تفسّر السياسة الهيدجرية وجانب ردّ الفعل في الإيكولوجيا التي يقدمها وأن نسيء فهم مصادر نزعته المضادة للحداثة[46]. ثالثًا، يخلط التفسير الذي يقدمه بات بين طبيعة السياسة والسياسة نحو الطبيعة: فهو يقيم انفصالاً زائفًا بالاستناد إلى روسّو وفهمه لماهية المدينة. مع ذلك، ربما نستطيع التحدث عن «طبيعة أولى» و«طبيعة ثانية» (انظر عمل ماكينزي ويرك). ومن الواضح، أن ثمة معنى يمكننا من خلاله الحديث بلا لبس عن سياسة نحو الطبيعة تظهر إلى الوجود في اللحظة التي تصبح فيها الكائنات البشرية واعية، وبشكل تلقائي، للتأثيرات الإيكولوجية الضارة التي تسببها الممارسات الرأسمالية والصناعية، وتعي أيضًا، بشكل جماعي، قدرتها على إبطال هذه التأثيرات. رابعًا، كي نأخذ هيدجر على محمل الجد، فهذا يعني أن نتكلم موافقين على الأنطولوجيا التي يقدمها وعلى تأملاته في الماهيات، وليس أن نقول، مع فوكو، بتطبيع أو أرخنة لأسئلة الأنطولوجيا[47].

أربعة معان للطبيعة

هناك معنى ننتقل إليه من سؤالنا عن الاستدامة وهو، كما يمكن النقاش، أصبح مكملاً لمسألة القولبة التقنية، ولم يعد فكرة على هامش السياسة والوعي الجذري.

إن السؤال عن كيفية تغيير وعي الناس فيما يتعلق بالاستدامة هو مسألة تاريخية على الأغلب. وقد حظي على الدوام بعنصر من التقدير التاريخي. والسؤال الذي استحضره هيدجر ومن علّقوا على «أغنية الأرض» التي تحدث عنها - (أي بات وهار) هو التالي: هل كان (أو يمكن أن يكون) ثمة حاجة لوسيلة أم أن التغيير في الوعي الشعبي "نحو الاستدامة" ينشأ «طوعًا»؟

على أية حال، إن بروز الاستدامة في المستقبل قد يحمل اتجاهات مفاجئة ومن الواضح أن الاستدامة أصبحت قضية النزعة الاستهلاكية وموضوعًا ينبغي أن تهتم به الرأسمالية. لقد عوّل الكثير من الناس، وبكسلٍ إلى حد ما، على إمكانية التثبيت التقني للمشكلات البيئية. بالفعل، قد تثبِّت التقنيةُ الاستدامةَ، لكن لن تنقذها، بمعنى أن هذا التثبيت يسكّن ويستبقي ويحافظ ويعيد توليد ويغذي الأساس المصدري للرأسمالية. هذا هو المسار الأخروي eschatological للقولبة التقنية: "نهايةٌ للتاريخ" مترافقةٌ مع التكنيك المعتمد من قبل العقلانية العليا ونبذٌ للأرض إلى مرتبة مصدر قابل للتدوير والتجديد، وفي النهاية، للاستبدال. لم تعد المسألة تدور حول كيف نقنع الناس بقبول وتعزيز الاستدامة، بل فيما إذا كان التحكم البشري، غالبًا في صورة المذهب العقلاني الليبرالي، سوف يستطيع أبدًا اختبار الأعجوبة الأرضية التي كان الرومانسيون آخر من حفزها. أو، هل يكون إرث الرومانسية المتمثل في تكاثر الأعمال الفنية والأفلام سوف يعاد صقله فقط ضمن ميادين جديدة أو منظومات شمسية جديدة أو كواكب جديدة باستصلاحها على شاكلة الأرض عوضًا عن هذه الأخيرة الأليفة إذا ما تمّ استنزافها.

الأرض

ارتبطت الأرض تقليديًا بالأصل أو الأساس الفيزيولوجي للحيوان البشري، بالبيولوجيا كطبقة تحتية تشيد عليها الحيوانات البشرية بناء فوقيًا من العلاقات الاجتماعية والمعارف والسياسة والتقنية.

التجهيزات

في نص هيدجر الكينونة والزمن لا يُعكس تمامًا أساس الطبيعة Nature، لكن مفهومه عن الكينونة - في - العالم يضع تركيزًا أوليًا على التجهيزات equipment أكثر من الفيزيولوجيا. تكون العلاقة الافتتاحية بين البشرية والبيئة من نوع علاقات المنفعة والمورد المحتمل. هكذا يُنظر إلى الطبيعة أداتيًا. فالغابة هي مكان لاستخدام وتخزين مواد البناء والورق أكثر مما هي منظر طبيعي جليل مستقل بذاته.

في الحقيقة، يناقش هيدجر بأن حضور «الطبيعة الخالصة» يشتق بالتجريد من وجود الأشياء في وضع الجاهزية للاستعمال كأدوات (الوجود- عندي Zuhandenhiet)،أما توافر هذه الأشياء أمامنا وبين أيدينا (الوجود- أمامي Vorhandenhiet) فهو مفهوم ثانوي أكثر من كونه أساسًا ميتافيزيقيا.

هاتان العلاقتان مع الطبيعة تغفلان قدرتها الخام وقوتها المستقلة. فالطبيعة (الرومانسية) «التي تغمرنا وتسحر ألبابنا كمنظر طبيعي» [48] لا تشتق ولا يمكن اختزالها إلى المعنيين السابقين. وهذا المظهر الخفي للطبيعة حاضر لكنه غير مكتشف في أعمال هيدجر المبكرة.

إن هيدجر منشغل في معرفة أين يُفرض الفصل المثالي بين الذاتية والطبيعة وأين وكيف (إذا أمكن) يتم تجاوزه. "العالم" شبكة من علاقات الاعتماد المتبادل على مستويات متنوعة، مثل التجهيزات والسياسة والحسّ الأخلاقي... هكذا يُمفهم "عالم" العلاقات بمصطلحات بشرية تحدّ قدرتنا على إدراك عالميَّة الطبيعة. أو بكلمات هيدجر نفسه، «كل ذلك الذي سوف نكون قادرين على قوله أو التفكير فيه أو تجربته من الظواهر الطبيعية المفترضة يموضع بشكل ضروري ضمن العالم». وبطريقة ما، وعلى الرغم من فكرته عن البشر الكائنين - في - العالم التي تنهي الانفصال بين الذات والموضوع الذي جلبه ديكارت، فإن هيدجر يستبقي نوعًا من الفصل المثالي بين الطبيعة والبشرية. "العالم" فضاء مفاهيمي مختلف عن "الأرض".

الطبيعة والحقيقة and aletheia physis

شهد فكر هيدجر خلال الثلاثينات انعطافة مدوّية عندما طوّر مقاربة أخرى للطبيعة. فقد أحيا في عمليه مدخل إلى الميتافيزيقيا وحول أصل العمل الفني مصطلحين إغريقيين مرتبطين هما physis وaletheia. هذا الإحياء المفاهيمي يعيد الاستقلالية إلى الطبيعة (تعني physis ما يظهر إلى الوجود بذاته )[49] ويكافح ضد الانفصال الممزِّق الذي وضعته المثالية. «العالم يتكشف على الأرض، والأرض تبرز في العالم»[50].

بدأ مصطلح physis يدّل أحيانًا على الأرض Earth، وأحيانًا على الطبيعة Nature، وأحيانًا على الكينونةBeing . وقد كتب هيدجر في نصوص متنوعة: «هذا الظهور والتكشف دعي مبكرًا وإجمالاً من قبل الإغريق physis. وبطابع مميز، يوضح هذا الاسم بماذا وعلى أي أساس يؤسس الإنسان مقامه. نحن نسمي هذا المقام الأرض»[51]. «physis هي الكينونة ذاتها»[52] وهي أيضًا «التكشف التدشيني لما هو حاضر في الوجود كلّه، لكنه أيضًا يتلاشى شذرًا وحتى قد يسقط في النسيان: أي الطبيعة Nature»[53].

في تلك النقطة، تتكشف مجموعة معقدة من العلاقات وتمايزات هامة بين الكينونة والحقيقة والطبيعة والأرض. ومع مرور الزمن، تدل كلمة physis على الأرض أو الطبيعة أو الكينونة، لكن مع ذلك تبقى هذه الكلمات مختلفة الواحدة عن الأخرى. يقول مايكل هار «عندما تظهر الأرض وتبدي ذاتها في العالم فهي تباشر الوجود. لكنها لا تنشأ عن الكينونة، إنها لا تتطابق مع الكينونة. إذا لم تكن الأرض ظهورًا للكينونة ولا، كما يوضح هيدجر، اسمًا لتراجع الكينونة، عندها ألن تبقى قدرتها المستقلة والخصوصية غير مفكر بها؟»[54].

جوهريًا، لا تتكل الطبيعة على مادية الكوكب، بل على دينامية الغموض والانبثاق في نور الحقيقة Aletheia. الطبيعة هي، في الآن ذاته، مظاهر الأرض الصاعدة والتي تحتفظ في الوقت نفسه بعنصر خفي. ويشرح مايكل هار ذلك بدقة أكثر: «تنتمي الأرض إلى بُعد التراجع والاحتجاب الذي يتأرجح في اللا احتجاب»[55]. ليست الأرض سرًا، على وجه الحصر، أو اختفاء أو "لا مفكرًا فيه". إنها دومًا كلا الأمرين: عناصر خفية مستغلقة ومظاهر أخرى تبدي ذاتها. إن تشريح الزهرة وتخطيط أوعيتها وخلاياها وعملياتها الكيميائية الضوئية بتفصيل دقيق لا يمكنه التحقق من جوهر ورهافة ونكهة ونواقص «زهريتها» [ماهيتها كزهرة] ويشرح هيدجر ذلك : «الأرض هي الظهور التلقائي لما هو باستمرار محتجب بذاته». فأن نعي كينونة الزهرة ذلك أمر يُعنى به الشعر وليس البحث العقلاني. الحقيقة هي سيرورة الطبيعة. والاحتجاب أو التكشف يتوجه نحو مشاهدين - أولئك الذين يهتمون، أي الدازين Dasin (الموجود - هناك /الإنسان).

سنبالغ في المسألة إذا قلنا أن الحقيقة Aletheia والطبيعة physis تقرّان الانفصال الذي تضعه المثالية. الأرض تتكشف في العالم، وهذا البروز يشكّل نهوضًا يبقى غير مفسَّر. ليست الحركة هي الكلمة الصحيحة، لكن هار في طريقه نحو شيء ما عندما يكتب، بما أن الأرض تحتفظ بأعماقها خفية، «فالكينونة هي ضروريًا هذه الحركة المتناوبة بين الإشهار والرجوع إلى الذات، إنها تتيح انفتاح هذا الغطاء والظهور المرئي في وسط العالم»[56]. تنضح الأرض بأُلفة أصلية، شيء لا يمكن اكتشافه أو حسابه بمصطلحات عقلانية أو دنيوية. لكن هيدجر يريد أن يضيف شيئًا وهو أن «الأرض لا يمكنها أن تعتزل انفتاح العالم طالما أنها بذاتها تظهر كأرض»[57].

الشعر هو أحد أفضل الأساليب التي يمتلكها الناس لاستحضار ما هو أرضي إلى اللغة. لا يحصل هذا عبر تمثيل سطحي بل عبر وسيط الحقيقة الذي لا يمكن اختزاله إلى حسابات العلم أو ممارسة السلطة. ليس الشعر سياسيًا بل هو مبدأ للسياسة. هذا يعني أن أطيافًا سياسية متنوعة يمكن أن تتبناه أو تفنده. ما يمكن النقاش فيه هنا، على سبيل المثال، هل استدامة الرأسمالية شأن تهتم به جوهريًا السياسة الإيكولوجية وهل هي في النهاية الوضع الصحيح للشعريات الإيكولوجية.

يضمّ هيدجر سويّة الطبيعة والحقيقة والعامل البشري في كلية متكاملة:

لا يمكن للأرض أن تستغني عن انفتاح العالم إذا كان لها أن تظهر كأرض عبر البروز الحر لاحتجابها الذاتي. ومن جهة أخرى، لا يمكن للعالم، باعتباره الاتساع المنتشر والدرب لكل ما له الخاصية الضرورية للمصير، أن يعلو على الأرض إذا كان له أن يتأسس على ما هو مقرِّر[58].

القرار، وهذه مسألة هامة للتربويين، هو مبدأ الفعل. إنه النقطة المرشدة والمرجعية لكل علاقاتنا التفاعلية كبشر وكذلك لعلاقتنا مع الطبيعة. القرار هو ما يستحث الفعالية السياسية وما تعمل هذه لتغييره. إنه هدف التربية والتعليم. إن الوعي الأخضر [أي الوعي البيئي] قرار.

إن مفاهيم الطبيعة والحقيقة تتحدى جذريًا الميتافيزيقيا والمبادىء الموجهة للحداثة والتنوير. ليست المعرفة والحقيقة إضافتان متفوقتان إلى البنية الأصلية للفيزيولوجيا المادية بل هما ضروريان لمفهوم الطبيعة. إن فهم الطبيعة بواسطة فكرة مسبقة من قبيل التجهيزات أو الصفة الأداتية لم يعد يصلح كمنطلق للبحث.

الحيوانية وأساس البشرية

توحّد الطبيعة والحقيقة[59] الحاجة البشرية للبحث عن الحقيقة truth على أرضية الكينونة. والشعر قوة فعّالة لتجاوز المبادئ المثالية التي فصلت المجتمع البشري عن الطبيعة. وأغنيات الأرض التي عزّزها بات وهار تقود إلى مبدأ ما بعد - حديث يلغي الانفصالات الحديثة والتنويرية بين الذات والموضوع ويضفي الديمقراطية على السلسلة الكبرى للوجود. لكن، عندما يصل هيدجر إلى مسألة أساس البشرية في علاقتها بأشكال الحياة الأخرى فإنه يستبقي تحيزات عصره. فعلى الرغم من أن أحدًا لا يريد أن يوافق على اتجاهه السياسي فإن هذا التحيز المبني على التراتبية المسيحية يتم تقبله من قبل أغلب الهيدجريين بما فيهم بات وهار. فالبشر كائنات عليا لأنهم مؤهلون للتبصر الشعري. أمّا الحيوانات فمقيدون بانغماسهم الآلي في بيئتهم.

لا تستطيع الحيوانات أن تميز الكائنات ككائنات، إنها مستغرقة كليًا في شكل بيئتها[60]. ربما يقول المرء - على الرغم من أن هيدجر لن يوافق على ذلك أبدًا - أن الحيوانات منهمكة تمامًا في عالم تجهيزاتها «كمجرد عناصر ملتصقة ببيئتها»[61].

يبدو هيدجر سعيدًا بالاعتراف أن البشرية تمتلك القليل من التبصر في ماهية الحياة ذاتها، لكن ذلك «لا يعني أن الحياة أقل قيمة أو أدنى درجة من الوجود الإنساني. بل الحياة مجال يمتلك انفتاحًا ثريًا يبدو عالم البشر مقارنة معه كأنه لا يعرف شيئًا»[62].

عادة، لا يُنظر إلى الحيوانات بلغة جديرة بعوالم بديلة لا نستطيع النفاذ إليها تمامًا، بل بلغة عالم مفقر[63]. وأكثر من ذلك، إن تخيل عالم حيواني ثري هو نوع من المركزية البشرية. يتفق هار مع موقف هيدجر، «نحن ننقل الحيوانات بسرعة إلى عالم حقيقي متناسين أن الحيوان يعيش في حيز محدود لبيئة»[64]. فالحيوانات بالدرجة الأولى متعضيات، جذر الكلمة هو Organ (عضو)، التي تعني الوسيلة الفيزيولوجية لتنفيذ الميول الطبيعية، أي أداة.

يضع هيدجر أيضًا تمييزًا بين الأداء الحيواني والتصرف البشري. الأداء محدود بأن يجري في بيئة بأسلوب مستغرق يحيل إلى الذات. هذا الاستغراق الكلي في البيئة الحية (الذي يدعى غالبًا غريزة) هو اضطرار يستبعد الوعي والواسطة. ينظر هيدجر إليه على أنه مغلق ومأسور بالوجود. أمّا التصرف، من جهة أخرى، فهو الانفتاح على خبرة ظهور الأشياء في «انفتاح العالم». على الرغم طبعًا من أن فكرة هيدجر حول العصر epoch والقولبة التقنية هي تمامًا ذلك النظام المجمل والمحدود الذي يتضمن الواسطة بأسلوب مشابه.

الاختلاف الحيوي الثالث الذي يضعه هيدجر بين البشر والحيوانات هو اختلاف مواقفهم إزاء الموت. القلق إزاء الموت جزء جوهري في فلسفة هيدجر في كتابه الكينونة والزمن ويشكل إطارًا لمفهومه عن الزمن والتاريخ. يتصور البشر دومًا حيواتهم باعتبارها متناهية ولذلك، تستطيع النظرة الخاطفة في لحظة حاضرة أن تحتوي الماضي بأكمله وأن تبرِز في المعرفة هذه النهاية المستقبلية المحتومة. إن حَمْل هذا المجمل سوية يزود البشر بمنظور نحو الحياة التي يعيشونها غير متاح للحيوانات، يكتب هيدجر:

لذلك، كما أنه يبقى من المشكوك فيه أن نتحدث عن المتعضي ككائن تاريخي أو تاريخي منطقيًا، يبقى من المشكوك فيه أيضًا أن يكون الموت بالنسبة للحيوان والإنسان هو الأمر نفسه، على الرغم من أنه يمكن تأكيد الصلات الفيزيائية - الكيميائية والفيزيولوجية بينهما[65].

التاريخ

بالعودة مجددًا إلى التراث الفلسفي الذي يفترض أن سيرورة غائية توجه التاريخ، يفترض هيدجر أن ثمة قوانين باطنة وغاية أخيرة أو مصير للتاريخ. يعتبر مايكل هار نظرية هيدجر قلبًا للغاية الأخيرة الهيجلية على الرغم من أن هار لا يرى أن مصير الكينونة هو بأية حال سيرورة ديالكتيكية. يحمل المصير معه كل الممكنات المحتملة للتاريخ. هذا الترجيع للصدى، ليس متوافقًا مع هيجل، كما يناقش، بل مع فكرة أرسطو عن الماهية كبذرة تحدد النموذج الكامن للنمو. هذا هو السبب في أهمية "اللحظة الافتتاحية" عند هيدجر. إن الإرسال إلى المصير كامن في لحظته الافتتاحية، ونحن نلاحظ فحسب مظاهر الماهية التي تفتحت.

لا تصل غائية هيدجر إلى نوع من الأخروية أو اليوتوبيا التقنية أو الاجتماعية. فهو يصف بتشاؤم تطور العالم كسقوط متزايد أبدًا من النعمة. «إن تاريخ الكينونة هو تاريخ النسيان المتزايد للكينونة»[66].

هذه السيرورة ليست مما لا يمكن تجنبه منطقيًا كما أنها لا تتبع قانونًا سببيًا، ويرفضها هيدجر متبعًا نيتشه إلى حد ما. ويشرح أنه «بين الاستحالات الدورية للكينونة والتراجع، يمكن للمرء أن يتصور وجود علاقة، ومع ذلك فإنها ليست علاقة سببية . يمكن القول أنه في الدور الأخير الذي يبدأ مع فجر الفكر الغربي وبزوغ مفهوم الحقيقة aletheia، كلما تعاظم نسيان الكينونة الذي يسقط فيه الفكر، كلما توضح أكثر الأسلوب الذي تقتحم فيه المعرفة والوعي ميدان الحضور، وكنتيجة لذلك، الأسلوب الذي تتراجع فيه الكينونة[67].

يعتقد هيدجر أن كل تجلّ دوري للكينونة له تناهيه الذي يمنعه من القدرة على إدراك أبعاد تقع خارج انكشافه الخاص. لقد وصل مصير الكينونة إلى نهايته الخاصة مع الفهم التقني لكل شيء كمورد. لكن هار يقول:

لا تعني الشمولية الأخيرة [شمولية التقنية] أن التاريخ قد تكشف كليًا. ما الذي يعنيه مصطلح المصير إن لم يكن أن الكينونة تعرض ذاتها أو ترسل ذاتها أو تضم ذاتها في كل لحظة إلى مجال الوحدة ؟ هذه الوحدة هي وحدة الدور [العصر أو المرحلة]. هناك تناهٍ أصلي لكل دور ولكل الأدوار. كل دور من التاريخ هو مرحلي وهذا يعني كبحًا ذاتيًا أو توقفًا ذاتيًا أو تراجعًا للكينونة يترافق مع تجليها. إن هذا المرحلي أو التاريخي الذي ينتشر على قاعدة الظهور الحرّ يبقى مغلقًا على ذاته[68].

الانفتاح على الكينونة ودور الوساطة والضمير المبدع والمسؤولية، تبدو مشكِّلة الاختلافات الحاسمة بين الحيوانات والبشر، بين [الوجود عامة] والدازين [الموجود البشري]. إن عالم مؤهلاتنا كبشر أكثر إنجازًا وعليه مسؤولية أكبر في ضبط الأذى. على الرغم من أن الدور هو مثال بشري خاص عن التجلي في عالم، فإننا عندما نتخيل أن عالمنا أسمى من عوالم الحيوانات أو الكائنات الأخرى، فلن نكون قادرين على اتخاذ، في الشعر أو في غيره، قرار الرعاية (وهو الحافز الأساسي للموجود - هناك ) بأسلوب يوجه السياسة والعلم وينقلهما من العقلانية الحسابية إلى احترام وتكشف للكينونة في شكلها الأصلي.

بدأ هيدجر، منذ هذه الانعطافة الابستمولوجية في الثلاثينات، يفكر بأن التقنية هي الوقت نفسه الخطر الذي ينسي الإنسان كينونته وهي القوة المنقذة أيضًا. لقد استحال مصير الكينونة ودخل بواسطة التقنية إلى عصر القولبة التي لا مفرّ منها. وبدأت البشرية، كشرارة للحياة، تتصور نفسها إيجابيًا أكثر من كونها مجرد ملوث للأرض. في الثلاثية الروائية «المريخ» التي كتبها كيم ستانلي روبنسون، يبدو استصلاح الكواكب الأخرى كإمكانية ونتيجة للمأزق البيئي والسياسي الذي أنتجته التقنية والرأسمالية الاستهلاكية. وفي السلسلة التلفزيونية التي أعدّها سام نيل عن الفلك، يفكّر باستصلاح كواكب أخرى لأن المنظومة الشمسية سوف تشيخ وتخمد جاعلة الأرض غير قابلة للسكن. تجعل الإبداعية التقنية من الممكن نقل الحياة بأكملها إلى مكان آخر في نسخة مستقبلية من التطور. فشرارة الحياة، كما يقول نيل، ربما توجد على هذا الكوكب فقط من بين مليارات النجوم والمنظومات الشمسية في الكون. إن صون الحياة ورعايتها وإعادة توليدها هي إمكانية ومسؤولية على التقنية والبشرية.

ترجمة: معين رومية[69]

*** *** ***

مصدر المقالة مجلة: The Trumpeter, Vol.18, No.1, 2002

المراجع

·         2001. “Out of the Twilight.” New Statesman. Vol. 14, No. 665, pp. 25–27.

·         Haar, Michael. 1993. The Song of the Earth: Heidegger and the Grounds of the History of Being. Reginald Lilly, trans. Bloomington: Indiana University Press.

·         Heidegger, M. 1962. Being and Time. John Macquarrie and Edward Robinson, trans. Oxford: Blackwell.

·         1975. Poetry, Language, Thought. Albert Hofstadter, trans. New York: Harper & Row.

·         Miall, D. 2000. “Locating Wordsworth: ‘Tintern Abbey’ and the community with nature.” Romanticism On the Net, 20, November 2000. (accessed July 20, 2001.) (http://users.ox.xc.uk/~scat0385/20miall.html).

·         Peters, M. 2001a. “Introduction: Heidegger, Education and Modernity.” in M. Peters, ed. Heidegger, Education and Modernity. Boulder and New York: Rowman & Littlefield.

·         2001b. “Anti-Globalisation and Guattari’s The Three Ecologies.” Unpublished paper.

·         Till, A. 1994. “Introduction.” The Works of William Wordsworth. Hertfordshire, UK: The Wordswoth Poetry Library. Pp. v–viii.

·         Wordsworth, W. and S. T. Coleridge. 1798. Lyrical Ballads. W.J.B. Owen, ed. (2 nd ed. 1969.) London: Oxford University Press.

Wordsworth, W. 1994. The Works of William Wordsworth. Hertfordshire, UK: The Wordswoth Poetry Library.


 

horizontal rule

[1] أستاذ باحث في جامعة غلاسكو Glasgow، وأستاذ كرسي التربية في جامعة أوكلاند Auckland. ألف العديد من الكتب حول العلاقة بين التربية والفلسفة. من كتبه: نيتشه وفيتغنشتاين وهيدجر والفكر المعاصر الألماني والفرنسي، مابعد الحداثة والماركسية والنيو ليبرالية: بين السياسة والنظرية (2001)، ريتشارد رورتي: التربية والفلسفة والسياسة (2001)، هيدجر والتربية والحداثة (2002).

[2] باحثة أكاديمية لامعة في جامعة غلاسكو. يتناول بحثها العلاقة التقنية بين البيئة البشرية. شاركت في تأليف كتابين وكتبت العديد من المقالات الفلسفية.

[3] نظمت الأبيات في مكان إلى الأعلى قليلاً ببضعة أميال من موقع دير تينترن وذلك خلال زيارة ثانية قام بها ووردورث إلى ضفاف وادي واي في تموز 1798. انظر:

The Works of William Wordsworth, Hertfordshire, Wordsworth Editions Ltd, 1994: p. 207.

[4] As cited in “…Poetically Man Dwells …” (Heidegger 1975).

 

[5] الإيكولوجيا (علم البيئة) يدرس العلاقات التبادلية للكائنات الحية مع بعضها بعضًا ومع البيئات المحيطة بها. لكن المصطلح تجاوز دلالته العلمية الحصرية وأصبح يمتلك معاني ودلالات إضافية مع بزوغ مقاربات معرفية أخرى للأزمات البيئية المستعصية. هناك على سبيل المثال اتجاهات فكرية من قبيل النسوية الإيكولوجية وعلم النفس الإيكولوجي والنقد الإيكولوجي والإيكولوجيا الاجتماعية. (المترجم(

[6] Bate 2000.

[7] بالطبع إن رسملة capitalization الطبيعة هي جزء من هذا الاستيلاء.

[8] Bate 2000

[9] ينسب جوناثان بات عبارة "أغنية الأرض" إلى هيدجر بينما ينسبها مايكل هار إلى هيراقليطس.

[10] Bate 2000, ix

[11] Ibid., 75

[12] Ibid.

[13] وهي الأصل للكلمة الإنكليزية ecology. (المترجم)

[14] Ibid. p. 64

[15] انظر كتاب بات:Romantic Ecology: Wordsworth and the Environmental Tradition, 1991.

[16] Bate 2000, p. 205.

[17] Heidegger 1975

[18] وضعنا هذه الملاحظة استنادًا إلى خبرة شخصية لواحد منا (مايكل بيتر) الذي قام بتدريس اللغة الإنكليزية لمدة سبع سنوات في مدارس نيوزيلندا. كذلك سبق له أن كان تلميذًا في تلك المدارس وكان مطلوبًا منه أيضًا أن يقرأ ووردورث كجزء من المنهاج الدراسي.

[19] Wordsworth and Coleridge 1798, 143.

[20] Ibid. 151

[21] Ibid. 147

[22] Till: 1994. الدلالة الأخلاقية للطبيعة واضحة في الكثير من قصائد ووردورث. يقول في مقطع شعري ملخصًا فلسفته الأخلاقية حول الطبيعة:

نبضة واحدة من خميلة
قد تعلمك الكثير عن الإنسان
عن الشر الأخلاقي والخير
أكثر مما يستطيع جميع الحكماء.

والعلاقة بين النوع البشري والطبيعة – عبر الأرض والأشجار والغابات والبحر والسماء – غالبًا ما تصطبغ بالدلالة الأخلاقية في الميثولوجيات الدينية للسكان الأصليين (كما عند قبائل ماوري Maori وهم السكان الأصليين لنيوزيلندا) ومن ثم يستفيد منها الشعراء والفنانون في أعمالهم (كما هو الحال مع الرسام الحداثي النيوزيلندي كولين ماكانان).

[23] Maill 2000.

[24] Maill 1993, 13.

[25] يتقصى ميل عن ثلاثة مواضيع تمثيلية قابلة للتأويل في القصيدة (النموذج الذي يستخدمه ووردورث في وصف المنظر الطبيعي، صلته مع التراث التصويري، والدور الأيقوني للمنظر الطبيعي والشخصيات البشرية في القصيدة) وذلك قبل أن يقترح الموضع الدقيق الذي تتحدث عنه عند منطقة Symonds Yat، في هذا المكان حيث الشكل الخاص للمنظر الطبيعي (النهر الذي يجمع المزارع الريفية والمنحدر والشلال) هو الذي دفع ووردورث للتعبير مجازيًا عما هو طبيعي في العقل البشري. يكتب ميل: إن قراءة خضراء لقصيدة دير تينترن تثبت أن العقل متجذر ومتشكل بالسيرورات الباطنة ذاتها التي يمكن أن تعرفها في الطبيعة.

[26] Bate 2001, 25–26.

[27] Bate 2001, 26.

[28] Ibid.

[29] Bate 2000, 72.

[30] Bate 2001, 27.

[31] Bate 2000, 251.

[32] Bate 2000, 258.

[33] Ibid., p. 260.

[34] Heidegger, cited by Bate 2000, 261.

[35] Bate 2000, 266.

[36] Ibid.

[37] Ibid.

[38] وضع الفيلسوف النروجي آرني نايس هذا المصطلح في مقالة كتبها في العام 1972 كمقابل للإيكولوجيا السطحية shalow ecology  التي يقتصر اهتمامها على مشكلات التلوث واستنزاف الموارد في البلدان المصنعة. ترى الإيكولوجيا العميقة (كما صاغها لاحقًا نايس ومفكرون آخرون) أن للحياة قيمة جوهرية بذاتها ومستقلة عن نفعها للإنسان. وهي ترجع الأزمات البيئية إلى المركزية البشرية التي تضع الإنسان فوق الكائنات الحية ولذلك تدعو إلى مركزية إيكولوجية بديلة وإلى التحقق الذاتي لكل الكائنات الحية. وقد ظهرت اتجاهات متعارضة تشتق برامجها من مبادىء الإيكولوجيا العميقة، يحمل بعضها نزعة متعصبة للحياة تعطيها الأولوية على حساب الكائن الحي المفرد ولذلك ينعتونها بالفاشية. (المترجم).

[39] Ibid., p. 267.

[40] Ibid., p. 266–67.

[41] Ibid. 267.

[42] Ibid. 268.

[43] Ibid. 269.

[44] Ibid. 268.

[45] Ibid. 283.

[46] Peters (2001)

[47] Peters (2001): في هذا الكتاب يتقصى بيتر المقاربة الفلسفية الإيكولوجية التي يقدمها غوتاري Guattari كوسيلة لفهم ما أصبح يدعى الآن الاحتجاجات المناهضة للعولمة.

[48] Heidegger 1962, 70.

[49] Heidegger, in Haar, 1993: 11

[50] Heidegger Holzwege, 1979: 37 in Haar, 1993: 13

[51] Heidegger Holzwege, 1979: 31 in Haar, 1993: 11

[52] Heidegger, An Introduction to Metaphysics, 1953: 11 in Haar, 1993: 11.

[53] Heidegger, Elucidations of Hölderin's Poetry, 1951: 64-65 in Haar, 1993: 12.

[54] Haar 1993: 12.

[55] Haar 1993: 57.

[56] ibid

[57] Heidegger, Elucidations of Hölderin's Poetry, 1951: 38 in Haar, 1993: 57.

[58] Heidegger, Elucidations of Hölderin's Poetry, 1951: 38 in Haar, 1993: 8

[59] كما تم توضيح معنييهما. (المترجم)

[60] [add] cf. R. Irwin, 2002, "Nietzsche and Heidegger; Nihilism and the Question of Value in relation to education" in Heidegger, Modernity and Education, M.A. Peters (ed.).

[61] Haar, 1993: 25.

[62] Heidegger, The Ground of Metaphysics, 1975: 371-372 in Haar, 1993: 26.

[63] Heidegger, The Ground of Metaphysics, 1975: 274-275 in Haar, 1993: 12.

[64] Haar 1993, 2. أكثر من ذلك، يعتقد هيدجر أن ثمة فجوة بين البشر والحيوانات أعمق مما بين البشر والمقدس.

[65] Heidegger, The Ground of Metaphysics, 1975: 388 in Haar, 1993: 8.

[66] What is Called Thinking? 1969: 56 in Haar, 1993: 73.

[67] Haar, 1993: 2.

[68] Haar 1993, 2.

[69] د. مهندس، أستاذ في جامعة اللاذقية، وعضو في هيئة تحرير معابر، مختص بشؤون البيئة.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود