|
الخطوة
الأولى هي الخطوة الأخيرة[1] أمرٌ
واحدٌ بيِّن نوعًا ما، ألا
وهو أننا يجب أن نغيِّر طريقةَ عيشنا تغييرًا
كليًّا. يجب أن تتمَّ ثورةٌ جذريةٌ عميقةٌ في
حياتنا، ثورةٌ ليست سطحية، اقتصادية أو
اجتماعية، وحسب، ليست قَلْبًا للمؤسَّسة
القائمة لإحلال مؤسَّسة جديدة محلَّها، بل
علينا أن نهتم للكيفية التي يستطيع بها
الذهنُ البشري، المشروط إلى هذا الحد، أن
يكابد تحولاً جذريًّا، كيف يمكن له أن يحيا
ويعمل ويشتغل في بُعد مختلف كليًّا. هل يمكن
لطفرة في خلايا المخ بعينها أن تتم؟ تلك مسألة
أولى، وأرى أنها المسألة الكبرى، لأننا
نستجيب لكلِّ تحدٍّ بالمخ القديم، المخ
القديم التقليدي، الاعتيادي، الآلي، الذي
تمَّ إشراطُه طوال ألوف السنين. إنما الحياة
تحدٍّ دائم نستجيب له بالمخ القديم؛
والاستجابة آلية، أنانية، استجابة متمركزة
على الذات. وحين نسأل عن إمكان أن تكابد هذه
الخلايا المخية بعينها تحولاً جذريًّا،
طفرةً، علينا أن نتقصَّى خاصية الذهن الذي
يستطيع أن يدرك من غير أيِّ نوع من الجهد، من
غير قمع أو محاكاة أو امتثال. أما
وأننا الآن، كما قلنا، نتشارك في المشكلة
سوية، فما ثمة مرجعية تأمرك بما ينبغي أن
تفعل، ما ثمة منهاج جديد للتأمل. حين تتخذ
للتأمل منهاجًا فإن التأمل لا يعود تأملاً،
بل مجرد تكرار آلي – وهذا لا طائل تحته تمامًا
ولا معنى له على الإطلاق. لدى أغلب الناس،
ولاسيما في آسيا، بما فيها هذا البلد، مفهوم
عن ماهية التأمل. لقد قيل لهم كيف يتأملون،
ماذا يفعلون، وهلم جرا. ليتكم ترون أن المتكلم
لم يقرأ أية كتب حول هذا كلِّه، ليس عنده أي
منهاج؛ كان عليه أن يكتشف الأمر بنفسه، كان
عليه أن ينسخ كلَّ شيء سبق أن قيل له. لا شيء
يجوز أن يكرَّر لم يدركه بنفسه، لم يَحْيَه
بنفسه؛ يجب ألا يكرِّر أبدًا في الحياة شيئًا
قاله سواه فيما يخص التأمل وفيما يخص أية أمور
روحية، ألا يكرِّر أبدًا ما سمعه أو قيل له.
وإذا كنت تنوي أن تفعل الشيء نفسه، أي أن لا
تكرِّر أبدًا ما لم تدركه أنت بنفسك، ألا تجزم
أبدًا بما قاله آخرون حول الأمر أو تصوغه، إذ
ذاك يمكن لنا أن نتواصل، أن نتشارك سوية في
هذه المسألة. فلكي يكتشف الذهنُ ماهيةَ
الحقيقة، يجب عليه أن يكون حرًّا تمامًا من
كلِّ محاكاة أو امتثال أو خوف؛ وإذ ذاك فقط
يستطيع أن يرى، أن يدرك الموجود. لكي
نفهم، إذن، ما هو التأمل يجب علينا أن نكتشف
ما ليس إياه. لأنك بنفيك ما ليس موجودًا، ما هو
زائف، تكتشف بنفسك ما هو حقيقي. لكنك إذا
اكتفيت بقبول ما قاله آخرون – ولا يهم مَن هم،
بمن فيهم المتكلم – إذ ذاك فأنت تمتثل وحسب؛
وأنت تمتثل لأنك تأمل أنك، من خلال الامتثال،
من خلال الطاعة، من خلال ممارسات بعينها، سوف
تختبر شيئًا خارقًا، سوف ترى رؤيا ما، أو
تتحلَّى بقدرات عظيمة، وهلم جرا. لكنك إذا كنت
جديًّا، إذ ذاك يمكن لنا أن نتشارك في فحصنا،
في تحرِّينا، حتى نقع على حالة ذهنية، على
خاصية ذهنية حرة تمامًا، على ذهن غير آلي، غير
تكراري، ذهن ساكن سكونًا تامًّا من غير أيِّ
شكل من أشكال القمع، من غير أيِّ جهد، من غير
أية ممارسة. لكي
يُكتشَف ما ليس التأمل إياه، يجب أن يوجد،
أولاً، فهمٌ أو تعلُّم عن الذات، "الأنا"؛
"الأنا" بذاكراتها ومجازعها ومخاوفها
ومطامحها كلِّها، بأفراحها وملذاتها
الجنسية، "الأنا" التي تفصل نفسها عن "الأنت"،
و"الأنت" مع "أناك" التي تفصل نفسها
عن سواها. وهذا الفهم يجب أن يكون فهمًا
للنفس، ليس بحسب أيِّ أحد، ليس بحسب أيِّ
فيلسوف، أيِّ عالم نفس. وأنت حتمًا لا تستطيع
أن تفهم نفسك في وجود أيِّ شكل من أشكال
الإدانة، أيِّ شكل من أشكال التبرير. فحتى
تتعلم عن نفسك، حتى ترى نفسك كما أنت، لا
كما تود أن تكون، يجب أن يوجد الإدراك. من
الضروري للمرء مطلقًا أن يفهم نفسه، لأنه من
غير ذلك الفهم للنفس لا أساس ثمة للتقصِّي. إن
فهمك نفسَك ليس فهم "الذات" الدائمة،
الروح المزعومة، آتمن[2]
أو الذات العليا. فهمُك نفسَك يعني فهمَ حياتك
اليومية، طريقة كلامك، الدوافع، المطامح،
المخاوف، الجزع، الرغبة في النفوذ، في
المنصب، النزاعات المتنوعة. فذاك هو "أنت".
عليك أن تفهم ذلك لأنه من ذلك الفهم ينبع
العملُ الصالح، ومن غير ذلك العمل الصالح، من
دون ذلك الأساس الحقيقي، يصير التأمل تنويمًا
ذاتيًّا. ذلك ضروري مطلقًا، ليس لأن المتكلم
يقول به، بل لأنك تستطيع أن ترى منطقيًّا
علَّة ضرورة فهمك نفسَك، لأنه إذا كان في نفسك
أي شكل من أشكال التناقض، أي شكل من أشكال
الخوف، أية خاصية من خاصيات الطموح أو
التنافُس أو الحسد، كيف يمكن لمثل هذا الذهن
أن يكتشف شيئًا ليس من ذاته أو يقع عليه؟ ألا
ترى أن العقل، المنطق، يقول لك إن عليك أن تفهم
نفسك أولاً ولا تتهرب من نفسك. عليك أن تعرف
نفسَك، وفي هذا مكمن واحدة من صعوباتنا، ألا
وهي أن المرء، حين يتعلم شيئًا عن نفسه، حين
يرصد خواطره، ولا يسيطر عليها، لا يقمعها،
ينبثق السؤال عن هوية الراصد. إذا
أوغلنا في مسألة التأمل هذه وفي مسألة كيفية
الحياة من غير أسى، من غير نزاع، في كيفية
الحياة حياةً ثرَّة، غنية، ذات معنى في حدِّ
ذاتها، عليك أن تفهم هذه المسألة، ألا وهي:
مَن هو الراصد الذي يتعلم؟ أنا أراقب نفسي –
أراقب كلامي، طريقة حديثي، حركاتي، فظاظتي،
عنفي، لطفي – معركة الحياة برمَّتها هذه. أما
وأني أراقب، هل المراقِب مختلف عن الشيء الذي
يراقبه؟ في عبارة أخرى، المراقِب الذي يقول:
"أنا أتعلم عن نفسي" – هل هو مختلف،
دخيل، يراقب ما يحدث؟ أتراك تفهم السؤال؟ هل
المراقِب مختلف عن الشيء الذي يراقبه، أم أن
كلاهما شيء واحد؟ هل المراقِب، الرقيب، الشخص
الذي يقول: "أنا أراقب نفسي" – هل ذلك
الكيان مختلف عن الشيء الذي يراقبه، أم أن
الراصد هو المرصود؟ سوف
تجد، فيما أنت تراقب، أن الراصد هو المرصود،
أن الاثنين ليسا منفصلين. لذا ليس ثمة حسٌّ
بالتناقض؛ لذا ليس ثمة حسٌّ بالقمع أو
بالسيطرة. كلاهما واحد. مرة أخرى، هذا معقول،
منطقي. لستَ مضطرًّا إلى قبوله من أيِّ أحد؛
تستطيع أن تستيقن منه بنفسك. ليست هناك "ذات"
عليا تراقب الذات الدنيا. وحين تفحص عن كلِّية
هذا الرصد الذي تتعلم منه، ستجد أن الراصد هو
المرصود. الرجل الغاضب هو الغضب بعينه؛
الكيان الذي يقول بوجود روح، بوجود آتمن،
بوجود ذات عليا، هو جزء من الفكر. لذا فالمهم
أن يتعلم المرء عن نفسه من دون الرقيب. عندما
أنت، الرقيب، تقول: "افعل هذا، لا تفعل ذاك،
هذا غلط، ذاك ليس غلطًا"، إذ ذاك فأنت تراقب.
إنه إشراطك السابق، تقليدك، ذاكرتك السابقة
تتدخل في الرصد. تراك ترى هذه الحقيقة
البسيطة؟ وعليك أن تتعلم عن نفسك؛ وإلا فليس
لديك أيُّ أساس أيًّا كان للإدراك الجلي. ثم
من هذا تنبع مسألةُ الانضباط. فمما قاله الناس
يُجزَم بأنك يجب أن تنضبط، أن تسيطر على نفسك،
أن تمسك نفسَك. تعلم أن هذا ما نُدرَّب على
فعله منذ الطفولة، من الكتب التي تقرؤها
وغيرها، أنك يجب أن تسيطر على نفسِك، تضبطها،
تقولبها بحسب نموذج. غير أن "الانضباط"
يعني التعلم؛ الكلمة نفسها تعني التعلم وليس
الامتثال، ليس الطاعة. فعل التعلم نفسه هو
انضباط. إذا كان عليَّ أن أتعلم عن نفسي من
دون الراصد، إذ ذاك فإن ذلك الرصد بعينه
يُحِلُّ نظامَه. النظام، على كلِّ حال،
ضروري؛ وذلك النظام قد تُرجِم إلى انضباط.
النظام، إذن، ضروري؛ وهذا النظام لا يمكن
إحلالُه بأيِّ شكل من أشكال القَسْر أو
باتِّباع نموذج. لا يسود النظام إلا عندما
تكون قد رصدتَ ماهية الفوضى؛ أي أنك تعيش في
فوضى، حياتك في فوضى، حياتك في تناقُض،
فوضوية، مشوشة. لكنك
بتعلمك عن نفسك تُحِلُّ النظام. لذا عليك أن
تجد بنفسك كيف ترصد نفسَك، ترصد من غير
الراصد، حيث الراصد هو الكيان الذي يدين،
يحاكم، يقوِّم، ينكر؛ إنه الرقيب الذي هو
الماضي. إذًا عليك أن ترصد من دون الماضي. أي
أن عليك، حين تنظر إلى وردة، أن تنظر إليها من
دون الصورة التي لديك عنها، أو من دون الكلمة
التي لديك التي هي "الوردة". فذلك يحُول
دونك والنظر إلى الوردة. هل تستطيع أن ترصد من
دون الكلمة؟ إذ
ذاك، ما هو التأمل؟ ما هي خاصية الذهن الذي هو
في حالة تأمل؟ سوف نتشارك سوية؛ وهذا لا يعني
أننا سوف "نتأمل معًا"، وهو، مرة أخرى،
هراء في هراء. عليك، قبل كلِّ شيء، أن تفهم هذه
المسألة. أصغِ وحسب، من دون محاكمة، من دون
موافقة أو مخالفة، من دون أن تتمنى فهم ما
يقال؛ فقط أعِرْ انتباهك كاملاً لما يقال. إذا
أعرتَ اهتمامَك كاملاً لما سيقال فإن حالة
الانتباه هذه بعينها هي التأمل. أتفهم؟ سوف
نتوغل في الأمر. أصغِ فقط. المتكلم لا
يمَسْمِرُك[3]،
المتكلم لا يقول لك ما يجب أن تفعل، المتكلم
يحاول أن يبيِّن حقائق معينة، ليس بحسب رأيه
أو بحسب حُكمه، حقائق تستطيع أنت والمتكلم أن
تكتشفاها، ليس في موعد مقبل، بل الآن،
باستعمالك عقلك، المنطق. أتعلمون
أن هذا الأمر من أشق الأمور صياغةً في كلمات؟
– لأن على المرء، كما ترون، أن يفهم طبيعة
الفكر وبنيته. وذاك جزء من التأمل. افهمْه،
لأنك إذا لم تفهم ماهية الفكر فإنك تكون في
نزاع دائم مع الفكر. لا أدري حقًّا من أين أبدأ
هذه القضية برمَّتها، لأنها أمر شديد التعقيد
سوف ننظر فيه سوية. وسيان عند المتكلم إن كنتَ
تفهم ما سوف يقوله أو لا تفهمه، أصغِ وحسب. أول
خطوة هي آخر خطوة. الخطوة الأولى هي خطوة
الإدراك الجلي، وفعل الإدراك الجلي ذاك هو
الفعل الأخير. حين ترى خطرًا، ثعبانًا، فإن
إدراكك بعينه هو العمل التام. هل تتابع؟ الآن
قلنا إن الخطوة الأولى هي الخطوة الأخيرة.
الخطوة الأولى هي الإدراك، إدراك ما تفكِّر
فيه، إدراك طموحك، إدراك جزعك، عزلتك، يأسك،
إحساسك الخارق بالأسى هذا – أدرِكْه، من دون
أية إدانة أو تبرير، من دون تمنٍّ بأن يكون
مختلفًا. إدراكه وحسب، كما هو.
فحين تدركه كما هو، إذ ذاك فإن هناك نوعًا
مختلفًا تمامًا من العمل يتم، وذلك العمل هو
العمل النهائي. صحيح؟ أي أنك حين تدرك شيئًا
بوصفه باطلاً أو بوصفه حقًّا فإن ذلك الإدراك
هو العمل النهائي، الذي هو آخر خطوة. صحيح؟
الآن أصغِ إلى الأمر. أدركُ بطلان اتِّباع شخص
آخر، تعليمات شخص آخر – كرشنا، بوذا، المسيح،
لا يهم مَن يكون. أرى أن هناك إدراك أو حقيقة
أن اتِّباع شخص باطل بالكلِّية. صحيح؟ لأن
عقلك ومنطقك وكلَّ شيء يشير إلى مقدار
لامعقولية اتِّباع أحدهم. الآن ذاك الإدراك
هو الخطوة الأخيرة؛ وحين تدرك ذلك تتركُه،
تنساه، لأن عليك في الدقيقة التالية أن تدرك
من جديد، وهذا مرة أخرى هو الخطوة النهائية.
إذا لم تتخلَّ عمَّا تعلمتَ، عمَّا أدركت، إذ
ذاك فهناك استمرار في حركة الفكر؛ وحركة
الفكر واستمراره هو الزمن. وحين يقع الذهن في
شرك حركة الزمن هناك عبودية. إذًا
تلك واحدة من مشكلاتنا الكبرى – مشكلة إنْ
كان الذهن يستطيع أن يتحرر من الماضي، من
حسرات الماضي، ملذات الماضي، الذاكرات،
الذكريات، الحوادث والتجارب، جميع الأشياء
التي راكَمَها المرء، الماضي، الذي هو "الأنا"
أيضًا. "الأنا" هي الماضي. والآن، الفكر
يضفي استمرارًا على شيء تمَّ إدراكُه في
جلاء؛ وإذ لا يتمكن من تنحيته، يضفي عليه
استمرارًا يصير الوسيلة لإدامة الفكر. وقعت
لك حادثةٌ مفرحةٌ بالأمس. وأنت لا تنساها، لا
تتخلَّى عنها، تحملها معك، تفكر فيها. إن مجرد
التفكير في شيء من الماضي يضفي استمرارًا على
الماضي. لذا ليس ثمة إنهاءٌ للماضي. هل تراك
تتابع هذا كلَّه؟ لكنك إذا أدركت أنك عشت
حادثةً خارقةً، مفرحةً للغاية، بالأمس،
شاهِدْ ذلك، أدرِكْه، وأنهِه إنهاءً تامًّا،
لا تحملْه معك – إذ ذاك لا يكون ثمة استمرار
بوصفه الماضي الذي ابتناه الفكر. لذا فإن كلَّ
خطوة هي آخر خطوة. هل تدرك ذلك؟ بذا
فإن علينا أن نتوغل في مسألة إنْ كان الفكر
الذي يضفي استمرارًا على الذاكرة بوصفها
ذاكرة – والذاكرة هي الماضي –، إنْ كان
بمستطاع الفكر أصلاً أن يبلغ نهايته. لأن ذلك
جزء من التأمل. إنه جزء من طفرة كلِّية في
خلايا المخ نفسها؛ لأنه إذا كان ثمة استمرار
في حركة الفكر فهو تكرار القديم، لأن الفكر هو
الذاكرة، الفكر هو استجابة الذاكرة، الفكر هو
التجربة، الفكر هو المعرفة. مسألتنا
إذن هي التالية: الفكر يديم نفسه دومًا عبر
التجربة، عبر التكرار الدائم لذاكرات بعينها.
المعرفة دومًا في الماضي، وحين تعمل وفقًا
للمعرفة، فأنت تضفي استمرارًا على الفكر.
لكنك في حاجة إلى المعرفة للعمل تكنولوجيًّا.
انظر إلى صعوبة الأمر. لو لم تستعمل الفكر لما
كان في مستطاعك أن تعود إلى البيت، لما كان في
مستطاعك أن تعمل في مكتب. عليك أن تكتسب
المعرفة؛ لكن انظر أيضًا إلى أهمية، إلى خطر
الذهن الواقع في شرك حركة الفكر الدائمة،
وبالتالي لا يرى شيئًا جديدًا أبدًا. الفكر
قديم دومًا، الفكر مشروط دائمًا، ليس حرًّا
أبدًا، لأنه يعمل وفقًا للماضي. لذا فإن
السؤال هو: كيف يمكن لحركة الفكر هذه، التي هي
على مستوى أول ضرورية مطلقًا للأداء أداءً
منطقيًّا، عاقلاً، صحيًّا –، كيف يمكن لحركة
الفكر هذه أن تبلغ نهايتها، بحيث يستطيع
الإنسان أن يدرك شيئًا جديدًّا كليًّا وأن
يحيا حياة مختلفة كليًّا؟ المقاربة
النقلية لهذه المسألة هي: سيطرْ عليه، أمسكْ
به، أو تعلَّمْ التركيز. صحيح؟ وهو مرة أخرى
شيء غير معقول لأنه مَن هو المسيطر؟ أليس
المسيطر جزءًا من الفكر، جزءًا من المعرفة
التي تقول إنك يجب أن تسيطر؟ أي أنك عُلِّمتَ
أن تسيطر. إذًا هناك طريقة لرصد الفكر من دون
أية سيطرة، من دون إضفاء استمرار عليه، لكن
بالرصد حتى ينتهي. هل فهمتم سؤالي؟ لأنه إذا
كان الفكر يستمر فإن الذهن لا يهدأ أبدًا؛
وفقط حين يسكن الذهن سكونًا تامًّا ثمة إمكان
للإدراك. تحققْ من منطقية الأمر، أي من أنه
إذا كان ذهني يلغو، يقارن، يحاكم، يقول هذا
حق، هذا باطل، فإني لا أصغي إليك. فحتى أصغي
إليك، حتى أفهم ما أنت قائل، يجب أن أوليك
انتباهي، وفي إيلاء المرء انتباهَه كاملاً
يكون ذاك الانتباه بعينه هو الصمت. صحيح؟ يرى
المرء في جلاء أن الصمت ضروري ضرورةً تامة، ليس على
المستوى السطحي وحسب، بل على أعمق المستويات؛
عند جذر وجودنا بعينه يجب أن يستتب صمتٌ تام.
كيف يمكن لهذا أن يحصل؟ إنه حتمًا لا يحصل في
وجود أيِّ شكل من أشكال السيطرة، لأنه إذ ذاك
يوجد نزاع، لأنه إذ ذاك يوجد المرء الذي يقول:
"يجب أن أسيطر"، ويوجد الشيء الذي يجب
السيطرة عليه. وفي ذلك هناك انقسام، وفي ذلك
الانقسام هناك نزاع. بالتالي، هل من الممكن
للذهن أن يكون فارغًا وساكنًا فراغًا وسكونًا
تامَّين، ليس في استمرار، لكن في كلِّ ثانية؟
ذاك هو الإدراك الأول: أن الذهن يجب أن يكون
ساكنًا سكونًا تامًّا؛ إدراك ذلك، وحقيقة هذا
الإدراك، ورؤية حقيقة هذا الإدراك هي الخطوة
الأولى والأخيرة. وإذ ذاك يجب إنهاء ذاك
الإدراك؛ وإلا فإنك تحمله معك. لذا فإن الذهن
يجب أن يرصد، يجب أن يعي، وعيًا من غير
اختيار، كلَّ إدراك؛ ويجب أن يكون ثمة إنهاء
لذاك الإدراك إنهاءً آنيًّا: الرؤية والإنهاء.
هل تراك تتابع هذا كلَّه؟ بذا فإن الذهن لا
يحيا مع الفكر الذي هو استجابة الماضي ويضفي
على ذلك الفكر استمرارًا في المستقبل الذي قد
يكون الدقيقة التالية أو الثانية التالية.
والفكر هو استجابة الذاكرة التي هي بنية
خلايا المخ بعينها. إذا اتفق لك أن ترصد نفسَك
سترى أن مادة الذاكرة هي في خلايا المخ
بعينها؛ وتلك الذاكرة تستجيب، وهذه
الاستجابة هي الفكر. فلإحداث طفرة كلِّية في
خاصية الخلية نفسها يجب أن يتم إنهاءٌ لكلِّ
إدراك، لكلِّ فهم، رؤية، فعل، ونأيٌ بعيدًا
عنه، بحيث إن الذهن يدرك ويموت على الدوام،
يدرك زيف الحقيقة وينهيه ويمضي قُدُمًا من
دون أن يحمل الذاكرة. صحيح؟ هذا
كله، كما تعلمون، يتطلب إدراكًا هائلاً،
حيوية، طاقة هائلة. والتوغل في هذا خطوة خطوة،
كما فعلنا حتى الآن، من غير أن نفوِّت شيئًا،
يقتضي طاقةً هائلة. فلنستكشف الآن كيف تنوجد
هذه الطاقة. أنتم تفهمون سؤالي: نحن في حاجة
إلى طاقة. إن قدومك إلى هنا وجلوسك هنا طوال
ساعة وإصغاؤك يتطلب منك طاقة. فعل أيِّ شيء
يقتضي وجود طاقة؛ وهذه الطاقة يمكن لها أن
تُبدَّد، أن تُستعمَل بطُرُق متعددة. لذا فإن
السؤال هو: هل يمكن لهذه الطاقة اليومية
العادية – الذهاب إلى المكتب، الاختصام،
النكد، الاقتتال، الطاقة الجنسية – هل يمكن
الارتقاء بهذه الطاقة، هل يمكن الحفاظ على
هذه الطاقة من غير أيِّ شكل من أشكال التشويه؟ تراكم
تعلمون أن طاقتنا تُبدَّد في النزاع – النزاع
بين أمَّتين، النزاع بين رأيين، النزاع بين
الزوج والزوجة والأولاد، النزاع بين محاولة
رؤية الله وبين قمع غرائزك كلِّها. ذاك نزاع
أيضًا، ذاك تشويه. فكيف يمكن للمرء أن يحتفظ
بهذه الطاقة كاملةً من غير تشويه؟ فلنكتشف
ذلك الآن، بتقصِّي ماهية هدر الطاقة أو
تبديدها. قلنا إن النزاع، مهما كان شكله، هو
تبديد للطاقة – النزاع بين الراصد والمرصود،
بين المثال والواقع، بين الموجود و"ما
يجب أن يكون". والامتثالُ لما كان ومحاولةُ
حمل ما كان إلى الحاضر أو إلى المستقبل، ذاك
جزء من النزاع. بذا فإن ذاك تشويه للطاقة، وكل
شكل من أشكال النزاع يبدِّد الطاقة. صحيح؟
والمتدينون في العالم أجمع، الرهبان، الـسنياسن[4]،
اليوگيون، وسائر القوم، جميعهم يقولون: "يجب
عليك أن تسيطر، يجب أن تلبث على العزوبة، يجب
أن تنذر الفقر." فعلامَ ينطوي ذلك؟ – على
النزاع، المزيد فالمزيد من النزاع، القمع،
الامتثال؛ وتراك تظن أنك، عبر الامتثال
والقمع وسائر أشكال الصراع مع نفسك أو مع
سواك، سياسيًّا أو دينيًّا أو نظريًّا، سوف
تحصِّل نوعًا ما من الخبرة الهائلة. لذا
حين ترى الحقيقة، حين تدرك حقيقة أن كلَّ شكل
من أشكال النزاع إنما هو تشويه، فإن ذاك
الإدراك بعينه هو إنهاء للنزاع في تلك
اللحظة؛ ثم انسَه، وابدأ من جديد. لا تقل: "لقد
رأيت ذلك مرة وسوف أتمسك به." أتراك تتابع؟
فذلك يعني أنك تضفي استمرارًا على الفكر،
الذي هو الذاكرة – ذاكرة ما أدركتَه منذ بضع
دقائق – وبذلك تقوِّي خلايا المخ على مواصلة
حَمْل ذاكرة الماضي هذه؛ وبالتالي، ليس ثمة
تغيير جذري في بنية الذاكرة، في بنية خلايا
المخ. وهناك
مسألة طلب الخبرة هذه. جميعهم يقولون إنك يجب
أن تختبر شيئًا مهولاً، شيئًا متجاوِزًا.
الآن، قبل كلِّ شيء، لماذا تريد أن تختبر
شيئًا يخترق العادي؟ لماذا تريد أن تختبر
شيئًا خارقًا للعادة؟ لسبب بسيط للغاية هو
أنك سئمت خبراتك اليومية، انتابك الملل:
الاختبار اليومي للجنس أو الحرمان منه،
الاختبار اليومي للغضب، وهلم جرا. لقد سئمتَ
هذا كلَّه، وتراك تقول: "وحق الآلهة، لا
بدَّ أن هناك نوعًا آخر من الخبرة." الآن
كلمة "خبرة" بعينها تعني الفحص عن صحة
الشيء، والانتهاء منه، وليس جرجرته معك.
صحيح؟ ومَن هو طالب الخبرة ذاك – الكيان الذي
يقول: "لقد سئمت هذه الأشياء السطحية
كلَّها وأريد شيئًا أكثر"؟ ذاك الكيان جزء
من الرغبة في الحصول على المزيد فالمزيد،
وذاك الكيان يُسقِط ما يريد. أنت، هندوسيًّا
أو مسلمًا أو مسيحيًّا والله أعلم ماذا
أيضًا، أنت، مشروطًا، تريد أن تختبر المسيح
أو بوذا أو كرشنا أو ما تريد؛ ولسوف تختبر ما
تريد، لأن ما سوف تختبر مُسقَط من ماضيك، لأنك
مشروط كهندوسي. لذا فإن نرڤاناك،
سماؤك، خبرتك، مستقبلك، يكون بحسب ماضيك
الصغير القبيح. وإن
ذهنًا يطلب الخبرة، ذهنًا يريد المزيد، ذهنٌ
لم يفهم فهمًا كليًّا الموجود، الذي هو
"الأنا" التي تشتهي هذا كلَّه. إن ذهنًا
يطلب الخبرة ذهنٌ مشدود إلى الزمن، مشدود إلى
الأسى؛ إذ إن الفكر هو الزمن، والزمن هو الأسى.
الآن هل يستطيع الذهن أن يكون يقظًا كليًّا من
غير أية قضية تحدٍّ أو خبرة؟ ذلك أن أغلبنا
يحتاج إلى تحديه، وإلا خلد إلى النوم. صحيح؟
إذا لم تُتَحدَّ، لم تُساءَل، لم تُنقَد كلَّ
يوم، فمن طبعك أن تخلد إلى النوم نوم الأبرار.
فهل يستطيع الذهن أن يبقى على كلِّية يقظته
بحيث لا يحتاج إلى أية خبرة على الإطلاق؟
أتراك تتابع؟ وهذا لا يمكن له أن يحصل ما لم
يفهم الذهنُ بنية الفكر وطبيعته برمَّتها.
ثمة أشياء لا حصر لها يمكن الكلام عليها في
هذا الصدد. أهل
النقل يقولون: "اقعد قائم الظهر، تنفَّس
على هذا النحو وذاك النحو، قِفْ على رأسك طوال
عشرين دقيقة." فماذا يعني هذا كله؟ تستطيع
أن تتخذ وضعية القعود الصحيحة، وظهرك قائم،
وأنت تتنفس على الوجه الصحيح – پراناياما[5]
وسائر هذه الأمور – طوال العشرة آلاف عام
التالية، ولن يدنيك ذلك قيد أنملة من إدراك
ماهية الحقيقة، لأنك لم تفهم نفسَك مطلقًا:
طريقة تفكيرك، طريقة عيشك، لم تُنْهِ أساك؛
ومع ذلك تريد أن تجد الاستنارة! لذا على المرء
أن يتخلَّى عن ذلك كلِّه. تعرفون
أن هناك قدرات، سِدهي كما تسمَّى، يبدو
أنها تغري الناس. إذا كنت تستطيع أن ترتفع في
الجو، إذا كنت تستطيع أن تقرأ الفكر، إذا كنت
تستطيع أن تؤدي بجسمك جميع أنواع اللَّي
والفتل، يبدو أن ذلك يبهر الناس، لأنك بذلك
تحصل على شيء من النفوذ والهيبة. غير أن هذه
القدرات كلها أشبه بالشموع في ضوء الشمس،
أشبه بضوء الشمعة حين تشرق الشمس بضيائها؛
لذا فهي غير ذات قيمة على الإطلاق. إن لها قيمة
بدنية علاجية ليس إلا. كيف
يمكن للذهن، من غير أن يتَّبع أيَّ منهاج، من
غير أن ينصاع لأيِّ قَسْر، من غير مقارنة –،
كيف يمكن لذهن طال به أمدُ الإشراط أن يكون
فارغًا تمامًا من الماضي؟ هل تفهمون معنى
سؤالي؟ إفراغه تمامًا بحيث يرى رؤية جلية،
وما يراه رؤية جلية ينهيه، بحيث يتجدد على
الدوام في الفراغ، أي يتجدد في البراءة. الآن
كلمة "براءة" تعني ذهنًا بريئًا، تعني
ذهنًا لا يمكن إيذاؤه أبدًا. كلمة "براءة"
مشتقة من كلمة لاتينية تعني
"غير
قادر على التأذي"؛ لكن أغلبنا يتأذون،
يتأذون من جراء جميع الذاكرات التي راكمناها
من حول تلك الأذيات، ندمنا، أشواقنا، عزلتنا.
ومخاوفنا جزء من هذا الإحساس بالتأذي. منذ
الطفولة ونحن نتأذى، عن وعي منَّا أو عن غير
وعي. فكيف يمكن لك إفراغ ذلك الأذى كلَّه، من
غير أن يستغرق هذا وقتًا، فتفهم، من غير أن
تقول: "تدريجيًّا سوف أتخلص من هذا الأذى"؟
فحين تفعل ذلك، لن تنهيه أبدًا، وسوف تكون
ميتًا بحلول نهايته. من هنا فإن المسألة هي
إنْ كان الذهن يستطيع أن يفرغ نفسه إفراغًا
تامًّا، ليس على المستوى السطحي وحسب، بل وفي
قرارة وجوده نفسه، في جذوره بعينها. لأنه من
دون ذلك يعيش المرء في سجن، يعيش المرء في سجن
السبب والنتيجة في عالم التغير هذا. لذا
عليك أن تسأل هذا السؤال، أن تطرح هذا السؤال
على نفسك: إنْ كان بوسع ذهنك أن يكون فارغًا من
ماضيه كلِّه، محتفظًا مع ذلك بالمعرفة
التكنولوجية، بمعرفتك الهندسية، بمعرفتك
اللغوية، بذاكرة ذلك كلِّه، ومع ذلك يشتغل
اعتبارًا من ذهن فارغ تمامًا. إن إفراغ ذلك
الذهن يحصل حصولاً طبيعيًّا، حصولاً لطيفًا
من غير دعوة، حين تفهم نفسَك، حين تفهم ماهيتك.
فماهيتك هي الذاكرة، حزمة من الذكريات
والخبرات والخواطر. حين تفهم ذلك، انظر إليه،
ارصدْه؛ وحين ترصده، تبيَّنْ في ذلك الرصد
أنه ليس ثمة ثنوية بين الراصد والمرصود؛ إذ
ذاك، حين ترى ذلك، سوف ترى أنه يمكن لذهنك أن
يكون فارغًا تمامًا، منتبهًا، وفي ذلك
الانتباه تستطيع أن تعمل بكلِّيتك، من غير
أية تجزئة. وذلك كله جزء من التأمل – وليس
مجرد الجلوس في زاوية مدة خمس دقائق يوميًّا
والاستغراق في نزاعٍ أحمق ما مع نفسك، ليس فتل
رأسك أو إمساك نَفَسك – فهذه الأمور كلها من
شيم الأطفال بمكان. إنها تشبه بالدقة ضوء
الشمعة في ضياء الشمس! والمسألة
التالية هي إنْ كنت تفهم فهمًا كاملاً انقسام
نفسك برمَّته – وليس التكامل – تفهم كيف ينشأ
هذا الانقسام وتناقُضه، وليس كيفية لملمته.
فأنت لا تستطيع أن تفعل ذلك. إن لملمته تنطوي
على ثنوية – الواحد الذي يلملمه، يقوم
بالتكامل، إلى ما هنالك. إذ ذاك، حين تفهم عن
نفسك حقًّا، عميقًا، حتى القرار، فتتعلم عن
نفسك، إذ ذاك تستطيع أن تفهم معنى الزمن،
الزمن الذي يقيِّد، يشد، الذي يجلب الأسى. إذا
مضيتَ قُدُمًا إلى ذلك الحد – وذلك يعني أنك
لم تمضِ بعيدًا من حيث المسافة، بعيدًا من حيث
اللفظ، بعيدًا من حيث القياس –؛ إذا مضيتَ
حتى ذلك الحد، ليس من حيث الارتفاع أو العمق،
إذا بلغتَ ذلك الرقي من حيث الفهم، بكلِّ ما
فيه من امتلاء، إذ ذاك سوف تكتشف بنفسك بُعدًا
لا وصف له، لا كلمة له، ليس شيئًا يُشرى
بالتضحية، ليس في أيِّ كتاب، وليس بوسع أي گورو[6]
أن يختبره أبدًا. فهذا يريد أن يلقِّنك عنه،
عن كيفية بلوغه؛ لذا حين يقول: "لقد اختبرت
ذاك وأعرف ما هو ذاك"، اعلم أنه لم يختبره
ولا يعرف ماهيته. مَن يقول إنه يعرف لا يعرف.
لذا يجب على الذهن أن يكون حرًّا من الكلمة،
من الصورة، من الماضي – وتلك هي أول خطوة وآخر
خطوة. *** *** *** [1]
محاضرة كريشنامورتي العامة الخامسة في
الهند، 24 كانون الأول 1970، عن كريشنامورتي
في الهند 1970-71، الفصل الخامس (العنوان من
تدخل المحرِّر). [2]
الذات أو النفس العليا أو الروح الفردية في
الحكمة الهندية. (المترجم) [3]
أي ينومك مغناطيسيًّا، نسبة إلى الطبيب
الألماني فرانتس أ. مِسْمِر (1734-1815)، مكتشف
"المغناطيسية الحيوانية". (المترجم) [4]
النساك الزاهدون في متاع الدنيا في الطور
الرابع من أطوار الحياة الهندية. (المترجم) [5]
الذراع الرابعة من أذرع "اليوگا الملكي"
(راجا يوگا) الثمانية، المختص برياضة
التنفس؛ يلي ذراع آسنا الثالثة المختصة
بالوضعيات البدنية. (المترجم) [6]
هو "كاشح
العتمة"، الشيخ المرشد في الطرق الروحية
الهندية. (المترجم)
|
|
|