|
الكتابُ
المبدعُ يغيِّر وجودَنا بأكمله تَرَشُّحُه
لرئاسة الجمهوريَّة لم يكن سياسةً بل واجبٌ
مدني الكاتب
الذي يرى نفسه "كبيرًا" أحمق! أنا في صالة استقبال الفندق حيث نزل
ماريو فارغاس يوسا. أنا في انتظاره. ثم ما لبث
أن أطل وجهٌ بشوش. وما إن سلَّمتُ عليه حتى قال:
"آه، لهجتكِ أرجنتينية!" قلت: "طبعًا،
وبين لهجتي ولهجتكَ سوف نتكلم عنك!" عندما قرأتُ يوسا قبل قرابة العشرين
سنة، لم أتصور أنني سألتقي يومًا بصاحب هذا
الأدب الغزير، – ومنه، مثلاً، پانتيليون
والزائرات، تلك الرواية الساخرة والطريفة،
– بل لم أتصور أنه سيأتي إلينا، ويزورنا في
بيروت، صاحبُ عشرات الروايات هذا! حاز يوسا
على جوائز عديدة ومهمة، منها جائزة "أمير
أستورياس" (1986) وجائزة "ميغيل دي ثربانتس"
(1994) وجائزة "ليوپولدو ألاس" (1959) وجائزة
"رومولو غاليغوس" (1967). لكن يوسا، قبل أن
يفوز بهذه الجوائز كلِّها، وقبل أن يتمكن من
العيش من شقِّ قلمه، عمل في ميادين عدة،
فاشتغل مدرسًا للإسبانية، وصحافيًّا في
الوكالة الفرنسية للأنباء، وفي
الراديوتلفزيون الفرنسي، كما أنه شغل مراتٍ
عدة منصب أستاذ زائر في الجامعات الأمريكية. يُعتبَر يوسا واحدًا من أهم كتَّاب
الجزء الثاني من القرن العشرين؛ وقد تُرجِم
إلى لغات لا تُحصى. بدأت شهرته في برشلونة سنة
1963 عندما استلم جائزة "ببليوتيكا بريبِه"
تقديرًا لروايته المدينة والكلاب، حيث
يتكلم عن الأصالة والمسؤولية والبطولة. يتميز
يوسا بـ"تقنيات سردية تحديثية"، كما
يصفه النقاد؛ وفي أعماله كلِّها تتمحور
كتابتُه حول مواضيع تتعلق بالواقع الاجتماعي
الپيروفي، وأحيانًا الأمريكي اللاتيني، بما
ينطوي على نزاعات عرقية ولاأخلاقية سياسية. تجدر الإشارة إلى أن يوسا يجمع في شخص
واحد مواهب عدة: إذ إنه ليس روائيًّا فقط، بل
هو كاتب مسرح وباحث وناقد أدبي أيضًا. ويمكن
القول إنه بدأ حياته الأدبية فعلاً وحقيقةً
في أوروبا. فهو قد عاش في باريس وبرشلونة
ولندن، ولا يزال يقيم في كلِّ واحدة من هذه
المدن على التوالي، من دون أن ينسى زيارة
الپيرو كلَّ سنة. وعلى الرغم من اهتمامه بالسياسة، فهو
يكرر دائمًا أن على الكاتب ألا يضحي إطلاقًا
بمشروعه الفني من اجل إيديولوجيات سياسية.
كما أنه يقول في مكان ما: "الأدب هو نشاط
أساسي، وليس على الإطلاق اختصاصًا. عليه أن
يحتلَّ مكانًا كبيرًا ومهمًّا في حياة الناس
كلِّهم، كونه مصدر معرفة واسعة ومنبعًا
خارقًا للَّذة. هذه هي الرسالة التي أبلِّغها
للشباب: أن نقتنع بأن الكتب مهمة، إذ ليس ثمة
تسلية صحية ومثيرة وباعثة على الفرح أكثر
منها! فالكتاب الجيد والمبدع حقيقة يغير
وجودنا بأكمله." من أعمال يوسا: الهاربة من الإنكا
(مسرحية، 1952)، الزعماء (1958)، المدينة
والكلاب (1963)، البيت الأخضر (1966)، الكلاب
الصغار (1967)، حوار في الكاتدرائية (1969)، پانتيليون
والزائرات (1973)، العربدة الدائمة (1975)، حرب
نهاية العالم (1981)، مَن قتل پالومينو
موليرو (1986)، لغة الشغف (2001). *** صباح زوين:
كيف أتتْكَ فكرةُ الكتابة؟ هل كانت رغبةً منذ
صغرك أم أنها أتت مصادفة؟ ماريو فارغاس
يوسا:
لا، ليست مصادفة. الأمر بدأ مع القراءة. تعلمتُ
القراءة وأنا في الخامسة من عمري – ودائمًا
أقول إن هذا هو الشيء الأهم الذي حصل لي. أتذكر
كيف أن القراءة أغنت حياتي وعالمي من خلال
الكتب والمغامرات التي كنت أقرؤها. وأعتقد أن
هذه كانت العلامات الأولى لقلقٍ ما، لحساسيةٍ
ما حيال الأدب. كانت والدتي تخبرني أن الأشياء
الأولى التي كنت أكتبها تتمات للروايات أو
الحكايات التي أقرؤها، إذ كنت أغيِّر
نهاياتِها أو أطيلها، إلى ما هنالك – علمًا
بأني لا أتذكر شيئًا من هذا! ما أتذكره وحسب هو
أن القراءة شغلت طفولتي ومراهقتي. أتذكر في
وضوح تام الشخوص التي كنت أصادفها في
الروايات أكثر مما أتذكر رفاقي في المدرسة!
روايات ألكساندر دوما، مثلاً، كانت في نظري
شيئًا رائعًا لا مثيل له، عشتُها كأنها تجربة
شخصية، كأني كنت هناك، مع الشخوص، أعيش
تجاربهم – حتى تصورت أني واحد من "الفرسان
الثلاثة"! أتذكر أيضًا البؤساء لفكتور
هوغو عندما كنت في بداية صفوفي الثانوية. وقد
أكون بدأت الكتابة في تلك الحقبة، عندما كنت
لا أزال في المدرسة، حيث كتبت قصائد وقصصًا
قصيرة وحكايات. لكني لم أفكر بأني سأكرس يومًا
حياتي للكتابة: فهذا أمر مستحيل التفكير فيه
بالنسبة لشابٍّ أمريكي جنوبي! ص.ز.:
لماذا؟! م.ف.ي.:
لأن الكتابة كانت بمثابة نشاط "ترفيهي"،
مما يعيق العمل من أجل لقمة العيش! إذ كانت
الكتابة في تلك الحقبة تبدو وكأنها تسلية، لا
يمكن لنا تكريس وقتنا كلِّه لها. كان علينا أن
نتدبر لقمة عيشنا؛ ومن أجل ذلك، علينا أن نعمل
– فالأدب لا يطعم خبزًا! لذلك رأيتُني أدرس
شيئًا آخر: درست الحقوق أولاً، ثم درست الأدب،
ما مكَّنني من ممارسة وظيفة المحاماة
والتعليم معًا. لكنني ظللت مصرًّا على فكرة
أني سأكرس ما تبقى من وقتي للكتابة. وهذا ما
فعلت: فبعد دراستي الأدب والحقوق، حظيت بمنحة
للدكتوراه في الأدب، وكان ذلك في إسبانيا. كنت
قد كتبت قصصًا قصيرة عدة وأنا بعدُ طالب جامعي،
فجمعت بعض هذه القصص عند وصولي إلى إسبانيا (وكنت
قد نشرتها متفرقة في الپيرو) وقدَّمتها إلى
جائزة "ليوپولدو ألاس"، فحزت على
الجائزة! هذا كان أول كتاب لي، منشورًا تحت
عنوان الزعماء، سنة 1958 وأنا في الثانية
والعشرين من عمري. ص.ز.:
إذًا ابتداءً من ذلك الوقت أخذتَ تعتبر نفسك
بجدية كاتبًا! م.ف.ي.:
نعم. ففي مدريد، أي سنة 1958، اتخذت ذلك القرار.
قلت لنفسي: لن أكون أبدًا كاتبًا إذا كتبت
أيام الآحاد والأعياد فقط، مكرسًا بقية أيام
الأسبوع لنشاطات لا تمت إلى الأدب بصلة. لذا
قررت أن أنظم حياتي بطريقة أخرى. قلت لنفسي:
سوف أنظم حياتي بحسب متطلبات الأدب، وفي ما
تبقى من وقت، سوف أبحث عن عمل، عن لقمة عيش،
وذلك كي لا يؤكل وقتي كلُّه خارج النشاط
الكتابي. وأعتقد أن ذلك القرار كان مهمًّا
جدًّا. طبعًا لا أنفي أنه كلَّفني صعوباتٍ
عمليةً وماديةً جمة، لكنْ نفسيًّا كان هذا
مهمًّا جدًّا جدًّا لي، وذلك لأني بدأت أشعر
حينذاك أني حقًّا كاتب. ذهبت إلى باريس، ثم
إلى إسبانيا؛ وهناك عملت في مجالات عدة:
علَّمت اللغة الإسبانية، وفي النهاية عملت
صحافيًّا، أولا في الوكالة الفرنسية للأنباء،
ثم في الراديوتلفزيون الفرنسي، بينما كنت في
تلك الأثناء أكتب روايتي الأولى المدينة
والكلاب. وقد حالفني الحظ أيضًا، إذ حزت على
جائزة مهمة جدًّا في حقل الأدب الإسباني. أحرقوا كتابي! ص.ز.:
إلامَ يعود نجاح هذه الرواية؟ م.ف.ي.:
يحلو لي أن أعتقد أن الرواية نجحت لأنها جيدة!
لكنْ، في الحقيقة، مَن يدري ما الذي يجعل
كتابًا ما ناجحًا؟! إنما أقول لكِ إن هذه
الرواية أثارت فضيحةً كبيرة في الپيرو، إذ
كان وقعُها سلبيًّا على العسكر في البلاد،
وكانت ردة فعلهم أنهم أحرقوا كتابي في
المدرسة الحربية حيث تقع أحداث الرواية! وهذه
الفضيحة بالذات هي التي ساهمت في جعل الكتاب
مقروءًا وفي إيقاظ الفضول لدى الناس لقراءة
الرواية. كنت مقيمًا آنذاك في أوروبا، وطفقتْ
تصلني تلك الأخبار بطريقة غير مباشرة، وفوجئت
بأن الكتاب أحدثَ كلَّ هذه الفضيحة! إذ في
الحقيقة لم أتصور يومًا أن كتابًا أو رواية
يمكن لها أن تُحدِثَ ما أحدثت هذه من إثارة
وغضب! ص.ز.:
أعود إلى مسألة اكتشاف ذاتك كاتبًا: متى تم
هذا الاكتشاف؟ في أثناء ممارستك الكتابة
الروائية، أم أنه لم يكن اكتشافًا أصلاً، بل
قرار راشد، ثم اجتهاد فحسب؟ م.ف.ي.:
أعتقد أني حملت في داخلي هذا الميل إلى
الكتابة منذ طفولتي. إنما فقط في مراهقتي
انتبهت إلى أنها [الكتابة] عندي أكثر من مجرد
ميل، إلى أنها التزام وتكريس للذات وللوقت.
ومنذ ذلك الوقت، فكرت أن الكتابة مهمة أساسية
في حياتي، وأن علي، بالتالي، تكريسَ حياتي
لها. وكان أن اتخذت ذلك القرار في ما بعد في
إسبانيا سنة 1958. وأعتقد أن هذا القرار ساعدني
كثيرًا. ص.ز.:
أنا أصف الكتابة بـ"الفعل الكتابي" –
فماذا تقول أنت؟ م.ف.ي.:
أقول إنه يجب أن تكون ثمة حالة، ثمة استعداد
وقابلية؛ وإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون ثمة دأب
ومثابرة، يجب أن يكون ثمة نقد ذاتي. ص.ز.:
لا شك في ذلك! م.ف.ي.:
تعرفين أن برنارد شو قال جملة طريفة جدًّا،
وهي تبدو لي صحيحة جدًّا أيضًا. قال عن
الموهبة الأدبية: "إنها عشرة في المئة
إلهام، وتسعون في المئة عَرَق"! ص.ز.:
هذا الكلام صحيح! فالفعل الكتابي هو فعل خلق
وعمل في آنٍ – علما بأن الدأب وحده لا يكفي. م.ف.ي.:
ثمة أوقات نكتب فيها وكأننا في حالة من
الإثارة قطعًا. لكني أعتقد أن تلك الأوقات
نفبركها فبركةً من خلال الإصرار والدأب
والمثابرة والعمل الدائم والنقد الذاتي
المستمر. ص.ز.:
هل صحيح أن مرحلتك الروائية الأولى تتصف
بالدقة الصارمة والموضوعية، في حين أن مرحلتك
الثانية، التي لم تعد فيها متأثرًا بسارتر،
أكثر ذاتية وطرافة؟ ولكن، كيف يكون الروائي
موضوعيًّا؟! م.ف.ي.:
هذا صحيح بعض الشيء، ولو أنه في المراحل
كلِّها تجدين شيئًا من كلِّ شيء. في مرحلتي
الأولى، كنت متأثرًا جدًّا بنظريات سارتر،
بالأدب الملتزم. كان لسارتر أثر كبير عليَّ،
وأفكارُه تركتْ ظلالها فيَّ، وكذلك أدبه.
سارتر إنسان ذكي جدًّا، لكنه بعيد عن الطرافة؛
إذ لا نجد أية ابتسامة في كلِّ أعمال سارتر
الأدبية! وهذا الأمر هو الذي أثَّر فيَّ
وجعلني أفكر، في تلك المرحلة من حياتي
الأدبية، بأن "الطرافة" شيء لا يتلاءم مع
الأدب "الجدي". وقد انطبعتْ، بالتالي،
بهذه الأجواء كتبي الأولى، من نحو مدينة
الكلاب، البيت الأخضر، حوار في
الكاتدرائية، إلخ. إلا أن هذا كله تغير في
أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، عندما
فكرت في كتابة رواية حول ما رأيته شخصيًّا في
الأدغال الپيروفية ويتعلق بالجيش: ثمة نظام
في الثكنات أنشئوه للترفيه عن الجنود، يقوم
على استقبال فريق كامل من النساء أو "الزائرات"!
الرواية تنطلق من هذه "الحادثة" التي
رأيتها في الواقع. اعتبرت حينذاك هذا
الاكتشاف غريبًا جدًّا، خصوصًا أن الذي
ينظِّمه هو الجيش بذاته. حاولت أن أكتب رواية
جدية حول الأمر، لكني رأيت أن هذا مستحيل. ثمة
قصص لا نستطيع كتابتها كتابةً جديةً لأنها قد
تبدو غير معقولة. وهكذا بدأت أكتب رواياتي في
جوٍّ من الطرافة؛ أو الأصح أن الأخيرة هي التي
فرضتْ نفسها علي. لكني أقول لكِ إنها كانت
تجربة رائعة في نظري؛ إذ اكتشفت أن الطرافة
عنصر غني يحتوي على أبعاد حياة بأكملها،
على التجربة البشرية، التي لا نستطيع أن
نحكيها سوى في أسلوب ساخر. وهذا ما أعطى عملي،
على ما أعتقد، أبعادًا مختلفة. ص.ز.:
هل كل الكتب من هذا النوع لديك تحمل الفكاهة
الفجَّة ذاتها كالتي في پانتيليون
والزائرات؟ م.ف.ي.:
كتبت أيضًا الخالة خوليا والكاتب الفاشل،
حيث تجدين الطرافة كذلك. لكنها فكاهة أقل
فظاظة، أي أكثر تهذيبًا ورقة مما هي عليه في
"پانتيليون". لكني أستطيع القول إني منذ
هذين الكتابين بدأت الفكاهةُ تحضر في أعمالي.
هناك كذلك عناصر أخرى كانت غائبة في المرحلة
الأولى، من نحو اللعب، فكرة اللعب، فكرة
اللهو، وبعض الفانتازيا الحرة البعيدة عن
الهموم السياسية والاجتماعية. هذه الأفكار
بدأت في السبعينيات تتسلل إلى رواياتي. ص.ز.:
وماذا عن النزاع الحاد بين الأب والابن الذي
تكلَّمتَ عليه مرارًا؟ أي نوع من النزاع هو؟
هل عشتَه أنت؟ م.ف.ي.:
طبعًا عشتُه! بل إني عشتُه بطريقة مأسوية
جدًّا. لقد اكتشفت أن لي أبًا فقط وأنا في
العاشرة من عمري! عائلة والدتي جعلتْني أعتقد
أن والدي ميْت. إذ إن والديَّ كانا منفصلين،
وأسرة والدتي، حيث نشأتُ، أٍسرة كاثوليكية
متشددة، تخجل كثيرًا من شيء اسمه طلاق! والدتي
كانت تخجل كذلك. ولهذا السبب تركوني أظن أني
يتيم الأب. وفي العاشرة من عمري، تصالَح
والداي. إلا أن علاقتي بأبي كانت جدًّا سيئة،
علاقة صعبة. لم نتفق قط! في الحقيقة كنا غريبين،
إضافة إلى أنه كان إنسانًا مختلفًا تمامًا
عني، كان پراغماتيًّا. ص.ز.:
ألم يكن حنونًا؟ م.ف.ي.:
على الإطلاق! كرهتُه كرهًا فظيعًا! ص.ز.:
لماذا؟ م.ف.ي.:
لأنه سرق مني والدتي: كانت كلها لي، وفجأة
يظهر هذا السيد! ص.ز.:
طبعًا، العقدة التقليدية... إذًا كان منافسك! م.ف.ي.:
صحيح! على أية حال، كان أيضًا رافضًا كليًّا
موهبتي الأدبية. كان يرى إلى الأدب كشيء ناقص
ومعيب، شيء يتعلق بالمخنثين! ص.ز.:
... هذه طريقة تفكير العائلات البرجوازية
التقليدية في أمريكا الجنوبية. م.ف.ي.:
كان أبي، على كل حال، شغيلاً كبيرًا، عمل منذ
صغره؛ والأدب ظل خارج حقل تفكيره كليًّا. لذا
رأيت الأمر طريفًا جدًّا، على تناقُضه! إذ
اعتقد أبي أنه قد يستطيع أن يحجبني عن تلك
الموهبة الخطيرة، أي الأدب، فوضعني في
المدرسة الحربية. لكن ليس فقط لم أُشْفَ، بل
إن وجودي هناك وهبني موضوعًا أو فكرة روايتي
الأولى المدينة والكلاب. فأنا مدين، إذن،
لوالدي! ص.ز.:
أنت، إذن، مدين جدًّا لوالدك، بل أكثر مما
يمكن له أن يتصور، إذ أصبحت كاتبًا عالميًّا! م.ف.ي.:
أدين له بهذا، بل بأكثر من هذا! إذ إني بفضله
تعرفت إلى الپيرو. نشأت في عائلة منغلقة جدًّا
على ذاتها، حمتْني كثيرًا من أيِّ خطر خارجي،
إلى درجة منعتْني من أن أرى الپيرو على حقيقته.
كنت في عالم هادئ ضمن عائلتي، في حين كان
الپيرو بلدًا عنيفًا جدًّا، فيه تناقضات
ونزاعات كبيرة بين الطبقات الاجتماعية، كما
أن فيه نزاعات عرقية. هذا كله تعرفت إليه بفضل
وضع والدي لي في المدرسة الحربية. طبعًا كان
هذا الفضل غير مباشر. أما علاقتي الشخصية به
فكانت سيئة جدًّا. وفي إحدى الروايات، كتبت
تقريبًا عما كانه هو، مستلهمًا علاقتي الصعبة
معه. ص.ز.:
ألا تعتقد أن النزاعات الطبقية والعرقية في
الپيرو واحدة، حيث إن العرق الأبيض هو
البرجوازي والعرق المحلي الأصلي [الهندي] هو
الفقير؟ م.ف.ي.:
... بل الپيرو خليط من كلِّ شيء. إنه مزيج من
ثقافات وحضارات عدة، من لغات عدة. ص.ز.:
تعني بـ"لغات عدة" الإسبانية واللغات
الهندية العديدة؟ م.ف.ي.:
في الپيرو أكثر من لغة هندية، بالإضافة إلى
الإسبانية. ص.ز.:
أنا أعرف اسمًا واحدًا من أسماء تلك اللغات،
هو الـ"كِتشوا"... م.ف.ي.:
في الپيرو يتكلم السكان الأصليون الكِتشوا،
الإيمارا، إلى ما هنالك. ثمة أربعون لغة صغيرة
في الأدغال. ثمة في الپيرو نحو مليون هندي لا
يتكلمون سوى الكِتشوا أو الإيمارا. والپيرو
بلد مكون من تراتبيات قاسية، والفروق في
الطبقات صعبة جدًّا، والفروق الاقتصادية
بالتالي. الفروق الحضارية أيضًا مهمة جدًّا،
من دون أن ننسى الفروق بين المناطق: لنقل إن
أهالي الساحل ينظرون بعينٍ دونية إلى أهالي
الجبال، وفي الوقت ذاته، يضمر أهالي الجبال
حقدًا كبيرًا على أهالي الساحل. كذلك فإن
أهالي الريف وأهالي المدينة يعيشون في نزاع
دائم. إضافة إلى هذا كلِّه، ثمة نزاعات في
العادات والتقاليد. ص.ز.:
أي نوع من العادات والتقاليد؟ م.ف.ي.:
إذا جبتِ الپيرو تستطيعين أن تري بعينك
المجردة التطور البشري كلَّه، من المجتمع
الأكثر بدائية، في أمازونيا مثلاً، حيث ثمة
قبائل لا تزال تعيش في العصر الحجري (للمناسبة
كتبت رواية اسمها الحكواتي، تتكلم عن
جماعة صغيرة في أمازونيا تُدعى "الماتشيغنغاس"،
قد أقول إنهم اليوم أكثر تقرُّبًا من العالم
الغربي، لكنْ في الخمسينيات والستينيات
كانوا لا يزالون يعيشون كليًّا في العصر
الحجري.) – إذًا يمكن لكِ أن تجولي في الپيرو
من الحضارة الأكثر بدائيةً إلى الحضارة
الأكثر تمدُّنًا وحداثة، مرورًا بمراحل
التطور الاجتماعي كلِّها؛ أي يمكن لك أن تجدي
الإقطاع أيضًا. ص.ز.:
أما يزال الإقطاع يمارَس جنبًا إلى جنب مع
الحداثة؟ م.ف.ي.:
يمكن لي القول إن الإقطاع الحقيقي لم يعد
موجودًا: فالمزارع الكبيرة أُمِّمَتْ في
أوائل الستينيات. لكن ما لا يزال قائمًا في
الواقع، هو الذهنية، ذهنية الإقطاعي، ولو أن
السلطة انتُزِعَتْ من أولئك الإقطاعيين. ص.ز.:
كيف توفِّق بين مهمتك كاتبًا ومهمتك سياسيًّا؟ م.ف.ي.:
لكني لست سياسيًّا! ص.ز.:
ناضلتَ كثيرًا في المجال السياسي! م.ف.ي.:
صحيح، ناضلت كثيرًا، لكني لم أكرس نفسي يومًا
للعمل السياسي... ص.ز.:
... مع أنك ترشَّحتَ لرئاسة الجمهورية! م.ف.ي.:
هذا صحيح، لكني لم أكرس ذاتي يومًا للسياسة.
ما فعلته هو أني اعتقدت أنه يجب علينا دائمًا
أن نشارك في الحياة السياسية، خصوصًا إذا
رأينا أن الأمور من حولنا ليست على ما يُرام.
إذا رأينا أن المجتمع انحرف ووقع في الفساد
وفي الاحتكار، وإذا طغى الظلم ورأينا أناسًا
يرضخون قهرًا للتمييز العنصري – في حالات
كهذه، علينا أن نقوم بشيء مفيد! هذا ما أسميه
"سياسة". عدا ذلك، لم أحب السياسة يومًا،
وذلك منذ طفولتي. المرة الأولى التي مارست
فيها السياسة ممارسةً سرِّية كانت عندما كنت
طالبًا في الجامعة، وذلك تحت الديكتاتورية.
أحسست وقتذاك أن السياسة هي المنقذ الأساسي
والضروري للبشرية – حتى إني بت أعتقد أنه أمرٌ
لاأخلاقي ألا نشارك في السياسة – وخصوصًا سنة
1987، إذ كان البلد يعيش حالة دقيقة جدًّا: كنا
نعيش تقريبًا حربًا أهلية مع حركة المتمردين،
بالإضافة إلى الحالة الاقتصادية الرديئة؛
وكان التضخم حينذاك هائلاً. الديموقراطية
لدينا كانت هشة جدًّا، وبدأت بالتالي تنهار،
أو هكذا بدا لي. في ظروف كهذه، من دون فرح كبير،
عليك أن تنخرط في السياسة. أحسست أن هذا من
واجبي، إضافة إلى أني فكرت بأني بهذا أستطيع
أن أفعل شيئًا. تعلَّمتُ أشياء كثيرة عن
الپيرو، عن السياسة، وعني أنا! إذًا ما قمت به
ليس مهمة سياسية، بل واجب أخلاقي ومدني.
أما هدفي الأوحد في الحياة فهو الأدب، وليس
عندي اهتمام غيره. وحتى عندما كنت متورطًا في
تلك المعركة الانتخابية، ظللت أفكر في الأدب.
وكان الأمر، في حدِّ ذاته، تضحيةً حقيقية. ص.ز.:
قلتَ ذات مرة إنك ستعمل كلَّ ما في وسعك لتكون
كاتبًا من القرن الحادي والعشرين. ماذا تعني
بذلك؟ م.ف.ي.:
اسمعي، التاريخ لم يعد يهمني كثيرًا، على
الرغم من أني كنت على وشك تبنِّيه بفضل أستاذ
خارق علَّمني في الجامعة، وكان أمهر أساتذة
التاريخ. كان متخصصًا في حقبة اكتشاف أمريكا،
وكانت صفوفه جد مشوِّقة، حتى إني كنت على وشك
أن أقرر بأن التاريخ هو كل ما كنت أحلم به؛ أي
أنه الأدب، وأنه كل شيء في آن. أقول لكِ إن
الرواية التي تنطوي على جذور تاريخية تعجبني
دائمًا، شريطة أن يكون التاريخ فيها درسًا
حول الحاضر. أما أن يكون مجرد إعادة بناء
للماضي، فهذا النوع من التاريخ لا يلفت
انتباهي. كتبت، مثلاً، رواية عن الحرب
الأهلية في القرن التاسع عشر في البرازيل،
حرب مشوِّقة جدًّا. لكن أكثر ما أدهشني في تلك
الحرب هو النزاع بين عصبيتين، بين نظريتين
مختلفتين تمامًا تمنعان الخصمين من التواصل
أو من مباشرة أيِّ حوار ممكن؛ كان النزاع في
النهاية بين فنتازيتين، بين وهمين
إيديولوجيين – وهذا هو الواقع الذي نعيشه
اليوم! كذلك كتبت، مثلاً، رواية حول رافاييل
تروخيُّو [1891-1961]، الديكتاتور الدومينكاني،
لكنْ ليس لإعادة بناء تاريخ تروخيُّو، بل
لوصف شيء من ظاهرة الطاغية والأنظمة
الاستبدادية. وهذه هي كارثة أمريكا اللاتينية،
ولا يزال هذا قائمًا في بعض بلدانها (كما في
كوبا وفنزويلا) إلى يومنا هذا. لذا قلت لكِ
إنني أعتبر التاريخ درسًا للحاضر؛ وبهذا
المعنى، ما يهمني هو الزمن الذي أعيش فيه،
وأعتقد أن هذا من الأشياء القليلة التي لا
أزال فيها "سارتريًّا". العالم الذي نعيش
فيه هو هذا بالذات، وليس القرن التاسع عشر ولا
القرن الثامن عشر، ولا حتى القرن الثالث
والعشرين! هذا هو العالم حيث نعيش، وعلينا أن
نسعى إلى عيشه في العمق، محاولين فهمه من خلال
تجارب الماضي. ماركيس
وبورخيس ص.ز.:
بهذا المعنى، كيف تستطيع مقارنة نفسك مع
غارثيا ماركيس؟ فأنت تحفر في الواقع، وهو
تكثر عنده الفانتازيا؟ م.ف.ي.:
أعتقد أننا مختلفان جدًّا. صحيح أننا من
أمريكا اللاتينية (وإن كان أسن مني بعض الشيء)،
وقرأنا الكتَّاب ذاتهم تقريبًا، وأعتقد أن
أثر فوكنر كان كبيرًا جدًّا علينا نحن
الاثنين، إلا أن عالم غارثيا ماركيس يتجه
أكثر نحو الفانتازيِّ، نحو الأسطوري، من دون
أن ينفصل في الوقت ذاته عن واقع هو الواقع
الأمريكي اللاتيني. بنى عالمًا بأكمله من
الفانتازيا والخيال، عالمًا يفاجئنا
ويُدهِشنا بما يقدمه من جديد. في حين أن عالمي
أنا محصور في واقع من النوع الموضوعي، من
النوع التاريخي. ص.ز.:
وكيف ترى إلى عالم بورخيس؟ – ففي أدبه كثير من
الفانتازيا والخيال أيضًا. م.ف.ي.:
أنا من المعجبين الكبار ببورخيس، وأعتقد أنه
الكاتب الأهم والأكبر في اللغة الإسبانية
حاليًّا. قد يكون الأقرب من كلاسيكيي العصر
الذهبي؛ بل هو الكاتب الخارق والخارج عن أيِّ
معيار داخل اللغة الإسبانية! إنه يمثل ظاهرة
غير طبيعية في هذه اللغة، ذلك لأنه يمثل كلَّ
ما هو معاكس للميل الطبيعي للغتنا، لتقليدنا
فيها، أي يعاكس الغزارة والتدفق. فكبار اللغة
الإسبانية هم هذا تمامًا، بدءًا من ثربانتس،
حيث غنى اللغة ينتشر في نوع من العظمة، وحيث
تجدين كلامًا أكثر من الأفكار وانفعالات أكثر
من أيِّ شيء آخر. هذا ما يميز الإرث الكبير
للغتنا. وغارثيا ماركيس، مثلاً، هو خليفته،
في حين أن بورخيس يشكِّل استثناء. في كتابة
بورخيس أفكار بقدر ما هناك كلمات. ص.ز.:
ألا تعتقد أن سبب ذلك يعود إلى جذوره
الأنغلوسكسونية لجهة والدته؟ م.ف.ي.:
قد يكون شيء من هذا صحيحًا. لكن حتى في العالم
الأنغلوسكسوني عالمُ بورخيس غير معتاد،
عالمه شخصي جدًّا: مزيج من عناصر كثيرة، لكنه
أيضًا يتميز بتقشف كبير – وهو أمر غير مألوف
في اللغة الإسبانية – هذه القدرة على اختزال
عالم بأكمله من الأفكار والتجريد. إنه كاتب
تجريدي أكثر من كونه انفعاليًّا أو تعبيريًّا.
يقول في مكان ما: "أشياء كثيرة قرأتُ،
وقليلة هي الأشياء التي عشت." وأعتقد أن هذا
يفسر عالمه الأدبي. ص.ز.:
هذا شأن الكتَّاب العقلانيين... م.ف.ي.:
صحيح، هذه الجملة التي قالها مرة تصفه تمامًا؛
إذ إن حياته الثقافية الفكرية غنية جدًّا،
بينما تجربته الحياتية شبه غائبة. ومع ذلك،
لغته هي إحدى أكبر الثورات في النثر: إنه نثر
ذكي جدًّا، بمعنى أن أفكاره تنطوي على قوة
جارفة. وفي الوقت ذاته، لا يسعنا أن ننكر أنه
عالم في غاية الغرابة! إضافة إلى ذلك، ابتكر
نوعًا من النص الفكري على مفترق طرق بين الشعر
والسرد. لذا أعتقد أنه من أكبر مبدعي عصرنا،
بل أكثر: إذ نلاحظ أنه كلما مرَّ الوقت تكرستْ
هذه الظاهرة. فاليوم هو مقروء أكثر مما قُرئ
في حياته؛ وبعد مئة عام، سوف يُقرأ أكثر وأكثر. ص.ز.:
وماذا قد تقول عن أدبك في هذا المجال؟ م.ف.ي.:
ليست لدي القدرة على التقييم في هذا المعنى.
يقول بورخيس، للمناسبة، شيئًا رائعًا: "عندما
ننظر إلى أنفسنا في المرآة، لا نستطيع
إطلاقًا أن نعرف كيف هو وجهنا." ص.ز.:
هذا صحيح، فالمرآة هي الغش الأكبر! م.ف.ي.:
... خصوصًا أن الكاتب لا يملك المسافةَ الكافية
ليتمكن من التقييم. يقيِّم الكاتب من خلال
الأصداء وردات الفعل حيال ما يكتب. إلا أن هذا
كله ذاتي جدًّا. ص.ز.:
نبقى في الموضوع ذاته تقريبًا، لأسألك ما إذا
كانت شهرتك الكبيرة غيَّرتْ إلى حدٍّ ما
نصَّك. هل تعتبر نفسك كاتبًا كبيرًا؟! م.ف.ي.:
أعتقد أن الكاتب الذي يرى نفسه "كاتبًا
كبيرًا" يكون كاتبًا أحمق! – وثمة عدد لا
يستهان به من كتَّاب كهؤلاء. من المهم جدًّا
أن نحافظ دائمًا على وعينا النقدي. وفي
النهاية، الكتابة، في حدِّ ذاتها، هي ما
يمنحنا الشعور باللذة. ص.ز.:
نعرف عنك – وعن روائيين كُثُر على أية حال –
أنك تغيِّر أو تصحِّح المسودات باستمرار. ألا
يتعبك هذا ويأخذك إلى نوع من الجنون؟ م.ف.ي.:
طبعًا يتعبني! ص.ز.:
لكن قُلْ لي: متى أو في أية مرحلة من عملية
التصحيح الدائم تشعر أنه يجب عليك أن تضع
حدًّا لهذا التعديل كلِّه الذي قد يستمر إلى
ما لا نهاية؟ م.ف.ي.:
في وقت معين أشعر مثلاً أنني إنْ لم أنتهِ من
العمل فإن العمل ذاته سوف ينهيني، أنه سوف
يُهلِكني، وهو قادر على تدميري! عند هذه
النقطة، أتخذ قرارًا بأن أنهي الرواية. أذكر
رواية كامو الطاعون، حيث ثمة طبيب يريد أن
يكتب رواية، إلا أنه لم يستطع يومًا أن يتخطى
الجملة الأولى، لأنه يكتشف أن هذه الجملة
الأولى يمكن أن تُعاد كتابتُها بطُرُق عديدة،
مما يشله – هذا فقط للتأكيد على أن المغالاة
في التصحيح خطيرة جدًّا. المخرج ص.ز.:
هل لكَ أن تكلمني قليلاً عن تجربتك كمخرج
سينمائي؟ م.ف.ي.:
هي تجربة يتيمة، أتت إليَّ مصادفةً ولم أسعَ
إليها! مرة واحدة فقط ساهمت في إخراج فيلم، بل
كنت مساعد مخرج فيلم مقتبس من إحدى رواياتي: پانتيليون
والزائرات. لكن النتيجة كانت من السوء بحيث
إنني لم أكرر التجربة! ص.ز.:
ألم ينجح الفيلم؟ م.ف.ي.:
كان فيلمًا رديئًا جدًّا... ص.ز.:
... لأنك أنت أخرجته؟! م.ف.ي.:
تمامًا – والذنب ذنبي! ص.ز.:
لكن هل تمنيتَ أن تكون مخرجًا سينمائيًّا؟ م.ف.ي.:
أخبرك أن ما حدث معي في تلك التجربة يليق
برواية، وكأنه لا يمت إلى الواقع بصلة! كنت
إذًا في مكسيكو، أكتب سيناريو لشريط وثائقي.
وفجأة أستلم مكالمة هاتفية من قبل سيد قال لي
إنه يمثل شركة Paramount Pictures
الضخمة، قسم عالم اللغة الإسبانية أجمع. ثم
قال لي: "أتصل بك لأعرض عليك أن تقوم بإخراج
الفيلم المقتبس من روايتك "پانتيليون"
والذي ستتكفل Paramount
Pictures بإنتاجها." ورأيت
نفسي أقهقه من الضحك عند سماعي هذا، قائلاً له
إني لا أعرف شيئًا عن الإخراج! كل ما أعرفه هو
أني أحب السينما وأشاهد الأفلام فحسب. حتى
الكاميرا لا أعرف ما هي! المرة الوحيدة التي
أمسكت فيها الكاميرا كانت عندما أردت التصوير
لجريدة طلبت مني تصوير مصارعة الثيران،
فاحترقت معي الصور كلها، ماعدا واحدة ظهر
فيها ثور يشرب الماء! إلا أن مندوب Paramount
كرَّر وأصر قائلاً: "لا، لا، أنت لا تريد أن
تفهمني. من الصعب جدًّا الحصول على مال
للأفلام؛ وعندما تأتي فرصة كهذه لا يجوز أن
نرفض. ما كنت لأعرض عليك مهمةً ضخمة كهذه في
حياتي، إلا أن ما حصل هو التالي: رئيس Golf
& Western كان مسافرًا في
طائرته الخاصة من نيويورك إلى لندن، حين
أخبره أحدهم خلال الرحلة أنه قرأ رواية اسمها پانتيليون
والزائرات وأنه استمتع بها كثيرًا، راويًا
له موضوعها: يضم الجيش فرقًا من الزائرات
للترفيه عن الجنود، إلخ. فإذا برئيس Golf
& Western يسارع إلى القول إن
هذا الفيلم يجب أن يكون لنا، وأمر بشراء
الحقوق، مضيفًا أيضًا: "أعتقد أن هذا
الفيلم يجب أن يكون فيلم الكاتب."" (ففي
ذلك الوقت كانت رائجةً موضةُ "سينما
الكتَّاب"، حيث يشرف الكاتب بنفسه على
إخراج الفيلم.) الشخص الذي اتصل بي قال لي: "الأمر
محسوم لأننا اشترينا حقوق الرواية وأصبحت لنا.
وأطلب منك أن توافق مقابل مبلغ كبير من المال.
إضافة إلى أني سأؤمِّن لك عددًا من المساعدين
يعرفون ماذا يجب أن تفعل." فكرت أنه لا يمكن
لي أن أرفض عرضًا مغريًا وفريدًا كهذا لن
يتكرر في حياتي! وهكذا تم الاتفاق، وقمت
بالإخراج، وكان الفيلم كارثة! وأعود وأقول لكِ
إن الحكاية هذه كانت على غاية من الطرافة
والغرابة، حتى إني أعتبرها فيلمًا بذاته! ص.ز.:
قلتَ مرة إنك تتمنى أن تمارس الجنس مثل فرس
النهر! هل هذا صحيح؟ م.ف.ي.:
يجب ألا نصدق كلَّ ما يقوله عنَّا الصحافيون.
يقول الصحافيون أي شيء! أنا لم أقل هذا،
خصوصًا أنه في حال أردت أن أكون فرس نهر فإن
عليَّ أولاً أن أزن 500 أو 600 كيلوغرامًا! ص.ز.:
لكن من أين اخترع الصحافيون هذا كلَّه عنك؟! م.ف.ي.:
إنهم يقولون ترهاتٍ كثيرة! لكن ما كنت قد قلته
أنا، أو بالأحرى ما كنت أقوم به، هو أنني أجمع
تماثيل صغيرة لهذا الحيوان على سبيل الهواية.
بدأ هذا الميل عندي منذ أن نشرت مسرحيتي كاثي
وفرس النهر. فبعد عرضها، بدأ الناس يهدونني
تماثيل منه. وفي إحدى المرات، جاءني صحافي –
وكان الحوار في بيتي، وبالتالي رأى الصحافي
هذه المجموعة من أفراس النهر – فسألني: "لماذا
تجمع تماثيل لهذا الحيوان؟" فقلت له إني
أحب هذا الحيوان لأنه ظريف، ولأنه يجسِّد
الشعار الشهير للـHippies:
“Make love, not
war!” وهذا الحيوان،
على الرغم من قبحه الفظيع ومن مظهره العدائي
جدًّا، كائن مسالم جدًّا، وبالإضافة إلى ذلك،
تلذ له ممارسةُ الجنس طوال الوقت. ولهذا السبب،
حرَّف الصحافي ما فسَّرتُه له وكتب تلك
الحماقات! ص.ز.:
قلتَ مرة إن الإبداع والموهبة ليسا دائمًا
مكافئين؛ إذ إن الحظ والمصادفة يلعبان دورًا
في المراجعات الصحافية. هل تعتقد أنك كوفئتَ
كما يجب أو أكثر مما يجب؟ هل حالفك الحظ، أم أن
ما قيل عنك تراه صحيحًا؟ م.ف.ي.:
الإطراءات الصحافية ليست كلها بالضرورة
نابعة من دوافع أدبية صرفة. هي، في أحيان
كثيرة، وفي ما يخصني أنا بالذات، نابعة من
دوافع سياسية أو نفعية. فالأدب والمصالح
الاجتماعية أو السياسية كلها أمور يمتزج
بعضها ببعض كثيرًا وتخلق، بالتالي، سوء تفاهم
هائلاً. المشكلة أني لا أستطيع شخصيًّا أن
أكون موضوعيًّا حول كفاءتي أو عدمها – علمًا
بأني واثق أن الكفاءة وحده الوقت يقرِّرها؛
الزمن وحده يقرِّر ما إذا العمل الأدبي سيبقى
أو لن يبقى بعد أن يموت الكاتب، أي عندما لا
يبقى من الكاتب سوى عمله وعندما يبقى العمل،
بالتالي، وحده ليدافع عن نفسه بنفسه ضد
الانطفاء والنسيان. ثمة أعمال تستمر بعد غياب
الكاتب، وهي الأعمال المهمة؛ لكن ثمة أيضًا
أعمالاً تبقى مطمورة زمنًا طويلاً، على الرغم
من أهميتها. والمثل على ذلك لويس دي غونغورا
[1561-1627]، وهو شاعر من إسبانيا بقيت أعماله
مطمورة أكثر من مائتي سنة، إلى أن أتت
المصادفة في القرن العشرين، فأعادوا له
الاعتبار! ***
*** *** حاوَرَتْه:
صباح زوين عن
السفير، 07/07/2006
|
|
|