english arabic

حواران مع

نِسَرْغَادَاتاَّ مَهَارَاجْ

 

الكمال المطلق هنا والآن

 

السائل: الحرب دائرة. ما هو موقفك حيالها؟

ماهاراج: في مكان ما أو في آخر، في شكل ما أو في آخر، الحرب دائمًا دائرة. هل وُجِدَ زمنٌ لم تقع فيه حرب؟ بعضهم يقول إنها مشيئة الله. بعضهم الآخر يقول إنها لعبة الله. إنها طريقة أخرى للقول بأن الحروب حتمية وبأن لا أحد مسؤول.

س: ولكن ما هو موقفك أنت؟

م: لماذا تفرض عليَّ مواقف؟ ليس عندي موقفٌ أدعوه موقفي أنا.

س: أحدهم قطعًا مسؤول عن هذه المجزرة المروِّعة والعبثية. لماذا يستسهل الناسُ قتلَ بعضهم بعضًا؟

م: فتِّش عن المُذْنِب في الداخل. فكرتا "أنا" و"لي" هما أصل كلِّ نزاع. تحرَّرْ منهما تَصِرْ خارج النزاع.

س: فما فائدة أن أكون خارج النزاع؟ لن أؤثِّر في الحرب. إذا كنتُ سببَ الحرب فأنا على استعداد لقبول تدميري. ومع ذلك فمن البديهي أن اختفاء ألف واحد مثلي لن يوقف الحروب. فهي لم تبدأ مع ميلادي ولن تنتهي بموتي. لست مسؤولاً. فمن المسؤول؟

م: الخصام والصراع جزء من الوجود. فلِمَ لا تتحرَّى عن المسؤول عن الوجود؟

س: لماذا تقول إن الوجود والنزاع لا ينفصلان؟ هل من الممكن ألا يكون وجودٌ بدون خصام؟ لا حاجة لي إلى قتال غيري حتى أكون نفسي.

م: أنتَ تقاتل الآخرين طوال الوقت من أجل بقائك كجسم–ذهن منفصل، كاسم وصورة معيَّنين. حتى تعيش ينبغي عليك أن تدمِّر. فمن اللحظة التي حُبِلَ فيها بِكَ شَنَنْتَ حربًا على بيئتك – حربَ إبادة متبادلة لا رحمة فيها، حتى يحرِّرك الموت.

س: مازال سؤالي بغير إجابة. أنت تصف ما أعرفه وحسب – الحياة ومآسيها. لكنك لا تقول مَن المسؤول. وعندما ألحُّ عليك تنحو باللائمة على الله، أو كرما، أو جشعي أنا وخوفي أنا – الأمر الذي يستتبع المزيد من الأسئلة. أعطِني الجواب النهائي.

م: دونك الجواب النهائي: لا شيء موجود. الكلُّ مظهرٌ مؤقت في ساحة الوعي الكلِّي؛ الاستمرار كاسم وصورة تشكُّلٌ ذهنيٌّ ليس إلا، ما أسهل تبديده.

س: أنا أسأل عن الآني، العابِر، المَظْهَر. هي ذي صورة طفل قَتَلَه الجنود. إنها واقع – يحدِّق فيك. ليس بمقدورك إنكاره. فمَن هو المسؤول عن مقتل الطفل؟

م: لا أحد والجميع. العالم هو ما يحتويه، وكلُّ شيء يؤثِّر في كلِّ الأشياء الأخرى. كلُّنا يقتل الطفل، وكلُّنا يموت معه. لكلِّ حَدَثٍ أسبابٌ لا تُحصى، وتنجم عنه نتائج بغير عدٍّ. لا جدوى من الاحتفاظ بتعليلات؛ فلا شيء قابل لاقتفاء أثره.

س: قومك يتكلَّمون على كرما والجزاء.

م: إنه مجرَّد تقريب غليظ؛ أما في الواقع فنحن جميعًا خالقو ومخلوقو بعضنا بعضًا، مسبِّبو وحاملو وِزْرَ بعضنا بعضًا.

س: البريء، إذن، يشقى عن المذنب؟

م: في جهلنا نحن أبرياء؛ في أفعالنا نحن مذنبون. نخطئ عن غير علم ونشقى عن غير فهم. أملنا الوحيد: أن نتوقف، أن ننظر، أن نفهم، فنتملص من فخاخ الذاكرة. إذ إن الذاكرة تغذي المخيِّلة، والمخيِّلة تولِّد الرغبة والخوف.

س: لماذا أتخيل أصلاً؟

م: ضوء الوعي يمرُّ عبر شريط الذاكرة ويُلقِي بالصور على مخِّك. وبسبب حالة مخِّك القاصرة وغير المنظَّمة فإن ما تدرك يتحرَّف ويتلوَّن بمشاعر الملذوذ والمكروه. رتِّبْ تفكيرَك وحرِّرْه من الجَرْسات الانفعالية، فترى الناس والأشياء كما هي، بوضوح وبإحسان.

الشاهد على الولادة والحياة والموت واحد هو هو. إنه الشاهد على الألم والحب. فمع أن الوجود في المحدوديَّة والانفصال مُحزِن لكننا نحبه. نحبه ونكرهه في الوقت نفسه. نقاتل، نقتل، ندمِّر الحياة والممتلكات؛ ومع ذلك نعطف ونضحِّي بالنفس. نسعف الطفل بحنان ونيتِّمه أيضًا. حياتنا مليئة بالتناقضات؛ ومع ذلك نتشبَّث بها. وهذا التشبُّث هو أصل كلِّ شيء. على الرغم من ذلك فإنه سطحيٌّ تمامًا. نتمسَّك بشيءٍ أو بأحَدٍ بكلِّ قوانا وفي اللحظة التالية ننساه؛ مثل طفل يشكِّل هيئات من الطين ويتركها خليَّ البال. خرِّبْها تجدْه يصرخ غاضبًا؛ اصرِفْ انتباه الطفل عنها يَنْسَها. فحياتنا هي الآن، وحبُّنا لها الآن. نحن نحبُّ التنوع، لعبة الألم واللذة؛ نحن نَنْبَهِرُ بالمتباينات. ولهذا نحتاج إلى الأضداد وانفصالها الظاهري. نستمتع بها مؤقتًا، ثم نسأمها ونتشهَّى سلام الوجود المحض وصمته. القلب الكوني ينبض بلا توقف. أنا الشاهد والقلب أيضًا.

س: يمكنني أن أرى اللوحة، لكن مَن هو الرسام؟ مَن هو المسؤول عن هذه التجربة الرهيبة، لكنْ الأخَّاذة؟

م: الرسام موجود في اللوحة. أنت تفصل الرسام عن اللوحة وتبحث عنه. لا تفصلْه ولا تطرحْ أسئلة زائفة. الأشياء هي كما هي ولا أحد حصرًا مسؤول. إن فكرة المسؤولية الشخصية تأتي من وَهْمِ الواسطة. "لا بدَّ أن أحدهم فعل ذلك، أحدهم مسؤول." المجتمع كما هو الآن، بإطار قوانينه وأعرافه، قائم على فكرة الشخصية المنفصلة والمسؤولة، لكن هذا ليس هو الشكل الوحيد الذي يمكن للمجتمع أن يتخذه. قد تكون ثمة أشكال أخرى، يكون فيها حسُّ الانفصال ضعيفًا والمسؤولية منتشرة.

س: الفرد ذو حسِّ الشخصية الضعيف – هل هو أقرب إلى تحقيق الذات؟

م: دونك مثال الطفل الصغير. حسُّ "الأنيَّة" غير متشكِّل بعدُ، والشخصية في بدأتها الأولى. عراقيل معرفة الذات قليلة، لكن قوة الإدراك ووضوحه، سعته وعمقه، ناقصان. ثم على كرِّ السنين يصبح الإدراك أقوى؛ لكن الشخصية الكامنة تنشأ أيضًا، فتحجب وتعقِّد. فكما أن الخشب، كلما ازداد قساوة، كان اللهب أشد اتقادًا، كذلك فإن الشخصية، كلما قَوِيَتْ، كان الضياء المتولِّد عن تدميرها أشد سطوعًا.

س: أمَا مِن مشكلات لديك؟

م: لديَّ مشكلات. سبق أن قلت لك ذلك. الكينونة، الوجود مع اسم وصورة مؤلم؛ ومع ذلك أحبُّه.

س: لكنك تحب كلَّ شيء!

م: كلُّ شيء محتوى في وجودي. طبيعتي نفسها هي أن أحب؛ حتى المؤلم محبَّب.

س: لكن هذا لا يجعله أقل إيلامًا. فلماذا لا تبقى في غير المحدود؟

م: إن غريزة الاستكشاف، حبَّ المجهول، هو الذي جاء بي إلى الوجود. إن من طبيعة الكينونة أن تطلب المغامرةَ في الصيرورة، كما أنه من طبيعة الصيرورة نفسها أن تسعى إلى السلام في الكينونة. وهذا التقلُّب بين الكينونة والصيرورة محتوم: لكن مقامي أبعد.

س: هل مقامك في الله؟

م: حبُّ إلهٍ وعبادتُه أيضًا من قبيل الجهل. مقامي أبعد من كلِّ المفاهيم، مهما كانت سامية.

س: لكن الله ليس مفهومًا! إنه الحقُّ المتعالي عن الوجود.

م: لكَ أن تستعمل أية كلمة تروق لك. فمهما كان ما تفكر فيه، أنا أبعد منه.

س: مادمت تعرف مقامكَ لِمَ لا تقيم فيه؟ ما الذي يُخرِجُكَ منه؟

م: المرء يولد حبًّا بالوجود الجسماني؛ وهو، إذ يولد، ينخرط في القَدَر. القَدَرُ لا ينفصل عن الصيرورة. ورغبتك أن تكون المتعيِّن تجعلك شخصًا بكلِّ ماضيه ومستقبله الشخصيين. انظر إلى أيِّ إنسان عظيم – أي إنسان رائع كان! ومع ذلك ما أشد اضطراب حياته ومحدودية ثمارها! ما أشد اتكال شخصية الإنسان وما أقل اكتراث عالمها! ومع ذلك نحبه ونذود عنه من أجل تفاهته نفسها.

س: الحرب دائرة والفوضى مستشرية ويُطلَبُ منك أن تتولَّى مركزًا للإطعام. يعطونك ما هو مطلوب؛ والمسألة لا تتعدَّى إنجاز العمل وحسب. هل سترفضه؟

م: العمل أو عدمه سيان عندي. قد أتولاه وقد لا أفعل. قد يكون هناك آخرون، أفضل موهبة مني للقيام بمهمات كهذه – مموِّنون محترفون، على سبيل المثال. لكن موقفي مختلف. فأنا لا أنظر إلى الموت كمصيبة، كما أني لا أبتهج لمولد طفل. فالطفل يخرج إلى الهمِّ بينما الميت يفلت منه. التعلُّقُ بالحياة تعلُّقٌ بالأسى. نحن نحب ما يهبنا الألم. فهكذا هي طبيعتنا.

ساعة الممات عندي ستكون ساعة طرب، لا خوف. بكيت عندما ولدت وسأموت ضاحكًا.

س: ما هو التغيُّر في الوعي عند ساعة الممات؟

م: أي تغيُّر تتوقع؟ عندما ينتهي عرضُ الفيلم، يبقى كلُّ شيء على الحال التي كان عليها في مبتداه. الحالة التي كنتَ عليها قبل أن تولد هي حالتك أيضًا بعد الموت، إنْ كنتَ تتذكر.

س: لا أتذكر شيئًا.

م: هذا لأنك لم تحاول قط. الأمر عبارة فقط عن توليف للذهن؛ وهو يتطلب رياضة، بالطبع.

س: لماذا لا تشترك في العمل الاجتماعي؟

م: لكني لا أفعل شيئًا غير ذلك طوال الوقت! وما هو العمل الاجتماعي الذي تريدني أن أقوم به؟ الترقيع ليس من اختصاصي. موقفي واضح: أنْتِجْ لتوزِّع؛ أطْعِمْ قبل أن تأكل؛ أعطِ قبل أن تأخذ؛ فكِّر في الآخرين قبل أن تفكِّر في نفسك. وحده مجتمع غير أناني، قائم على المشاركة، يمكن أن يكون مستقرًّا وسعيدًا. وهذا هو الحل العملي الوحيد. أما إذا لم تكن تريده فحارِبْ.

س: الأمر كلُّه يتعلق بالـغونا [خواص الطبيعة]. عندما يسيطر تَمَسْ [العطالة] ورَجَسْ [الحركة] لا بدَّ أن تندلع الحرب؛ وحيثما يحكم سَتْفا [التناغم] يسود السلام.

م: عبِّر عن الأمر بالطريقة التي تحلو لك؛ فإنه يؤول إلى النتيجة نفسها. المجتمع مبني على الدوافع. ضَعِ النية الطيبة في الأسُسِ ولن تحتاج إلى عمَّال اجتماعيين مختصين.

س: العالم لا يتحسَّن.

م: كان ينبغي على العالم طوال الوقت أن يتحسن؛ ومع ذلك لم يفعل. أي أمل ثمة في المستقبل؟ بالطبع، كانت هناك – وسوف تكون – فترات من التناغم والسلام, حين كان سَتْفا في صعود؛ لكن الأشياء تتدمَّر من جراء كمالها نفسه. المجتمعُ الكاملُ ساكنٌ بالضرورة، وبالتالي، فهو يركد ويتفسَّخ. فمن القمة كلُّ الدروب تقود نحو الأسفل. والمجتمعات كالناس – تولد، تنمو وصولاً إلى نقطة ما من الكمال النسبي، ثم تتفسَّخ وتموت.

س: أليست ثمة حالة من الكمال المطلق لا تتفسَّخ؟

م: كلُّ ما له بداية ينبغي أن تكون له نهاية. في اللازمني كلُّ شيء كامل، هنا والآن.

س: ولكن هل سنبلغ اللازمني في المآل؟

م: في المآل سنعود إلى نقطة الانطلاق. ليس في وسع الزمن أن يُخرِجَنا من الزمن، كما ليس في وسع المكان أن يُخرِجَنا من المكان. وكل ما تستفيد من الانتظار هو المزيد من الانتظار. الكمال المطلق هنا والآن، وليس في مستقبل ما، قريب أو بعيد. السرُّ في العمل – هنا والآن. إن سلوكك هو الذي يُعميك عن نفسك. دعْكَ من كلِّ ما تظن أنك هو، وتصرَّف كما لو كنتَ مطلقَ الكمال – أية كانت فكرتك عن الكمال. كل ما تحتاج إليه هو الشجاعة.

 

س: من أين لي بمثل هذه الشجاعة؟

م: في نفسك، بالطبع. انظر في الداخل.

س: بركتُك سوف تعينني.

م: بركتي تأمرك الآن: انظر في الداخل. لديك كل ما تحتاج إليه. استعملْه. اسلكْ بأحسن ما تعرف، وافعل ما تعتقد أنك يجب أن تفعل. لا تخشَ الأغلاط؛ فبمقدورك دومًا أن تصحَّحها. وحدها النيات تهمُّ. فالهيئات التي تتخذها الأمور ليست من صلاحيتك؛ أما النيات من وراء أعمالك فمن صلاحيتك.

س: كيف يمكن للعمل الناتج من النقص أن يقود إلى الكمال؟

م: العمل لا يقود إلى الكمال؛ الكمال يُعبَّر عنه في العمل. فمادمتَ تحكم على نفسك بانطباعاتك، أوْلِها انتباهَك كلَّه؛ وعندما تُحقِّق كيانك، سيكون سلوكُك – عفويًّا – سلوكًا كاملاً.

س: إذا كنتُ كاملاً منذ الأزل لماذا ولدتُ أصلاً؟ ما الغاية من هذه الحياة؟

م: الأمر أشبه بالسؤال: ماذا يفيد الذهب أن يُصاغ في حلية؟ الحلية تكتسب لون الذهب وجماله؛ لكن الذهب غنيٌّ عن ذلك. بالمثل، فإن الحقَّ المعبَّر عنه في العمل يجعل العملَ ذا معنى وجميلاً.

س: ماذا يستفيد الحقُّ من خلال تعبيراته؟

م: ماذا يمكنه أن يستفيد؟ لا شيء على الإطلاق. لكن من طبيعة المحبة أن تعبِّر عن نفسها، أن تؤكد نفسها، أن تتغلب على المصاعب. حالما تفهم أن العالم هو المحبة في العمل ستنظر إليه نظرة مختلفة تمامًا. لكن موقفك من الشقاء ينبغي أن يتغير أولاً. الشقاءُ في الأصل دعوةٌ إلى الانتباه، الذي هو نفسه حركة محبة. المحبة، أكثر من السعادة، تطلب النموَّ، توسيع الوعي والكينونة وتعميقهما. وكلُّ ما يعرقل يصير سببًا للألم، والمحبة لا تتوانى عن الأمل. ستفا – الخاصية التي تعمل من أجل البِرِّ والتفتح المنظَّم – ينبغي ألا تُحبَط. فعندما تُعرقَل تنقلب على نفسها وتصير مدمِّرة. كلَّما جرى إمساك المحبة وأجيز للشقاء أن ينتشر فإن الحرب تصير حتمية. إن عدم اكتراثنا لحزن جارنا يجلب الشقاء إلى بابنا.

***

 

الجناني

 

السائل: بدون قدرة الله لا يمكن القيام بشيء. حتى أنتَ ما كنتَ لتجلسَ هنا وتكلِّمنا بدونه.

ماهاراج: كلُّ شيء من صنعه، لا ريب. ولكنْ ما أثَرُ هذا فيَّ بما أني لا أريد شيئًا؟ ماذا في وسع الله أن يعطيني، أو يأخذ منِّي؟ ما هو لي هو لي – حتى لو لم يكن الله موجودًا. بالطبع، هو شيء ضئيل جدًّا، هباءة – حسُّ "الأنيَّة"، واقعة الكينونة. ذلكم هو مقامي؛ لا أحد وَهَبَني إيَّاه. الأرض مالي؛ ما ينمو عليها مال الله.

س: فهل اكترى الله الأرضَ منك؟

م: الله متعبِّدٌ لي، صَنَعَ هذا كلَّه من أجلي.

س: ألا يوجد الله بمعزل عنك؟

م: كيف له أن يوجد؟ "الأنيَّة" هي الجذر؛ الله هو الشجرة. من أنا لكي أُعبَد، ولأيِّ شيء؟

س: هل أنت المتعبِّد أم محلُّ العبادة.

م: أنا لست أيَّ واحد منهما؛ أنا العبادة نفسها.

س: ليس ثمة ما يكفي من العبادة في العالم.

م: أنت دائمًا تسعى إلى تحسين العالم. هل تظن حقًّا أن العالم ينتظركَ لكي يخلص؟

س: أنا فقط لا أعرف مقدار ما أستطيع أن أفعل من أجل العالم. كلُّ ما أستطيع أن أفعله هو أن أحاول. هل ثمة شيء آخر تريدني أن أفعله؟

م: بدونك هل ثمة عالم؟ أنت تعلم كلَّ شيء عن العالم، لكنْ عن نفسك لا تعلم شيئًا. أنت نفسك أدوات عملك؛ ليست لديك أية أدوات أخرى. لماذا لا تعتني بالأدوات قبل أن تفكِّر في العمل؟

س: أقدر أن أنتظر، بينما العالم لا يقدر.

م: أنت، بعدم تحرِّيك [عن الأمر]، تُبقي العالمَ منتظِرًا.

س: منتظِرًا ماذا؟

م: منتظِرًا مَن يقدر أن يخلِّصه.

س: الله مدبِّر العالم؛ الله سيخلِّصه.

م: هذا ما تقوله أنت! هل جاء الله وقال لك إن العالم من خَلْقِه واختصاصه وليس من خَلْقِك واختصاصك؟

س: لماذا يكون وحده من اختصاصي؟

م: تفكِّر في الأمر: العالم الذي تحيا فيه – مَن غيرُك يعرف عنه؟

س: أنت تعرف. الجميع يعرفون.

م: هل جاءك أحدهم من خارج عالمك ليخبرك؟ أنا، والجميع غيري، نظهر في عالمك ونتوارى عنه. كلُّنا تحت رحمتك.

س: ليس الأمر بهذا السوء – أنا موجود في عالمك وأنت موجود في عالمي.

م: ليس عندك أيُّ دليل على عالمي. أنتَ مغلَّف تمامًا في عالم من صنعك أنت.

س: فهمت. تمامًا، لكنْ... بشكل ميئوس منه؟

م: ضمن سجن عالمك يظهر امرؤٌ يخبرك أن عالم التناقضات المؤلمة الذي خلقتَه ليس متواصلاً ولا دائمًا، وهو قائم على فكرة مغلوطة. وهو يناشدك أن تخرج منه بالطريقة نفسها التي دخلتَه بها. لقد دخلتَه بنسيان ما أنتَ، وسوف تخرج منه بمعرفة نفسك كما أنت.

س: بأية طريقة يؤثِّر هذا في العالم؟

م: عندما تتحرر من العالم بمقدورك أن تفعل شيئًا بخصوصه. مادمتَ سجينَه فأنت عاجز عن تغييره. على العكس، كلُّ ما تفعل سوف يؤدي إلى تفاقم الوضع.

س: البِرُّ سوف يحرِّرني.

م: لا ريب أن البرُّ سوف يجعلُكَ وعالمَك مكانًا مريحًا – سعيدًا حتى. ولكن ما الفائدة؟ ليس فيه حقِّية؛ لا يدوم.

س: الله يعين.

م: حتى يعينك الله يجب أن يعلم بوجودك. لكنْ أنت وعالمك حالتا حلم. في الحلم قد تعاني من أوجاع مبرِّحة، لكن لا أحد يعلم بها ولا أحد يقدر أن يعينك.

 

س: إذن، هل أسئلتي وبحثي ودراستي كلُّها بلا جدوى؟

م: هذه ليست إلا تَمَلْمُلات امرئ سَئِمَ النوم. إنها ليست أسباب اليقظة، لكنها علاماتها المبكرة. لكنك يجب ألا تطرح أسئلة لا طائل تحتها، تعرف الإجابة عنها.

س: كيف لي أن أحصل على جواب حقيقي؟

م: بطرحك لسؤال حقيقي – ليس لفظيًّا، لكنْ بالإقدام على الحياة بأحسن ما تستطيع. مَن يرضَ بالموت في سبيل الحقيقة يَفُزْ بها.

س: سؤال آخر: هناك الشخص. هناك عارف الشخص. هناك الشاهد. هل العارف والشاهد متطابقان، أو هما حالتان منفصلتان؟

م: العارف والشاهد – هل هما اثنان أم واحد؟ عندما يُرى العارف منفصلاً عن المعروف فإن الشاهد يقف وحده. عندما يُرى العارف والمعروف كواحد فإن الشاهد يصير واحدًا معهما.

س: من هو الـجناني [العارف بالحق]. الشاهد أم العَليُّ؟

م: الـجناني هو العَليُّ وهو كذلك الشاهد. إنه الكينونة والإدراك كلاهما: فيما يتعلق بالوعي هو الإدراك؛ وفيما يتعلق بالكون هو الوجود المحض.

س: وماذا عن الشخص؟ من يأتي أولاً، الشخص أم العارف؟

م: الشخص شيء صغير جدًّا. إنه في الواقع مركَّب؛ لا يصحُّ أن يقال إنه موجود بذاته. إذا لم يُدرَك فهو غير موجود. إنه مجرَّد ظلٍّ للذهن، مجموع الذاكرات. أما الوجود المحض فينعكس على مرآة الذهن معرفةً. وما هو معروف يتخذ هيئة شخص، قائم على الذاكرة والعادة. إنه ليس إلا ظلاً، أو إسقاطًا للعارف على شاشة الذهن.

س: المرآة موجودة؛ الانعكاس موجود. ولكن أين الشمس؟

م: العَليُّ هو الشمس.

س: لا بدَّ أنه واعٍ.

م: إنه ليس واعيًا ولا لاواعيًا. لا تفكِّر فيه بعبارات الوعي أو اللاوعي. إنه الحياة، التي تحتوي كليهما وتتعالى عن كليهما.

س: ما أعقل الحياة! فكيف تكون غير واعية؟

م: تتكلَّم على اللاوعي عندما يكون هناك غياب للذاكرة. أما في الواقع فلا يوجد إلا الوعي. الحياة كلُّها واعية؛ الوعي كلُّه حي.

س: حتى الحجارة؟

م: حتى الحجارة واعية وحية.

س: ما يُقلِقُني هو أنني أنزع إلى نفي الوجود عن كلِّ ما لا أطيق تخيُّله.

م: تكون أوفر حكمةً لو أنك نفيتَ الوجودَ عمَّا تتخيَّل. فالمتخيَّل هو غير الحقِّي.

س: هل كلُّ ما هو قابل للتخيُّل غير حقِّي؟

م: الخيال القائم على الذاكرات غير حقِّي. أما المستقبل فهو ليس غير حقِّيٍّ بالكلِّية.

س: أي جزء من المستقبل حقِّي وأي جزء ليس كذلك؟

م: اللامتوقَّع وغير القابل للتنبؤ حقِّي.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود