|
إضاءات
لأن "... الأمن حاجة أساسية للنفس..." كما قالت الفيلسوفة الفرنسية سيمون ﭭايل، ولأن المرء يشعر بالخوف حين يُهدد أمنه، ولأنه "... حتى وإنْ لم يكن الخوفُ سوى حالةٍ كامنة، بحيث لا يشعرُ به المرءُ عذابًا إلاَّ نادرًا، فإنه دائمًا مرَض. إنه نصفُ شللٍ للنفس..." تراني أعود إلى الموضوع مرة أخرى. لكن، تحديدًا هذه المرّة، من منطلق الأوضاع الاستثنائية التي نعيشها اليوم في سورية. فبلدنا يعيش، ومنذ أكثر من أربعة أشهر، حالة حراك شعبي عميق، إن لم نقل حالة ثورة. ثورة شعب لم يعد بوسعه أن يحتمل جور سلطة حكمته لأكثر من 48 عامًا؛ وأزمة سلطة لم يعد بوسعها اليوم أن تحكم، بنفس الطرائق القديمة، شعبها الذي تمرَّد على عسفها. الأمر الذي ولَّد هذه الحالة التي أصبح فيها الأمن الإنساني في البلد مهددًا، ما جعل الجميع فيه يعيشون في حالة خوف حشوي من مستقبلٍ قريبٍ يبدو اليوم غامضًا.
يخبرنا التعريف التقليدي (الثيولوجي أو الميتافيزيقي) للمقدَّس أنه يتمحور حول فكره الإله بمسارين يختلفان في المصدر: مسار نابع من الإله نفسه أو يجسده (أثر)؛ ومسار نابع من الإنسان يكرس لذلك الإله ويمجده (قربان مثلاً أو معبد). وبنظرة أكثر عمقًا إلى طبيعة المقدس نجد أن القيمة الأكثر تمييزًا له عن بقية القوالب الإعلائية الأخرى هي التحصين التام ضد النقد، أي عدم المساس به سواء ماديًا أو فكريًا، وهو ما يؤدي بالطبع إلى تحقق الصفة الثانية الأبرز (والتي تشغلني في الأساس) وهي الجمود وعدم القدرة أو الرغبة في التطور، والذي لا يكتفي في أغلب الأحيان بدور المدافع عن هويته بل يتعداها إلى ممارسات مضادة يرى من يتبناها أنها تكرس وتخدم عزل المقدس عن التغيير أو التشويه أو النقد، وهو خط غالبًا ما يكون محكومًا بتوحد مصيري أو وجودي ما بين المقدَّس والمقدِّس بتشديد وكسر الدال.
من المعروف أنَّ جهازنا المنطقي هو عبارة عن آلة ناقصة وعاجزة. فالكلمة، تلك
الأداة التي لا غنى عنها، كانت دائمًا لديها الميل لخداعنا وتضليلنا بإظهارها
البرَّاق للحقيقة اللامعة والمباشرة، وكلما ازداد اهتزاز ميزان الزمن أو الوقت،
كلما عظمت مخاطر الكلمات التي تدَّعي انضواء الحقيقة بين حروفها. من جهةٍ أخرى،
يجب أن يكون نقاشنا بسيطًا قدر الإمكان. إذ أننا سنترك مهمة الدراسة العميقة
للآخرين. دين عَلماني تنتمي الديانات المدنية والسياسية إلى ظاهرة أكثر عمومية وشمولية: "الدين العلماني" Secular Religion. ويستخدم هذا المصطلح لوصف نظام متطور بدرجة أكبر أو أقل من المعتقدات، الأساطير الطقوس، والرموز التي تخلق هالة من القداسة حول كينونة تنتمي في الأصل إلى هذا العالم، وتحوِّلها إلى طائفة وموضوع للعبادة والتكريس. والسياسة ليست وحدها في هذا الأمر، فأي نشاط إنساني من العلم حتى التاريخ أو من التسلية والترفيه حتى الرياضة يمكن أن يُستثمر في مجال "القداسة الدنيوية أو العلمانية" Secular Sacredness، وأن يصبح موضوعًا للعبادة والتقديس عند طائفة علمانية معينة، وهذا ما يدعى "دينًا علمانيًا". في مجال السياسة، غالبًا ما يؤخذ مصطلح "الدين العلماني" كمرادف لمفهوم الدين المدني أو الدين السياسي.
إنَّ ظاهرة الانكسار réfraction هي ظاهرة فيزيائية تتمثَّل في انحراف موجة (وخاصةً في البصريات والصوتيات) عندما تتغيَّر سرعتُها بين وسطين مختلفين. فنرى مثلاً قلمَ الرصاص مكسورًا نتيجةَ انحراف الضوء عندما يجتاز من وسط الهواء إلى وسط الماء. قياسًا على ذلك، يحصل الانكسارُ على مستوى الفكرة، إذْ تنكسرُ الرسالةُ اللغويةُ عندما تنتقل من شخص إلى آخر ضمن الوسط الواحد أو من وسط ثقافي إلى وسط ثقافي آخر أو من بيئة إلى أخرى. تشبه الرسالةُ اللغويةُ موجةً "دلالية" قائمةً على أمواج سمعية وبصرية تمرُّ عبْرَ موشور prisme (réflecteur) قناعات السامع ووعيِه فتنعكس عن هذا السامع مختلفةً قليلاً أو كثيرًا أو مقلوبةً. وهنا يمكننا الكلام عن انكسار دلالي réfraction sémantique. وهو غيرُ الانحرافِ الدلالي أو الانزياحِ (الزلقِ أو الانزلاقِ) الدلالي glissement sémantique والعدولِ والتجاوزِ والتحويلِ. فالانحرافِ الدلالي هو الميل المقصود عن المعنى الذي وُضِعَت له الكلمةُ في التصنيف اللُّغوي الذي وضعَه النحويون إلى معنىً ثانٍ له دلالة تشير إلى معنى آخر يتَّضح فيه السِياق. الزلقُ الدلالي هو تقنية تقوم على استبدال كلمة أو عبارة بكلمة أو عبارة أخرى بهدف التخفيف أو التلطيف من حدَّتها euphémisme أو زيادتها، كأنْ نقولَ: "لفظ أنفاسَه الأخيرةَ" بدلاً من "مات" و"بيت الأدب" بدلاً من "المرحاض" أو نستخدمَ النفيَ litote كأنْ نقولَ: "عمله ليس هينًا" بدلاً من "عمله عظيم".
لويس لوغو، منتدى بيو حول الدين والحياة العامة: مساء الخير، وشكرًا لكم جميعًا لحضوركم. شكر خاص لكريستوفر وبيتر هيتشنز لوجودهم معنا اليوم. أنا لويس لوغو، مدير منتدى بيو حول الدين والحياة العامة. نحن مشروع مركز بحوث بيو، وهو منظمة محايدة لا تتخذ مواقف بشأن القضايا والمناقشات السياسية – ولا حتى بما يخص السؤال حول وجود الله. وهذا الحدث هو جزء من سلسلة luncheon منتدى بيو نستقدم فيها صحفيين وشخصيات عامة لها مكانتها من أجل إجراء مناقشات جادة حول موضوعات لها تقاطعات مع الدين والشؤون العامة. نسق نشاطنا في هذه الوقائع بسيط، بسيط جدًا بالفعل. نطلب من ضيوفنا أن يتحدثوا لمدة 10 دقائق أو ما يقارب ذلك، ثم ندعو بقية الحضور إلى الانضمام إلى المحادثة. وينبغي أن أشير إلى أن هذا الحدث يجري تسجيله على أشرطة. وأصدقاؤنا في محطة CNN، كما ترون، يسجلونه أيضًا على أشرطة فيديو. هذا للعلم فقط. في هذا الوقت، أود أن أقدم مايكل كرومارتي من مركز الأخلاق والسياسة العامة، وهو مستشار في منتدى بيو. لقد تحمل مايكل كل العبء في استقدام الضيوف المشاركين، ولذا يستحق امتياز إدارة جلسة هذا الحدث.
ليس هناك سؤال في أننا اليوم في أزمة معقدة وعميقة. لكني موزع النفس بين تصورين لهذه الأزمة: تصور عقلاني، يميل إلى شرحها بلغة العلوم الاجتماعية (الاقتصاد والسياسة والسوسيولوجيا والجغرافيا السياسية...)، وإلى اقتراح معالجات عقلانية بدورها من نوع الإصلاح السياسي والحريات العامة والنمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والإصلاح التعليمي وما إلى ذلك؛ وهناك تصور آخر، "غير عقلاني"، يقدِّر بالأحرى أننا في أزمة ثقافية أساسية، بالمعنى الواسع لكلمة ثقافة، أي حين تحيل الكلمة على مجمل النظام الاجتماعي وأسسه الفكرية والقيمية والتنظيمية، والسياسية. لأزمة كهذه، ليس ثمة معالجات عقلانية وتخصصية، بل معالجات تأسيسية، تشمل إعادة هيكلة جذرية لميراثنا الثقافي، والديني منه بخاصة، في اتجاه تشكُّل نظام ثقافي جديد ووعي جديد. الأزمة تحديدًا، أزمة الإسلام كثقافة تاريخية وكدين وكحركات سياسية، ولا أرى الخروج منها ممكنًا من دون استكمال نوع السيادة السياسية والعقلية من الإسلام، وتحويله نهائيًا إلى دين، يتحرك بحرية في نطاقي الخاص ودون العام. نحن هنا اليوم، في قلب أزمة الإسلام.
تبدو ثورة العقد المدني المتفتقة في هذا الربيع العربي الذي طال انتظاره، استكمالاً للنهضة في شكل قطيعة مفهومية كاملة: لا تنسخها بل تعيد تأسيسها بقلب مسارها رأسًا على عقب. انبثقت من وعي الشبيبة المتعلمة، أي خريجة الجامعات والمعاهد العليا بكفاءاتها المهنية وثقافتها العامة، وفاجأت المثقف بأطيافه كافة: قامت من دون المثقف بوصفه موجهًا للرأي العام، صحافيًا كان أو داعيًا إلى تيار فكري أو حزبي، وقامت في وجه المثقف وضده، بوصفه ممثلاً للنخب الحاكمة أو رديفًا لها. بذا انهار تصور تاريخي لمثقف وقف حياته – مخلصًا بوجه العموم حتى في تعثره – على تحديث المجتمع فضاعت به السبل أحيانًا نحو الهدف وفاز به آخرون. يدعونا هذا الوضع إلى إعادة النظر في طبيعة الثقافة وحكم المثقف منذ قيام نهضتنا الحديثة، لا من باب نقد الذات كما مارسناه بعد هزيمة حزيران تجريحًا للنفس لا يؤول إلا إلى التدمير، بل وعيًا لمسار أطمأننا إليه إطمئنانًا إلى مطلق بدل أن نتقراه باستمرار على ضوء الواقع المستجد.
|
|
|