|
دفاتر
الأسئلة 1 معسكرات
الله في الدين الإسلامي "القرآنُ
حمَّالُ أوجُه، فاحملوه على أحسن الأوجُه." 1-2 صور
الربِّ العسكري صور الربِّ الديني
متعددة بتعدد الضرورات "الواقعية"
للخطاب المقدس. ونستطيع متابعة هذه الصور من
خلال الخطابات التي تخص حوادث ووقائع بعينها
حدثت للأنبياء وللأمم، في تطويعها للاعتراف
بالربوبية تارة، أو في تنظيم حياتها وفقًا
لرؤية الرب الديني التي يقبلها ويسنُّها
كإرادة إلهية يوجِبُها الله على عباده طورًا. ففي الخطاب
القرآني، نرى صورًا كثيرةً يظهر بها المعنى
الإلهي مطلقًا، مانحًا فرصًا كثيرةً
لعباده للإقرار بوحدانيته، معترفًا بباقي
أصحاب الملل الدينية، مع بعض الملاحظات على
أخطائهم التاريخية وانحرافاتهم المعرفية عن
دعوة أنبيائهم، مقرًّا بالكتب السماوية
الأخرى، وممهدًا بذلك الطريق للتسامح
والمحبة والاعتراف بالمكونات الدينية الأخرى
كلِّها. وتظهر صفات الرحمة والجمال والعلم
والعظمة و"الاسترخاء" عند الرب، الذي
يشخِّص، في دقة كبيرة، المظالم الذي تقع على
الإنسان من جراء سلوك الديانات الأخرى، من
تمايُز طبقي، وفوارق إنسانية واجتماعية،
وأخطاء انحياز الآلهة إلى مجموعة دون أخرى،
كاتخاذ أهل الجاهلية العرب أربابًا مشخَّصة
ومكوَّنة ومصنوعة بأيديهم يتقربون بها إليه.
من هنا فإن الرب يرفض هذا الشكل من التعبد،
لما فيه من أضرار ومشكلات تؤثر على صورة
التوحيد الربوبي، ويستنكر مشاركةَ هذه
الأرباب في صنع التمايز الطبقي والمظالم
باسمه والتسلط على عباده بلا رحمة، وقيامَها
بعملية معقدة من توريث الجهل بالغيب
وبالمعاني السامية للحياة والإنسان والعالم
والكون إجمالاً. ففي بداية الدعوة
الإسلامية، ظهر الرب الإسلامي – الله –
بدعوة مدنية تحمل كثيرًا من المعاني
الجمالية والعلمية في قيادة الحياة وتغييرها
نحو معرفة أكبر وآفاق أرحب لإدراك الغيب
والحياة وتغيير الواقع العربي وتطويره
بملَكات السماء. لكنْ في مراحل تطور نشر
الدعوة وتوسعها، تمَّ إنتاج مفهوم الشمولية
المطلقة للربِّ الإسلامي على الحياة والعالم.
فلقد أدى تعنتُ المجتمع المكِّي واتخاذُه
لغةَ الاستعلاء وخطابَ القوة، ثم قيامُه
بتهجير المسلمين وقتل بعضهم واضطهادهم
ومصادرة أموالهم وطردهم من مكة (وهذا واضح من
خلال المصادر والوقائع التاريخية المعروفة
المتعلقة بهجرة المسلمين الأوائل إلى
المدينة، ومن بعدُ، قيامهم بتأسيس دولة
الرسول والدعوة إلى التوحيد)، إلى بوادر ظهور
الخطاب المقدس الميال إلى تأسيس الدولة
الدينية وبسط سلطانها في إطار محدود. ثم ما
لبث هذا الإطار أن فُتِحَ حتى يشمل العرب، ثم
الأمم المحيطة بهم، وصولاً إلى شمولية العالم
أجمع ووجوب انضوائه تحت راية الإسلام. وقد بدأت تُصاحِبُ
هذا الخطاب تحولاتٌ هائلة في نشر الدعوة
الإسلامية وفي المواجهة مع أعداء الإسلام.
ومن خلال تكرار المواجهات وكثرتها وتنوعها،
تكونت ميول الرب إلى الخطاب العسكري
وتحشيد المؤمنين وبث الخطاب الشعاراتي بين
المسلمين، ومن بعدُ، السعي إلى تكريس لغة "التجنيد
الإجباري" في الدين، حمايةً لرسالته من
الأعداء المتربصين به المفترَضين الذين
يطوقون المؤمنين الأوائل من الجهات كلِّها.
وبذلك بدأت ملامح الإقرار الربوبي تظهر في
استخدام لغة القوة، ومن ثم العنف المفرط
والبطش والاعتراف بضرورة الحرب، كونها
الأداة الأكثر فعالية وسرعة في تحقيق أمنيات
الرب الإسلامي في نشر دعوته. وهكذا اختلطت
الأسباب الواقعية والتاريخية مع الأسباب
الغيبية، في عملية معقدة يصعب فصل عناصرها
بعضها عن بعض، في سياق الاعتراف بلغة القوة
والسيف والبطش والتجسس والتآمر والاغتيال
والصراع الدامي، في سبيل إقامة دولة الله على
أرض العرب. ومن الأسباب
الواقعية لهذا المنحى العسكري في الدين
الإسلامي على أرض العرب (وهو سبب يصنِّفه كثير
من الباحثين بأنه سبب واضح وطبيعي) جغرافية
المكان الصحراوي ومكونات الذات العربية
القاسية التي لا يمكن إقناعها بلغة الخطاب
المعرفي والدعوة الدينية المدنية السلمية.
فالحرب شيمة جوهرية في الذات العربية، وهي
حقيقة تاريخية وميدانية لاختبار سلوكهم
الرجولي. وهي كذلك ذات وظيفة معيشية وسلطوية
على الآخر؛ إذ لا يمكن قبول الدعوة الدينية
الجديدة في سهولة بقوة المنطق والحوار،
وبخاصة في بلاد العرب، على غرار جميع الأمم
آنذاك: فلم تنتشر أية دعوة دينية انتشارًا
سلميًّا، بل بقوة السلطة العسكرية، وخاصة في
الأديان التوحيدية الثلاث (اليهودية،
المسيحية، الإسلام). ولا يختلف العرب عن سواهم
في مواجهتهم الدعوة الجديدة (الإسلام)
والتصدي لها بقوة السيف. فما الذي جعل الدعوة
الإلهية في الإسلام تعتمد العنف لإثبات
وجودها وقدرتها وتتخذ الحربَ وسيلةً تحولت في
نهاية الأمر إلى غاية دينية مقدسة؟ وهل خزين
مسوغات استخدام القوة والقتال والتدمير
حاجةٌ إلهية لإثبات الوجود الإلهي على الأرض
وللبرهان على قوة هذا الوجود الرباني من خلال
هذه الأساليب العنيفة؟ عن جدوى هذه
العسكرة الربانية، وعن ضرورة لجوء الله
المطلق، الخالق والماسك كلَّ شي والمسيِّر
له، إليها؛ عن جدوى استخدام هذا الأسلوب
الحربي المخيف وممارسة القَرْبَنَة المستمرة
للإنسان، بما خلَّفتْ من آثار نفسية وعقلية
ومعرفية كارثية على الإنسان والطبيعة
والحياة والعالم والكون؛ عن جدوى هذه
التحولات الربوبية التي تميل إلى الحرب
والاقتتال والتسلط الأعمى والاستلاب والتوحش
والنفي والتغريب والإعدام والتعذيب
والاغتيال والإزاحة – عن ذلك كلِّه نتساءل
الآن. فما هي الآليات والوسائل التي تسوِّغ
أعمال الرب؟ وما هي الكيفية التي نتابع بها
تحولات الرب المدني إلى ربٍّ عسكري عنيف
ومخيف؟ وكيف يمكن لنا أن نرى صور الرب تتجلَّى
على الواقع والحياة الإسلاميين والعربيين،
فتترك ثقافة وذاكرة عسكريتين، بكلِّ معاني
"العسكرة"، البدائية والمعاصرة؟ في إمكاننا رصد هذه
المفاهيم من خلال النصوص المقدسة (القرآن
والسنَّة). فهي ممتلئة بهذه التحولات التي
تُعتبَر أساسًا جوهريًّا مقدسًا، وليس وليد
حاجة معينة مرتبطة بظرف تاريخي محدد، وخاصة
في تحول الرب الإسلامي من "رب مدني" يريد
أن يكرس لغة المعرفة والحكمة والأخلاق
والعدالة وينشر خرائط جديدة لفهم الغيب، إلى
"رب حربي"، عسكري، مخطط كبير لوسائل
الحرب، وماهر في تحشيد الخطابات المقدسة
كلِّها لإسناد ظهوره العسكري في الحياة، وذلك
في سبيل إنجاز دولته الموعودة المنتظَرة في
بلاد العرب. فالأجوبة التقليدية في الدين غير
كافية، بل يبدو أكثرها منطويًا على سذاجة أو
إيهام مقصود للعقول التقليدية داخل الدين. لم
تعد تلك الإجابات قادرةً على الصمود أمام
التطور العقلي والحياتي للإنسان في حركته
الحضارية، مع التطور السريع لجوانب مهمة في
الحياة والروح والمعنى والعقل. فهل يتعطل
الإنسان في حركته الوجودية بالتوازي مع عطالة
الدين وسكونيَّته وتخمته الشعاراتية،
ويتحمل، فوق ذلك كلِّه، هذه التبعات
المتوارثة للاعتقاد التوتاليتاري؟ الإشكالية التي
تُواجِهنا الآن في قراءة تنوع صور الرب ليست
في التنوع أصلاً، لأن التنوع يمثل ظهوراتٍ
قابلةً لأن تحلَّ مشكلاتٍ متعددةً للعقول
المؤمنة بالغيب، بل في استيلاء صورة واحدة
على الظهور التاريخي للرب في حياة المسلمين،
في تقديس هذه الصورة واعتبارها حقيقة مطلقة،
وفي جعل الرب العسكري الظهور الأمثل والصورة
الأحق التي يجب أن تُعبَد وتقدَّس – مما
شكَّل لدى ذاكرة المسلمين الجمعية صور الرب
العسكري الذي بدأ يكبر يومًا بعد يوم
ورسَّخها. ظهر الله العسكري
في أشكال مختلفة، تنوعت بتنوع التاريخ
والحياة والتطور، وبات ظهورُه هذا الصورة
الوحيدة دفاعًا عن الدين والحياة الإيمانية
– حتى إن معظم الفروض الدينية الأخرى،
ولاسيما المدنية منها، تنطوي على قوة الأمر
الإلهي نفسه في تأدية الشعائر والطقوس
والتفاصيل الدينية كامتثال لأوامر عسكرية!
وحتى عملية تخيل المؤمنين للرب الإسلامي أو
توهُّمهم الصور الإلهية أو صور الآخرة تميل
إلى الإظهار العسكري للرب، بقوة ملامحه
وصفاته، حتى غدا الدين الإسلامي يميل ميلاً
واضحًا إلى الاستئثار بصورة الرب العسكرية
هذه. ففي بعض الخطابات المقدسة، نرى الرب
يتأفف ويتحسس ويتدخل ويشارك مباشرة في
الأحداث، يشجع على قتل الأعداء قتلاً قاسيًا،
ويحث على مواصلة اتخاذ شعار الحرب والقتال
أمرًا مباشرًا منه وحقيقةً وجوبية. ولقد
ذكرنا أن لهذا الشكل الظهوري في الدين
الإسلامي ضروراتٍ تاريخيةً وواقعيةً مبرَّرة
دنيويًّا في أية إيديولوجيا ثورية تريد قيادة
الحياة وبناء دولة؛ لكن تبقى الإشكالية قائمة
في دخول الرب لعبة الصراع المباشر وإعلان
شراكته الجوهرية في قيادة الحياة الدينية
والحياة الأخرى كلها بقوة الحرب والسيف. يبقى هذا التساؤل
مفتوحًا، على الرغم من وجود إجابات من داخل
الذاكرة الدينية قد ترضي المعتنقين
والمؤمنين، لكنها تبقى إشكالية أساسية لا حل
لها في دائرة الممنوع الديني، المسكوت عنه
والمحرَّم التفكير فيه حتى. وقد يكون التنوع
الصوري لأشكال الظهور الربوبي في القرآن من
الأمور المهمة التي تفتح آفاقًا معرفية كبيرة
لإدراك الغيب ومَداراته اللامتناهية. ولكن
التساؤل المثير والغريب هو اتخاذ الصورة
العسكرية للرب حقيقةً تامةً ومطلقةً
والتنازل عن الصور الأخرى التي نراها في
القرآن والحياة الإسلامية الأولى في مكة.
فهذا الشكل العسكري خلَّف لنا كوارث معرفية
وفكرية وعقائدية؛ وهو سبب أساسي في تشظِّي
الدين الإسلامي إلى ملل ونحل ومذاهب وعقائد
كثيرة، وكذلك في تواصُل صناعة الحرب ودوام
مفهوم القتل والتصفية الجسدية والفكرية
لكلِّ مخالِف للربِّ العسكري. إذ نرى عباد
الله المتعسكرين بنظام القتال والحرب (الجهاد)
ينظرون إلى الله بحسب الصورة التي توفِّر لهم
شروط الاستمرار في صياغة الحياة وفقًا لمنطق
"الصراع الدموي" في سبيل الله، فيرون
الله يتمثل لهم وفق "آيات الحرب والقتال"[1].
وكذلك الأحاديث النبوية التي ذُكِرَ فيها
القتال تمثِّل مرجعيةً واضحةً للمتعسكرين
دينيًّا وتبين بيانًا واضحًا آية فرض القتال. إن الرب يعلم جيدًا
أن الإنسان يكره الحرب! لكنْ وفقًا للسياق
الرباني لمفهوم العسكرة الشاملة، ففيها خير
يعلمه الرب وحده، وستكون فيها مصالح ومنافع
وخيرات من حيث دفاعها عن الرب ضد أعدائه؛ كذلك
قد تكون فيها منافع دنيوية للمؤمنين، في
الدفاع عن أرضهم ومعتقداتهم وخيراتهم
وأرزاقهم؛ وفي كلِّ الأحوال، فيها خير كبير
للمؤمنين المقاتلين، المضحِّين بأموالهم
وأنفسهم في سبيل الله، في تحصيلهم رضاه
وتعويضهم عن خسارتهم بإثابتهم بجنات فيها
المنافع واللذات الدنيوية والأخروية كلها! الحرب، إذن، وفقًا
لرؤية أصحاب التعسكر في الدين، شرط وجودي
وإلهي في تكوين الحياة الدينية خاصةً
والإنسانية عامة. وقد أقرَّها الرب في
خطاباته المقدسة وسلوكه العملي في الحياة
والتاريخ والواقع، فأصبحت وجوبية في سنَّة
الدين، على المتدينين تطبيقها، ليس في زمن
الحرب والقتال فقط، بل كسلوك عمليٍّ لتحشيد
طاقاتهم العبادية والمعاملاتية من أجل تأكيد
عسكرة الإيمان الديني لتفاصيل الحياة
كلِّها، حربًا أو سلمًا. فجوهر عبادة المؤمن
أن يكون "جنديًّا" مخلصًا للرب الديني.
وينعكس هذا السلوك الإيماني على جوانب الحياة
الأخرى كلِّها، التي تحمل ملامح العنف الحربي
والقتالي العسكري وسلوكَه كلَّها، كممارسة
المؤمنين لذواتهم الروحية والإيمانية، وكذلك
ترتيب أساليب حياتهم التفصيلية وتعامُلهم مع
الآخر المخالف. يغطِّي هذا السلوك تفاصيل
الحياة كلَّها تقريبًا. والشواهد على هذا
السلوك واضحة في ترتيب ثقافة الحياة
الإيمانية ترتيبًا عسكريًّا أو جهاديًّا،
يحاول أن يجنِّد مداراتِ حياة المؤمنين
والمسلمين كلَّها وفق سنَّة الدين والخطاب
المقدس بحسب تفسيرهما الذي كرَّستْه المؤسسة
"العسكرية" للفقهاء–المحاربين. نصل، إذن، إلى
نتيجة واضحة من خلال شكل الرب العسكري وفرضه
القتال وبناء دولة الله بقوة السيف، بقيادة
العسكريين للحياة الإيمانية، وتثبيت دينه
والدفاع عنه بالوسائل كافة، وصولاً إلى تكريس
مجموعة من الحقائق الواقعية والسلوكية التي
تُعتبَر مبادئ إيمانية تسيطر على العقل
الإيماني والحياة الدينية برمتها وفقًا لهذا
الشكل الظهوري للرب واتخاذه القتالَ والحربَ
وسيلةً لتحقيق أهدافه العامة والخاصة. وتنتج
عن هذا الفهم أطروحةٌ أحاديةُ الجانب
وجوهريةٌ تمثِّل الشكل المفروض على أهل الدين
اتباعه. وقد تتعدد أشكال هذه الأطروحة، إلا
أنها تجتمع في غاية واحدة ذات وجوه متعددة،
منها: -
وجوبية
القتال في نشر الدين والدعوة لإقامة شريعة
الله. ولها شواهد من النصوص المقدسة وسلوك
المؤمنين سلوكًا عقائديًّا. وهذه الحقيقة
تنجز مشروعًا كبيرًا في تجنيد أمَّة بكاملها
لخدمة هذا الهدف؛ إذ ليس هناك تخصيص للعسكرة
في فئة معينة تؤدي وظائف حربية للدفاع عن
الدين أو الوطن، بحيث تجيَّش أمةٌ بكاملها من
خلال الدين الذي هيمنت عليه العسكرةُ
الجهادية المتخذة السيفَ والرعبَ مبدأ
وجوديًّا لمسيرة الحياة، مما يغيِّب الجوانب
الأساسية لأهداف الديانات على الأرض في تحقيق
السعادة والأمان للإنسان. -
إقرار
الرب حقيقةَ القتال وتوجيبه على أهل الدين
يجعل هذه الحقيقة مستمرة، لا يمكن انقطاعها
عن الحياة، حتى في حال وجود بدائل مستقبلية
لتجاوُز هذه الأزمات. إذ إن إضفاء الرب على
هذه الحقيقة الأرضية، الموجودة منذ ظهور
الإنسان، الشرعيةَ والتبريرَ الإيماني،
واعتماده إياها مبدأ إنسانيًّا للحياة،
يسيران على خلاف سنَّة الكون والمنطق الطبيعي
في تشخيص الصراع الدموي كـ"مرض وجودي"
وخطأ بشري فادح يدمِّر الحياة والإنسان معًا.
فالعنف الدموي من بقايا حيوانية الإنسان؛
وإقراره يعني تثبيت هذا الانحطاط الوجودي
الذي يسعى الإنسان إلى تجاوُزه كي لا ينقرض من
على الأرض. -
الحرب
والقتال والصراع الدامي حقيقة معيشة على
الأرض، مورست، ومازال يمارسها أهلُ العقائد،
المؤمنة أو الملحدة، أو أصحاب الإيديولوجيات
المعاصرة والدول المتحضرة. وهو صراع يمثل
امتدادًا طبيعيًّا لهذه الثقافة التي لا فكاك
منها، القابلة إما لأن تتطور إلى المزيد من
انحطاط إنسانية الإنسان، وإما لأن تتوقف لدى
إيجاد حلول أكثر تطورًا وقدرة على حلِّ
النزاعات البشرية. لكنها في بعض الديانات
أصبحت عقيدة أساسية وجوهرية في بناء
المعتقدات الدينية، ووجود أصحابها مرتبط
مباشرة بهذه الحقيقة الحربية والقتالية، كما
في اليهودية والإسلام، وكذلك في المسيحية
القديمة التي مارست شريعة الحرب والقتال،
تاركةً في تاريخها الديني تراثًا هائلاً من
القرابين البشرية تحت راية حروب الصليب. ولم
تعتمد المسيحية اعتمادًا واضحًا على نصوص
مقدسة لخوض حروبها، بل أضفت عليها القدسية
وجيَّشت معتنقيها باسم الرب. ومع ذلك، شهدنا
مع الوقت تقاعُد "المسيح العسكري"، الذي
صنعتْه المؤسسات المسيحية، وتنازُله عن
ممارسة الحرب المباشرة باسم الرب تحت ظروف
داخلية وخارجية، مما خلَّص المسيحية من
مشكلات وجودية خطيرة، فظهرت ظهورًا يتناسب مع
القيمة الروحية للدين المتواكب مع تطور
إنسانية الإنسان (لذا نتمنى أن لا يتم إرجاع
"المسيح العسكري" إلى الخدمة مرة أخرى!).
ولكن مازالت اليهودية والإسلام يتخذان مشروع
القتال والمواجهة الدامية جوهرًا عقائديًّا
ويعتبرانه من أساسيات الإيمان والعقيدة، مما
يجعل هاتين الديانتين في بؤرة المواجهة
العسكرية المستمرة والتجييش الدائم. وسبب ذلك
هو الإقرار الربوبي للعنف في النصوص المقدسة
وتطبيق هذه النصوص كسلوك فعليٍّ وإيمانيٍّ
مقدس. -
يوفِّر
الإقرار الربوبي لقادة الحرب والقتال خزينًا
من النصوص التي تشير إلى إعداد الأمَّة
المؤمنة، نفسيًّا ومعنويًّا، بثقافة العمل
العسكري الجهادي، ويزرع في عقل المؤمن كفرد
بذور خصوصية العمل العسكري الجهادي في حرق
مراتب الإيمان للوصول إلى أسمى العطايا، بما
يجعله يعتبر الجهاد (العسكرة) أحد أركان الدين
الأساسية. لقد أضحى الجهاد من الفروع الدينية
التي يُعتنى بتفاصيلها كلِّها أشد العناية،
ولها ذكر كبير في النصوص المقدسة (القرآن
والسنة)؛ وهو يوصف كذلك بأعلى الأوصاف، حتى
يغدو أمنيةً شخصيةً وتاريخيةً متجذِّرة في
نفس المؤمنين وذاكرتهم الجمعية، يصير
تحقيقُها من الأهداف الكبرى لنيل تمام الدين
والثواب على الإيمان في الدنيا والآخرة، مما
يفسِّر ترسيخ ثقافة الجهاد ومفهوم المجاهد (المحارب)
في سبيل الله أساسًا لتركيبة شخصية المؤمن في
المواجهة الخارجية نصرةً لله والدين. ونعلم
أن المجاهد (المحارب) إما أن "يَقتل" أو
أن "يُقتل" (التوبة 111)؛ وفي كلا الحالين
يحظى بمرتبة خاصة وكبيرة، لها تفصيل وافٍ في
أسُس التفكير الإسلامي. ويمكن لنا أن نحدد بعض
هذه الصفات وتأثيرها على ثقافة العسكر وأصحاب
رؤية "الحرب الإلهية" من خلال مرجعية
النصوص المقدسة على المجتمع عامة، وعلى تركيب
شخصية المؤمن المجاهد في سبيل الله خاصة. ومن
هذه الصفات الميدانية والواقعية التي تجلَّت
في التاريخ الإسلامي إلى يومنا هذا ما يلي: 1.
تدريب المؤمن، تدريبًا
مباشرًا أو غير مباشر، على تصوير "الآخر"،
المخالف له دينيًّا وعقائديًّا، تصويرًا
عدائيًّا، بما يجعله مستفَزًّا ومستنفَرًا
وكأنه مراقَب من جهات خارجية، ومما يجعله
بالتالي يتفنَّن في مراقبة حركاته وسكناته
وتنسيق وجوده ومظهره على أتم وجه: في توحيد
الصفوف في الصلاة، مثلاً، أو التجمع لأداء
مناسك دينية معينة، أو الخروج في مظاهرات
واعتراضات، لإظهار القوة والتمسك بالاعتقاد
من أجل إغاظة العدو وإدخال الرهبة في قلبه.
وهذا يضيِّع على المتدين فرصة التأمل
الروحي في أداء مناسكه ويشغله بالآخر "العدو"،
الواقعي والمفترَض، الذي يتدرب على عداوته من
خلال التلقين والاتباع أو التقليد الأعمى
للتاريخ أو للمؤسسات الفقهية أو الراعية
للدين. 2.
المبالغة في الهوية الظاهرية
للمتدين المؤمن المتبع عقيدةً معينة، أية
كانت (سنِّية أو شيعية، صوفية أو سلفية، إلخ)،
بالإعلان عن هويته، باللباس تارة، أو بحمل
شيء ما أو اتِّباع سنَّة دينية معينة طورًا.
ويحرص المؤمن على إظهار هذه الهوية إظهارًا
مبالغًا فيه، مما يؤكد تأكيدًا قاطعًا على
مراقبة الآخر له. فهو لا يعلن، من خلال إظهار
هذه الهوية، التميز الظاهري لذاته، بل العداء
والكراهية للآخر المخالف له، اللذين يعلن
عنهما من خلال لباسه وشكله الإيماني. 3.
يُدرَّب المؤمن على حلم
أبدي، وهو الجهاد في سبيل الله، الذي له شواهد
كثيرة ومشجِّعة، وتجسِّده شخصياتٌ بطولية
مقدسة مارست أفعالاً بشعة ومخيفة ضد الآخر
المخالف لها في الاعتقاد أو العدو (المفترَض
أو الواقعي)، لكنها ظلت مقدسة وبطولية في نظر
أهل الجهاد، مادامت نصرت الله ونبيَّه وحافظت
على الدين وأهله. وهذه الأمنية تُزقُّ زقًّا
حتى تصير سلوكًا فعليًّا يمارَس في حالات
المواجهة مع الآخر؛ إذ تظهر عند ذاك صفات
العنف والقسوة وانعدام الرحمة والشفقة على
الأعداء أو المخالفين الذين يقعون تحت سلطة
آية قرآنية أو حديث نبوي، فيمارس المجاهد
أبشع حالات التدمير والوحشية في حقِّهم، ولا
يصيبه أي أثر نفسيٍّ أو وجدانيٍّ أو روحيٍّ من
جراء عمله هذا، بل يتباهى بأيِّ فعل يطيع به
أمر الله وينصره، بحسب اعتقاده. وهذا السلوك
بلغ من البشاعة في زماننا المعاصر حدًّا يخرج
عن أيِّ سياق بشري أو حيواني، وخاصة في حروب
المذاهب في العراق اليوم. 4.
كثير من المؤمنين يدعون
في صلواتهم وخلواتهم لنيل الشهادة كأمنية
مقدسة فيرزقهم الله الموت في سبيله. وهذه
ثقافة عسكرية أصبحت من القواعد الإيمانية في
تركيبة شخصية المؤمن وصياغة سلوكه وطموحاته؛
بل هي من ممارسات "غسل الأدمغة"
الإيمانية، وتأجيل حضورها الوجودي الفاعل،
وجعلها فارغة إلا من استقبال الحشو والتحشيد
والاندفاع الأعمى لتأريخ البطولة والهوية
والتقليد والتمنِّي. 5.
يتوارث أهل الجهاد
والعسكرة المقدسة شخصياتٍ تتكامل ملامحها من
خلال الدروس والمواعظ في تاريخ الغزوات
والبطولات الدينية. وتُعتبَر هذه الشخصيات من
المعلِّمين المنتظمين لهذا الطريق. ففي كلِّ
زمان، تظهر إحدى هذه الشخصيات كمنظِّم
للغزوات وقائد لها. وتتميز هذه الشخصيات
بثقافة دينية ملقَّنة وحافظة كبيرة للقرآن
والسنَّة النبوية وتاريخ المسلمين، الذي
يُختزَل إلى طُرُق الجهاد والمواجهة. وتتمتع
هذه الشخصيات بجاذبية إيمانية وعقائدية
وجراءة وتأثير كبير، خاصة على الذين لا
يملكون أيَّ وعي مسبق بالدين بشكل علمي. فمعظم
هؤلاء معتنقون لهذه العقيدة شعوريًّا
وحسيًّا، ويمارسون حياتهم مقلِّدين، في
تقديس أعمى، الشكلَ الأول للظهور الإسلامي.
أما العامة من أهل الجهاد، فعادةً ما يدخلونه
بالمصادفة القدرية الغريبة؛ ومعظمهم ليس لهم
حتى تاريخ ديني. بل الأغرب أن معظم أهل
التوجهات العروبية والقومية ينضمون إلى
هؤلاء المتعسكرين، بدوافع كثيرة وأسباب
مختلفة، ويقاتلون معهم قتالاً يلفت الانتباه. 6.
تحمل معظم شعارات أهل
الجهاد والعسكرة، على اختلاف ألوانهم،
علاماتٍ وإشاراتٍ إلى سيوف أو صورًا لبنادق
عسكرية وسكاكين. وتُكتَب على رموزهم شعاراتٌ
وعباراتٌ مختلفة لها علاقة بالشهادة والقتال
والقوة والشراسة والصلابة والصمود في سبيل
الله ونصرة دينه. وتدل هذه العلامات على أن
"السيف" هو الحاكم الأول وعلى أن الحرب
هي الأجندة الحقيقة لتكوين هذه الحركات
والمنظمات التي انتشرت انتشارًا واسعًا في
زماننا المعاصر. وكلها يحمل أسماء دينية لها
دلالات حربية واضحة. وهذا كله يدل دلالة واضحة
على عسكرة الدين التي أمست، على ما يبدو،
كاملة[2].
ويبدو من رؤية ملامح التركيبة النفسية
والعقلية والمنظومة المرجعية لأهل العسكرة
الدينية، ومن دراستها المتأنية، أن الحرب
المقدسة وثقافتها لن تنتهيا. فمازال إقرار
الحرب، ماديًّا ومعنويًّا، وجوبًا ربانيًّا
مدونًا في الكتب المقدسة، بحيث تظل لعبة
الإنسان المتدين مع الموت "رأسمالاً
وجوديًّا" لبقائه؛ إذ هو يلبس لباس التقديس
باسم الشهادة التي كَتَبَها أبطالُ الدين
المقدسين تاريخيًّا كشواهد ربانية مقدسة. وفي
المقابل، يتم تشكيل مجموعة من الأعداء لله
ولدينه، كشواهد قابلة للتكرار والتواصل،
وتتفنَّن عقول أهل العسكرة في نحت أصنام
أعدائهم من حجارة التاريخ والنصوص المقدسة.
فأصحاب عسكرة الرب لا يمكن لهم العيش في
الحياة إلا بوجود "العدو" المتربص بهم
والمتربصين به؛ مما يجعل وجود الرب العسكري
حاجةً دائمةً كمنقذ أزليٍّ على الجبهات
كلِّها. وحتى يومنا هذا، تعاني الحياة
الإسلامية الكوارث من جراء اعتلاء ربٍّ عسكري
متسلط للعرش الديني. وأحد الأسباب الأساسية
لظهور التوجهات الجهادية التكفيرية في
التاريخ الإسلامي والحياة المعاصرة يتمثل في
سيطرة هذه الربوبية القاسية على الإسلام
سيطرةً شمولية، وفي استمرار الإرث الدموي في
التاريخ الإسلامي وفي المناخ الفكري
التقليدي للمسلمين، وفي استبداد دكتاتورية
السلطات الإسلامية المستوحاة من أشكال الفهم
والتفسير العسكري للنصوص والمستفيدة من
الجهل المتجذِّر في أمَّة العرب. وما ينتظره
المسلمون، اليوم وغدًا، هو إسقاط ربوبية
العسكرة الدينية كي يتحرروا من "التجنيد
الإلزامي" للجسد والروح ومن عسكرة الرب
التي دفعوا ثمنها قرابين مازالت متواصلة في
قتل الحياة الروحية والمعنوية للدين خاصة،
وفي قتل كلِّ إبداع قابل لأن يطور الحياة
الدنيوية والإنسانية عامة. مدار
الأسئلة 2 -
لماذا
يبدو الرب العسكري متوترًا في صياغة النصوص
الحربية، تنبعث منه حرارةُ الموقف كمراقب عن
كثب للأحداث القتالية، يشارك أحيانًا بإمداد
عسكري "غيبي"؟ هل يتأثر بمزاج الأنبياء
في صراعهم أو يخشى انقلاب المواقف أو يتحسَّس
من الآخرين غير المعتنقين لدينه، أم يتأثر
بالأحداث الخارجية المحيطة بالوقائع، أم
تُفرَض عليه شواهد الحضارات الأخرى المحيطة
بجغرافية الوقائع والمواجهات القتالية؟ -
الصفات
والألقاب التي تنهال على أهل الحرب من القادة
والمخطِّطين للقتال، بغضِّ النظر عن تاريخهم
الدموي أو توجهاتهم الحربية – هل تعني "نفعية"
الرب في استثمار طاقات العناصر الحربية، بصرف
النظر عن إيمانها الروحي وعمق انتمائها
للمبادئ الدينية؟ – وهذا ما نشاهده في كثير
من الوقائع التاريخية التي كان أبطالها قادة
إسلاميون في مواجهة الأعداء وفي إضفاء ألقاب
طنانة عليهم ("أمير المؤمنين"، "سيف
الله المسلول"، "أسد الله"، "ثائر
الله"، "ذبيح الله"، إلخ). -
نرى
في النصوص الحربية خشونةً واضحةً في صفات
الرب العسكري وانتفاءً لملامح الرحمة
واعتلاءً لمبدأ الفردانية السلطوية في
الثواب والعقاب، كدكتاتورية واضحة للرب في
قيادة الحياة والعالم في زيِّ الحرب ومنطقها.
فهل استوحى الحكام العرب والمسلمون شكل
الدكتاتورية السياسية متأثرين بفهمهم للصورة
الدكتاتورية للربِّ الحربي في تاريخ
الإسلام؟ -
ميل
الرب إلى طائفة معينة وقومية واحدة بعينها (كالعرب
مثلاً في الإسلام) – هل هذا الانحياز متأتٍّ
من رغبة نبوية متجذِّرة في ذاكرة الأنبياء،
أم أنها تفضيلٌ سماوي وغيبي لم تُعرَف أسبابه
(كتميز العرب بأنهم "خير أمة أُخرجَت للناس"
واليهود بأنهم "شعب الله المختار")؟ – مع
العلم بأن هاتين الأمتين متصارعتان منذ الأزل
الديني! -
من
الذي استفاد، تاريخيًّا وواقعيًّا، من الدين
والرب العسكري، فرسم طريقًا للعنف الدائم
الذي كوَّن وجودًا استلابيًّا وحضارة حربية
قربانية أنتجت أنواعًا من الظلم والاستغلال
والتسلط على رؤوس القرابين الجهادية المحشوة
بالشعارات والمبادئ؟ وما هي الفائدة
الوجودية أو الإنسانية الناتجة للأجيال
القادمة والمستقبل الإنساني؟ -
ما
هو مصير القرابين الجهادية في الحياة والعالم
والتاريخ؟ هل سيكون لهم ذِكْرٌ حقيقي، أم هم
مجرد أرقام لها مردود مادي واقتصادي يعود على
أرباب الدين العسكري، الطموحين إلى اعتلاء
أعلى المناصب الأرضية، المتسلطين على رقاب
الناس بدفعهم عجلة الخصومة والعداوة إلى
محرقة كبرى لا يأخذ منها المتدين إلا الوعود
التي تتضارب مع المنهج الإلهي الحق في
العدالة والمحبة والتسامح؟ -
من
هي الأيدي الخفية التي تحرِّك الرب العسكري
وتجنِّد المجاهدين المتقربنين في سبيل بقاء
صورة الأعداء ونظام الحرب والعسكراتية في
العالم والحياة؟ وهل معادلة الحروب الدينية
حقيقة وجودية منبثقة من همٍّ روحي حق، أم هي
خفايا وأسرار لتدوير العالم ومنهجته لمصالح
مخططة مسبقًا في دوائر نفوذ خاصة؟ -
هل
الأنبياء أبرياء من رسم معالم هذه الخرائط؟
وما هي الدوافع التي جعلتْهم يمنهجون سياسة
الحرب الإلهية التي استُثمِرَت استثمارًا
مرعبًا في قيادة العالم قديمًا وحديثًا؟ -
هل
الصراع الفعلي هو "صدام حضارات"، أم صراع
أديان، أم لعبة غيبية غير مدرَكة، أم هو وراثة
لعقول مادية تستثمر "اقتصاد رب الحرب" في
تسيير العالم وفق رؤيتها القديمة والحديثة في
صنع الأعداء وتكديس الأموال والتوحش في ترقيم
البشر كقرابين دائمة لرغبات وأمزجة خفية؟ -
أين
هو التراث الروحي والأخلاقي للديانات
العسكرية؟ وهل أثَّرت فعلاً في صياغة عالم
أخلاقيٍّ وفي تثبيت قيم الروح؟ وهل نرى في
العالم المتدين هذه القيم والأخلاق واقعًا أم
هي حبيسة الكتب والمكتبات؟ -
لماذا
نشاهد في التاريخ الإسلامي القرابين الهائلة
من الجهاديين في سبيل الله ونصرة دينه؟ – ولا
نرى نصرةً للدين حقيقية أو أيَّ انعكاس
معنويٍّ وروحيٍّ للحياة، فلا يتغير شيء على
صعيد الحرية والعدالة، بل تستمر رحلة
الانحطاط الإسلامي، ولا نرى الإله الذي
يُقتَلون في سبيله يحقق للحياة غير المذابح
للفقراء والمساكين المدفوعين بالرغبة في
عالم خلاصيٍّ آخر، المحشوين بصراع المفاهيم
واللغة الفارغة. إنهم يقاتلون من أجل "مجهول"
لا يعلمونه ومن أجل "لغة صماء" لم تقدِّم
لأبنائهم وعائلاتهم وأجيالهم غير الفاقة
والجوع والتشرد، فظلوا قابعين في خانة الفقر
والعوز والبلاء و"الامتحان الإلهي"، لا
مخرج لهم منها إلا بالشهادة المقدسة ونتائجها
الكارثية على أجيالهم ومستقبل حياتهم على
الأرض. -
كيف
نفسِّر ما نشاهده من ذبائح على دكَّات[3]
الإسلام بين المذاهب المتناحرة، قديمًا
وحديثًا، وما وصلتْ إليه بشاعةُ الذبح المخيف
وطريقة استخدامه، التي تُعتبَر نتاجًا
طبيعيًّا لمعامل الرب العسكري ولما بلغه
إنتاجُ القربنة المستمرة والرغبة في
الشهادة، واكتشافُ طُرُق معاصرة في الذبح على
المسميات والهويات، والنزاعُ المستمر لتجييش
الأمَّة من أجل مصير مجهول لا يعلم به إلا "المحرِّك
الأول" لهذه الثقافة كلِّها؟ -
كيف
نعلِّل "صمت" الغيب عن هذه الجرائم إنْ
كان رافضًا حقًّا لحقيقة استثمار تراث الرب
الروحي لقيادة الحياة عسكريًّا؟ هل هو تواطؤٌ
من رغبة خفية غير مدرَكة بوصفها "سنَّة
حياة"؟ أم أنه "خطأ وجودي" استمر
وتواصَل خارج قاعدة العدالة الإلهية، حتى صار
قاعدة متَّبعة يستغلها أهلُ الدين أو أصحاب
الميول العسكرية في ذواتهم؟ -
لماذا
اختفى أهل العلم والمعرفة والحكمة الإلهية
الخالصة في الدين الإسلامي أمام زحف زعماء
الحرب والجهاد؟ هل هؤلاء أقرب إلى التكون
الأول للإسلام؟ هل هم مصداق التطور الديني في
الحياة؟ هل هم نتاج النصوص الحربية المقدسة
أم أنهم دخلاء عليها بقوة السيف والعنف
لإخضاع رقاب العباد أمام "ربِّ الأرباب"؟ -
هل
استخدام الموت طاقةٌ وجوديةٌ من أجل استمرار
الدين الحربي وتحقيق رغبة أهل الحرب على
الجبهات الدينية والحضارية كلِّها؟ وهل فناء
الحياة الدنيا هدف أسمى في الدين العسكري من
أجل تحقيق هذه الأمنيات المؤجَّلة؟ ولماذا
تعميق رغبة الموت في الدين كجوهر وجوديٍّ
لاستمرار القرابين المقدسة، يدفع ثمنها
تساقُط الأجيال، ولبناء ثقافة العنف
اللامتناهية؟ أهو من أجل "إحياء" الدين
فقط؟ مَن الأهم: الإنسان أم النصوص المقدسة؟
ومَن الذي يكون قربان مَن؟ ولماذا نحتاج إلى
قرابين كي "نحيي" دين الله وسنَّة
أنبيائه؟ هل علاقة الدين بالموت علاقة "مصير"
تُترجَم بهذا الفعل الوحشي ولماذا؟ -
لماذا
يحتاج الرب الديني إلى مَن "ينصره" و"ينصر"
دينه؟ أليست حاجة الإنسان إلى العون والنصرة
أولى من حاجة الرب؟ هل يأتي يوم على أهل الدين
يعبدون فيه ربًّا يحتاجون إليه لعونهم
ونصرتهم على إنجاز إنسانيتهم المؤجَّلة؟ أم
سنكتفي بهذه القرابين المغلوب على عقولها في
سبيل الله؟ ومتى يكون "سبيل الله" خاليًا
من قرابين عباده؟ -
لماذا
لا يثق أهل العسكر بقدرة الإنسان على تحقيق
السلام الإنساني؟ لماذا ينشرون روح اليأس في
إنجاز إنسانية الإنسان؟ – إلا من خلال عملية
المواجهة الحربية المدمِّرة للحياة والعالم. -
ألم
يحن الوقت لأرباب الحرب أن يتقاعدوا عن
حروبهم الدامية وعن استثمار الغيب لتشويه
روحانية الإنسان وإعداد القرابين للمجهول؟ -
ألم
نشعر، نحن المسلمين، بثقل هذه القرابين
إنسانيًّا ووجوديًّا وبأننا لم نحصد من
ورائها إلا "المجهول" العالق في
ذاكراتنا الممتلئة بالبطولات الفارغة؟ -
متى
يأتي الوقت الذي يكتفي فيه "الرب" بهذا
القدر من الذبائح على دكَّة "الدين"؟ –
هل هو سؤال مقيَّض له أن يبقى بلا إجابة؟! ***
*** *** [1] راجع هوامش الجزء الأول من هذا
القسم من البحث (معابر، نيسان 2007)
للوقوف على "آيات القتال" في القرآن. (المحرِّر) [2] لقد أفردنا
القسم الثاني من هذا البحث لدراسة هذه
الحركات الدينية التي تبنَّت شعار العسكرة
الإلهية والدينية لقيادة الحياة برفع شعار
المواجهة المقدسة باسم الله وبقَرْبَنَة
الجسد الإنساني المتواصلة. [3] الدكَّة:
المنصب أو المائدة التي تقدَّم عليها
الذبيحة. (المحرِّر)
|
|
|