الفصل التالي

 دفاتر الأسئلة 1

معسكرات الله في الدين الإسلامي

 

وليد عبد الله[1]

 

"القرآنُ حمَّالُ أوجُه، فاحملوه على أحسن الأوجُه."

علي ابن أبي طالب

 

1-1

الانقلابات السياسية والعسكرية التي حصلتْ في الديانات واستيلاءُ الثقافة العسكرية على العقل الإيماني بسبب الصراع التاريخي والعقائدي للأرباب، في الدين الإسلامي خاصةً الذي نمَّط السلوكَ الديني كسلوك مواجهة وتصدٍّ لأعداء الله (الملحدين، أهل الكتاب، بحسب التعبير القرآني: النصارى واليهود، أهل الأصنام، المشركين، والخارجين عن الملَّة والدين، أهل البدع والفتن من المذاهب الأخرى، المرتدِّين عن الدين، العاصين في عدم تطبيقهم الشريعةَ المقدسة، إلخ) ومحاربة لأية رؤية أو اعتقاد يخرج عن الشكل الذي يؤمن به العسكرُ المتَّبِعون ظاهريًّا للنصوص المقدسة (القرآن والسنَّة)، المنتمون إلى الشكل التقليدي الظاهري للدين الذي يوفِّر غطاءً شرعيًّا لانتمائهم لروح العسكرة ومهنية الممارسة السلوكية في الحرب والقتال، التي نمَّطتِ الآياتِ والأحاديثَ كلَّها التي تشير إشارةً مباشرةً إلى العسكر (المجاهدين) وإلى الحرب (الجهاد والغزو) والتي جعلتْهم يزحفون على مقومات الدين كلِّها ويستولون عليه بالقوة العسكرية، حتى صار يمثل النسخة الرسمية للدين الإسلامي، مما جعل المقومات الإسلامية الأخرى التي تفسِّر الدين الإسلامي "مدنيًّا"، وليس "حربيًّا"، تحاول أن تجد لنفسها مساحاتٍ دينيةً ودنيويةً أخرى في التعبير عن تأملاتها وسلوكها الديني، أو تحاول الانفصال عن الدين برمَّته، أو تمارس قدراتٍ عقليةً وروحيةً في تأويل النصوص التي تشير إلى القتال والحرب، على الرغم من أن هذه المقومات من المذاهب والملل والنِّحَل بقيت في دائرة الشاذ والمتهم والخارج على الدين، غير المعترَف به دينيًّا أمام الشكل التقليدي الرسمي، وخاصةً عند أصحاب العقيدة الجهادية والعسكرية، التي أصبحت العقيدة الرسمية في التفكير الإسلامي الحديث، الموثَّقة تاريخيًّا كشريعة مقدسة وواقعيًّا كسلوك يُتأسَّى به، مارسَه النبي والصحابةُ الأوائل والخلفاءُ من بعدهم والأمراءُ والتابعونُ، وذلك بحسب رؤية أهل القتال والحرب، فصار دستورًا مقدسًا للشكل الإسلامي في الظهور والتكون الواقعي للحياة.

ولا غرو أن نقرأ أو نرى أو نحمل في ذاكرتنا الإنسانية صورًا من الصراعات التاريخية والدينية والحروب الدامية بين البشر، ومن القرابين المتراكمة في صحائف التاريخ الإسلامي، ومن ثقافة التوحش والإزاحة والتدمير وتصنيف البشر إلى مراتب ودرجات في مدار الأعداء التاريخيين أو المفترَضين، تحت مسمَّيات دينية مختلفة (كـ"مشركين" و"ملحدين" إلخ). ومهما كان منشأ هذا الصراع وكيفيته، فهو يعبِّر عن ضعف الإنسان وخوفه من المجهول وعن سلطان الذاكرة الحيوانية والمصالح المفتوحة عليه – وكلها يعبِّر بشكل ما عن انحطاط الحقيقة الإنسانية إلى مراحل تاريخية مؤيدة لهذا التوحش والاقتتال والصراع الدامي.

لكننا، في بحثنا هذا، لا نريد أن نستعيد أو نسرد أشكال هذا الصراع وماهيته ورغبة الإنسان في التعسكر الدائم ضد الآخر، وذلك لأسباب كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. لذا سوف نركِّز فقط على مدى استغراب العقل الإنساني، قديمًا وحديثًا بشكل عام، وعقل الإنسان المسلم، بشكل خاص، وتساؤله عن ضرورة الإقرار الربوبي لشرعة القتال، وفرضه كحقيقة دينية مُلزِمَة وأساسية للمعتنقين، وعدم إيجاد الربِّ وسائل أخرى للتعبير عن دعوته أو ممارسة ظهوراته في الديانات.

إننا قد نقع في إشكالية المحرَّم الديني إنْ نحن سألنا الله عما يفعل – وهو الداعي إلى عدم سؤاله عما يفعل: فهو يعلم الخير كلَّه – من الشرِّ المتبعِّض المستشري في النفس البشرية. لكننا تحت ضغط المعرفة المعاصرة والحاجة الروحية والإنسانية وعدم إيجاد أجوبة تنطوي على حكمة حقيقية ومعرفة خالصة بيضاء، وتحت ضغط الأسئلة المعاصرة والتفاوت الحضاري بين الأمم، نجد الأجيال المعاصرة تدعو إلى محاولة التنقيب والتجديد في الدين والتشكيك في منظومته التاريخية وفي خصوصية الصراعات المقدسة والدامية والمؤثرة على الحياة والإنسان. كذلك فمن خلال التمحيص الروحي والتأمل الحقيقي لفعالية الديانات وقراءة التاريخ الديني (الإسلامي خاصة) لم نرَ عطاءً ربانيًّا واقعيًّا على الصعيد الإنساني، ولا أية ملامح خالصة لتطور روحيٍّ ومعرفيٍّ وحضاريٍّ حقيقيٍّ للمسلمين عندما مارسوا فعالية الحرب عبر العصور كحقيقة ربانية مشرَّعة باسم الله والدين (إذ إنه من المفروض أن يُظهِرَ الدينُ ما يملك من خزين روحاني يحقق العدالة والتكامل الروحي للشعوب)، بل رأينا حضارةً حققت نجاحاتِها، كأية حضارة "عسكرية" أخرى، باسم العسكريين وأنجزت وجودها بالسيف والرعب. هذا ويمكن لهذه الانتصارات أن تصنع مقدَّراتِها ومنجزاتِها العلمية والتاريخية، وكذلك أخطاءها الكارثية على الإنسان والحياة والروح. ولم تحصد الأمة من عسكرة الدين الإسلامي إلا ضياع الكنوز الروحية التي تطوِّر قدرات الإنسان بربطه بالغيب، من جهة، وضياع إنجاز سلوك إنساني عظيم أيضًا، من جهة أخرى. فقد توالت الدسائس والخيانات والقتل في التاريخ الإسلامي، كنتيجة طبيعة لسلوك المتعسكرين، وكحقيقة أرضية تنتج هذا النوع من السلوك الإنساني الغريب.

والتساؤلات في هذا البحث تركِّز على شراكة "الرب" الديني للإنسان في حروبه ضد الإنسان الآخر؛ وهي شراكة فعالة وجوهرية في قيادة كثير من تلك الحروب. ولا يقتصر الأمر على استثمار المجاهدين أو المتدينين، المتعسكرين بالحرب والموت، اسمَ الله في الحروب، بل إن "الله" يصير لديهم شريكًا فعالاً وأساسيًّا في صياغة النصوص المقدسة التي تؤسِّس للغة الحرب وثقافتها، للتفنن في ممارسة القتل والإزاحة والتعذيب والتشفِّي، ولصناعة الموت بطُرُق العسكر "الجهادية" الخالية من الرحمة والإنسانية، تحت شعار "عسكرة الإنسان باسم الله".

مدار الأسئلة 1

فهل الدين الإسلامي دين عسكري في الأصل؟ أم أنه قد تحول إلى العسكرة من خلال ظروف زمنية معينة؟ وما هي هذه الظروف وآليات عملها وكيفية تجذُّرها في العقل الديني؟

-       هل للصحراء ولشكل الحياة البدوية، المليئة بالعنف والرجولة المفرطة والقسوة الطبيعية والصراع الدائم للاستيلاء على منابع الحياة، أثرٌ مباشر على تحول الدين الإسلامي من الشكل المدني، الممتلئ بتراث الرب الروحي، إلى الشكل العسكري، الممتلئ بأشكال الاقتتال الدامي؟ وهل هذا يعني أن الصحراء التي تنزَّلتْ عليها رسالةُ السماء قد أثرت تأثيرًا مباشرًا على صياغة دين عنيف وقاسٍ وأوجبت على الرب أن يقرَّ بمبدأ شَرعَنَة القتال والحرب المقدسة (الجهاد) كحلٍّ واقعيٍّ لنشر دعوته وتثبيت دينه وتأسيس دولته؟[2]

-       ما هي آليات التفكير العسكري الديني؟ وكيف تحول من رسالة إلهية تحمل مداراتٍ متعددة لفهم الحياة والعالم والإنسان إلى آليات عمل عسكريٍّ مجنَّد للاستئثار بالخطاب الإلهي؟

-       هل يشارك المناخ الفكري والروحي وطبيعة التاريخ المكاني والزماني في صياغة شخصية الأنبياء؟ وهل يؤثر هذا، بالتالي، على صنع أهداف الأنبياء وسلوكهم بحسب الواقع التاريخي والحضاري؟

-       هل التزاحم السلطوي على بناء الدولة يخلق، مع النصِّ الروحي للدين، أزمةَ التوجه إلى القوة والعنف المتولِّدين من بناء الدولة وتثبيت السلطة؟

-       هل ولَّد السياسي الديني الفهمَ العسكري للممارسة السلوكية لتجييش المؤمنين بالدين؟ وهل كان له أثرٌ مباشرٌ في هذا التحشيد المادي والنفسي والعقلي والروحي؟

-       التاريخ الإسلامي المزدحم بالصراع، هل هو نتيجة طبيعية لثقافة الصراع الديني الدامي في الأصل، أم أنها حال طارئة على الدين، صنعتْها الظروفُ الواقعيةُ للحياة وحركةُ التاريخ المتأرجحة لصراع البشرية؟

-       هل الاعتماد على شريعة عسكرة الدين متأتية من أصل الدين نفسه، أم هي نتيجة مراحل تاريخية محددة، فُسِّرَتْ على نحو بعينه لضرورات سلطوية، وشاركت في صياغتها المؤسساتُ الفقهية الراعية للدين لإسناد السلطة التي تظهر بمظهر ديني؟

-       هل الشريعة الإسلامية مؤيدة للتاريخ الدموي للمسلمين في التواصل والاستمرار لقيادة حياتهم الجهادية؟ وهل هي أحد مصادر "الوحي" لصناعة العسكرة الدينية؟

-       هل الله الديني شريك أساسي للإنسان في صنع ثقافة الحرب وقيادتها وتوفير الغطاء الشرعي لأهل القتال لقيادة الأمة المتدينة؟

-       ما هو سر الاختلاف بين تعدد ظهورات الله وتجلِّيه على الكون والدين؟ وهل من حقِّ الإنسان أن يختار الظهور الأمثل لوجوده في الحياة، أم أن هناك فروضًا كونية ودينية تُلزِمُه على الاختيار والانتماء؟ وما هي الكيفية التي نميِّز بها هذه الظهورات الإلهية؟ هل هي الوجدان، التاريخ، الواقعة، الذاكرة، أم هي اللحظة الوجودية المتناسقة مع سنَّة الكون؟

-       هل يرغب الرب أن يظهر بزيِّ العسكر وعدة الحرب، كخيار أساسي للمواجهة والصراع والدعوة له ضمن سُنَّة الدين؟ وهل هذا الظهور العسكري رغبةٌ دينيةٌ ثابتةٌ ومسلَّطةٌ على الإنسان، أم أن في إمكانه إزاحة هذا التسلط؟ وكيف؟

-       هل هناك حاجة حقيقية لظهور الرب بهذا الشكل العسكري، أم أنها رغبة "غيبية" غير مدرَكة؟ هل القائمون على الدين يحملون في ذاكرتهم ثقافة العسكر، أم أن الظروف المصاحِبة للدعوات الدينية كانت محاطةً دومًا بثقافة الحرب والمواجهة المسلحة، بحيث لم يكن أمام الرب غير هذا الاختيار في ظهوره؟

-       هل "إرادة الله" في الظهور تتأثر بمزاج الأمة وثقافتها ومناخها، أو بمزاج الأفراد وثقافتهم، أو بالسلطة؟ وما مدى هذا التأثير، إن وُجِدَ؟ ولماذا يصادق الله عليه كحقيقة تتفق مع كلِّ مزاج ومناخ على الأرض، فيقره كحقيقة مطلقة فوق الزمان والمكان؟

-       وجوهُ الله وتجلِّياته متعددة في الوجود تعددًا فعالاً ومتناسبًا مع الحقيقة اللانهائية والإبداع الخلاق في "وحدة الوجود" (بحسب معرفة "أهل العرفان" في الإسلام)؛ وهي وحدة متناسقة مع عالم الغيب إجمالاً، متعددة مع عالم الشهادة تفصيلاً (ابن عربي). ومن خلال هذه الأطروحة، نرى الله متعدد الحضور والتشكيل في سُنَّة الكون والوجود. بل إن إصرار القائمين على الديانات والراعين لسُننها يؤكدون أن الظهور الأمثل لله في الديانات يمثل "الاسم القهاري"، كشكل سماوي، و"الاسم العسكري"، القتالي، كشكل أرضي. وأقرب المعتنقين لهذا الشكل في الحياة الدنيا هم قادة الحرب وأهل التعسكر والمجاهدون وعشاق الغزو. وقد تكون رغبة هؤلاء هي التي جعلت حضوره في الحياة الدنيا حضور راعٍ لسياسة الحرب (وهو ما يمثِّل خطابات كثيرة للرب في كتبه المقدسة في الدعوة) وحضور زعيم وقائد منحاز إلى جهة السيف، مقابل جهة المبادئ والقيم والحكمة الأولى. وتنتج هذه المعادلة ربًّا قهارًّا سماويًّا، لكنه أرضي بعدة الحرب والجهاد، مقابل ربٍّ مدنيٍّ وجماليٍّ وربٍّ كونيٍّ مطلق.

-       هل الميل إلى هذا الشكل العسكري والقتالي رغبة تاريخية مرتبطة بظروف أمَّة ما، أم هو سُنَّة كونية مطلقة؟ هل هو حقيقة إنسانية متعارف عليها في فطرة الإنسان، أم رغبة شيطانية تسربت، بالتفسير والانحياز، إلى دموية البشر المنزوعين من الإنسانية الحق، كما نراها في الديانات التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام) عبر تاريخها الديني، مع التفاوت بين هذه الديانات في الظهور وفي تبنِّي هذا الشكل العسكري في النصوص والسلوك أو ذاك؟

-       من أين حصل أهلُ الحرب والقتال (العسكريون) على مشروعية عملهم وقوة وجودهم في التاريخ والواقع والحياة؟ وهل لهم الحق في قراءة النصوص التي تشير إلى القتال أو تلوِّح به أو توجِبه على المسلمين، في شكل عام، وعلى المؤمنين، في شكل خاص؟ هل في كون "القرآن حمَّال أوجُه"، على حدِّ قول الإمام علي، ما يجعل آيات القتال تدل في وضوح على الدعوة إلى وجوب إقامة أشكال القتال والحرب من أجل الدعوة إلى الدين، أو في الحقيقة، على إقامة الدين على العبادة؟ إن في كثير من هذه النصوص المقدسة تعبيرًا واضحًا عن الأمر الإلهي باعتناق الحياة الحربية كمبدأ أساسي وجوهري لفهم علاقة العبد والرب. ومفهوم "العبد" و"العبودية"، وفقًا لمنظومة التفكير الحربي، له دلالات أساسية واضحة من خلال معادلات الاستثمار الجسدي والوجودي للقرابين المعدة سلفًا لتحقيق غايات الرب في العالم الأرضي. فهل لهذه النصوص المقدسة الحق في التصديق على مشروع قيمومة أهل التعسكر الديني لاستثمار النصوص الإلهية؟

-       هل في تجريد النصوص المقدسة من بُعديها الزمني والمكاني ومن أسباب نزولها ما يمنحها مشروعية الاستمرار والظهور في حال وجود الظروف والمسببات نفسها، أو في حال استمرارها، كنصوص تهيِّئ الأمة الإسلامية وتجيِّشها في حال ظهور الأسباب لمباشرة فعاليتها العسكرية؟

-       ما هو التخطيط التعبدي والسلوكي للنظر لله من خلال خرائط الدين العسكري والمعتنقين له؟

-       ما هي صفات "الرب العسكري" في قراءة المتعسكرين للرب للنصوص المقدسة؟ وهل لهذه الصفات مصداقٌ واقعي؟

-       هل يقرأ أهلُ التعسكر الربوبي الأسماء الإلهية كصفات لها مدارات معرفية، أم أن لها "رتبًا عسكرية" قابلةً للتجلِّي على المتدين المتعسكر (المجاهد)؟

-       لماذا يُظهِرُ الرب ذكوريةً وفق السياقات اللغوية والمعنوية والواقعية للتصور والتجلِّي؟ هل هي رغبة الذكور في الاستيلاء على الصفات والمعاني والمَشاهد كلِّها؟ فحتى الخطابات الإلهية تؤكد "ذكورية" الرب (أو هي على الأقل تتحدث بلسان ذكوري). أليس في ذلك ما يؤكد عسكرة الرب وانتمائه لسياقات العسكر الذكورية ويتلاءم مع مناخ الطقوس التقليدية لتراث معين؟

-       هل في السيطرة على حياة الإنسان وفي التسلط على تفاصيل حياته كلِّها رغبةٌ إلهية مطلقة، أم هي سنَّة دينية تتخذ من ثقافة التسلط والاستلاب ممارسةً مقدسةً تكفل ديمومةَ استمرارها في الحياة؟

-       هل حاكمية أهل العسكرة سلوك عقائدي مبطَّن؟ هل هو هوس أهل الدين في السلطة: مرض تاريخي متوارث في ممارسة القَربَنَة باسم المطلق، تثبيت هذا الشكل الإلهي المجهول والمتلوِّن بمصالح القائمين عليه، فرض القوة والتمتع بدكتاتورية الله الدينية؟

-       هل استفادت دكتاتورياتُ أهل السلطة المطلقة من الرب الديني في قيادة الحياة الدينية قيادةً سلطويةً صارمةً تستلزم إقرارًا تعبديًّا مفروضًا بقوة السيف ومنطق القهر؟

-       هل هناك إرادة حرة غير مشروطة لمعرفة الله خارج مدار العسكرة وللعمل على إحياء روحانية الإنسان المستلَبة بقوة السيف وعسكرة الواقع؟

-       هل حان الوقت لأن يثق الرب الديني بالإنسان في الحياة والواقع ولأن يتصالح معه ويعترف بإمكاناته المحدودة بصنع نظام محدود، يتلاءم مع استمرار حياته وإبداعه، وحتى خطيئته؟

مدار عسكرة الله

تعتمد المنظومة الدينية العسكرية في التفكير الإسلامي على أربعة محاور هي:

1.     المحور "الإلهي"، وأسُّه إقرار الحرب وتسويغ استخدام القوة من أجل نشر دعوته الدينية وتأكيدها من خلال النصوص العسكرية في القرآن التي تمثل مرجعيةً أساسيةً لبناء عقيدة العسكر والمجاهدين عبر التاريخ الديني.

2.     المحور "النبوي" من المحاور الجوهرية والمركبة، كونه "ناقلاً" للخطاب الإلهي أو "مترجمًا" له بحسب الظروف التاريخية، ويعتمد، كمصدر تشريعي وسلوكي، تطبيق النصِّ الإلهي الداعم للصورة العسكرية للرب لبناء دينه على الأرض.

3.     محور المؤسسات الفقهية والتربوية والمناهج العلمية التي تتبنى مبدأ العسكرة والمواجهة الجهادية والقتال من أجل تطبيق شريعة الله على الأرض. ويُعتبَر هذا المحور من المحاور الجوهرية لتطبيق المنهج الجهادي المحافظ على صورة الرب العسكري لتغذية الأساس للعنصرية الدينية.

4.     محور الأحزاب والحركات والشخصيات تحت مسمَّى "الحركات الدينية" التي تعتمد على الشكل الجهادي والعسكري في التعبير عن الحضور الديني للرب وتطبيق شريعته على الأرض. ويُعتبَر هذا المحورُ المعيارَ الأرضيَّ لسلوك هذه الطائفة؛ والقرابين المضحَّى بها هي علامة تطبيق مبدأ عسكرة الرب في الإسلام.

سنحاول أن نقرأ المحور الأول (المحور الإلهي) نظرًا لإقراره وفرضه القتال وممارسة الحرب كحلٍّ وجوديٍّ للكثير من المشكلات الدينية والإنسانية على الأرض. وإننا نرى أرباب الدين الإسلامي يتنوعون في صفاتهم السلوكية في التاريخ والحياة والإنسان، فيتفقون وفق تسمية واحدة أحيانًا، ويختلفون في طرق التعامل مع الغيب والواقع. وفي هذا البحث سنرى وظائف الأرباب في الدين الإسلامي (الشكل العسكري للأرباب) وطُرُق تعامُلهم مع الواقع والحياة، بعد أن بينَّا في بحث سابق[3] بعض صفاتهم السلوكية وتكوين ربوبيتهم في المذاهب الإسلامية (كالرب "الشيعي" والرب "السنِّي" والرب "السلفي" والرب "الصوفي") وانشطارها في المذهب الواحد إلى أرباب أصغر.

لكننا في هذا البحث سنقرأ بعض الأطروحات التي لا تفصل سلوك العبد عن سيِّده أو المتدين عن ربِّه. فعندما نرى سلوك المتدينين وأطروحاتهم وثقافتهم، نجد هذا كلَّه يعبِّر عن الرب المعتنَق. وليس هناك فصلٌ نظري أو عملي بين الرب والعبد: فكلاهما يتأثر بتحديد أنماط السلوك والفكر المعتنَق ويؤثر فيها. وما يدعونا لرؤية عسكرة الأرباب أكثر فعالية وحركة للاستيلاء على مفاصل الربوبية والدين كلِّها، والانقلاب الشامل على القيم الروحية، والتسلط لعسكرة الحياة والإنسان، كما هو واضح في تاريخنا وواقعنا الإسلامي وفي ما يحيط بنا من تهديدات فعلية بين المذاهب الإسلامية نفسها، من جهة، وللعالم، من جهة أخرى.

فكيف نستطيع قراءة هذه التعسكرات في المواجهة المعاصرة التي قدمت، وستقدم، ضحايا وقرابين وحده الله يعلم بها (إن كان له حب للقربنة!) ويمارسها بسلطان أهل الحرب والسيف وأصحاب مذابح القرابين البشرية وعشاق قطع رؤوس عباده بغضب الله النازل!

قد تكون لعبة الله "العسكري" لقهر خلقه بلا سبب واضح. إلا أنها لعبة الغيب المفضلة التي ارتبطت بالموت كحقيقة قهارية تزيح أيَّ كيان عن الحياة. يستخدم الدينُ مجهولية الموت ليستثمره في صياغة عالم أخروي عائم يحقق الرغبات الإنسانية المؤجلة. ولكن الإشكالية ليست في الموت كحقيقة وجودية وسنَّة كونية، بل في استثمار الموت، كونه وقودًا وطاقةً فعالةً تتيح استمرار الرب الديني في الحياة وتشييد قيمومة موت الإنسان التي ارتبطت بحياة الرب الأبدية. ففي الموت وحده تحيا الديانات للأبد، لأنه الغريب المجهول والمنتظَر المخيف الذي ارتبط بالغيب واستُثمِرَ كقوة للدفاع عن الله ودينه في نظام أهل الجهاد والعسكرة الدينية. فلا حياة للربِّ العسكري دون حروب الإنسان، ولا دوام لوجوده إلا باستمرار عسكرة الحياة، ولا متعة إلا بالقرابين الإنسانية تملأ التاريخ ويتفاخر بها المجاهدون كتراث مقدس وسلوك متَّبع، لا يعلو عليه سلوكٌ آخر في الحياة.

فلماذا يربط الله بين الدين والموت كأمنية مكتوبة على العباد لتحقيق صدقهم في حبِّه وفنائهم فيه؟ وهذه الأشياء تُنجَز في ثلاثية العسكرة الإلهية التي يحيا بها أهل الحرب: السلطة، الجهاد، الآخرة – السلطة لأرباب الحرب وقُوَّادهم، والجهاد للمؤمنين وعامة أهل الدين، والآخرة من الجنة والنار للقرابين من الأطراف كلِّها، يحققون بها أحلامهم وينجزون بها نواياهم المؤجَّلة.

نشاهد في خرائط الرب العسكري، الذي يتجسد في السلوك الديني في الحياة، صورة الله الذي يتمنطق بلغة العسكر وقسوة الأوامر في جبهات الحرب وجوانب الحياة كلِّها. ففي أداء الطقوس العبادية يكون الأمر الإلهي أقرب إلى بيان عسكريٍّ لتجهيز المؤمن لأداء صلواته: ليس دعوةً مدنيةً لتثبيت ارتباطه الروحي والمعرفي، بل نوع من الاستعداد للمنازلة وإعداد نفسي للمواجهة والحرب. فتكون الصلاة أشبه بساحة وغى للمجاهد، يتمنَّى فيها الموت ويتوسل بقوة الحياة للزوال أو لمنحه فرصة أكبر لتحقيق مشروعه الإلهي في الشهادة والعبور إلى حياة أخروية سعيدة، يحمل بها أحب الصفات إلى ربِّه: صفة "شهيد"[4]. فعندما نشاهد خطابات المؤمنين في أدعيتهم ومناسكهم واستجابتهم لأوامر الرب (من خلال نصوصه المقدسة، التي تتشابه تشابهًا كبيرًا مع خرائط الأنظمة العسكرية التي تتبع مناهج الإعداد المادي والمعنوي لخوض الحرب)، وعندما يمارس المؤمن، من خلال أداء هذه الطقوس العبادية، التدريب والاستعداد العسكري لأداء مهمة حربية، فهو قطعًا ليس في محراب العبادة والرياضة الروحية والاسترخاء المعنوي، بل هو حكمًا في هجوم عسكريٍّ يطلب الانتقام من أعداء الله ويتمنى أن يحصل على أعلى المراتب الدينية في الاستشهاد، أي الاستعداد للموت والفناء من أجل الله ودينه. هذا الرب يظهر في عيون المجاهدين متجليًّا في وظائف عسكرية وحربية في شكل خاص. فعلى الرغم من اشتراك مفهوم الرب عندهم مع الشكل الإلهي المطلق، إلا أنهم يزحفون بهيمنة الشكل العسكري للرب على جوانب الدين كلِّها باعتبار ما يلي:

-       الله خالق مطلق من جهة تمكُّنه وسيطرته على السلطة وتحكُّمه في جميع المخلوقات، كونه ربَّهم الأعلى، يتعامل دون تمييز أو فوارق خلقية أو طبقية. لكن سرعان ما تتحدد الأشكال المقبولة وغير المقبولة عنده بمجرد النطق بعبارات الشهادتين: التوحيد والاعتراف بالنبوة المحمدية والتصديق والإيمان بكلِّ ما تحمل الخطابات المقدسة في الدين الإسلامي والتواصل مع الأولياء والخلفاء، بتبعية سياقات الحكم والسلطة الفقهية والعقائدية الإسلامية إلى يومنا هذا وبأشكال متعددة وصور ربوبية متنوعة.

-       الله قاهر، عظيم، قوي، جبار، منتقم، مهمين، مميت، ضار، قادر، مقتدر، إلخ. تُستثمَر هذه الصفات "الجلالية" في تشكيل صفات القائد وملامح السلطة الجهادية. وفي المقابل، تفعل الصفات السلبية كلها ضمن كينونة التسمية الربانية، بتسليطها على الآخرين وتفعيلها بشروط وخطابات تدشِّن الفعل الرباني القاسي والمميت بحقِّ أعداء الله وأعداء الدين. ويركز أهل التدين والجهاد على هذه الصفات، كونها جوهريةً في عملهم، وتوفر قوةً رادعةً يمارسونها من خلال تفعيل هذه الصفات كسلوك يعتنقونه في عملهم الجهادي، بحيث يمارسون سطوةَ هذه الأسماء على أعدائهم.

-       تظهر هوية الله في الإسلام كونه يحمل الشكل الظهوري الأمثل في تجلِّيه على الدين الإسلامي. أي أنه يُتصوَّر من خلال الشكل الظهوري للإسلام: فهو منحاز انحيازًا مطلقًا للدين الإسلامي، لأن الإسلام آخر الديانات، من جهة، ولأنه آخر الرسالات النبوية، من جهة أخرى. لقد جُعِلَتْ خاتمةُ الشكل الظهوري للنبوة متجسدةً بهذا الشكل الديني، ألا وهو الإسلام، بحيث يتخذ الرب الإسلامي اللغة العربية لغةً أساسية، حتى تقريبًا في العوالم الغيبية الأخرى، كما تؤكد بعض النصوص في الحديث والسنَّة (العربية لغة أهل الجنة)، بمعنى أن اللغة العربية تحمل صفات تقديسية واضحة. ومن خلال ترجمة هذه المفاصل التفضيلية لتشكيل الرب الإسلامي في الواقع والحياة نتوصل إلى رب هويته "مسلمة"، يفضل اللغة العربية على باقي اللغات، بدليل تكلُّمه بها في آخر رسالة له للبشرية، بحسب التفكير الظاهري. ويضاف إلى هذا الظهور والتجلِّي الشكلُ المهمين وجبروتُ الرب. وبالإضافة إلى هذه الملامح، وتأسيسًا عليها، يتصور أهل القتال والحرب أن الرب الإسلامي هو "قائد أعلى للقوات المسلحة" في الدين الإسلامي، يحمل أعلى المراتب التي هي صفات الجلال والهيمنة والتسلط.

-       وبعد تشكيل "هيئة" الرب وتحميله صفات العسكر وربطه بصور الحرب، لا بدَّ أن يكون هو المشرِّع وواضع خطط الحرب، والمشارك الفعال في الميدان مشاركةً مباشرة، والموجِّه لمناطق الضعف والقوة في معسكرات المؤمنين والأعداء. إنه يدفع كذلك بقطعات عسكرية ملائكية للحرب في حال إسناد معسكر الإيمان أو يختزل الزمن ويعجِّل في النصر الموعود لمعسكر الإسلام على الأعداء الآخرين[5]. كذلك تتحدد ملامحُه، في أكثر من نصٍّ تشريعي، بتفصيل خرائط السلوك الديني والقتالي للمجاهدين الذين يفضل الله طريقة حياتهم لما يقدِّمونه من تضحية ودفاع عن الدين والحياة الإيمانية "باسم الله". ونرى كثيرًا من النصوص تشير إلى أن السبيل والطريق المتحقق والمفضل للوصول إلى رضاه هو طريق القتال في سبيل الحق: أحب العباد إلى الرب المؤمنُ المحارب (المجاهد) في سبيل الله ونصرة دينه.

-       الكيفية التي ينظر بها المتدينون إلى الله، كونه قائدًا وآمرًا عسكريًّا أعلى ومنظِّرًا فكريًّا ومعرفيًّا لآليات العمل العسكري، من خلال فهم صفات الرب التي تُسمَّى "جلالية" أو "قهرية" والتي تدعم تأسيس قائد غيبيٍّ مطلق، يتمنطق بلغة الحرب ويلبس لباس المحارب بشكل دائم ومتواصل، وتكون الأرضُ في نظره ساحة وغى وفروسية لتحقيق أهدافه الخطابية المقدسة وهداية عباده إلى الصراط المستقيم بتبنِّيهم الدين الذي أراده، بنظامه وشريعته – وفق فهم الذين يرون الله بهذا الشكل، فيتقلَّدونه في الحياة الإيمانية، ويتَّبعونه لتحقيق وعوده لهم – مقابل تبنِّي عسكرة الحياة. وفي حال تطبيق هذا الشكل المفروض، لا يتوانى هذا الرب في تلبية جميع الأمنيات الظاهرية والباطنية للمؤمنين الذين يسعون، بكلِّ ما عندهم، لتحقيق أمنيات قيمومة الرب العسكرية، ومنها الحياة الأبدية والرغبة الدائمة في الخلود.

-       نرى هذه الخطابات واضحة إذا تجردنا من البُعد الزمني والتاريخي للنصوص الإلهية في الإسلام. ولكن سياقات عمل هذه الخطابات عند المتعسكرين تُفهَمُ وتُترجَمُ إلى فعل بهذه الطريقة التي ذكرناها. وهذه الصياغات مذكورة في الكتب المقدسة، ومنها القرآن، الذي يساهم مساهمةً جوهريةً في رسم معالم الحضور العسكري للرب ظاهريًّا من خلال أكثر من آية قرآنية. وكذلك نرى الحضور العسكري للنص المقدس من خلال سياقات تطبيق الأوامر الإلهية (في العقاب والثواب والمراقبة وآليات النصر والثبات والاختبار والبلاء والامتحان) في ساحات الحرب، وإجزال العطايا للمحاربين ومكافأتهم بحسب المراتب والدرجات في الصمود والمواجهة وقوة العمل الجهادي (القتالي)، حتى تحقيق الغاية الكبرى على صعيد المؤمنين شخصيًّا، ألا وهي "الشهادة"، وعمليًّا الانتصار لله ولدينه القيِّم.

وفعالية عمل هذه المحاور القانونية والتعبدية كلِّها تتحقق بالسلطة العسكرية للرب. ومن هذه الشواهد في الخطابات الإلهية في الآيات المفسَّرة عسكريًّا ما يلي:

1.     يدعو الرب المؤمنين لتلبية النفير وتجهيز أنفسهم، معنويًّا وماديًّا، للخروج وأداء شعائر القتال، كونه فريضةً مقدسةً وجوهرًا دينيًّا ثابتًا وأمرًا "مولويًّا"، على المسلمين والمؤمنين كلِّهم واجبُ تطبيقه. فالأمر الإلهي للنفير لا يستثني أحدًا إلا العاجزين لأسباب بدنية ومرضية يحددها النص المقدس كتشريع، والنبي أو الخليفة أو الفقيه يطبِّقه وفقًا لضرورات الدين ومصلحة الأمة.

2.     يحذِّر الرب المسلمين من محاولة الفرار من أدائهم الواجب المقدس[6] (الجهاد، الحرب على أعداء الله) أو من تلكئهم في تلبية الدعوة وميلهم لمتاع الدنيا (البيت، العائلة، الأطفال، المدينة، الحياة العامة، الفطرة التي تعارض القتال، الملذات الدنيوية، الشهوات، الأموال، الطبيعة). فالله والدين أولى من الحرص على أنفُس المؤمنين وأموالهم: فهو الذي وفَّر لهم هذه الملذات كلها، وسوف يحفظها لهم ويعوِّضهم عنها في حياتهم بالغنائم والأموال والعزة، وفي حال موتهم (استشهادهم) سيمنحهم العطاء الأعظم (الجنة) الذي وعد به المجاهدين والصابرين والمؤمنين بوصفهم قرابين إلهية، يتمنون الموت في سبيل الله ونصرة رسوله (رسله) ودينه[7].

3.     تهديد إلهي وعذاب شديد أليم وعقاب جماعي، دنيوي وأخروي، لا يفرِّق بين طفل أو شيخ أو امرأة أو حيوان، لمجرد ميلهم إلى العصيان في طاعة الأوامر الإلهية، ولا يتساهل معهم وفق قواعد ثابتة ونظام واجب اتباعه. ومن الأوامر العسكرية التي لا تقبل الميل لرفضها أو عصيانها أو التمرد عليها النصوصُ المقدسةُ التي توجب القتال على أهل الدين واجبًا شرعيًّا مقدسًا.

4.     يمارس الله في نصوصه قسوةً كبيرةً على أعدائه بضرب الأعناق والأثخان (الثخن: ما ثَخُنَ وغَلُظَ في جسم الإنسان وفي غيره) والتوغل في القتل وعدم الرحمة والتماسك في قتل أعدائه[8].

5.     يشجع الله المقاتلين (المجاهدين) بإسنادٍ غيبيٍّ وإمدادٍ ملائكي لمساعدتهم في تحقيق النصر، وذلك بممارسة الملائكة العسكريين، المتدربين في الغيب، القتال بمشاركة فعلية لتحقيق غاية الرب، حيث يتعاضد عالما الغيب والشهادة في إنجاز النصر وقتل العدو وتشتيت شمله وهزيمته[9].

6.     دعم الله ومؤازرته للمحاربين على المستويات التخطيطية كلها، بإعطائهم الأجر والثواب المادي والمعنوي من الغنائم للأحياء المقاتلين والجنة للأموات منهم (الشهداء).

7.     التربص للأعداء في كلِّ فجٍّ، وتنمية الحسِّ "المخابراتي" العسكري لدى المقاتلين.

8.     التكفير عن سيئات أهل الحرب والجهاد في حال الحياة أو الموت أو لدى الوقوع في أخطاء حربية ماداموا في ساحة الوغى.

9.     رسم مَعالِم الجنة (معشوقة المحارب) لتوفير مستلزمات الحياة اللذاتية كلها، النفسية والمادية.

10.تمجيد الأبطال والقادة بمنحهم المراتب الجهادية الكبيرة وتوريثهم السلطة والملوكية وتسييدهم، ماداموا يحافظون على الشكل الظهوري لدينه، وينصرونه في الأزمنة والأمكنة كلِّها، ويحتفلون بمراسيم الحرب والعسكرة.

11.تجنيد سائر الطاقات الاقتصادية للدعم اللوجتسي للحرب، من أموال وثروات وأجسام، للتواصل والحضِّ على الاستمرار حتى النصر.

12.نرى الله في نصوصه المقدسة يمتعض من التقصير أو من عدم طاعة الواجب العسكري طاعةً دقيقة، فينزعج من تباطؤ المقاتلين في الانقضاض على العدو، ويتألم من إخفاق المقاتلين وعدم طاعتهم للأوامر العسكرية في أثناء الحرب[10].

13.يمنح الرب مؤمنيه لذة القتل، وإشباع غريزة التشفي بعد القتل، والتعذيب لأعدائه، وتسكين الألم النفسي للمقاتلين بممارسة هذه اللذات السادية، وذلك بقتل الأعداء دون رحمة. ويحدد الله المناطق المرغوبة لديه في طعن الأعداء، ويفضل الرقبة وقطع الرأس وسيلة فعالة للقضاء على العدو قضاءً مباشرًا وسريعًا. وإن أفلت العدو من القتل، فشد الوثاق والإذلال لهم حتى تضع الحربُ أوزارها[11].

14.يفضل الله أن يكون شعار المجاهدين وعشقهم للموت في قوة الحياة. ويمثل الموت أحد الأركان الجوهرية والأساسية في تعميق روح الاتصال به؛ فيحثهم على الموت مجاهدين، كونه يفضل هذه الطريقة في الموت لأنها تمثل روح القوة والكبرياء وتحقيق وعده في عدالة الحياة، بحيث تؤتي تربيةُ المؤمنين على حبِّ الموت والتضحية بالجسد أُكلَها من أجل نصرة الله ودينه. وسيكون الجزاء أكبر وأعظم لتحقيق هذا الهدف السامي، ألا وهو الموت في سبيل الله وقهر أعداءه.

15.الإشارة إلى أكثر من نصٍّ يجد فيه أصحابُ التفكير الحربي والعسكري من أهل الدين أن المجاهد له درجات سامية عند الله. ويؤكد الله هذه الامتيازات ويثبتها في النصوص المقدسة، ويمنح المجاهدين الصفاتِ الخاصةَ والعامةَ كلَّها، بما يحشد قواهم وفقًا لهذا التفكير الجهادي. وليس هناك أي منطق عقلي أو روحي، باطني أو ظاهري، يمكن له أن يجيب إجابةً متوازنةً عن سؤال "امتيازات" المجاهدين، أو هل ممارسة القتل وتسميته بـ"الجهاد"، بهذا الشكل القاسي المخيف، يمكن لهما أن يمنحا المجاهد (القاتل) امتيازاتٍ عظيمةً لمجرد ممارسة القتل أو إزالة جسم الآخر من الدنيا؟ تبقى هذه المعادلة معقدة ومخيفة إذا أقرَّها الرب كحقيقة مقدسة ثابتة.

16.يدرِّب الله المقاتلين على الغلظة والإصرار والبطولة المطلقة وبث الرعب في قلوب الأعداء والصبر على الهزيمة وتمرين الذات العسكرية بالامتحان والاختبار والبلاء والثبات وتحمُّل الألم، حتى يحقق الله وعده في نصرة المؤمنين وخذلان الكافرين وإنزال أقسى العقوبات بهم، في الدنيا والآخرة.

17.يؤكد الله أن المؤمنين "باعوا أنفسهم له"، وفق مبايعة إيمانية "تجارية"، في مقابل ضمان الجنة الموعودة والعزة الأرضية. وبهذه المبايعة يستحوذ السيد المشتري على هذه الأنفُس بالتصرف المطلق بها كيفما يشاء؛ ولا يحق للبائع أن يسأل عما يفعل الرب (المشتري) بهذه الأنفس وعن كيفية تصرفه بها. فكل هذه المبايعة تمت لأجل التحكم الكامل بالجسم وقَرْبَنَته في سبيل الدين وتحقيق النصر على جميع المخالفين أو العاصيين أو المرتدين أو أهل الديانات المُشْرِكَة وسائر أصناف الأعداء غير المتفقين مع هذه الرؤية الربوبية. فنرى، من خلال تفكيك الآية المذكورة[12]، بيع المؤمنين أنفسهم؛ إلا أننا لا نرى ذِكْرًا لعملية البيع أو للكيفية التي بيعت بها أنفسُ المؤمنين، بل نرى في وضوح ذكر عملية الشراء التي تبدو أنها فُرِضَتْ على المؤمنين كواجب مقدس. وهذا الشكل "الوجوبي" يُعتبَر صياغةً واضحةً وحجةً دامغةً عند المتعسكرين للدين على حتمية إتمام فرض طرفين أساسين للبيع وللشراء الوجوبي في الحياة الدنيا والآخرة، وهما: الطرف الأول هو الله مطلقًا، وبالنيابة عنه، النبي والخلفاء والسلف الصالح والأئمة عبر مبايعتهم وتوليتهم أمور المسلمين (أو في الحقيقة رؤوس العباد، يتصرفون بها وفق الشريعة المقدسة)، بما يحفظ لهم هيبة التقديس لله وللكتاب ولسلسلة الخلافة المذكورة آنفًا؛ والطرف الآخر هو عامة الناس أو الجماهير أو الأمَّة والمؤمنون. ومنطوق الآية يؤكد إتمام صفقة الشراء التام وإبرام العقد الإلهي بشرط القتال بالنفس (قَرْبَنَة الجسد) وبالمال، كونه المرادف التكويني لدَوامية الحرب وتقديمه في سبيل الله. وطُرُق القتال والحرب واضحة لدى الطرفين في أن "المقاتل" إما أن يَقتُل أو أن يُقتَل. وجزاء هذا الإقرار والمصادقة تأسيس مشروع ضمان الجنة، في الأحوال كلِّها، كوعد إلهي، وتدوينه في الكتب المقدسة، وتأكيده من خلال القرآن، كونه النص المقدس الأخير للرب على الأرض.

18.يقرِّر الرب الديني أن المبايعة تتم بمجرد الإقرار له بالربوبية المطلقة وبنبوة الأنبياء، فتتم المعاملة وفق النطق بالشهادتين. وبذلك يكون قد باع نفسه كليًّا للرب، فيُجنَّد حربيًّا في حالة وقوع الحرب، أو يتعاقد دينيًّا مع أنبيائه (أو الخلفاء أو الأمراء أو الفقهاء من بعدُ) عقدًا أبديًّا لا رجعة عنه؛ إذ إن الرجوع عنه عقابُه الموت والخزي في الدنيا والنار في الآخرة. ويتم العقد على أنه جندي لله في كلِّ ما يفعل ويقرر، عليه أن يجهز نفسه للجهاد بكلِّ أنواعه، قَبِلَ بذلك أم لم يقبل، لأن الله أعلم به من نفسه[13]. فتقرير مصيره في الحياة وطريقة الممات بيد المشتري والسيد المطلق؛ وهي عبودية لا عتق منها إلى يوم القيامة. وتترسَّخ حقيقة العبودية كثابت عقائدي مقدس، ويصير العبد لله عبدًا مطلقًا، ولكن له مصاديق واقعية في الحياة الدينية لعبودية المتدين، للنصِّ تارة، وللتاريخ وللقائمين على رعاية الدين تارة أخرى. وبذا يصير من الواجبات المقدسة الحفاظُ على هذه العبودية والدفاعُ عنها، فتتركز كثقافة استلابية تكوِّن شخصيةَ المؤمن وتدفعه إلى ترسيخ ثقافة العنف والقتل. ويتمسك قادة الجهاد والحرب بآية الشراء (للمؤمنين) ويسعون إلى تطبيقها على الأمَّة والمؤمنين – كونهم عبيدًا منزوعي الإرادة و"مشاريع استثمارية" للحروب الدائمة باسم الله!

19.يعتمد الله في نشر دينه على قوة العسكر وبث الرعب، بحسب النصوص المقدسة. والسيف هو الفيصل بينه وبين أعدائه في حال عدم التصديق أو الإقرار بالربوبية المطلقة والتصرف التام بالأنفس البشرية. ويكرر الله هذا الاعتقاد القاسي والمخيف في نشر دينه والتأييد لأنبيائه (بنصرهم بالرعب وقوة السيف)، حتى يتحقق النصرُ ويكون دينُه على الأرض كلِّها[14]، مهما كانت التضحيات بالأموال والأنفس، من الأطراف كلِّها. فالنتيجة المرجوَّة من هذه القرابين كلِّها هو تحقيق أوامر الرب على الأرض كلِّها، "ولو كره الكافرون".

20.لا يكتفي الله بهزيمة أعدائه في الأرض، بل يُعِد لهم النيران والعذاب الدائم والانتقام منهم بشتى أنواع العذاب القاسي والبشع، سواء في الحياة الدنيا أو في الآخرة: فلهم الخزي والعار في كلا العالمين!

* * *


[1] كاتب وباحث من العراق.

[2] راجع في معابر مقال وليد عبد الله "خاتم الأنبياء تبتلعه صحراء العرب". (المحرِّر)

[3] راجع في معابر مقال وليد عبد الله "صراع المفاهيم وصناعة الأرباب في الدين الإسلامي". (المحرِّر)

[4] "فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومَن يقاتل في سبيل الله فيُقتَل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا" (النساء 74).

[5] "ولقد نصركُم الله ببدر وأنتم أذلَّةٌ فاتَّقوا الله لعلكم تشكرون؛ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يُمِدَّكُم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة مُنزَلين؛ بلى إنْ تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يُمْدِدْكُم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمِين" (آل عمران 123-125).

[6] "يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثَّاقلتم إلى الأرض [...] إلا تنفروا يعذبكم الله عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم" (التوبة 38-39)؛ "قُلْ لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تُمتَّعون إلا قليلاً؛ قُلْ مَن ذا الذي يَعْصِمُكُم من الله إن أراد بكم سوءًا أو أراد بكم رحمةً ولا يجدون لهم من دُون الله وَلِيًّا ولا نَصِيرًا" (الأحزاب 16-17).

[7] "فالذين هاجروا وأُخْرِجوا من ديارهم وأُوذُوا في سبيلي وقاتلوا وقُتِلوا لأكفِّرَنَّ عنهم سيئاتهم ولأدخلنَّهم جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ثوابًا من عند الله والله عنده حُسْنُ الثواب" (آل عمران 195)؛ "الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجةً عند الله وأولئك هم الفائزون؛ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنَّات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدًا" (التوبة 20-22).

[8] "إذْ يُوحِي ربكَ إلى الملائكة أني معكم فثبِّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلَّ بَنان" (الأنفال 12).

[9] "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها [...] وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقًا تقتلون وتأسرون فريقًا" (الأحزاب 9، 26).

[10] "لقد نصَرَكُم الله في مَواطن كثيرة ويوم حُنين إذ أعجبتكم كثرتُكم فلم تُغْنِ عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرضُ بما رحُبتْ ثم ولَّيتم مدبرين" (التوبة 25).

[11] فإذا لقيتم الذين كفروا فَضَرْبَ الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدُّوا الوثاق فإما مَنًّا بَعْدُ وإما فداءً حتى تضع الحربُ أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوَ بعضَكم ببعضٍ والذين قُتِلوا في سبيل الله فلن يُضِلَّ أعمالَهم" (محمد 4).

[12] "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعدًا عليه حقًّا في التوراة والإنجيل والقرآن ومَن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم" (التوبة 111).

[13] "كُتِبَ عليكم القتالُ وهو كُرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" (البقرة 216).

[14] "وقاتِلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدِّين كله لله" (الأنفال 39).

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود