english arabic

الدار العالمية

 

مارتن لوثر كنغ، الابن

 

اغتيل الدكتور مارتن لوثر كنغ، الابن، في ممفيس، تينِّسي، في 4 نيسان 1968. وقبل ذلك بعشرة أيام، قدَّمه الرباني أبراهام جوشوا هيشِل، مؤلِّف الدراسة الكلاسيكية الأنبياء، إلى محفل من الربانيين: "أين لنا أن نسمع في أمريكا اليوم صوتًا يشبه صوت أنبياء بني إسرائيل؟ مارتن لوثر كنغ إشارة بأن الله لم يتولَّ عن الولايات المتحدة الأمريكية. لقد بعث الله به إلينا؛ وحضوره هو رجاء أمريكا. رسالته مقدسة، وقيادته من الأهمية بمكان لكلِّ واحد منَّا. [...] مارتن لوثر كنغ، الابن، هو صوت، وهو رؤيا، وهو طريق. وأنا أدعو كلَّ يهودي إلى الإصغاء إلى صوته، إلى مشاركته رؤياه، وإلى السير على طريقه. مستقبل أمريكا برمَّته يتوقف على وَقْع الدكتور كنغ وعلى تأثيره."

أما العلامة والناشط فنسِنْت هاردِنغ، في كتابه مارتن لوثر كنغ: البطل غير المريح، فقد كتب: "لو اتفق للرباني هيشِل أن يكون على صواب، وأن كنغ الذي لا يهدأ له بال، برؤياه وكلماته وأفعاله التي تقضُّ المضاجع، يمسك بمفتاح مستقبل أمريكا، [...] فإن تناسي العلماء والمواطنين ورجال الدين لحقيقة ذلك الإنسان ولأعمق منطوياته ليس من قبيل خيانة الأمانة وحسب، بل من قبيل الانتحار."

ونحن نسأل الله أن يمطر بركاته على هذه الأمة، ينبغي لنا أن ننظر فيما إذا كان الدكتور كنغ نبيًّا. ولعلنا، بذلك، نتفكَّر في بعض تفاصيل حياته: كانت بعثته قصيرة الأجل؛ وقد واجَه ميتة عنيفة؛ ومات من أجل الإنسانية في الكفاح ضدَّ شرور العِرقية والفقر والحرب والمادية.

 

فإذا كان كنغ نبيًّا، لا مفرَّ لنا من السؤال: ماذا كان الله يحاول أن يقول لنا؟ كان مفاد رسالة كنغ، باختصار: "من أجل افتداء نفس أمريكا" [رسالة مؤتمر زعماء مسيحيي الجنوب] والفرح بالجماعة المحبوبة، كما قدَّر الله، يجب علينا أن:

1.     نتجاوز "العشيرة والعرق والطبقة والأمة" ونعتنق رؤيا "دارٍ عالمية"؛

2.     نجتث عالميًّا الشرَّ المثلَّث للحرب والفقر والعِرقية؛

3.     نكبح الغلوِّ في المادية، ونخطو من مجتمع "شيئيِّ التوجُّه" إلى مجتمع "أُناسي التوجُّه"، مصلحين بذلك الجماعة؛ و

4.     نقاوم الظلم، ونسعى إلى التغيير، ونحلَّ النزاعات، بروح المحبة المتجسِّدة في فلسفة اللاعنف ومناهجه. إذ إن وجودنا نفسه في خطر.

فيما يلي النص الكامل للفصل الأخير من كتاب الدكتور كنغ إلى أين نذهب من هنا: الشواش أو الجماعة؟، المنشورة طبعتُه الأولى في العام 1967، حيث يسهب في الكلام على هذه الرسالة ويوصي بأفعال مخصوصة. وهو باللغة الأصلية، الخالية من أيِّ تمييز جنسي. والكثير من فحوى الفصل مستقى من المحاضرة التي ألقاها كنغ في جامعة أوسلو، في 11 كانون الأول من العام 1964، لدى نيله جائزة نوبل للسلام. ولعله ينبغي، حيثما يتكلَّم كنغ على التوفُّر على الشروط التي تنسل "الشيوعية"، أن نستبدل بها "الإرهاب".

إن سماع كلمات كنغ، اتساقًا مع السُّـنَّة النبوية، أمرٌ عسير، يتطلب استبطانًا مؤلمًا نكاد أن لا نطيقه. لكنه ينطوي كذلك على رؤيا وموعد للمستقبل لا بدَّ أن يتصاديا في كلِّ قلب بشري.

***

 

1

منذ سنوات خَلَتْ توفي كاتب روائي مرموق. وقد عُثِرَ بين أوراقه على قائمة بحبكات مقتَرَحَة لقصص كان ينوي كتابتها؛ وأبرزها من حيث التشديد عليها هي هذه: "أسرة متباعدة الأفراد جدًّا تَرِثُ بيتًا ينبغي عليهم أن يعيشوا فيه معًا." وتلكم هي مشكلة الإنسانية المستجدة الكبرى. لقد وَرِثْنا دارًا واسعة، "دارًا عالمية" عظيمة، ينبغي أن نحيا فيها معًا – سودًا وبيضًا، شرقيين وغربيين، أممًا ويهودًا، كاثوليك وبروتستانت، مسلمين وهندوسًا – أسرة واحدة، فرَّقتْ عسفًا بينها الأفكارُ والثقافةُ والمصلحةُ، نحن الذين – لأننا لم نعد أبدًا نستطيع أن نحيا متباعدين – يجب أن نتعلَّم، على نحو ما، أن نحيا بعضنا مع بعض بسلام.

ومهما يَكُ من أمر الزنوج الأمريكيين المنخرطين في الكفاح من أجل أن يُعترَف بهم أخيرًا مواطنين في وطننا الولايات المتحدة، لا يجوز أن نتجاهل الدار العالمية الأوسع التي نحن من سكانها أيضًا. فالتساوي مع البيض لن يحلَّ مشكلات البيض ولا الزنوج إذا كان يعني التساوي في مجتمع عالمي مُبتَلى بالفقر وفي كون مقضيٍّ عليه بالفناء في الحرب.

جميع سكان الكوكب باتوا الآن جيرانًا. وهذه الجيرةُ الشاملةُ العالمَ وُجِدَتْ كنتيجة للثورتين العلمية والتكنولوجية. عالم اليوم شاسع الاختلاف عن عالم ما قبل مئة سنة وحسب. فقبل قرن من الزمن لم يكن توماس إديسون قد اخترع بعدُ المصباح المتوهِّج ليجلب الضوء إلى العديد من أماكن الأرض المعتمة؛ ولم يكن الأخوان رايت قد اخترعا بعدُ ذلك الطائر الآلي الباهر الذي قُيِّض له أن ينشر جناحيه العملاقين عِبر السماوات، وسرعان ما يختصر بذلك المسافات ويضع الزمن في خدمة الإنسان؛ وأينشتاين لم يكن بعدُ قد تحدى مسلَّمات الفيزياء، ونظريته في النسبية لم تكن قد طُرِحَتْ بعدُ؛ والبشر، باحثين منذ قرن من الآن عن فهم أفضل، لم يكن لديهم تلفزيون، ولا راديو، ولا تلفونات، ولا صور متحركة، يتواصلون من خلالها؛ وعلوم الطبِّ لم تكن قد اكتشفت بعدُ العقاقير العجائبية التي وضعت حدًّا للعديد من الأوبئة والأدواء. قبل مئة عام لم يكن العسكر قد طوَّروا أسلحة الاحتراب المروِّعة التي نعرفها اليوم – لا قاذفة القنابل، القلعة المحمولة على الهواء التي تُمطِر الموت، ولا النابالم – حارق الأشياء والأجساد كلِّها في طريقه. قبل قرن من الزمن لم تكن ثمة أبنية ناطحة للسحاب تقبِّل النجوم، ولا جسور عملاقة تمتد فوق المياه. لم يكن العلم قد توغَّل بعدُ في أعماق الفضاء ما بين النجوم التي لا يُسبَر لها غور، ولا كان قد نفذ إلى أعماق المحيطات. فهذه الاختراعات كلُّها، هذه الأفكار الجديدة، هذه التطورات الباهرة حينًا، المرعبة أحيانًا، أتت فيما بعد. ومعظمها أتى في غضون الستين عامًا الماضية، متَّسمًا ببطء مبرِّح حينًا، أو بسرعة مذهلة في الغالب، لكنْ دومًا بمغزى هائل لمستقبلنا.

ولسوف تشهد السنون المقبلة استمرارًا للتطورات الدرامية نفسها. فالعلم الفيزيائي سوف يشق طرقًا سريعة جديدة عِبر الستراتوسفير. وفي غضون بضعة سنين على الأغلب، سيمشي ملاحو الفضاء ورُوَّاده الهوينى عِبر دروب القمر المريبة. في غضون سنة أو سنتين، سيكون بالإمكان، بفضل الطيارات النفاثة الفائقة للصوت، الطيران من نيويورك إلى لندن في ساعتين ونصف الساعة. في السنين المقبلة، ستطيل العلوم الطبية أمد أعمار البشر بإيجادها أدوية للسرطان ولأدواء القلب القاتلة. والأتمتة والسيبرنتيكا ستمكِّنان البشر العاملين من التمتع بأوقات فراغ ما كانوا ليحلموا بها. هذه كلُّها صورة باهرة لأثاث الدار العالمية الواسعة التي نعيش فيها، لمشغلها، لغرفها الوسيعة، لديكوراتها ولنموذج معمارها.

وإلى جانب الثورة العلمية والتكنولوجية، شهدنا، على مدى العقود القليلة الأخيرة، كذلك ثورة تحرر امتدت لتشمل العالم. فالانتفاضة الحالية لشعب الولايات المتحدة الزنجي نابعة من إصرار عميق وحماسي لجعل الحرية والمساواة واقعًا "هنا" و"الآن". إن حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة هي، بمعنى من المعاني، ظاهرة أمريكية خاصة ينبغي فهمُها في ضوء التاريخ الأمريكي والتعامُل معها من حيث الوضع الأمريكي. لكن ما يجري في الولايات المتحدة اليوم، على مستوى آخر أهم، هو جزء بالغ الأهمية من تطور عالمي.

إننا نعيش يومًا، على حدِّ قول الفيلسوف ألفرد نورث وايتهِد، "تزيح فيه الحضارة منظورها الأساس؛ منعطفًا حاسمًا في التاريخ، يجري فيه تحليلُ المنطلقات التي يُبنى المجتمع وفقًا لها، وتحدِّيها تحديًا حادًّا، وتغييرها تغييرًا عميقًا". ما نراه الآن هو انفجار للحرية، وإدراك "فكرة آن أوانها"، بحسب عبارة فكتور هوغو. إن هزيم الامتعاض الذي نسمعه اليوم هو رعد الجماهير المحرومة، الناهضة من غياهب الاستبداد إلى تلال الحرية الساطعة. والجماهير الناهضة، في جوقة جليلة واحدة، تنشد كلمات نشيد حريتنا: "لن ندع أحدًا يحوِّلنا عن عزمنا." عبر العالم، تسري الحرية، كالحمَّى، في أوسع حركة تحرير شهدها التاريخ. فجماهير الشعوب العظيمة عاقدة العزم على وضع حدٍّ لاستغلال عروقها وأراضيها. لقد استيقظت، وهي تتحرك نحو غايتها كالموجة العارمة. وبوسعك أن تسمع همهمتها في شوارع كلِّ قرية، على أرصفة الموانئ، في البيوت، بين الطلاب، في الكنائس، وفي الاجتماعات السياسية. إبان عدة قرون تدفق اتجاه التاريخ من أمم أوروبا الغربية ومجتمعاتها إلى بقية العالم في "فتوح" من كلِّ الأنواع. وتلك الفترة – عصر الاستعمار – قد ولَّى. الشرق يزيح الغرب؛ والأرض تجري إعادة توزيعها. أجل، إننا "نزيح منظوراتنا الأساسية".

وهذه التطورات يجب ألا تفاجئ أيَّ دارس من دارسي التاريخ. فالناس المقموعون لا يمكن لهم أن يبقوا مقموعين إلى الأبد. والتشوق إلى الحرية لا بدَّ له من أن يتجلَّى. فالكتاب المقدس يروي القصة الماتعة عن كيفية وقوف موسى في بلاط فرعون منذ قرون وصياحه فيه: "دَعْ شعبي يذهب." وذاك كان فصلاً استهلاليًّا لقصة مستمرة. والكفاح الجاري اليوم في الولايات المتحدة هو فصل لاحق في تلك القصة عينها. ثمة شيء في الداخل ذكَّر الزنجي بأحقِّيته في الحرية؛ وشيء في الخارج ذكَّره بأنه يستطيع أن يفوز بها. لقد علق، من حيث يدري أو من حيث لا يدري، في مصيدة روح الأزمنة، ومع إخوانه السود الأفارقة وإخوانه السُّمر والصُّفر في آسيا وأمريكا الجنوبية والكاريبي، يمضي زنجي الولايات المتحدة قُدُمًا، يحدوه شعور عظيم بالإلحاح نحو الأرض الموعودة للعدالة العِرقية.

لا شيء يمكن له أن يكون أكثر مأساوية على البشر من أن يحيوا في هذه الأزمنة الثورية ويخفقوا في تحقيق المواقف والمنظورات الفكرية الجديدة التي يتطلبُّها هذا الوضع الجديد. فالشيء الواحد الذي نتذكره عادة من قصة رِبْ فان رِنْكل لواشنطن آيرفنغ المعروفة هو أن رِبْ لبث نائمًا مدة عشرين عامًا. غير أن ثمة نقطة هامة أخرى تُتناسى في غالب الأحيان: إنها الراية على الخان في تلك البلدة الصغيرة على الهَدْسُن الذي غادر منه رِبْ ليتسلَّق الجبل من أجل إغفاءته الطويلة. فعندما صعد كانت على الراية صورة ملك إنكلترا جورج الثالث؛ وعندما نزل، بعد عشرين عامًا، كانت على الراية صورة جورج واشنطن. وفيما هو ينظر إلى صورة الرئيس الأول للولايات المتحدة تشوَّش رِبْ وارتبك وضاع؛ إذ لم يكن يعرف مَن هو واشنطن. فالأمر الأكثر استيقافًا للأنظار في هذه القصة ليس في أن رِبْ نام عشرين عامًا، بل في أنه نام إبان ثورة قُيِّض لها أن تبدِّل مسار التاريخ البشري.

إن واحدًا من تصاريف التاريخ العظيمة هي أن الكثير جدًّا من الناس يخفقون في البقاء مستيقظين إبان الفترات العظيمة من التغير الاجتماعي. لكلِّ مجتمع حُماته للوضع الراهن وأخوياته من اللامبالين الذين يشتهرون بنومهم إبان حصول الثورات. لكن نجاتنا نفسها اليوم تتوقف على قدرتنا على البقاء مستيقظين، على التكيف مع الأفكار الجديدة، على البقاء ساهرين، وعلى مجابهة تحدي التغيير. فالدار الكبرى التي نحيا فيها تتطلب منَّا أن نحوِّل هذه الجيرة الواسعةَ العالمَ إلى إخاء يسع العالم أجمع. علينا، معًا، أن نتعلم الحياة كإخوة، وإلا فإننا سوف نضطر إلى الهلاك كالحمقى.

علينا أن نعمل بحماسة، لا يكلُّ لنا ساعد، لردم الهوة بين تقدمنا العلمي وبين تقدمنا الأخلاقي. فواحدة من أعظم مشكلات البشرية هي أننا نعاني من الافتقار إلى الروح التي تقف على طرف النقيض من وفرتنا العلمية والتكنولوجية. فبمقدار ما ازددنا غنًى ماديًّا صرنا أفقر أخلاقيًّا وروحيًّا.

كلُّ إنسان يحيا في عالمين: العالم الداخلي والعالم الخارجي. العالم الداخلي هو ذلك العالم من الغايات الروحية التي يعبِّر عنها الفن والأدب والمناقب والدين؛ والعالم الخارجي هو ذلك العالم المعقَّد بالحيل، والتقنيات، والآليات، والوسائط التي نعيش بواسطتها. ومشكلتنا اليوم هي أننا أجزنا للداخلي أن يضيع في الخارجي؛ أجزنا للوسائل التي نعيش بها أن تبتعد عن الغايات التي نحيا من أجلها. إن مجمل الحياة الحديثة يمكن له أن يُختصَر في عبارة ثورو الموحية: "وسيلة محسَّنة لغاية غير محسَّنة." تلكم هي الورطة الخطيرة، المشكلة العميقة المخيِّمة، التي تواجه الإنسان الحديث. فالقدرات المادية الموسَّعة تهدد بهلاك ماحق إذا لم يرافقها نموٌّ متناسب في الروح. عندما تَسترِقُّ الطبيعةُ الخارجية للإنسان طبيعتَه الداخلية تبدأ غيومُ عاصفةٍ حالكةٌ بالتشكُّل.

والحضارة الغربية عرضة لهذا الخطر بصفة خاصة في هذه اللحظة؛ إذ إن وفرتنا المادية لم تجلب لنا لا راحة البال ولا سكينة الروح. وقد وصف كاتب آسيوي مأزقنا بعباراته الساذجة هذه:

تسمُّون حيلكم المادية الألف "آلات موفِّرة للعمل"، لكنكم "مشغولون" أبدًا. فمع تكثيركم آلاتكم تزدادون إرهاقًا، وجزعًا، وعصبية، وقلة رضا. مهما يكن ما عندكم، تريدون المزيد؛ وأينما كنتم، تريدون الذهاب إلى مكان آخر [...]. آلاتكم ليست لا موفِّرة للوقت ولا مُنجِية للنفس. إنها مجرد كثرة من المهاميز الحادة التي تحضُّكم على اختراع المزيد من الآلات والتلهِّي بمزيد من الأشغال.

ينبئنا هذا بشيء عن حضارتنا لا يجوز لنا أن نضعه جانبًا بوصفه تهمة مغرضة يطلقها مفكر شرقي يحسد الغرب على ازدهاره؛ لا يجوز لنا أن نتهرب من الاتهام.

لكن هذا لا يعني أننا يجب أن نعود القهقرى بساعة التقدم العلمي. فما من أحد يستطيع أن يتجاهل العجائب التي صنعها لحياتنا. فالسيارة لن تستعفي لصالح الحصان والحنطور، ولا القطار لصالح الزلافة، ولا الجرَّار لصالح المحراث اليدوي، ولا المنهج العلمي لصالح الجهل والتطيُّر. بيد أن "تخلفنا" الأخلاقي والروحي يجب أن يُفتدى. عندما ترجح القدرةُ العلمية على القدرة الأخلاقية، تؤول بنا الحال إلى صواريخ "موجَّهة" وبشر فقدوا وجهتهم. وعندما نقلِّص، من جراء حماقتنا، الداخليَّ في حياتنا ونضخِّم الخارجيَّ نوقِّع على التفويض بيوم هلاكنا.

إن رجاءنا بحياة خلاقة في هذه الدار العالمية التي ورثناها يكمن في قدرتنا على إعادة ترسيخ الغايات الأخلاقية لحياتنا في خصالنا الشخصية وعدالتنا الاجتماعية. فمن دون هذه الصحوة الروحية والأخلاقية نقضي على أنفسنا بالدمار في سوء استعمالنا لأدواتنا.

2

بين إلزامات زماننا الأخلاقية، يواجهنا، في أنحاء العالم كافة، تحدي العمل، بإصرار لا يتزعزع، على كَنْس آخر بقايا العِرقية. فمنذ العام 1906، تنبأ و.إ.ب. دوبوا بأن "مشكلة القرن العشرين ستكون مشكلة التمييز بين الناس على أساس اللون". أما وأننا الآن قد قطعنا ثلثي هذه الفترة المثيرة من التاريخ، نعرف حقَّ المعرفة أن العِرقية ما تزال ذلك الكلب الصياد الجهنمي الذي يذرع دروب حضارتنا.

العِرقية ليست مجرد ظاهرة أمريكية؛ إذ إن قبضتها الذميمة لا تعرف حدودًا جغرافية. والواقع أن العِرقية، إلى جانب حليفها الأزلي – الاستغلال الاقتصادي – يزودان بالمفتاح لفهم غالبية التعقيدات الدولية لهذا الجيل.

المثال الكلاسيكي على العِرقية المنظمة والمُمَأْسَسَة هو اتحاد جنوب أفريقيا. فسياسته وممارسته القوميين هما التجسيد لعقيدة التفوق الأبيض وسط سكان سود يشكلون الأغلبية الساحقة. لكن مأساة جنوب أفريقيا لا تنحصر ببساطة في سياستها هي: إنها في جعل حكومة جنوب أفريقيا العِرقية ممكنة بحكم الواقع من جراء السياسات الاقتصادية للولايات المتحدة وبريطانيا العظمى – البلدين اللذين يجاهران بأنهما القلعتان الأخلاقيتان للعالم الغربي.

في بلد تلو الآخر، نشهد أناسًا بيض يشيِّدون الإمبراطوريات على حساب عَرَق الملونين وشقائهم: البرتغال يواصل ممارساته للعمل والقهر العبوديين في أنغولا؛ حكومة إيان سميث في روديسيا مازالت تتمتع بدعم الصناعة ورأس المال الخاص البريطانيَي القاعدة، على الرغم من معارضة سياسة الحكومة البريطانية المنصوص عليها. وحتى في حالة بلد صغير مثل جنوب غرب أفريقيا، نجد أمم العالم القديرة عاجزة عن اتخاذ موقف أخلاقي ضد جنوب أفريقيا، على كونه البلد الأصغر تحت وصاية الأمم المتحدة. فسياساتُه تسيطر عليها جنوب أفريقيا، وقدراتُه البشرية مستدرَجة إلى المناجم تحت شروط العمل العبودي.

إبان إدارة كيندي كان ثمة شيء من الوعي بالمشكلات التي تنسل الشروط العِرقية والاستغلالية في أنحاء العالم الملون كافة؛ وقد ظهر اهتمام مؤقت لتحرير الولايات المتحدة من مشاركتها، على الرغم من أن الجهد اقتصر على المستوى الدبلوماسي. فمن خلال أدلاي ستيفنسون، سفيرنا إلى الأمم المتحدة، برزتْ إرهاصاتٌ لمقاربة فطينة لشعوب العالم الملونة. بيد أنه لم تُبذَل إلا محاولة صغيرة – أو لم تُبذَل محاولة مطلقًا – للتعامُل مع الجوانب الاقتصادية للاستغلال العِرقي. لقد اشتهرنا بالسكوت عن أكثر من 700 مليون دولار من الرأسمال الأمريكي الذي يدعم نظام الأبارتايد – هذا إذا ضربنا كشحًا عن مليارات الدولارات المستثمَرة في التجارة وفي التحالفات العسكرية التي تُستبقى تذرُّعًا بمناهضة الشيوعية في أفريقيا.

لا شيء يزوِّد الشيوعيين بمناخ أفضل للتوسع والتسلُّل من تحالف أمَّتنا المستمر مع العِرقية والاستغلال في أنحاء العالم كافة. وإذا لم ندأب في إصرارنا على اجتثاث آخر بقايا العِرقية في تعامُلاتنا مع بقية العالم، فسرعان ما سنشهد جناياتِ آبائنا تعاود زيارة جيلنا والأجيال اللاحقة. إذ إن الشروط المتمثلة في أفريقيا بهذه الكلاسيكية موجودة كذلك في آسيا وفي ساحة دارنا الخلفية في أمريكا اللاتينية.

ففي كلِّ مكان في أمريكا اللاتينية يجد المرء امتعاضًا هائلاً من الولايات المتحدة؛ وذلك الامتعاض أقوى ما يكون دومًا بين شعوب القارة الأفقر والأشد سُمرة. إن حياة أمريكا اللاتينية ومصيرها مرهونين بشركات الولايات المتحدة. والقرارات المؤثرة في حياة الأمريكيين الجنوبيين تتخذها ظاهريًّا حكوماتُهم، إنما تكاد أن لا توجد أية ديموقراطيات شرعية حيةً في القارة برمَّتها. والحكومات الأخرى تسيطر عليها كارتلات ضخمة واستغلالية تجرِّد أمريكا اللاتينية من مواردها، بينما تحوِّل مردودًا ضئيلاً إلى بضعة أفراد من أرسطوقراطية فاسدة، تستثمر، بدورها، ليس في بلادها، من أجل رفاه شعوبها، بل في بنوك سويسرا وملاعب العالم.

نرى هنا العِرقية في شكلها الأكثر حنكة: الكولونيالية الجديدة. يزخر الكتاب المقدس وسجلات التاريخ بقصص مأساوية عن أخٍ ينتزع من أخيه أحقِّيته، وبذلك يقدِّر على أجيال بأسرها النزاع والعداوة. إن حظوظنا من النجاة من مثل هذا الحكم في أمريكا اللاتينية تكاد تماثل قدرتنا على النجاة من حصاد الكراهية المبذور في فييتنام إبان قرن من الاستغلال الفرنسي.

ثمة إغراء مريح في عَزْو الاضطراب والمرارة الحاليين في أنحاء العالم كافة إلى وجود المؤامرة الشيوعية لتقويض أوروبا وأمريكا، لكن وضع عالمنا الانفجاري الكامن قابل لعزوه أكثر بكثير إلى خيبة الآمال من وعود المسيحية والتكنولوجيا.

لقد تلقَّى زعماءُ أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية الثوار كلُّهم تقريبًا تعليمهم في عواصم الغرب. ومرارًا ما حصَّلوا تأهيلهم المبكر في مدراس الإرساليات المسيحية؛ فهاهنا ترسَّخ شعورُهم بالكرامة، وتعلَّموا أن البشر أجمعين أبناءُ الله. وفي السنوات الأخيرة اجتاحتْ بلادَهم السياراتُ والكوكاكولا وهوليوود، بحيث إن قراهم النائية حتى وَعَتْ المعجزات والبركات التي ينعم بها أبناءُ الله من البيض.

وحالما تهيِّج عجائبُ التكنولوجيا الغربية أشواقَ العالم وغرائزه، ويوقظ الدينُ صورةَ الذات لدى شعب، لا يمكن لأحد أن يأمل بإبقاء الناس محبوسين خارج المملكة الأرضية للثراء والصحة والسعادة. فإما أن يشاركوا في بركات العالم، وإما أن ينتظموا لتقويض وقلب تلك البُنى أو الحكومات التي تحول بينهم وبين أهدافهم.

لم تكن الأجيال السابقة لتتصور وجود مثل هذا الرغد، لكن أبناءهم يتلقون هذه الرؤية ويطالبون بأن تصير واقعًا. وهم، عندما ينظرون من حولهم ويرون أن الأناس الوحيدين الذين لا يشاركون في وفرة التكنولوجيا الغربية هم الملونون، يكاد يكون لا مفرَّ لهم من الاستنتاج بأن شرطهم واستغلالهم مرتبطان، على نحو ما، بلونهم وبعِرقية العالم الغربي.

يا له من أساس غير مأمون لدار عالمية! فالعِرقية يمكن لها أن تكون ذلك الشرَّ الناخر الذي سيسدل الستار على الحضارة الغربية برمَّتها. ولقد قال أرنولد توينبي بأن حوالى 26 حضارة قامت على وجه الأرض؛ وجميعها تقريبًا سقطت في أكوام سقط متاع الدمار. وأفول هذه الحضارات وسقوطها، بحسب توينبي، لم يكن يعود بأسبابه إلى الغزوات الخارجية، بل إلى التحلُّل الداخلي. لقد أخفقت في الاستجابة استجابةً خلاقةً للتحديات التي طرقت أبوابها. فإذا لم تستجب الحضارة الغربية الآن لتحدي إلغاء العِرقية استجابةً بنَّاءة فإن مؤرخًا من مؤرِّخي المستقبل سوف يقول إن تلك حضارة عظيمة ماتت لأنها افتقرت إلى الروح وإلى الالتزام بجعل العدالة حقيقة حية للبشر أجمعين.

من المشكلات الخطيرة الأخرى التي لا بدَّ من حلِّها إذا أردنا أن نحيا حياة خلاقة في دارنا العالمية مشكلةُ الفقر على السلَّم الدولي. فهي، كالأخطبوط العملاق، تمد جراميزها الملتفة والخانقة إلى الأراضي والقرى في العالم قاطبة. ثلثا سكان العالم يأوون إلى الفراش ليلاً جائعين؛ وهم يعانون من سوء التغذية، ورداءة المأوى، ورثاثة الملبس. العديد منهم لا بيت لهم أو فراشًا ينامون عليه؛ أسرَّتهم الوحيدة هي أرصفة المدن وطرقات القرى المغبرَّة. وغالبية أبناء الله المبتلين بالفقر هؤلاء لم يروا في حياتهم طبيبًا أو طبيب أسنان.

لا شيء جديدًا بخصوص الفقر. أما الجديد، في المقابل، فهو أن لدينا الآن الموارد للتخلص منه. فمنذ عقدين تقريبًا كتب الجيولوجي من هارفرد، الدكتور كُرتلي ماذر، كتابًا بعنوان الكفاية والوفر. وقد أطلق الثيمة الأساسية التي مفادها أن المجاعة غير ضرورية بالكامل في العالم الحديث. لذا فإن المسألة التي يجب أن تنص عليها الأجندة اليوم هي: لماذا يكون ثمة جوع وحرمان في أيِّ أرض، في أية مدينة، على أية مائدة، أصلاً، ولدى الإنسان الموارد والخبرة العلمية لتأمين ضروريات الحياة الأساسية للبشرية جمعاء؟ فحتى الصحارى يمكن ريُّها، ويمكن لقشرة التربة أن يُستبدَل بها غيرُها. لا يجوز لنا أن نشكو نقصًا في الأراضي؛ إذ ثمة 25 مليونًا من الأميال المربعة من الأراضي القابلة للزراعة على الكوكب، لا نستخدم منها إلا أقل من سبعة ملايين. لدينا معرفة مذهلة بالفيتامينات، والتغذية، وكيمياء الطعام، وتقلبات الذرات. ليس ثمة قصور في الموارد البشرية؛ التقصير هو في الإرادة البشرية.

هذا لا يعني أنه يجوز لنا أن نتغاضى عن التسارع الهائل في نسبة النموِّ في عدد سكان العالم. فالانفجار السكاني واقع حقيقي، ويجب أن يواجَه كما ينبغي إذا كنَّا نريد أن نتجنب، في القرون المقبلة، وضعًا لا يجد فيه المرءُ إلا "مكانًا وقوفًا فقط" على هذه السواحل الأرضية. فأغلب الأمم الكبيرة غير النامية في العالم اليوم تواجهها مشكلةُ زيادة السكان بالنسبة إلى الموارد. لكن حتى هذه المشكلة سوف تتضاءل إلى حدٍّ كبير بالتخلص من الفقر: إذ عندما يرى الناس فرصًا أكبر لتعليم أفضل وأمانًا اقتصاديًّا أعظم، فإنهم يبدؤون في النظر فيما إذا لم تكن أسرة أصغر أفضل لهم ولأطفالهم. بعبارة أخرى، أشك في إمكان التوصل إلى استقرار سكاني من دون وجود استقرار مسبق في الموارد الاقتصادية.

لقد آن الأوان لشنِّ حرب عالمية معلنة على الفقر. على الأمم الغنية أن تستعمل مواردها الهائلة من الثراء لتنمية قليلي التنمية، وتعليم غير المتعلِّمين، وإطعام الجياع. فالمسترخون والآمنون غالبًا ما صاروا غير مبالين بالفقر والحرمان بين ظهرانيهم، متناسين لهما. فأذهاننا باتت موصدة دون الفقراء في بلادنا، الذين أُقصوا من التيار الرئيس في مجتمعاتنا، وذلك لأننا أجزنا لهم بأن يصيروا غير مرئيين. الأمَّة العظيمة، في المآل الأخير، أمَّة رحيمة. وما من فرد أو أمَّة تستطيع أن تكون عظيمة إذا لم يكن لديها اهتمام بـ"أصغر هؤلاء".

الخطوة الأولى في الحرب العالمية على الفقر هي الالتزام الحماسي: على الأمم الثرية كافة – أمريكا، بريطانيا، روسيا، كندا، أستراليا، وأمم أوروبا الغربية – أن تعمل، بدافع الواجب الأخلاقي، على تأمين المعونة المالية والمساعدة التقنية للمناطق غير النامية. إذ ثمة حاجة الآن إلى وضع استراتيجية عامة للدعم. فالإسعاف المؤقت هنا وهناك لن يكفي، كما لن يدعم النموَّ الاقتصادي. ينبغي أن يُبذَل جهدٌ موصول يمتد على سنوات عديدة. على أمم العالمة الثرية أن تسارع إلى الشروع في تنفيذ خطة مارشال واسعة، متواصلة، في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية. فإذا ارتضت أن تخصص 2% وحسب من مجمل إنتاجها القومي، لمدة عشرة أعوام أو عشرين عامًا، لتنمية الأمم الضعيفة النامية فإن البشرية ستقطع شوطًا طويلاً في قهر عدوِّها القديم: الفقر.

غير أن برنامج المعونة الذي أقترحه يجب ألا تستخدمه الأمم الثرية كوسيلة خفية للسيطرة على الأمم الفقيرة. فمثل هذه المقاربة لا بدَّ أن تقود إلى شكل جديد من أشكال الأبوية والاستعمار الجديد، لا ترتضيه لنفسها أيةُ أمَّة تحترم ذاتها. على برامج المعونة الأجنبية، في المآل، أن يحركها دافعُ الجهد الرحيم والملتزم لإزالة الفقر والجهل والمرض من على وجه البسيطة. فالمال، مجرَّدًا من التعاطف، كالملح الذي لا نكهة له، لا يصلح لشيء إلا لتطأه أقدام البشر.

على الغرب أن يشارك في البرنامج بروح التواضع والتكفير، وبإدراك رزين أن الأمور لا تجري دومًا "على ما نشتهي". فلا يجوز أن ننسى بأن القوى الغربية كانت، بالأمس القريب وحسب، هي السادة المستعمرون. إن بيت الغرب أبعد ما يكون عن الترتيب، وأيديه أبعد ما تكون عن الطهارة.

يجب أن نتحلَّى بالصبر. يجب أن نكون مستعدين لفهم لماذا لا مندوحة للعديد من الأمم الفتية من أن تختبر خواص التطرف والثورة والعدوان نفسها التي شكَّلتْ تاريخنا نحن. فكلُّ حكومة جديدة تواجه مشكلات طاغية. ففي أثناء الأيام التي كانت تناضل من أجل رفع نير الاستعمار كان ثمة نوع من وحدة الهدف المسبقة التي حافظت على سير الأمور في اتجاه واحد متماسك. لكن مع نيل الاستقلال، سرعان ما واجهتْها مشكلاتُ الحياة الضاريةُ بواقعية مطبقة: نقص رأس المال، الفقر الخانق، نِسَبُ الولادات المستشرية، وفوق هذا كلِّه، المستوى التشوقي العالي لشعوبها. فالفترة ما بعد الكولونيالية أصعب وأقل أمنًا من النضال ضد الاستعمار نفسه.

على الغرب أن يفهم أيضًا أن نموَّه الاقتصادي حصل تحت ظروف سانحة: فقد كانت غالبية الأمم الغربية ضعيفة الكثافة السكانية عندما اندفعت اقتصاديًّا إلى الأمام وأُنعِمَ عليها إنعامًا عظيمًا بخامَي الحديد والفحم الحجري الضروريين لإطلاق الصناعة. أما اليوم، فإن غالبية حكومات العالم الفتية ظهرت إلى الوجود من دون هذه الميزات؛ وهي، إلى ذلك، تواجه مشكلات صاعقة من جراء التزايد السكاني. وليس لها من سبيل ممكن للخروج من هذا المأزق من دون معونة أو مساعدة.

إن من شأن برنامج حقيقي تضعه الأمم الثرية لجعل الازدهار واقعًا تستفيد منه الأمم الفقيرة أن يوسع ازدهار الجميع، في التحليل النهائي. ومن أفضل البراهين على أن الواقع منوط بالأسُس الأخلاقية أنه حينما يعمل البشر والحكومات مخلصين من أجل خير الآخرين فإن هذا يعود عليهم بالثراء.

منذ قديم الزمان والبشر يعيشون وفقًا لمبدأ "المحافظة على الذات هو أول قوانين الحياة". لكن هذه مسلَّمة زائفة. إني أذهب إلى القول بأن المحافظة على الآخر هو أول قوانين الحياة؛ وهو أول قوانين الحياة بالضبط لأننا لا نستطيع أن نحافظ على الذات ما لم نهتم للمحافظة على الذوات الأُخَر. الكون مبني بحيث إن الأشياء فيه تصير عوجاء إذا لم ينصرف الناس إلى تعزيز بُعْد رعاية الآخر. "أنا" لا يستطيع أن يبلغ تحقًّقه من دون "أنت"؛ والذات لا يمكن لها أن تكون ذاتًا دون وجود ذوات أخرى. التركيز على المصلحة الذاتية دون مصلحة الآخر أشبه ما يكون برافد نهريٍّ لا مجرى خارجيًّا له إلى المحيط؛ فهو إذ يركد ويهدأ ويبيت، يفتقر إلى كلا الحياة والنضارة. ولا شيء يعْدِلُ في كارثيَّته وخروجه على التناغم مع مصلحتنا الذاتية من قيام الأمم المتقدمة بالسفر في طريق الأنانية الفاحشة المسدودة الآخِر. إن من نِعَمِ الحياة علينا أننا في موقع يتقاطع فيه حسُّنا الأخلاقي الأعمق مع مصلحتنا الذاتية.

لكن السبب الحقيقي الذي يحدو بنا إلى استعمال مواردنا لمكافحة الفقر يتعدَّى الاهتمامات المادية إلى نوعية الذهن والروح. إن اليقين بأن البشر مصنوعون على صورة الله وبأنهم أنفُسٌ ذات قيمة ميتافيزيائية لانهائية منتسج بعمق في نسيج منقولاتنا الدينية. فإذا قبلنا بهذا الأمر على أنه واقع أخلاقي عميق لا يجوز لنا أن نرضى برؤية بشر جائعين، برؤية بشر مبتلين بالمرض، عندما تتوفر لدينا الوسائل لمساعدتهم. وفي التحليل الأخير، على الأغنياء ألا يتجاهلوا الفقراء لأن الأغنياء والفقراء جميعًا مترابطون: لقد ولجوا بوابة الولادة البشرية السرية عينها، وخاضوا مغامرة الحياة الفانية نفسها.

البشر جميعًا متواكلون. كلُّ أمة فهي وريثة مخزون هائل من الأفكار والعمل، أسهم فيه الأحياء والأموات جميعًا من سائر الأمم. وسواء أدركنا ذلك أم لم ندركه، يعيش كلٌّ منَّا أبدًا "عالة على غيره". نحن مدينون إلى الأبد لرجال ونساء معروفين ومجهولين. عندما ننهض في الصباح، نذهب إلى الحمام، حيث نمد يدنا لنتناول إسفنجة يوفرها لنا أحد سكان جزر المحيط الهادي؛ نمد يدنا لنتناول لوح صابون يصنعه لنا أوروبي؛ ثم، عندما نجلس إلى المائدة، نشرب قهوة يوفرها لنا أمريكي جنوبي، أو شايًا يوفره لنا صيني، أو كاكاو يوفره لنا أفريقي. وقبل أن نغادر إلى العمل نكون مدينين بالفضل لأكثر من نصف العالم.

الحياة بأسرها مترابطة، بمعنى حقيقي. شقاء الفقراء يُفقِر الأغنياء؛ والارتقاء بالفقراء يُثري الأثرياء. كلٌّ منَّا حارس أخيه حتمًا لأن كلاً منَّا أخو أخيه. وكلُّ ما يؤثر في الواحد مباشرة يؤثر في الجميع تأثيرًا غير مباشر.

المشكلة الأخيرة التي ينبغي على البشرية أن تحلَّها لكي تنجو في الدار العالمية التي ورثناها هي إيجاد بديل للحرب والدمار الإنساني. لقد ذكَّرتنا الأحداث الأخيرة تذكيرًا بليغًا بأن الأمم لا تقلِّص ترساناتها من أسلحة الدمار الشامل، بل، بالأحرى، تزيد منها. إن خيرة الأدمغة في أمم العالم الفائقةِ التقدم مكرَّسة للتكنولوجيا العسكرية. وانتشار الأسلحة النووية لم يتوقف، على الرغم من اتفاقية الحدِّ من التجارب.

في هذا اليوم الذي بلغت فيه الإنجازات التقنية أوْجَها، في هذا اليوم الزاخر بالمكتشفات المذهلة، بالفرص الجديدة، بالكرامات الأرفع والحريات الأكمل للجميع، لا عذر لهذا النوع من الشهوة العمياء إلى السلطان وإلى الموارد التي أشعلت حروب الأجيال السابقة. لا حاجة إلى الاقتتال على القوت والأرض. لقد وفَّر لنا العلمُ الوسائلَ الملائمة للاقتيات والانتقال، بما يجعل بالإمكان التمتع بامتلاء هذه الأرض العظيمة. والمسألة الآن هي: هل نتحلَّى بالمناقبية وبالشجاعة المطلوبتين للحياة معًا كإخوة، من دون خوف؟

إن واحدًا من الغوامض المقيمة التي نواجهها هو أن الجميع يتحدث عن السلام كهدف، لكن السلام، بين أصحاب السلطان، ليس – عمليًّا – من شأن أحد! الكثيرون قد يصيحون: "سلام! سلام!"، لكنهم يرفضون أن ينهضوا للأمور التي تصنع السلام.

إن كتل القوة الكبرى تتحدث بحماسة عن السعي إلى السلام، بينما توسِّع في ميزانيات دفاعها، المتخمة أصلاً، مضخِّمةً جيوشًا مرعبة أصلاً، ومصمِّمةً أسلحةً أشد فأشد فتكًا. تفقَّدْ أسماء أولئك الذين ينشدون بشائر السلام البهيجة، ولا بدَّ أن تفاجَأ أذناك بالأصوات الملبِّية. زعماء الأمم جميعًا يصدرون نداءات مجلجِلة للسلام؛ لكنهم يأتون إلى طاولة السلام في صحبة عصابات من اللصوص، يشهر كلٌّ منهم سيفًا ماضيًا.

أشواط التاريخ حافلة بأناشيد وجوقات فاتحي الماضي الذين أتوا قاتلين سعيًا إلى السلام. الإسكندر المقدوني، جنكيز خان، يوليوس قيصر، شارلمان، ونابليون كانوا متشابهين في سعيهم إلى إقامة نظام عالمي سِلمي، عالمٍ مصنوع بحسب تصوراتهم الأنانية عن وجود مثالي. سعى كلٌّ منهم إلى عالم يسوده السلام يجد فيه تشخيصًا لأحلامه الأنانية. وحتى في غضون أعمار غالبيتنا، تهادى مصابٌ آخر بجنون العظمة على خشبة مسرح العالم. لقد أرسل جحافله الضاربة مكتسحةً أوروبا، زارعةً الخراب والمحارق في أعقابها. وإن لمن المساخر الخطيرة أن هتلر ظهر، مطبِّقًا نظريات محض عدوانية توسعية، وفعل ذلك كلَّه باسم السلام!

بذلك فإني عندما أرى، في يوم الناس هذا، زعماء الأمم يتحدثون من جديد عن السلام، فيما هم يحضِّرون للحرب، أقف مرتاعًا. عندما أرى بلادنا اليوم تتدخل فيما هو أساسًا حرب أهلية، مشوِّهةً مئات الألوف من الفييتناميين بالنابالم، حارقةً القرى وحقول الرز خبط عشواء، داهنةً وديان ذلك البلد الآسيوي الصغير الوادع بحمرة الدم البشري، تاركةً أجسامًا محطمة في خنادق لا تُحصى، ومُرجِعةً إلى الوطن أنصاف رجال، مشوَّهين ذهنيًّا وجسميًّا؛ عندما أرى إحجام حكومتنا عن إيجاد مناخ لحلٍّ تفاوُضي لهذا النزاع المريع بالتوقف عن قصف الشمال بالقنابل والموافقة، بلا مواربة، على محادثة الفييتكونغ – ترتعد فرائصي على عالمنا. ولا أفعل ذلك نتيجة استذكاري الفظيع للكوابيس النوازل في حروب الأمس وحسب، بل كذلك من جراء إدراكي المرتاع لقدرة اليوم التدميرية الممكنة ولاحتمالات الغد الأكثر فجائعية أيضًا.

علينا، قبل فوات الأوان، أن نضيق الشِّقة الفاصلة بين تصريحاتنا المطالِبة بالسلام وبين أفعالنا الوضيعة التي تعجِّل في الحرب وتُطيل أمَدَها. نحن مدعوون إلى الكفِّ عن الخوض في سِباخ البرامج العسكرية والالتزامات الدفاعية وإلى قراءة التحذيرات المكتوبة على لوحات إرشاد التاريخ.

لا بدَّ لنا في يوم من الأيام أن ندرك بأن السلام ليس مجرد غاية نائية نسعى إليها، بل وسيلة نبلغ بها تلك الغاية. علينا أن نسعى إلى غايات سلمية عبر وسائل سلمية. كم سيطول بنا اللعب بألعاب الحرب القاتلة قبل أن نبالي بالتوسلات الشاكية لقتلى ومعطوبين بلا عدٍّ من الحروب السابقة؟

قال الرئيس جون ف. كينِّدي في إحدى المناسبات: "على البشرية أن تضع حدًّا للحرب لئلا تضع الحربُ حدًّا للبشرية." من شأن الحكمة المولودة من الخبرة أن تخبرنا بأن أوان الحرب قد ولَّى. ربما كان ثمة وقت خدمتْ فيه الحربُ كخير سلبي بالحيلولة دون انتشار قوة شريرة ونموِّها، لكن القدرة التدميرية للأسلحة الحديثة تزيل حتى إمكانية أن تخدم الحرب أيَّ خير على الإطلاق. فإذا افترضنا أن الحياة تستحق أن تعاش، وأن من حقِّ الإنسان أن يبقى، إذ ذاك يجب أن نجد بديلاً للحرب. في يوم تُطلَقُ فيه المركبات عِبر الفضاء الخارجي وتشق الصواريخ البالستية طرق موتٍ عِبر الستراتوسفير، ليس لأية أمَّة أن تدَّعي النصر في الحرب. فإن من شأن حرب محدودة مزعومة أن تخلِّف أكثر قليلاً من ميراث فجائعي من العذاب الإنساني والاضطراب السياسي والخيبة الروحية. أما حرب عالمية فلن تخلِّف إلا رمادًا متقدًا، شاهدًا أخرس على جنس بشري قاده جنونُه قيادةً محتومة إلى الموت النهائي. فإذا استمر الإنسان الحديث في مغازلة الحرب بلا وازع، فإنه سوف يحوِّل موطنه الأرضي إلى جحيم يعجز حتى عقل دانتي عن تخيُّله.

لذا أقترح أن تصير فلسفة اللاعنف واستراتيجيته على الفور موضع دراسة واختبار جدِّيين في حقول النزاع البشري كافة، بما لا يستبعد العلاقات بين الأمم بأية حال من الأحوال. إذ إن الأمم–الدول هي، في النهاية، صانعة الحروب ومنتجة الأسلحة التي تهدد بقاء الجنس البشري والتي تتصف بخاصيتَي الإبادة الجماعية والانتحار.

لدينا عادات بالية ينبغي لنا التعامُل معها، بُنى شاسعة من القدرة، مشكلات فيها من التعقيد ما لا يوصَف لا بدَّ لنا من حلِّها. لكننا ما لم نتنازل عن إنسانيتنا جملةً وننصاع للخوف والعجز أمام الأسلحة التي اخترعناها بأنفسنا، فإن وضع حدٍّ للحرب والعنف بين الأمم لا يقل إمكانية وإلحاحًا عن وضع حدٍّ للفقر وللجور العِرقي.

والأمم المتحدة خطوة في اتجاه اللاعنف على السلَّم العالمي. فهناك، على الأقل، تسعى الدول المتخاصمة إلى التخاصُم بالكلمات بدلاً من الأسلحة. غير أن اللاعنف الحق هو أكثر من مجرَّد غياب العنف. إنه تطبيق القدرة السلامية، المثابر والعازم، على الاعتداء على الجماعة – وهي الجماعة العالمية في حالتنا. وفيما تمضي الأمم المتحدة قُدُمًا، تحدوها المهمات العملاقة التي تواجهها، يتولاني الأمل بأن تفحص بنيَّة صادقة عن فوائد العمل اللاعنفي المباشر.

لست أقلِّل من شأن تعقيد المشكلات التي ينبغي مواجهتها في تحقيق نزع السلاح والسلام. لكني على قناعة بأننا لن نتحلَّى بالإرادة والشجاعة والبصيرة للتعامُل مع مثل هذه الأمور ما لم نكن في هذا المجال مستعدين للخضوع لإعادة نظر ذهنية وروحية، لتغيير في بؤرة التركيز يمكِّننا من رؤية أن الأشياء التي تبدو أكثر ما تكون حقيقيةً وقوةً باتت الآن بالفعل غير حقيقية ومحكومًا عليها بالموت. نحن في حاجة إلى بذل جهد خارق لتوليد الاستعداد، بل التشوُّق، للدخول إلى عالم جديد أصبح الآن ممكنًا: "المدينة التي لها أساس، التي بانيها وصانعها هو الله."

ليس يكفي القول: "يجب ألا نشنَّ حربًا." بل من الضروري أن نحب السلام وأن نضحي من أجله. يجب ألا نركِّز على إزالة الحرب وحسب، بل على التأكيد على السلام. هناك قصة بديعة عن عوليس والهنَّادات محفوظة لنا في الأدب الإغريقي. كانت للهنَّادات القدرة على غناء هو من العذوبة بحيث لم يكن بمقدور البحارة مقاومة إغراء إدارة الدفة نحو جزيرتهن. وبذلك كانت سفن كثيرة تجنح على الصخور، وكان الرجال ينسون الوطن والواجب والشرف وهم يرتمون في البحر لكي تعانقهم أذرعٌ تنزل بهم إلى أسفل دركات الموت. أما عوليس، العازم على عدم الرضوخ للهنَّادات، فقد قرَّر أولاً تقييد نفسه إلى صارية مركبه وحشو آذان طاقمه بالشمع. لكنه أخيرًا تعلَّم وطاقمَه وسيلةً أفضل للنجاة بأنفسهم: اصطحبوا على متن مركبهم المغني الجميل أورفيوس، الذي كانت ألحانُه أجمل من موسيقى الهنَّادات. فعندما كان أورفيوس يغني مَن ذا كان يعبأ بالاستماع إلى الهنَّادات؟

كذا فإننا يجب أن ندرك بأن السلام يمثل موسيقى أعْذَب، لحنًا كونيًّا أرقى بما لا يقاس من نشازات الحرب. علينا، على نحو ما، أن نحوِّل ديناميات قدرة العالم على الصراع عن سباق التسلح النووي، الذي لا يمكن لأحد أن يفوز فيه، إلى سياق خلاق يسخِّر عبقرية الإنسان بقصد جعل السلام والازدهار واقعًا لأمم العالم كافة. وباختصار، علينا أن ننتقل بسباق التسلح إلى "سباق للسلام". فإذا تحلَّينا بالإرادة والعزم للإعداد لمثل هذا الهجوم السلامي، فإننا سنفتح أبواب الرجاء التي ظلَّت حتى الآن موصَدة، ونضيء نورًا جديدًا في حجرة التشاؤم المعتمة.

3

إن استقرار الدار العالمية الواسعة التي هي دارنا سينطوي على ثورة في القيم تصاحب ثورتَي العلم والحرية اللتين تغمران الأرض. علينا أن نبدأ سريعًا بالانتقال من مجتمعٍ "شيئيِّ التوجُّه" إلى مجتمعٍ "شخصيِّ التوجُّه". فعندما تُعَدُّ الآلات والكمبيوترات، ودوافع الفائدة وحقوق الملكية، أهم من الناس فإن مثلث العِرقية والمادية والعسكرة العملاق لا يُقهَر. إذ إن من شأن الحضارة أن تتخبط سريعًا في وجه الإفلاس الأخلاقي والروحي بمقدار ما تتخبط من جراء الإفلاس المالي.

وعلى الثورة في القيم أن تتعدَّى الرأسمالية والشيوعية التقليديين. علينا أن نعترف بنزاهة بأن الرأسمالية مرارًا ما خلَّفت هوة بين الثراء الفاحش والفقر المدقع، وأوجدت شروطًا تجيز انتزاع الضروريات من الكثرة لإعطاء الكماليات للقلة، وشجعت بشرًا صغار النفوس على أن يصيروا باردين وعديمي الضمير، بحيث إنهم، مثلهم كمثل الغني أمام لعازر، لا يأبهون للبشرية الشقية، المبتلاة بالفقر. فالدافع إلى الكسب، حينما يكون الأساس الأوحد لمنظومة اقتصادية، يشجع على تنافُس تناحري وعلى طموح أناني يُلهِم الناس بأن يكونوا أكثر تمركزًا على الأنا منهم على الأنت. والشيوعية، على حدٍّ سواء، تختزل البشر إلى ترس في آلة الدولة. وقد يعترض الشيوعي قائلاً إن الدولة، في النظرية الماركسية، هي "واقع وقتي" لا بدَّ أن "يضمحل" بظهور مجتمع اللاطبقات. صحيح – نظريًّا؛ لكنْ لا يقل عن ذلك صحة أن الدولة، مادامت، هي غاية في حدِّ ذاتها، والإنسان وسيلة إلى تلك الغاية، ليست له حقوق لا يجوز التصرف بها؛ فحقوقه الوحيدة مشتقة من الدولة وممنوحة من قِبَلها. فتَحْتَ ظلِّ مثل هذا النظام يجف نبع الحرية. مقيدةً تكون حريات الصحافة والتجمع للإنسان، وكذلك حريته في التصويت والاستماع والقراءة.

أما الحقيقة فلا توجد لا في الرأسمالية التقليدية، ولا في الشيوعية الكلاسيكية. كلٌّ منهما يمثل حقيقة جزئية: الرأسمالية تخفق في رؤية الحقيقة في الجمعانية؛ والشيوعية تخفق في رؤية الحقيقة في الفردانية. الرأسمالية تخفق في إدراك أن الحياة اجتماعية؛ والشيوعية تخفق في إدراك أن الحياة شخصية. والمجتمع الطيب العادل ليس طريحة الرأسمالية، ولا هو بنقيضة الشيوعية، بل هو ديمقراطية واعية اجتماعيًّا، تصالح بين حقيقتَي الفردانية والجمعانية.

ولقد رأينا بعض الخطوات في هذا الاتجاه. فالاتحاد السوفييتي ابتعد تدريجيًّا عن شيوعيته الجامدة وبدأ يهتم لمنتوجات المستهلك، للفن، ولزيادة المكاسب للمواطن الفرد. وفي الوقت نفسه، عِبر إصلاحات اجتماعية مستمرة، رأينا العديد من التعديلات على رأسمالية "اليُسْر الاقتصادي". والمشكلة التي نواجهها اليوم يجب أن تجعلنا نتخطَّى الشعارات المنادية بحلِّها. ففي التحليل النهائي، لا تقل شعارات الجناح اليميني حول "سيطرة الحكومة" و"الاشتراكية المتسلِّلة" تفاهةً وصبيانيةً عن شعارات الحرس الأحمر الصيني ضد "الاجتهادية البورجوازية". إن من شأن مقاربة فطينة لمشكلات الفقر والعِرقية أن تدفعنا إلى إدراك أن كلمات صاحب المزامير – "لله الأرض وكلُّ ما عليها" – مازالت حُكمًا على استعمالنا للثروة والموارد التي وُهِبْنا إياها وعلى تفريطنا فيها.

إن ثورة حقيقية في القيم سرعان ما سوف تجعلنا نشكِّك في إنصاف العديد من سياساتنا الماضية والحاضرة وفي عدالتها. نحن مدعوون إلى لعب دور السامري الصالح على قارعة طريق الحياة؛ لكن هذا سيكون فعلاً ابتدائيًّا وحسب. فذات يوم، سوف يتحوَّل الطريق إلى أريحا برمَّته، بحيث إن الرجال والنساء لن يُضرَبوا أو يُنهَبوا وهم ماضون في رحلتهم عبر الحياة. الرحمة الحق هي أكثر من مجرَّد رمي قطعة نقود في وجه متسول؛ إنها تعني أن صرحًا ينتج متسوِّلين يحتاج إلى إعادة ترتيب جذرية.

وإن ثورة حقيقية في القيم سرعان ما سوف تنظر بعدم ارتياح إلى التناقض الفاقع بين الفقر والغنى. وبامتعاضٍ يتحرَّى الحق، سوف تنظر إلى آلاف العاملين يُزاحون من أعمالهم بمداخيل مقلَّصة نتيجة الأتمتة، بينما تبقى مكاسب أرباب العمل على حالها لم تُمَسَّ، فتقول: "هذا ليس عدلاً." سوف تنظر عبر المحيطات، فترى رأسماليي الغرب الأفراد يستثمرون أموالاً طائلة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، لمجرَّد أن يجنوا من ذلك الأرباح، بلا اهتمام بتطوير البلاد اجتماعيًّا، وتقول: "هذا ليس عدلاً." سوف تنظر إلى تحالفنا مع أعيان أمريكا اللاتينية من أصحاب الأراضي وتقول: "هذا ليس عدلاً."

إن العنجهية الغربية التي تشعر بأن لديها كلَّ شيء تعلِّمه للآخرين ولا شيء تتعلَّمه منهم ليست عدلاً. إن ثورة حقيقية في القيم سوف تمد أيديها إلى النظام العالمي وتقول عن الحرب: "هذه الطريقة في حلِّ الخلافات ليست عادلة." هذه الطريقة في إحراق البشر بالنابالم، في ملء بيوت الأمَّة بالأيتام والأرامل، في حقن عقاقير الكراهية السامة في أوردة الشعوب – السَّمْحة وهي في حالتها السوية – في إعادة الرجال من ساحات القتال المعتمة والدامية إلى الوطن، معوقين جسمانيًّا ومختلِّين نفسيًّا، لا يمكن لها أن تتوافق مع الحكمة والعدل والمحبة. إن أمَّة تُواصِل، عامًا بعد عام، الإنفاقَ على الدفاع العسكري أكثر منه على برامج الترقِّي الاجتماعي لهي أمَّة تدنو من الموت الروحي.

إن بوسع أمريكا – أغنى أمم العالم وأقواها – أن تقود عن جدارة الطريق إلى هذه الثورة في القيم. ولا شيء يمنعنا من دفع رواتب لائقة لمعلِّمي المدارس والاختصاصيين الاجتماعيين وغيرهم من الموظفين الحكوميين لتأمين وجود أفضل المستخدَمين في هذه المواقع لتحمُّل مسؤولية إرشاد أجيالنا القادمة. لا شيء غير النقص في الرؤيا الاجتماعية يحول بيننا وبين دفع أجور لائقة لكلِّ مواطن أمريكي، سواء كان عاملاً في مستشفى، أو عامل غسل ثياب، خادمة، أو عاملاً يوميًّا. لا شيء إلا قصر النظر يحول بيننا وبين تأمين دخل سنوي أدنى – وكافٍ – لكلٍّ أسرة أمريكية. لا شيء غير تمنٍّ مأساوي للموت يحول بيننا وبين إعادة ترتيب أولوياتنا، بحيث يكون للسعي إلى السلام الأسبقية على السعي إلى الحرب. لا شيء يمنعنا من إعادة قولبة أمر واقع مستعصٍ، قوامه أيدٍ مكسَّرة، لكي نصنع منه أخوَّة.

هذا النوع من الثورات في القيم هي أفضل دفاع لنا ضد الشيوعية. فالحرب ليست هي الجواب. والشيوعية لن تُهزَم باستعمال القنابل الذرية أو الأسلحة النووية. دعونا لا ننضم إلى أولئك المتنادين إلى الحرب، الذين، من خلال أهوائهم الضالَّة، يحضون الولايات المتحدة على التخلِّي عن عضويتها في الأمم المتحدة. فهذه أيام تتطلب تمالُك النفس الحكيم والتعقُّل الهادئ. يجب ألا نَصِمَ بالشيوعية أو بالدعوة إلى التهدئة كلَّ مَن يدعو إلى استضافة الصين الحمراء إلى الولايات المتحدة، أو مَن يعترف بأن الكراهية والهستيريا ليسا الجوابين النهائيين على مشكلات هذه الأيام العصيبة. يجب ألا ننخرط في مناوئة سلبية للشيوعية، بل في الإقدام على دفعة إيجابية نحو الديموقراطية، مدركين أن دفاعنا الأكبر ضد الشيوعية هي في قيامنا بعمل هجومي من أجل العدالة. علينا، عِبر العمل الإيجابي، أن نسعى إلى إزالة شروط الفقر وانعدام الأمن والظلم تلك، التي هي التربة الخصبة التي تنمو فيها بذرة الشيوعية وتتفتح.

زماننا هذا زمان ثوري. ففي أنحاء الكرة الأرضية كافة يثور البشر على أنظمة الاستغلال والقمع القديمة، ومن أرحام عالم هشٍّ تولد نُظُم جديدة أساسها العدالة والمساواة. إن عراة الصدر وحفاة الأقدام من أهل الأرض ينهضون كما لم ينهضوا من قبل. "القوم المقيمون في الظلمة أبصروا نورًا عظيمًا." ونحن في الغرب يجب أن ندعم هذه الثورات. فمن المحزن أن الأمم الغربية التي أطلقت من عقالها الروحَ الثورية للعالم الحديث، أمست اليوم، بسبب من الرفاهية، والارتضاء، والخوف المَرَضي من الشيوعية، وقابليتنا للتكيف مع الظلم، في طليعة أعداء الثورة. وهذا دفع بالكثيرين إلى الاعتقاد بأن الماركسية وحدها فيها الروح الثورية. الشيوعية حُكْم على إخفاقنا في جعل الديموقراطية حقيقية وفي متابعة الثورات التي أطلقناها. إن رجاءنا الأوحد اليوم يكمن في قدرتنا على اقتناص الروح الثورية من جديد والخروج إلى عالم معادٍ أحيانًا، معلنين معارضتنا الأبدية للفقر والعِرقية والعسكرة. وبهذا الالتزام القوي سوف نتحدى الوضع الراهن والمكاسب الظالمة بجسارة، ونسرِّع بذلك في مجيء اليوم الذي فيه "سوف يرتفع كلُّ وادٍ، وسوف ينخفض كلُّ تلٍّ وجبل، والأماكن الملتوية سوف تستقيم، والأماكن الوعرة سوف تستوي".

إن ثورة أصيلة في القيم تعني، في التحليل النهائي، أن ولاءاتنا يجب أن تصبح مسكونية وليست طائفية. على كلِّ أمَّة أن تنمِّي فيها الآن ولاءً غالبًا للإنسانية ككل، من أجل أن تحتفظ بأفضل ما في مجتمعاتها الفردية.

وهذه الدعوة إلى زمالة تشمل العالم، وترتقي باهتمام المرء للجيرة إلى ما يتعدَّى عشيرته، عِرقه، طبقته، وأمَّته، هي، في الواقع، دعوة إلى محبة غير مشروطة تعانق البشر أجمعين. وهذا المفهوم، الذي مرارًا ما أسيء فهمُه وتفسيرُه، أصبح اليوم ضرورة مطلقة لنجاة الإنسان. عندما أتكلم على المحبة، أعني تلك القوة التي رأتْ فيها الأديانُ الكبرى كافة مبدأ الحياة الموحِّد الأسمى. المحبة هي المفتاح الذي يفتح الباب المفضي إلى الحق المطلق. نجد موجزًا بديعًا لهذا الاعتقاد الهندوسي–الإسلامي–المسيحي–اليهودي–البوذي حول الحق المطلق في رسالة القديس يوحنا الأولى:

فليحبَّ بعضنا بعضًا: لأن المحبة من الله: وكلُّ محبٍّ مولود لله وعارف بالله. مَن لا يحب لم يعرف الله؛ لأن الله محبة. [...] فإذا أحبَّ بعضنا بعضًا أقام الله فينا وتمَّت محبتُه فينا.

فلنأمل بأن هذه الروح سوف تصبح قاعدة اليوم. لم يعد بوسعنا أن نطيق عبادة إله النقمة أو السجود أمام مذبح الثأر. التاريخ يعج بأطلال أمم وأفراد تبعوا طريق النقمة المدمِّر للنفس هذا. فكما قال أرنولد توينبي ذات مرة في إحدى خطبه:

المحبة هي القوة النهائية التي تؤازر خيار الحياة والخير المنجِّي ضدَّ خيار الموت والشرِّ المُهلِك. لذا فإن أول الآمال في رأس قائمتنا يجب أن يكون الرجاء بأن المحبة سوف تكون لها الكلمة الأخيرة.

يواجهنا الآن واقعُ أن الغد هو اليوم. يواجهنا إلحاحُ الآن الشرس. المماطلة ما تزال سارقة الزمن. والحياة كثيرًا ما تتركنا واقفين مجرَّدين، عراة، ومكسوري الخاطر من جراء فرصة ضائعة. إن "المدَّ في أعمال الناس" لا يبقى على فيضه، بل سرعان ما ينحسر. قد نستصرخ الزمن يائسين كي يتوقف في مروره، لكن الزمن أصم عن كلِّ شفاعة ويواصل طريقه. وفوق العظام المبيضَّة للحضارات العديدة وأكداس بقاياها نقرأ كلمتين يُرثى لهما: "فات الأوان." هناك كتاب مستور للحياة يدوِّن بأمانة اكتراثنا أو مبالاتنا. "الإصبع المتحرك يكتب، وبعد أن يكتب يمضي..." مازال لدينا اليوم خيار: التعايش اللاعنفي أو التفاني العنيف. وقد تكون هذه فعلاً آخر فرصة متاحة للجنس البشري للاختيار بين الشواش والجماعة.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أفييرينوس

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود