3. 4 الحقيقة والموضوعية
يقترح كل من بوفريس
J. Bouveresse
وبتيتو
J. Petitot
في كتاب الفيزياء والواقع (وهو حوار مع
برنار دسبانيا) تصنيفًا أصيلاً للمواقف الفلسفية، حيث يضعان في هذا
التصنيف خلاصات دسبانيا. يتوافق هذان التصنيفان كلمة كلمة، على الرغم
من أن أحدهما يرتكز على معايير الحقيقة للقضايا الواقعية، في حين يرتكز
الآخر على معايير موضوعية للمعرفة.
لا يميز بوفريس موقفين فقط اتجاه حقيقة القضايا الواقعية بل ثلاثة
مواقف: وفق الموقف الأول، يمكن للقضية أن تكون صحيحة بشكل مستقل
عن وسائل التحقق منها؛ ووفق الموقف الثاني، تكون القضية صحيحة إذا كانت
قابلة للتحقق منها؛ ووفق الموقف الثالث، تكون صحيحة فقط إذا تم التحقق
منها. وهكذا يكون علينا التمييز بين ثلاثة مفاهيم: "[...] صحيح، ومعترف
به كصحيح (من خلال إجراء تحقق مناسب) ومعترف به فعليًا أنه صحيح".
وبمواجهة ذلك، يبدو أن عددا كبيرًا من فيزيائيي الميكانيك الكمومي كما
يكتب بوفريس قد حسموا الأمر لصالح الموقف الثالث، أي الموقف الجذري
ضدَّ الواقعية. لكنه يشير إلى أن هذا الموقف ليس موقف برنار دسبانيا.
ألم يقترح هذا الأخير بالأحرى خيارًا بين الخيارين الأقوى، أي الموقف
الأول والموقف الثالث، بل دمجًا بينهما، مع استبعاد الخيار الأوسط؟
يشير
الثراء الذي ميز الإبستمولوجيا بوصفها فلسفة لتاريخ العلوم إلى حركة
الفهم القوية من لدن الإنسان، الذي وصفه ديلتاي بالكائن التاريخي،
ارتباطًا بخبرته الدائمة وقدرته على التفاعل مع دوائر المعرفة والحياة.
وفضلاً عن قوة الترابط بين الإنسان والتاريخ والعلم، فإن هوية
الإبستمولوجيا تبدو ملتبسة وغير واضحة على نحو دقيق، خاصة بعد ابتعادها
عن الصفة الوضعية نتيجة لتطور العلوم الإنسانية، وبروز فروع معرفية
جديدة مثل تاريخ العلوم، واللسانيات، والجينالوجيا، والأركيولوجيا،
والهرمنيوطيقا. هذه الفروع كانت بعيدة عن الإبستمولوجيا، لكنها أصبحت
اليوم تتقاطع مع اهتمامات معرفية متعددة، وهو ما يسمح برصد مدى تعالق
الإبستمولوجيا مع الأركيولوجيا، على نحو ما نجد لدى ميشيل فوكو في
كتابه حفريات المعرفة بعدما ساهم غاستون باشلار في بناء صرحها
الجديد الذي سيمكنها من مصاحبة الفلسفة. وسنتمكن مع جورج كانغليم من
رصد العلاقة الشائكة بين التاريخ الإبستمولوجيا مادامت هذه الأخيرة هي
العقل الجدلي المشاغب بأسئلته بتعبير صاحب العقل العلمي الجديد.