|
علم نفس الأعماق
انبثقت الثورة التونسية من النقطة العمياء الواقعة خارج نطاق الرؤية. ليس كافيًا أن نسعى إلى تفسير أسبابها من خلال المقولات الموضوعية للمنطق الاقتصادي-الاجتماعي. فهذه التفسيرات تقودنا إلى الانجرار وراء وهم الحتميَّة الذي يتسبَّب بالكثير من الضرر في عصرنا حيث يبدو كل شيء مبرمَجًا. وتُجرِّد الوجود البشري من المستقبل عبر جعل هذا الوجود قابلاً للتوقُّع، في راحة الاستذكار المبرَّدة. لا، الثورة التونسية هي مفاجأة بما في ذلك للأشخاص الذين أطلقوها وقادوها بعزم وتصميم. فضلاً عن ذلك، تأتي في وضع انكفأ فيه مفهوم الثورة من مساحة التفكير عندنا، على الأقل منذ انهيار جدار برلين. أخذت انطلاقة الثورة التونسية وقوَّتها الجميع على حين غرَّة. بدءًا من نظام بن علي. فقد انطلقت شرارتها من نقطة واقعة خارج نطاق الرؤية المضبوط الذي شكَّله هذا النظام.
في خُماسيَّته الجليلة هذه، يُحْدِث الدكتور كوستي بندلي ثورة مزدوجة في علم النفس. الثورة الأُولى موجَّهة إلى المنهج السلوكي السائد في الثقافة الأنكلوسكسونية، الذي خفضَ دُعاتُه علم النفس إلى دراسات إحصائية لجوانب من السلوك البشري. وبالَغَ عددٌ من هؤلاء في تركيزهم على هذه الطريقة ورفْضهم كل ما عداها إلى حد إخراجهم الفردَ البشري كليًا خارجَ اهتمام علم النفس وقَصْرِهم هذا العلمَ على الجماعة. والجماعة قد تكون كيانًا وَهْميًا مضلِّلاً إذا كان الفرد هو المقصود. فالنظرة القائلة بأن الأقلية العرقية أو الدينية في مجتمع معيَّن تُناصِر الحركات السياسية الراديكالية في ذلك المجتمع – وإنْ كانت نظرة مبرهَنة إحصائيًا – لا تعني أن هذا الفرد أو ذاك من تلك الفئة مناصِرٌ بالتأكيد للسياسة الراديكالية، كما لا تُعين المرشد النفسي بالضرورة على مساعدته لتَجاوُز حالة انعزال عن الآخرين أو عداء تجاههم أو عدم ثقة بهم.
لم يشكِّل العنف ضد المرأة مشكلة، إذا ما استدعينا السياق التاريخي في هذه الظاهرة، لأن المجتمعات، على وجه العموم، كانت تتعامل مع المرأة بوصفها من ممتلكات الرجال، بل إن هذه المجتمعات شرعنت، بصورة أو بأخرى، العنف الأسري وباركته بقصدية واضحة. لقد قادت التغييرات الاجتماعية إلى تجريم العنف ضد المرأة في المجتمعات المعاصرة، إلا أن العنف بقي ظاهرة مشتركة في هذه المجتمعات تحت صور ومسميات شتى، قديمة ومتجددة أو جديدة تتناسب مع روح العصر العاجز عن مواجهة غول العنف الذي يقتل ويشوه الإنسان بدنيًا ونفسيًا واقتصاديًا وجنسيًا ليصبح وباء العصر وكل عصر. إنه يضرب مجتمعات العالم قاطبة، يتخطى العوائق، والحدود، والثقافات، والتعليم، والأديان، والتكنولوجيا، والعرق، والطبقة الاجتماعية، والاقتصاد، وغيرها. فلا يوجد دولة أو ثقافة تستطيع أن تزعم أنها خالية من هذه الظاهرة المقيتة، والاختلاف الوحيد ربما يكون في أنماط واتجاهات هذه الظاهرة. وعلى الرغم من أن بعض المجتمعات تحرِّم العنف ضد المرأة، إلا أن هذا العنف متأصل في صميم ثقافاتها. ومن حيث الممارسة غالبًا ما يقع العنف تحت ستار الممارسات الثقافية والعادات والتقاليد والتفسير الخاطئ للدين، خصوصًا إذا كان ضمن حدود الأسرة، ذلك أن القانون أو الجهات الرسمية عادة ما تفضل التغاضي والسكوت عليه بحجة السلم الاجتماعي على سبيل المثال.
أرى بعضًا من أصدقائي القدامى بين الحضور، وأنا سعيد لرؤيتكم هنا. بما أننا سنلتقي سبع مرات، يجب علينا المضي بكثير من الدقة فيما أريد الحديث عنه وهو: الحياة، بكل مجالاتها ومحتوياتها. لذا ألتمس الصبر ممن سمعوا كلماتي هذه من قبل، لأن لما سوف أكرره بعض الأهمية. هناك شيء مشترك يجمع الآراء المسبقة مع المفاهيم والمعتقدات والأفكار. إذ يفترض بنا أن نكون قادرين على التفكير معًا، إلا أن آراءنا المسبقة وتصوراتنا الذهنية تحدُّ من القدرة والطاقة الضروريتان للتفكير والملاحظة والاختبار المشترك، لنكشف لأنفسنا ما يستتر وراء كل الفوضى، والبؤس، الرعب والدمار والعنف المهول الموجود في هذا العالم. ولنفهم، ليس فقط الحقائق المجردة الظاهرة التي تحصل كل يوم، بل لنفهم أيضًا ما يجري على المستوى العميق، لنفهم معنى ما يجري، يجب أن نكون قادرين على تفحص الأمور معًا، وفهمها معًا، لا أن تفهمها أنت على هواك وأنا على هواي، ولكن أن نفهم معًا المعنى ذاته. سيعيقنا التشبث باعتقاداتنا المسبقة وخبراتنا وفهمنا الخاص عن الملاحظة والفهم الصحيح للأمور. التفكير المشترك هام جدًا الآن، لأننا نواجه عالمًا ينحل بسرعة، ينحدر ويتحول إلى مكان لا أخلاق فيه، لا مُقدَّس فيه، حيث لا يحترم فيه الإنسان أخاه الإنسان. لكي نفهم جذور كل هذا، وليس بشكل سطحي، علينا الغوص فيه لإيجاد ما يقبع خلفه. يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا تحوَّل الإنسان، أنت والعالم كلَّه، بعد ملايين السنين من التطور، إلى هذا العالم العنيف والقاسي والمدمر، المليء بالحروب وبالقنابل النووية المروعة؟ ربما كان التطور التكنولوجي للعالم أحد الأسباب التي تحوِّل الإنسان إلى هذا الكائن العنيف. لذا، دعونا نفكر معًا، ليس وفقًا لطريقتي، ليس وفقًا لطريقتكم، بل، بكل بساطة، عبر استعمال القدرة على التفكير.
|
|
|