|
أنا وأنت
عالم الإنسان مزدوج، وهذا يتَّفق مع موقفه الثنائي. موقف الإنسان ثنائي، وهذا يتَّفق مع الطبيعة المزدوجة للكلمات الأساسية التي ينطق بها. ليست الكلمات الأساسية منعزلة، إنما هي كلمات مركَّبة. الكلمة الأساسية الأولى مزجت بين أنا–أنت. والكلمة الأساسية الأخرى مزجت بين أنا–هو. مشيرين إلى أنه يمكن، من دون أي تغيير في الكلمة الأولى، استبدال هو بـ هي. لذا كانت أنا الإنسان مزدوجة. لذا كانت أنا في الكلمة الأساسية أنا–أنت، مختلفة عن أنا في الكلمة الأساسية أنا–هو. *** لا تعني الكلمات الأساسية أشياءً، إنما هي توحي بعلاقات. لا تصف الكلمات الأساسية شيئًا بوسعه أن يكون موجودًا بشكل مستقل عنها. لكن، حين يتم النطق بها، فإنها تقدِّم الوجود. تنطق الكلمات الأساسية بلسان الكائن. إن قلت أنت، فإن أنا الممزوجة بها، من خلال أنا–أنت، تقال معها. إن قلت هو، فإن أنا الممزوجة بها، من خلال أنا–هو، تقال معها. فقط مع الكائن الكلِّي يتم النطق بالكلمة الأساسية أنا–أنت. أمَّا الكلمة الأساسية أنا–هو فلا يمكن إطلاقًا النطق بها مع الكائن الكلِّي. *** لا توجد أنا مستقلة بذاتها، إنما هناك فقط تلك المعبر عنها في الكلمة الأساسية أنا–أنت وفي الكلمة الأساسية أنا–هو. لذلك حين يقول الإنسان أنا فإنه يشير إلى هذه أو إلى تلك. وأنا التي يشير إليها حاضرة حين ينطق بها. كذلك حين يقول أنت أو هو، فإن أنا إحدى هتين الكلمتين الأساسيتين متضَمَّن. فوجود أنا والنطق به واحد. إنه نفس الشيء. حين يجري النطق بكلمة أساسية، فإن الناطق يدخل الكلمة ويتخذ موقعه فيها. *** لا تنقضي حياة البشر ضمن إطار أفعال متعدية فقط. فهي لا تتم فقط عن طريق نشاطات تبغي الحصول على شيء. أنا أدرك شيئًا. أنا ألمس شيئًا. أنا أتخيل شيئًا. أنا أريد شيئًا. أنا أشعر بشيء. أنا أتفكر بشيء. لأن حياة الإنسان ليست فقط كل هذه الأشياء أو ما يشابهها. فهذه وما يشابهها موجودة في عالم الـهو. أما عالم الـأنت فله قانون آخر. حين يقول أنت، لا يشير المتكلم إلى شيء محدد. لأنه حين يوجد الشيء، يوجد ما يقابله. فكلُّ هو يحدُّه الآخرون؛ إنه موجود لأنه محدد من قبل الآخرين. لكن حين يقول أنت، ليس هناك شيء. لأن أنت ليست محدودة. حين يقول أنت، لا يشير المتكلم إلى شيء؛ لأنه فعلاً لا يملك شيئًا. إنما هو يحدد موقعه في قلب علاقة. *** يقولون إن الإنسان يختبر هذا العالم. فما المقصود بذلك؟ يطوف الإنسان على سطح الأشياء فيجرِّبها، ويستخلص منها معرفة تركيبها: يكتسب منها خبرة. إنه يجرِّب ما تمتلكه الأشياء. لكن العالم لا يقدَّم إلى الإنسان من خلال التجربة فقط. فالتجربة تقدِّم للإنسان عالمًا مؤلفًا من هو وهي فقط. أنا أجرِّب شيئًا. – إن إضافة "ظاهر" التجارب إلى "باطنها" لا يغير من الواقع شيئًا. فنحن بهذا نتابع فقط التقسيمات النابعة من رغبة الجنس البشري في اكتشاف سرِّ الموت. وأشياء الظاهر وأشياء الباطن ما هي إلا أشياء وأشياء. أنا أجرِّب شيئًا. – إن إضافة "سرِّي" التجارب إلى "ظاهرها" لا يغير من الواقع شيئًا. كم واثقة من نفسها تلك الحكمة التي تتخيل، في قلب الأشياء، حجرةً مغلقةً مخصصةًَ للعارفين ولا تفتح إلا بمفتاح. يا أيتها السرَّانية التي لا سرَّ فيها! يا أيتها المعارف المتراكمة! إنها هو، دائمًا هو! *** لا يملك الإنسان المجرِّب شيئًا في العالم. لأن تجربته تتم بينه و"بين ذاته" وليس بينه وبين العالم. فالعالم ليس جزءًا من التجربة. إنه يسمح بأن يجرَّب، ولكن لا علاقة له بالتجربة. إنه لا يفعل شيئًا للتجربة، وكذلك لا تفعل التجربة شيئًا له. *** كتجربة، ينتمي العالم إلى الكلمة الأساسية أنا–هو. أما فيما يتعلق بالكلمة الأساسية أنا–أنت فإن العالم يتحول إلى علاقة. *** ثلاثة هي المجالات التي يترعرع فيها عالم العلاقات: الأول هو حياتنا في قلب الطبيعة. هنا تترنح العلاقة كئيبةً أخفض من مستوى الكلام. فالكائنات تعيش وتتحرك ضدنا وليس بوسعها أن تأتي إلينا. وحين نتوجه إليها يبدو وكأن كلماتنا تتشبث بعتبة الكلام. الثاني هو الحياة مع البشر. هنا تتفتح العلاقة وتتخذ شكل الكلام. هنا بوسعنا تقديم الـأنت وقبوله. والثالث هو الحياة مع الأشكال الجليَّة. هنا تحتجب العلاقة خلف سحابة، ولكنها تفصح عن نفسها؛ إنها لا تستخدم الكلام، إنما تولده. نحن هنا لا نتلمَّس الـأنت ولكننا نشعر بتوجهها إلينا فحسب – مشكلين، مفكرين وفاعلين. ننطق بالكلمة الأساسية مع ذاتنا، رغم أنه ليس بوسعنا لفظ الأنت بشفاهنا. ولكن بأي حقٍّ ترانا نستخلص ما يتجاوز الكلام الذي له علاقة بعالم الكلمة الأساسية؟ في كل مجال وكلٌّ على طريقته، ومن خلال كل عملية تحول نختبرها، نتطلع إلى حافة أنت الخالدة؛ ونتلمس نسمتها؛ وفي كلِّ أنت نتوجه إلى الأنت الخالدة. *** أنا أتأمل شجرة. بوسعي النظر إليها كلوحة: كعمود ثابت يتأثر بالضوء الشديد، أو كدفق لطخة خضراء تترافق مع الألوان الزرقاء والفضِّية المرهفة لخلفيتها. وأستطيع تلمُّسها كحركة: كأوردة متدفقة حين تتشبث، كعصر لباب، أو كامتصاص جذور، أو كتنفُّس أوراق، كتواصل مستمر مع الأرض ومع الهواء – كنموٍّ حاجب لذاته. وأستطيع أن أصنِّفها وأن أدرسها كنوع من حيث التركيبة وطريقة الحياة. وأستطيع بصرامة كبح وجودها الحالي وشكلها، بحيث لا يكون بوسعي رؤيتها إلا كتعبير عن قانون – تلك القوانين التي يتم بموجبها، وبشكل مستمر، التوفيق بين مجموعة قوىً متعارضة. أو تلك التي بموجبها تختلط مكونات المواد وتفترق. كما أستطيع تبديدها وإبقائها، من حيث التعداد، كعلاقة رقمية صرفة. وفي كل ما سبق، تبقى الشجرة هي موضوعي، في الزمان وفي المكان. تلك التي لها طبيعتها ولها تركيبتها. بوسعي، على أية حال، تغيير المنحى، إن كنتُ أملك الإرادة والنعمة التي تجعلني، حين أتأمل الشجرة، أصبح مرتبطًا بها وعلى علاقة معها. عندئذٍ، لا تعود الشجرة مجرَّد هو. إنما يصبح بإمكانها التفرُّد. هنا ليس من الضروري أن أتخلى عن أية طريقة من بين تلك التي أتأمل فيها الشجرة. حيث لا يوجد شيء عليَّ غض الطرف عنه كي أرى، ولا أية معرفة عليَّ أن أنساها. فكل شيء يبقى صورة وحركة، كصنف وكنوع، كقانون وكرقم، كل شيء يبقى من خلال الحدث مترابطًا بشكل لا ينفصم. فكل ما ينتمي إلى الشجرة متضمن في شكلها وفي بنيانها، في ألوانها وفي تركيبتها الكيميائية، في تفاعلها مع العناصر ومع النجوم، لأن هذه كلُّها متواجدة في كلٍّ واحد. ليست الشجرة انطباعًا ولا هي لعبة من ألاعيب خيالي، كما أنها ليست قيمة ذات علاقة بمزاجي؛ إنما هي تتجسد قبالي وتتفاعل معي، كما أتفاعل أنا معها – ولكن بشكل مختلف. لذلك علينا أن لا نفكر بفصل تلك القوة عن معنى العلاقة: فالعلاقة متبادلة. هل سيكون للشجرة وعي شبيه بوعينا؟ لا خبرة لي بهذا. ولكن إن شئتَ، من خلال ما قد يبدو وكأنه إنجاح الأمر بنفسك، أن تفكك مرة أخرى ما ليس بالإمكان تفكيكه، فليكن! أما أنا فإني لم ألتق لا بروح ولا بجنِّية الشجرة، إنما فقط بالشجرة ذاتها. *** إن واجهتُ إنسانًا وكأنه أنت الذي تخصني، وتوجهتُ إليه بالكلمة الأساسية أنا–أنت، فإنه لا يبقى مجرد شيءٍ من جملة أشياء، شيءٍ مؤلف من أشياء. لأن هذا الكائن البشري ليس مجرد هو أو هي، ذلك الشيء المحدود بأيِّ هو وبأيَّة هي، نقطة من شبكة عالم محدد في الزمان وفي المكان؛ كما أنه ليس ذا طبيعة بوسعك اختبارها وتصنيفها. ربطة فضفاضة ذات صفات معينة. إنما هو بلا جيرة، وكلِّي بحدِّ ذاته. إنه أنت الذي يملأ السماء، لكن هذا لا يعني أن لا شيء موجود إلا هو. إنما يعني أن كل شيء يحيا بنوره. فكما لا يتألف اللحن من النوتات ولا الأبيات من الكلمات ولا التمثال من الخطوط، إنما يجب أن تلقَّن وتجرَّ كلها بحيث تتبعثر وحدتها في قلب هذه القطع العديدة، كذلك الأمر بالنسبة للإنسان حين يقول أنت. حيث بوسعي استخراج لون شعره، أو خطابه، أو صلاحه. وعليَّ فعل هذا باستمرار. لكن بمقدار ما أفعل، بمقدار ما يكفُّ عن كونه أنت. وكما أن الصلاة ليست في التوقيت إنما التوقيت في الصلاة، كذلك ليست التضحية في الصلاة إنما الصلاة في التضحية، وكما أن قلب العلاقة يعني إلغاء الواقع، كذلك الأمر بالنسبة للإنسان الذي أخاطبه بـأنت. فإنا لا ألتقي به في زمان آخر أو في مكان آخر. لأنه بوسعي تعيينه في زمان محدد وفي مكان محدد؛ وعليَّ فعل هذا باستمرار: لكني بهذا أكون قد عنيت هو أو هي فقط، ويكفُّ بالنسبة لي عن كونه أنت. لأنه طالما كانت جنَّة أنت منتشرة فوقي، فإن رياح السببية تنكمش عند كعبي، وتبقى دوامة القدر في مجراها. فأنا لا أجرِّب الإنسان الذي أخاطبه بـأنت. إنما أحدد مكاني بالنسبة له. وهذا المكان أحدده في قلب قداسة الكلمة الأساسية. فقط حين أخطو خطوة مبتعدًا تراني أجرب الهو مرة أخرى. ومع التجربة تبتعد الـأنت. وحتى إن لم يكن الإنسان الذي أخاطبه بـأنت واعٍ لذلك وسط معمعان تجربته، فإن العلاقة يمكن أن تحصل. لأن ما تحققه الـأنت يتجاوز الـهو. هنا لا يوجد خداع؛ لأنه مهد الحياة الحقيقية. *** إنه ينبوع الفنِّ الخالد: حين يجابه المرء شكلاً ويريد تحويله إلى عمل. حيث لا يكون هذا الشكل نتاج روحه، إنما يصعِّدها ويتطلب منها قوة فعلية. لأن الإنسان معني بفعل ينبع عن كيانه. فإن أنجزه من خلاله، إن نطق بالكلمة الأساسية من كيانه تجاه ذاك الشكل المتجلِّي، عندئذٍ تتدفق القوة الفعلية ويتم العمل. يتطلب الفعل تضحيةً ويتطلب مخاطرةً. تلك هي التضحية: هذه الإمكانية اللامتناهية التي يجري تقديمها على مذبح الشكل. حيث يصبح من الواجب طمس كل ما كان حتى اللحظة لعبًا ومرَّ بسرعة؛ لا شيء من هذا يفترض أن يتضمنه العمل. فخصوصية ما يواجهه تتطلب ذلك. وتلك هي المخاطرة: حيث لا يمكن النطق بالكلمة الأساسية إلا مع الكائن الكلِّي. ومن يقدِّم لها نفسه لا يستطيع أن يحجب منها شيئًا. لأن العمل لا يعانيني، كما تفعل الشجرة أو كما يفعل الإنسان، فيتنحى جانبًا ويسترخي في عالم الـهو، إنما هو يأمر. لذلك إن لم أخدمه بشكل جيد يتحطم، أو يحطمني. ليس بإمكاني أن أجرِّب ولا أن أصف الشكل الذي يواجهني، إنما فقط مظهره، لأنه ملك لنفسه. ورغم هذا، ها أنا ذا هو، رائع وسط الإشعاع الذي أواجه. وأكثر وضوحًا من كل وضوح العالم الذي أجرب. فإنا لا أملكه كأحد الأشياء "الداخلية"، ولا كصورة لـ"نزواتي"، إنما كشيء متواجد في الحاضر. إن جربت موضوعيته فإن الشكل ليس "هناك" حتمًا. ومع ذلك، ما هذا الشيء الكثير الحضور الذي يبدو هو؟ والذي أصبحت علاقتي به فعلية، لأنه يؤثر فيَّ، كما أؤثر أنا فيه. أن تنتج يعني أن تستخلص وهلم جرا، أن تخترع يعني أن تجد، وأن تجسِّد يعني أن تكتشف. وهلم جرا. حين أعطي شكلاً فإني أكتشف. أقود الشكل، من خلاله، إلى عالم الـهو. والعمل الذي أنتجه هو شيء من بين أشياء من الممكن تجربته ووصفه كمجموعة صفات. ولكن من حين لآخر، بوسعه أن يواجه ناظره الحسِّي بكامل شكله المجسَّم. *** - ما الذي نجرِّبه من أنت إذن؟ - مجرد لا شيء. لأننا لا نجرِّبه. - ما الذي نعرفه عن أنت إذن. - فقط كل شيء. لأننا منذ الآن لا نعرف شيئًا منفصلاً عنه. *** تأتني الـأنت من خلال النعمة – لأنه لا يمكن اكتشافها عن طريق البحث. لكن نطقي بالكلمة الأساسية فعل من كياني. إنه، فعلاً، فعلٌ كياني. تلقاني الـأنت. وأنا أخطو في اتجاه علاقة مباشرة معها. فالعلاقة تعني أن أُختار وأن أَختار، بالفعل وبالعذاب معًا؛ وكأي فعل يقوم الكائن الكلِّي به، يصبح المعنى تعليقًا لكلِّ الأفعال الجزئية، ويصبح كل شعور بأفعال ترتكز فقط على محدوديتها الخاصة، شبيهًا بالمعاناة حتمًا. لا يمكن النطق بالكلمة الأساسية أنا–أنت إلا مع الكائن الكلِّي. والتركيز والاندماج بالكائن الكلِّي لا يمكن أن يتحقق عن طريقي. كما لا يمكن أن يتحقق من دوني. أنا أتحقق من خلال علاقتي بـالأنت؛ وبمقدار ما أتحقق أنا، أقول أنت. لأن كل حياةٍ حقيقيةٍ لقاء. *** العلاقة بـالأنت مباشرة. فهي ليست منظومةً فكريةً، ولا معرفةً، ولا نزوةً تقف حائلاً بين أنا وأنت. نفسها الذاكرة حين تخرج من عزلتها تتحول وتغوص في قلب وحدة الكلي. لا غاية، ولا رغبة، ولا حدس يتدخل بين أنا وبين أنت. حتى الرغبة تتحول حين تغوص في المظاهر فتخرج من حلمها. كل معنى يصبح عائق. لذلك فقط حين يتلاشى كل معنى يحدث اللقاء. *** مقابل صراحة العلاقة يفقد كل ما ليس صريحًا أهمِّيته. ويفقد أيضًا أهمِّيته حين تتحول أنت، التي تخصني فعلاً، إلى هو لأنا أخرى ("موضوع تجربة عامة")، أو حين يصبح بالإمكان أن تتحول إلى ذلك من خلال الإنجاز الفعلي لذلك الفعل في ذاتي. في الحقيقة، ورغم أنه من المؤكد أنها تتمايل وتتأرجح، فإن حدودها لا تنزلق بين التجربة وعدم التجربة، ولا بين العطاء وعدم العطاء، ولا بين عالم الذات وعالم القيم؛ إنما ساخرةً غير مبالية في قلب كل تلك الميادين تراها تكمن ما بين أنت وهو، بين الحاضر وبين الموجود. *** الحاضر، ونحن بهذا لا نعني فقط تلك النقطة التي تحدد الانتقال الذهني، من زمن إلى آخر، بمعنى ختام للزمن "المنتهي". أو مجرَّد شكل نهاية تعقد وتثبَّت. إنما نعني الحاضر الحقيقي الحالي والمليء، الموجود حتى الآن كحاضرية فعلية، كلقاء، وكعلاقة. فالحاضر يظهر فقط من خلال واقع أن الأنت قد أصبحت حاضرة. لذلك فإن أنا الكلمة الأساسية أنا–هو، والتي هي، تلك الـأنا التي لا أنت فيها، إنما تلك المحاطة بوفرة من "المضامين"، لا حاضر لها، إنما هي ماض فقط. لنضع الأمر بطريقة أخرى، بمقدار ما يبقى الإنسان راضيًا بالأشياء التي يجرِّبها ويستعملها، فإنه يعيش في الماضي، وليس للحظته مضمون حاضر. إنه لا يملك إلا أشياء. والأشياء تستمر في الزمن الذي كان. ليس الحاضر طريدًا ولا عابرًا، إنما هو حاضر وثابت باستمرار. ليس للشيء أمد، بل انقطاع، وإرجاء، وقطع واضح وتصلُّب، وانعدام للعلاقة مع الكائن الحاضر. تعيش الكائنات الحقيقية في الحاضر. أما حياة الأشياء ففي الماضي. *** لن تخلصنا الدعوة إلى "عالم من الأفكار"، كعامل ثالث يتجاوز ذلك التعارض، من طبيعته الثنائية الأساسية. لأني أتحدث فقط عن الإنسان الحقيقي، عنك وعني، عن حياتنا وعن عالمنا – وليس عن أنا، أو عن حالة الوجود المنفردة بذاتها. فالحدود الفعلية للإنسان الحقيقي تتقاطع أيضًا مع عالم الأفكار. للتأكد، غالبًا ما تجد أن الإنسان الراضي عن تجربته والمستخدم لعالم الأشياء قد شيد أو عبَّر عن نفسه بواسطة بنيان من الأفكار التي يجد فيها الملاذ فأراحته من تبعات العدم. لذلك يضع على العتبة جانبًا ثوبه اليومي غير المناسب، ويدثِّر نفسه بالكتان النقي، ويستمتع بمشهد الكائن البدئي، أو الكائن الضروري؛ لكن حياته لا تشترك في هذا الأمر. رغم أن الإعلان عنه يمكن حتى أن يملأه سعادة. إن بشرية هو المجرَّدة التي يتخيلها، ويفترضها، ويدعو إليها هكذا إنسان لا علاقة لها بالبشرية الحيَّة التي يمكن فيها التكلُّم بصدق عن أنت. حيث يبقى الصنم هو التخيل الأنبل، وتفسد أسمى المشاعر الوهمية. ولا تبقى الأفكار تتوج رؤوسنا أو تسكنها؛ إنما تطوف بيننا وتفاتحنا. فالإنسان الذي لا ينطق بالكلمة الأساسية يستحق الشفقة؛ والإنسان الذي يتوجه بهذه الأفكار مجردة أو ككلمة سر، وكأنه الناطق باسمها، إنسان حقير. *** واضح من إحدى الأمثلة الثلاث أن العلاقة المباشرة تتضمن أثرًا له علاقة بما يواجهني. في الفن يحدد فعل الكائن الوضع الذي يتحول فيه الشكل إلى فعل. ومن خلال التلاقي، يتحقق ما يواجهني، فيدخل عالم الأشياء حيث يصبح نشطًا إلى ما لا نهاية، فيتحول بشكل مستمر إلى هو، وأيضًا بشكل مستمر إلى أنت، ملهمة ومقدسة. "متجسد" هو؛ أما جسمه فينبثق من دفق اللامحدود، ذلك الحاضر الخالد لشاطىء الوجود. ليس مغزى الأثر بهذا الوضوح حين يتعلَّق الأمر بـالأنت التي ينطقها البشر. ففعل الكائن الذي يؤمِّن المباشرة في هذه الحالة غالبًا ما يساء فهمه وكأنه ناجم عن الشعور. والمشاعر تترافق مع حقيقة الحب الميتافيزيقية وفوق الروحية، ولكنها لا تشكِّلها. لأن المشاعر المترافقة يمكن أن تكون متعددة الأنواع. فمشاعر يسوع تجاه المتلبس بمسٍ من الشيطان تختلف عن مشاعره تجاه تلميذه الحبيب؛ ولكن الحبَّ واحد. المشاعر "تستضاف": أما الحب فيأتي ويعبر. المشاعر تقيم في الإنسان؛ لكن الإنسان يُقيم في حبه. وهذا ليس مجازًا إنما حقيقة قائمة. الحبُّ لا يتشبث بـأنا تحوِّل الـأنت إلى مضمونها وموضوعها فقط؛ لكن الحبَّ يقع بين أنا وأنت. والإنسان الذي لا يعرف هذا بكل كيانه لا يعرف الحب؛ وإن كان يعزو إليه المشاعر التي يعيشها من خلال التجارب والمتع وما يعبِّر عن ذلك. فأثر ميادين الحب يشمل العالم بأسره. من منظور من يتخذ موقفه في الحبِّ، فيثرثر للخروج منه، ينقطع البشر بحرِّية عن تعقيداتهم الناجمة عن نشاطهم الصاخب. ويصبح الناس، الطيب منهم والشرير، الحكيم منهم والمجنون، الجميل منهم والقبيح، حقيقيين بالنسبة له؛ بمعنى أنهم، وقد تحرروا في وحدانيتهم، أصبحوا يواجهونه كـأنت. وبطريقة رائعة، من حين لآخر، ينبثق التفرُّد – وهكذا يصبح بوسعه أن يكون حقيقيًا، مساعدًا، شافيًا، مثقفًا، مصعِّدًا ومنقذًا. لأن الحب هو مسؤولية أنا تجاه أنت. من هذا المنظور يصبح الشبه – فيما يتعلق بأية مشاعر مهما كانت – مستحيلاً بالنسبة لكل من أحب، من الأصغر إلى الأكبر، ومن المحمي لحسن حظه إلى ذلك الذي أمضى كلَّ حياته مسمَّرًا على صليب العالم، ذلك الذي غامر فأوصل نفسه إلى تلك النقطة المروعة – أن يحبَّ كلَّ البشر. لتكن دلالة الأثر في المثال الثالث، دلالة المخلوق وتأملنا إياه، مغرقةً في السرِّ. فليكن الإيمان بالسحر البسيط للحياة، وبخدمة الكون، وبمعنى ذلك الانتظار، تلك اليقظة التي تجعل الكائنات ترفع رقابها، نورًا لكم. ولتتشوه كلُّ كلمة؛ لكن انظر! إن كل ما يجول من حولك هي كائنات تعيش حياتها، وحيثما إلتفت التقيت بالكائن. * العلاقة متبادلة. أناي[1] يؤثر بي كما أؤثر أنا به. تلاميذنا يقولبوننا وأفعالنا تصنعنا. ويتحول الإنسان "السيء" الذي مسته الكلمة الأساسية المقدسة برفق إلى موحىً إليه. كيف نتعلَّم من الأطفال ومن الحيوانات! بأن نعيش حياتنا بغموض في قلب دفق الحياة الكونية المشتركة. *** - أنت تتحدث عن الحبِّ وكأنه العلاقة الوحيدة بين البشر. ولكن إن صح الكلام، هل بوسعك الحديث عنه كمثال فقط، كمثال يواجه شيئًا اسمه الكراهية؟ - طالما أن الحبَّ "أعمى" فإن هذا يعني أن ليس بوسعه رؤية الكائن بكليته، بمعنى أنه غير متأثر بالكلمة الأساسية للعلاقة. الكراهية عمياء بطبيعتها. لأنه فقط بعض من الكائن يمكن كرهه. من يستطيع أن يرى الكائن بكليته، ويجد نفسه مضطرًا لرفضه، لا يبقى ينتمي إلى مملكة الحقد؛ إنما يصبح في مملكة المحظور الإنساني الذي يمنعه من النطق بـأنت. فيجد نفسه غير قادر على النطق بالـأنت للإنسان الآخر الذي يواجهه. لأن هذه الكلمة تفترض دائمًا تأكيدًا للآخر الذي نتوجه إليه. ما يعني أنه يجد نفسه مضطرًا لرفض الآخر أو لرفض نفسه. أمام هذا الحاجز تراه يقر الدخول في علاقة مع نسبيته، ومترافقًا مع هذا الواقع يقام الجدار. لكن، يبقى أن الإنسان الذي يكره صراحةً أقرب إلى العلاقة من ذاك الذي لا يحبُّ ولا يكره. *** وهنا يكمن المحزن المتعالي لقدرنا، أن تتحول كل أنت في عالمنا إلى هو. هنا لا يهم كم كانت الـأنت حاضرة حصرًا في العلاقة المباشرة. فحالما توضع العلاقة أو تتخلخل مع المعنى، تصبح الـأنت شيئًا من بين جملة أشياء – ربما الشيء الرئيس، إنما تبقى واحدةً منها، ومثبَّتة من حيث الحجم والحدود. فالعمل الفني هو إنجاز من جهة وانقطاع عن الواقع من جهة أخرى. ينتهي التأمل الحقيقي بعد فترةٍ وجيزة؛ ويصبح من الممكن الآن من جديد وصف وتجزئة وتصنيف الحياة الطبيعية التي أغلقت نفسها أمامي في قلب سرِّ الفعل المشترك – كنقطة تلاق للنظام المتشعب للقوانين. لا يمكن للحب نفسه أن يستمر في العلاقة المباشرة. ولكنه يصمد عن طريق التبادل مع الكائن الفعلي والمحتمل. ويصبح الكائن الإنساني، الذي كان حتى الآن واحدًا وغير مشروط، وليس شيئًا كاذبًا من جهة؛ متواجدًا فقط، لا يجرَّب، إنما يتم الوفاء به، ويصبح هو، أو هي، من جديد مجموعة صفات، أو كمٍّ معين ذا شكل محدد. بحيث أستطيع الآن أن أستخلص منه مجددًا شكل شعره أو خطابه أو صلاحه. لكن بمقدار ما بوسعي فعل هذا فإنه لا يبقى تلك الـأنت التي تخصُّني. من نصيب كل أنت في هذا العالم، وانطلاقًا من طبيعتها، أن تتحول إلى شيء أو أن تعود باستمرار إلى حالة الأشياء. وكخطاب مجرد بوسعنا القول إن بوسع كل شيء في هذا العالم، سواء قبل أو بعد أن يتحول إلى شيء، أن يبدو للـأنا كالـأنت التي تخصُّها. لكن الحديث الموضوعي لا يغطي سوى بعضًا من الحياة الحقيقية. فالـهو هي الشرنقة الأزلية، والـأنت هي الفراشة الأزلية – وهذه الحالات لا تتالى بتسلسل واضح، إنما هناك شقان متشابكان ومتداخلان. *** في البدء كانت العلاقة. فلنتأمل في خطاب الشعوب "البدائية"، تلك التي كانت تمتلك مخزونًا ضئيلاً من الأشياء، والتي قضت حياتها وسط حلقة ضيقة من الأفعال الحاضرة. كانت نواة خطابها كلمات تشبه الجمل ذات البنية السابقة للنحوية (فيما بعد، قطِّعت هذه الجمل إربًا، وولَّدت أشكالاً مختلفةً من الكلمات)، لكنها بقيت تشير بمعظمها إلى كلِّية العلاقة. نحن نقول "بعيدًا جدًّا"، أما الزولو فلديهم من أجل وصف هذه الحالة كلمة تعني وفق شكل جملنا، "كان هناك شخص يصرخ: أماه إني ضائع." أما أهل الفيجي فيحلِّقون متجاوزين حكمتنا التحليلية بواسطة كلمة من سبع مقاطع وتعني حرفيًا: "كانا يحملقان الواحد في الآخر، كلٌّ ينتظر من الآخر أن يتطوع ليقوم بما كان كلاهما يريد، ولكن كلاهما لم يكن بوسعه فعل هذا." في قلب هذا الوضع الكلِّي نجد أن الأشخاص، وكما عبَّروا عن أنفسهم عن طريق الأسماء والضمائر، ما زالوا جزءًا لا يتجزأ من فعل استغاثة ما زال غير مستقل. لأن المراد الأساسي، ليس نتاج هذا التحليل أو ذاك التفكير، إنما الوحدة الحقيقية الأصيلة لعلاقة حيَّة. نحن نحيِّ الشخص حين نلتقيه، فنتمنى له الخير ونؤكد له على إخلاصنا وندعو الله من أجله. ولكن كم سطحية وبالية هي هذه الصيغ! أترانا لا نستشف، ولو بشكل خافت، ووسط ذلك "البَرَد المنهمر!" منحًا بدئيًا للسلطة؟ فلنقارن تحيتنا بتلك التحية المتجددة دائمًا والتي يستعملها الكفَّار، بتلك التحية الحسِّية المباشرة "أنا أراك!" أو بتلك الأمريكية المضحكة والبليغة "شمَّني!". نستطيع الافتراض أن التوصيفات والأفكار، إضافةً إلى صور الأشخاص والأشياء، مستخلصة تحديدًا من تخيل حوادث وحالات عقلانية. فالإنطباعات الأولية والميول العاطفية التي توقظ روح "الإنسان في الطبيعة"، والناجمة عن حوادث = تجارب مع كائن نواجهه، وعن حالات = الحياة مع كائن نواجهه، هي ذات طابع علائقي. فالإنسان لا يرتبك حين يشاهد القمر وهو يراه يتجسَّد أمامه كل ليلة إلا حين يكون نائمًا أو ماشيًا فيقترب القمر منه ويسحره بحركته الصامتة أو يفتنه بطالح أو بنعومة ملمسه. فهو لا يحتفظ بهذا المشهد، أو لنقل، بحركة ذلك المدار الضوئي أو هذا الكائن الشيطاني الذي ينتمي إليه بعض الشيء، إنما يحتفظ، قبل كل شيء، بالصورة المتحركة المثيرة الناجمة عن تأثير ما تخلل جسمه. من هذا تنبثق تدريجيًا صورة القمر الذي يحقق تأثيره على الشخص تحديدًا. ما يعني أنه، عندئذٍ فقط، تبدأ ذكرى ذلك المجهول الذي تلقَّاه شخصه ليلاً بالتأجج فتتخذ شكل فاعل يولد الانطباع. الأمر الذي يجعل من الممكن تحويل المجهول إلى شيء، أي إلى هو أو إلى هي منبثقة من أنت التي لا يمكن تجربتها أصلاً، وإنما يمكن معاناتها فقط. هذا الطابع العلائقي الأولي، والمستمر منذ زمن طويل، لكل الظواهر الأساسية، يجعل من السهولة بمكان تفهم بعض الطابع الروحي للحياة البدائية، ذلك الطابع الذي غالبًا ما نراقبه ونناقشه، حتى وإن لم نتمكن بعد من فهمه بشكل صحيح عن طريق دراستنا الراهنة. وأنا أعني هنا، تلك القوة الغامضة للفكرة التي نتابعها عبر التحولات الكثيرة في أشكال المعتقدات والمعارف (كلاهما واحد) للعديد من البشر في الطبيعة. تلك التي تعرَّف بالمانا أو الأوريندا التي تشقُّ دربًا للبراهمن بمعناه البدئي، وبالتالي تلك المقدرة[2] وذلك النزوع إلى الخير[3] الذي تتصف به البرديات السحرية والرسائل الرسولية. تلك التي تصنف كقوى خارقة للطبيعة – وهي أوصاف تستند إلى تصنيفاتنا ولا علاقة لها بتصنيفات الإنسان البدائي. فحدود عالمه كانت تعِّينها تجربته الحسِّية، التي بوسعنا القول إن زيارة الموتى تنتمي إليها بشكل "طبيعي" جدًا. فقبول ما ليس له صفات حسِّية كشيء موجود يبدو بالنسبة له كخلل على قدر كبير من السخف. وكلُّ المظاهر التي يعزو ""القوى الغامضة" إليها هي حوادث بسيطة ذات طابع علائقي. بمعنى أنها، جميعها، حوادث تزعجه فتؤثر على جسده وتترك عنده بالتالي انطباعًا مثيرًا. فالقمر والميت اللذان يزورانه ليلاً لهما مثل هذا الأثر من حيث الألم أو اللذة. كذلك أيضًا تؤثر عليه الشمس الحارقة وعويل الوحش والنظرة الخاطفة والملزمة للرئيس وأغاني الساحر التي تمده بالقوة من أجل الصيد. فالمانا هي بكل بساطة القوة الفعَّالة التي حولت القمر، المتواجد هناك في السموات، إلى أنت تحرِّك الدماء. تلك التي تغادر ذكراها المسار حين تنفصل صورة الشيء عن الصورة الكلِّية المثيرة؛ وذلك رغم أنها لا تبدو أبدًا، بحد ذاتها، متعارضةً مع فاعل أو مولِّد الأثر. هي تلك التي إن امتلكها الإنسان نفسه – ربما كحجر سحري – يمكن أن تصبح فاعلة في هذا المجال. فـ "صورة العالم" بالنسبة للإنسان البدائي ليست سحرية لأن القدرة السحرية للإنسان موجودة في قلبها إنما فقط لأن هذه الطاقة هي بعض خاص من تلك الطاقة العامة التي ينبع عنها كل فعلٍ فعَّال. وسبب تصوره للعالم ليس وليد تسلسل غير منقطع، إنما مجرد طاقة تتجدد باستمرار وتتجه نحو منتوجها؛ كحركة بركانية غير مستمرة. فالمانا هي تجريد بدئي، أو لنقل ربما، إنها أكثر بدئية من الرقم، وإن لم تكن خارقةً أكثر منه. فالذاكرة ترتب، كما درِّبت على ذلك، الحوادث العلائقية الكبرى، والصدمات العاطفية العفوية. لكن الأهم، فيما يتعلق بغريزة البقاء والأكثر جدارة لأن تتفهمه الغريزة، هو "تلك المؤثرات" التي تبقى قسرية أكثر من سواها، ومن ثم تصبح مستقلة. أما أقلها أهمية وشيوعًا، فهي تلك الأنت المتحولة للتجارب، تلك التي تتراجع وتنعزل في الذاكرة، وتتبدل تدريجيًا إلى شيء ثم تُستدرَج ببطء لتتحول إلى فئات وشرائح. من هذه الثالثة من حيث المرتبة، والرهيبة حينما يتم عزلها، الأمر الذي يجعلها في بعض الأوقات أكثر شبحية من الموت ومن القمر، وإن كانت دائمًا أكثر وأكثر وضوحًا بما لا يقبل الشك، يبرز ذلك الآخر، ذلك الشريك "الذي لا يتغير" الذي هو الـ"أنا". لا يبقى إدراك الـ"أنا" مرتبطًا بالتأثير البدئي لغريزة البقاء بمقدار ما ترتبط به باقي الغرائز. فالـ"أنا" ليست من يرغب في تعميم ذاته، إنما هو الجسد الذي يعرف تمامًا أنه ليس الـ"أنا". ولأنه ليس الأنا إنما الجسم الذي يرغب صنع الأشياء، لأنه تلك الأداة أو اللعبة التي ترغب في أن تصبح "خالقًا"، فإن "التفكير بفكرة"[4]، مهما كان شكله ساذجًا أو مهما كان شكل الموضوع المجرَّب طفوليًا لا يمكن أن نجده في الشكل البدئي للمعرفة. فالـ"أنا" تنبثق مكورةً حوله. والجسم يسعى لأن يتعرف ويتمايز في خصوصياته؛ والتمايز يبقى رغم ذلك مجرد تجاوز صرف، وبالتالي، ليس بوسعه امتلاك صفة الحالة التي تتضمنها الـ"أنا". ولكن حينما تتجاوز علاقة الـأنا ذاتها وتتخذ شكل وجود منفصل، فإنها تتحول أيضًا، هشَّةً وضعيفةً بشكل غريب، إلى مجرد وظيفة علائقية؛ ووسط الحالة الطبيعية الفعلية لانفصال الجسد عن العالم المحيط به، نجدها توقظ تلك الحالة التي تصبح فيها الـأنا فعالة حقًا. عندئذٍ فقط يمكن للفعل الواعي للـأنا أن يتحقق. وهذا الفعل هو الشكل الأولي للكلمة الأساسية أنا–هو، ولتجربة علاقته بالـأنا. فالـأنا المتجاوِزة تعلن عن نفسها كحاملة رسالة، ويصبح العالم المحيط بها غاية تلك التصورات. وطبعًا، هذا يحصل بشكل "بدائي" وليس على شكل "نظرية معرفية". ولكننا حين ننطق بعبارة "أنا أرى الشجرة" وكأنها لم تعد تعبِّر عن العلاقة بين الإنسان–الأنا وبين الشجرة–الأنت، إنما من أجل التعبير عن إدراك بشري حسِّي للشجرة كشيء، نكون قد تجاوزنا ذلك الفاصل بين الشيء وبين الموضوع. ونطقنا بالكلمة الأساسية أنا–هو. *** - أتراه ذلك الحزن من قضاء القدر الذي برز منذ طفولة التاريخ؟ - إنه حقًّا كذلك وبالمقدار الذي يترافق فيه انبثاق الحياة الواعية للإنسان مع طفولة التاريخ. وإذا كانت الحياة الواعية تعني تحول الوجود الكوني إلى فعل إنساني، الأمر الذي يجعل الروح تبدو، عبر الزمن، وكأنها نتاج – لا بل نتاج ثانوي – للطبيعة، إلا أن الروح تبقى مخلِّد للطبيعة. للتعارض بين كلمتين أساسيتين أسماء مختلفة في أزمنة مختلفة وفي عوالم مختلفة؛ لكن حقيقتها المجهولة تبقى متأصلة في الخليقة. *** - لكنك تؤمن رغم هذا بوجود الجنَّة منذ الأيام الأولى للإنسانية؟ - حتى وإن كانت الجحيم – لأن الزمان الذي أرغب العودة إليه كان مليئًا حتمًا بالغضب والخوف والمعاناة والعذاب – إلا أن الأمر لم يكن بأي شكل غير حقيقي. فالتجربة العلائقية لإنسان الأزمنة الأولى لم تكن أليفةً ولا سارة، إنما كانت بالأحرى قوة أثرت على الكائن وعاشها فعلاً، ولم تكن اهتمامًا ظليليًا بأرقام مجهولة الهوية! مما سبق نكتشف أن هناك طريق يقود إلى الله، مما لحق أن هناك فقط طريق إلى العدم. *** في السياق الزمني للكلمتين الأساسيتين يقدم لنا الإنسان البدائي فقط نظرات خاطفة. فحياته، حتى وإن كانت بالكامل سهلة المنال، بوسعها فقط أن تمثل استعارة لتلك الحياة. فنحن نحصل على معرفة أكمل من الطفل. في هذه الحال يصبح واضحًا لنا كالبلَّور كيف تنبثق الكلمات الأساسية من الواقع الطبيعي، حيث تنبثق الكلمة الأساسية أنا–أنت من جمع طبيعي، وتنبثق الكلمة الأساسية أنا–هو من فصل طبيعي. فحياة الطفل التي سبقت الولادة هي حياة جمع طبيعي وتفاعل جسدي وتدفق من واحدٍ لآخر. وأفق حياته، حين يخرج إلى حيز الوجود، يبدو منفردًا، وكأنه مرسوم وغير مرسوم، في قلب الحياة التي أعطيت له. وبالتالي لا يبقى في رحم أمه البشرية. ومع ذلك فإن لهذا الارتباط صفة كونية. من هذا المنطلق يمكن فهم القول الأسطوري اليهودي "في جسم أمه يتعرف الإنسان إلى الكون الذي ينساه حين يولد،" وكأنه مفتاح شفرة لنقوش من الأزمنة الغابرة. وهذه تبقى فعلاً في الإنسان كصورة سرِّية للتوق. وتوقه هذا لا يعني التلهف للعودة كفكرة كما يفترض أولئك الذين يرون في الروح – التي يخلطون بينها وبين فكرهم – عالة على الطبيعة، في الوقت التي هي (رغم كونها معرضة لمختلف أنواع الأمراض) ثمرة أفضل زهرة. إنما التوق هو إلى التواصل الكوني، مع الأنت الحقيقية، لهذه الحياة التي تفجَّرت في الروح. كأية حياة تأتي إلى الوجود، يبقى كل طفل وليد في رحم الأم الكبرى شكلاً بدئيًا لا يمكن تجزئته ولا تحديده. من هذا الرحم، ننفصل نحن أيضًا، فندخل بحرِّية إلى قلب الحياة الخاصة، فننزلق في ساعات الظلمة بحيث نصبح أقرب منها من جديد؛ هذا ما يحدث مع الإنسان الصحيح في كلِّ ليلة. لكن هذا الفصل لا يحصل بشكل مفاجىء وكارثي كما هي الحال حين الانفصال عن جسم الأم؛ فالوقت يمنح للطفل كي يقيم تدريجيًا علاقةً روحيَّةً مع العالم الذي يفقده. فقد خطا خارجًا من الظلمة المتوهجة للشواش إلى النور البارد للخليقة. لكنه لم يمتلكه بعد؛ لأنه يجب عليه قبل كل شيء لفظه بالكامل، بحيث يصبح بالنسبة له واقعًا؛ أن يكتشف بنفسه عالمه الخاص الذي يراه ويسمعه ويلمسه ويشكِّله. فالخليقة توحي، من خلال التلاقي، شكل طبيعتها الجوهرية. هو لا يلقي بنفسه في قلب الحواس الحاملة، إنما يرتقي ليلتقي مع الحواس المستوعبة. تلك التي ستظهر في نهاية المطاف على شكل كائن مألوف يحيط بالإنسان المكتمل التطور، وهذه يجب على الشخص النامي توددها وكسبها بالعمل المضني. لأن لا شيء يعتبر جزءًا جاهزًا ومسبقًا من التجربة. فقط من خلال قوة تتجاوز البشر، فقط حينما نتصرف بالشيء ونتخذ إجراءات بشأنه، يصبح في متناولنا. يعيش الإنسان البدائي كالطفل بين النوم والنوم (لأن قسمًا كبيرًا من ساعات يقظته هي نوم أيضًا) وسط وميض اللقاء ووميض نقيضه. في هذه المرحلة الأولى والأكثر تحديدًا، بوسعنا أن نتلمس الطبيعة البدائية للجهد الرامي إلى إقامة العلاقة. فقبل أن يكون بالإمكان لمس أي شيء منعزل، تنبثق ومضات خجولة من قلب الفضاء الغامض، وتتجه نحو شيء لم يحدد بعد؛ وفي وقت يبدو وكأنه ليست هناك رغبة في الطعام، تتحرك اليدان بنعومة وبصوت خافت في الفراغ، وكأنها تسعى ظاهريًا وبلا هدف للتواصل مع ذلك الشيء غير المحدد. بوسعكم إن شئتم تسمية ذلك الفعل بالحيواني، لكنه لا يفهم بهذه الطريقة. لأن نفس هذه الومضات وبعد عدة محاولات ستحط على ما يشبه سجادًا أحمرًا وستبقى هكذا بلا حراك حتى تفتح لها الروح الحمراء نفسها؛ فحركة اليدين هذه ستكتسب من دمية دب من الصوف الشكل المحدد والجلي للحواس، وستصبح بكل محبة وبشكل لا يمكن أن ينسى، مدركة للجسم كله. لا يعتبر أي من هذه الأفعال تجربة للشيء، إنما مجرد توافق طفل – "متخيل" بالتأكيد – مع ما هو حيٌّ ومؤثر عليه. (وهو "خيال" لا يشمل مع ذلك، على الأقل، "منح الحياة للكون": إنما غريزة أن نحول كل شيء إلى أنت، وأن نعطي للكون علاقة، تلك التي تستكمل غناها في قلب الفعل الحقيقي الحي، حين نعطيه نسخة بسيطة أو مجرد رمز لما يتجاوزه ويتعارض معه.) أصوات صغيرة، متقطعة، بلا معنى ما زالت تنطلق بإصرار نحو الفضاء. لكنها ذات يوم، وبشكل غير منظور، ستتحول إلى حوار. هل يهم إن كانت في قلب إناء يغلي؟ إنها حوار. الكثير مما يوصف بأنه حركة ارتكاسية هو مجرد مجرفة صلبة تستخدم في هذا العالم من أجل بناء الإنسان. لكن هذه الحالة لا تنطبق لأول وهلة على أول شيء يتلمسه الطفل، وما يليه، لأنه بهذا، يصبح على علاقة معه. والجهد في إقامة العلاقة يأتي أولاً – فتتقوس يد الطفل بحيث تتحول إلى أكثر من نقيض يختبىء تحته؛ وتأتي العلاقة الحالية ثانيًا لفظًا للـأنت من دون كلمات، حالة تسبق شكل الكلمة؛ وما يحدث بعد ذلك هو أن تتقطَّع التجارب الأصلية إربًا وأن ينفصل الشركاء المتصلون. في البدء كانت العلاقة – كشكلِ كيانٍ، كاستعدادٍ، كنموذجٍ مستوعبٍ، كقالبٍ للروح، علاقة بديهية[5]، أنت فطرية. تتحقق الذات الفطرية بالعلاقات الحية مع من يلتقيها. وواقع أنه بوسعنا التعرّف إلى تلك الـأنت التي تتجاوز الطفل، والتي يمكن تناولها كخصوصية، وبالتالي يمكن معالجتها مع الكلمة الأساسية، يستند إلى بديهية العلاقة. في غريزة التواصل (الذي يتم أولاً عن طريق التلمُّس ثم عن طريق "ملامسة" النظر لكائن آخر) سرعان ما تتملك الـأنت الفطرية كامل قدراتها، بحيث تتحول الغريزة بشكل أكثر وضوحًا إلى علاقة متبادلة "الحنان". لكن غريزة "الخلق" التي نشأت في وقت لاحق (وهي غريزة تركيب الأشياء الاصطناعية، أو، إن كان الأمر مستحيلاً، تركيبها بطريقة تحليلية عن طريق تجزئها أو تمزيقها) تحددها أيضًا هذه الـأنت الفطرية، بحيث يتم "تشخيص" ما تحقق وتتم "محادثته". إن تطور روح الطفل مرتبط بشكل لا ينفصم بالتوق إلى الـأنت، وبرضى أو بخيبة أمل هذا التوق، مرتبط بلعبة تلك التجارب وبالجدية المأسوية لتعقيداتها. والفهم الحقيقي لهذه الظاهرة، الذي تسيء إليه كل محاولة لحصره ضمن مجالات محددة، يمكن أن يتعزز إن أبقينا فقط في ذهننا، أثناء تجربتها ومناقشتها، أصلها الكوني والماورائي[6]. لأنها تتصل بالعالم البدئي الذي يسبق الشكل، ذلك الذي ينبثق منه الفرد المتجسد المولود إلى العالم، والذي لم ينبثق منه من ثم الكائن المشخصن والمحقق. لأنه فقط بشكل تدريجي، ومن خلال علاقاته، يتطور هذا الأخير خارج عالمه البدئي. *** من خلال الـأنت يتحول الإنسان إلى أنا. فما يواجهه يأتي ويتلاشى، والحوادث العلائقية تتكثاف وتتناثر، ومع تغيُّر وعي شريك الـأنا الذي لا يتغير، يزداد في كل مرة وضوحًا وقوةً. للتأكد، من الممكن رؤيته وهو أسير شبكة العلاقة مع الـأنت، وكلما ازدادت تمايزًا صورة ذلك الواصل الذي لم يتحقق بعد مع تلك الـأنت. لكنه يخترقها باستمرار وبقوة أكبر، حتى يأتي وقت تتقطع فيه الأربطة، وتواجه الـأنا ذاتها لفترة، فتنفصل وكأنها كانت الـأنت، فتعي نفسها بسرعة، وتدخل منذ ذلك الحين في علاقات مع لاوعي ذاتها. الآن فقط يصبح بالإمكان جمع الكلمة الأساسية الأخرى. حتى هذه اللحظة، كانت أنت العلاقة تتلاشى مبتعدةً، لكن من دون أن تتحول إلى هو لـأنا محددة، كانت موضوع إدراك وتجربة يفتقر إلى التواصل الحقيقي – كما سيصبح من الآن فصاعدًا. ويصبح، إن صحَّ القول، نوعًا من هو، بالنسبة لنفسه، يصبح في البداية هو متجاهلة لذاتها، وإن كانت تنتظر كي تنتفض من خلال حدث علائقي جديد. إضافة لذلك يتمايز الجسم، الذي ما زال إلى الآن ينضج في قلب الشخص كحامل لإدراكه ومحقق لنبضاته، عن العالم المحيط. لكن هذا التمايز كان مجرد تجاور سببه تلمُّس الطريق في الحالة المحددة، وليس انقطاعًا كاملاً للـأنا وموضوعاتها. بينما تنبثق الآن الـأنا المتمايزة متحولةً، متقلصة من المادة والامتلاء إلى نقطة وظيفية، إلى شيء يجرب ويستعمل، فتقترب الـأنا وتستولي على كل هو متواجد "في ومن أجل ذاته"، ويشكل مقارنة به الكلمة الأساسية الأخرى. فالإنسان الذي وعى الـأنا هو الإنسان الذي يقول بأن الأنا–أنت تمثل الأشياء، وإن كانت لا تقابلها في قلب دفق الفعل المشترك. لأنه الآن ومع العدسات التي تكبِّر المشاهدات المتناظرة أصبح بوسعه أن ينحني على التفاصيل وأن يجعلها موضوعيةً، أو أنه عن طريق عدسة الحقل المكبرة أصبح بوسعه أن يجعلها موضوعية، ويرتبها كمشهد، ويعزلها ليراقبها من دون أي شعور بتفرُّدها، ويربطها في قلب رسم بياني ليدرسها من دون أي إحساس بكونيتها. فالشعور بالتفرد الذي كان بالإمكان أن يجده شعور له علاقة به، والشعور بالكونية لا يتم إلا من خلاله. فهو الآن، وللمرة الأولى، يجرب أشياءً يعتبرها مجرد مجموعة صفات. ومن كل تجربة علائقية تبقى صفات لها علاقة بالـأنت التي يتذكرها غارقةً في ذاكرته؛ لكنه الآن، وللمرة الأولى، تظهر الأشياء بالنسبة له مؤلفة من مجموع صفاتها. ومن مجرد تذكر بسيط للعلاقة نجد أن الإنسان يحلم أو يكون أو يتفكر، انطلاقًا من طبيعته، فيوسِّع النواة، ذلك الجوهر الذي يبين نفسه بقوة في الـأنت ويجمع في نفسه كل الصفات. لكنه الآن أيضًا، وللمرة الأولى، يحدد الأشياء في المكان والزمان، بواسطة رابط سببي، كل في مكانه ومساره المحدد، بقياساته وطبيعته الاشتراطية. تظهر الـأنت، كن متأكدًا، في الفضاء، ولكن في الحالة الخالصة لما هو أكثر من ضدها، حيث كل شيء آخر يمكن فقط أن يكون الخلفية التي ينبثق منها، وليس حدودها ولا قياس حدها؛ تظهر أيضًا في الزمن، لكن في زمن الحدث الممتلىء بذاته: حدث لا يعاش كجزء من سياق مستمر ومنظَّم، إنما يعاش كـ"أمد" لا يمكن أن يعرَّف بعده الصرف والكثيف إلا في الفترة نفسها. إنها تظهر، في الختام، وفي وقت واحد كفاعلٍ ومفعول به – وليس، بأي شكل، مرتبط بسلسلة من المسببات، لكن، من خلال علاقة تفاعلها المتبادل مع الـأنا، كبداية وكنهاية للحدث. وهذا بعض من الحقيقة الأساسية للعالم الإنساني، أن بالإمكان ترتيبه. فقط حين تتحول الأشياء من أنت لنا، إلى هو خاص بنا، يمكن تنسيقها. لأن الـأنت لا تعرف نظامًا للتنسيق. لكننا الآن وقد بلغنا هذا الحد، أصبح من الضروري أن نسجل القسم الآخر من الحقيقة الأساسية التي من دونها يصبح كل ما سبق شظيةً عديمة الفائدة – بمعنى، إن عالمًا منظمًا لا يعني نظامًا عالميًا. هناك لحظات تتأمل فيها تحديدًا وبصمت عميق هذا النظام العالمي. حينذاك، سيتم الاستماع تمامًا إلى الذاكرة في رحلتها؛ يبقى أن نتيجة العالم الذي يتم تنظيمه يصعب تمييزها. خالدة هي هذه اللحظات، وعابرة أكثر من كل شيء؛ ليس لمضمونها أي محتوى، لكن مقدرتها تكتسح الخليقة والمعرفة الإنسانية، إشعاعات بوسعها أن تتدفق في العالم المأمور وتذيبه أيضًا وأيضًا. وهذا يحدث في تاريخ الفرد والجنس معًا. *** عالم الإنسان مزدوج، وهذا يتَّفق مع موقفه الثنائي. الإنسان يدرك ما يوجد حوله – لكنه يدركه كأشياء فقط، وكذلك هو أيضًا يدرك الكائنات كأشياء فقط؛ إنه يدرك ما يجري من حوله إنما كمجرد أحداث، ويدرك الأفعال كمجرد أحداث؛ كأشياء لها صفات، وكأحداث تتألف من لحظات؛ أشياء يسجلُّها في المكان وأحداث يضعها في سجلِّ الزمن؛ يدركها كأشياء وأحداث محدودة بأشياء أخرى وبأحداث أخرى تقاس بها وتقارن معها: إنه يدرك عالمًا منتظمًا ومنفصلاً. عالمًا موثوقًا إلى حدٍّ ما، عالمًا له كثافته كما له استمراريته. عالمًا نستطيع قياس تنظيمه أيضًا وأيضًا واستنتاجه أيضًا وأيضًا؛ عالمًا يستطيع تجاوزه وهو مغمض العينين، والتحقق منه بعينين مفتوحتين، لأنه موجود دائمًا، إلى جانب ما تلمسه، إن نظرت إليه بهذه الطريقة، وجاثمًا في قلبك، إن كان هذا ما تفضله. إنه الكائن الذي يخصك، وسيبقى كذلك ما دام هذا هو الذي تريد، وفي الوقت نفسه سيبقى غريبًا بالكامل في داخلك ومن دونك. عالمًا تدركه أنت، وتعتبره ملكًا لك وكأنه "الحقيقة"، وهو يسمح بأن يؤخذ؛ لكنه لا يقدم لك نفسه. فقط فيما يتعلق به بوسع نفسك "أن تصبح مفهومةً" من قبل الآخرين؛ وهو مستعد لذلك رغم أنه يرتبط بكل واحد بطريقة مختلفة، كموضوع تتشاركون به جميعًا. لكنه يبقى أن ليس في وسعك الالتقاء فيه بالآخرين. ولا التمسك بالحياة من دونه، فموثوقيته تساندك؛ ولكنك إن متَّ فيه، يصبح مثواك العدم. أو أن الإنسان يلتقي، من جانب آخر، بالموجود فيتجاوز، إلى حد ما، نقيضه، يبقى دائمًا مجرد كائن بسيط وكل شيء يبقى مجرد كيان. فالموجود ينفتح أمامه كحدث، والحدث يؤثر عليه كما هو. ولا شيء موجود بالنسبة له إلا ذلك الكائن الأوحد المتضمن للعالم كله. يزول القياس وكذلك المقارنة؛ لكن، يبقى كامنًا في نفسك مقدار من اللامتناهي الذي يمكن أن يصبح واقعًا. ليست هذه اللقاءات منتظمة بحيث تصنع عالمًا، لكن كل واحدة منها تعبر عن النظام العالمي. إنها ليست مترابطة ببعضها البعض، لكن كل واحدة منها تؤكد لحمتها مع العالم. والعالم الذي يظهر أمامك على هذا الشكل يبدو غير موثوق، فهو يتخذ دائمًا شكلاً جديدًا، وأنت ليس بوسعك أن تبقيه في عالمه. إنه عالم بلا كثافة، حيث يتداخل كل شيء فيه مع كل شيء آخر. لا أمد له لأنه يحدث دائمًا أن يستدعى، وأن يختفي حتى وأن كان موثوقًا بشكل محكم. عالم لا يمكن معاينته، وأن أردت أن تجعله قابلاً للقياس فقدته. إنه يأتي ويأتي ليخرجك؛ فإن لم يتمكن من الالتقاء بك اختفى؛ لكنه يعود مرة أخرى بشكل آخر. إنه ليس خارجك إنما يهزك في العمق؛ وإن قلت "يا روح روحي" لا تكون قد عبرت عنه بشكل كاف. لكن احذر من أن تتمنى إزالته من قلبك – لأنك عندئذٍ تدمره. أنه حاضرك، الذي فقط حين تمتلكه تمتلك الحاضر. بوسعك أن تجعل منه غرضًا لك، كي تجربه لتستعمله؛ وعليك أن تفعل هذا باستمرار – ولكن بمقدار ما تفعل بمقدار ما تفقد الحاضر. عطاء دائم بينك وبينه: فتقول له أنت وتقدم له نفسك. ويقول لك أنت ويقدم لك نفسه. أنت لا تستطيع أن تتفاهم حوله مع الآخرين، لكنك تبقى معه وحيدًا. يعلمك الالتقاء بالآخرين والتمسك بأرضيتك حين تلتقيهم. ومن خلال رشاقة مجيئه ووقور حزن ذهابه يقودك بعيدًا إلى تلك الـأنت التي تتلاقى فيها الخطوط المتوازية للعلاقات. أنها لا تساعدك كي تحيا إنما تساعدك فقط على إلقاء نظرة خاطفة على الخلود. *** في سياق الزمان والمكان يتعين عالم الـهو. أما عالم الـأنت فيقع خارج كلا السياقين. الـأنت الخاصة، وبعد أن يأخذ الحدث العلائقي مجراه، ملزمة بأن تتحول إلى هو. الـهو الخاصة، بدخولها إلى الحدث العلائقي، يمكن أن تصبح أنت. وهتان هما الميزتان الأساسيتان لعالم الـهو. فهي تدفع الإنسان لأن ينظر إلى عالم الـهو كعالم يجب عليه العيش فيه، وكعالم من المريح العيش فيه، عالم يقدم له، حقًا، كل أنواع الدوافع والإثارات، والفعالية والمعرفة. وسط هذا السجل الحدثي للفوائد الصلبة تبدو لحظات الـأنت كحوادث عاطفية ودراماتيكية غريبة، مغرية وفاتنة، لكنها تمزقنا إلى نهايات خطرة. تحلُّ الحالات المجرَّبة، وتترك وراءها من التساؤلات أكثر مما تترك الرضا، وتحطم الأمان – أي أنها باختصار، لحظات غريبة نستطيع الاستغناء عنها تمامًا. لكن بما أننا ملزمين بأن نعيشها وأن نعود إلى "العالم"، فلماذا لا نبقى في (قلب هذا العالم)؟ لما لا ندعو من أجل ما هو أكثر من ضدنا، ونرسله، محزومًا إلى عالم الكائنات؟ لماذا حينما نجد أنه ليس بوسعنا في مناسبة ما إلا أن نقول أنت للأب والزوجة والرفيق لا نقول أنت فعلاً إنما نعني هو؟ فالتفوه بلفظ أنت بأجهزتنا الصوتية لا يعني البتة لفظ الكلمة الأساسية الغريبة؛ لأنه بمقدار ما ليس من الضار أن نهمس في نفسنا بـأنت مغرمة، طالما كنا لا نعني سواها بشكل جدي، فإن ما نقوم به هو مجرد تجربة واستخدام. ليس بالإمكان العيش في الحاضر المجرد. لأنه سرعان ما تُستَهلك الحياة ما لم نتخذ الاحتياطات لكي نقهر الحاضر بسرعة وبشكل تام. لكن من الممكن العيش مع الماضي المجرد، على أرض الواقع، إن كان بوسعه تنظيم الحياة. حيث أن كل ما نحتاجه هو ملء اللحظة بالتجربة والاستخدام، عندها نجد أنه يكف عن حرقنا. وبكل جدية الحقيقة، استمعوا إلى هذا: من دون هو لا يستطيع المرء أن يعيش. لكن الإنسان الذي يعيش معه كـهو فقط ليس إنسانًا. ترجمة: أكرم أنطاكي *** *** *** [1] بمعنى الأنت التي تخصُّني. [2] بمعنى Dynamis كما جاءت في النسخة الأصلية باللغة الألمانية وفي الترجمة الإنكليزية. [3] بمعنى Charis كما جاءت في النسخة الأصلية باللغة الألمانية وفي الترجمة الإنكليزية. [4] بمعنى cognosco ergo sum. [5] بمعنى a priori. [6] بمعنى metacosmic.
|
|
|