|
هايدغر ويونغ: الإقامة قرب الينبوع[1]
يريد اللاوعي أن: يقسِّم ويوحِّد.
حضورات الوجود كمميِّز، موحِّد في الفصل. لا ينصب اهتمامي على افتراض "توليفة" بين هايدغر ويونغ، بل على الأرجح، على اقتراح أن هايدغر يساهم، بشكل خاص، في توضيح بعض الهموم الأساسية في عمل يونغ. المهمة إذًا هي ببساطة أن نترك هايدغر يبين يونغ - وربما العكس صحيح. أود خاصة أن أرسم توازيًا بين فهم يونغ لبنية لاوعي مستقلة "عقلانية" تدع الأضداد "تنساب معًا"، وفهم هايدغر للوجود على أنه المنطق Logos البدائي الذي يجمع ويوفق بين الموجودات في تعارضها المتبادل. 1 يؤكد يونغ في إحدى محاضراته المبكرة المعنونة بـ بعض الأفكار حول علم النفس، التي ألقاها في عام 1897 حين كان طالب طب في جامعة بازل، أن "الروح" "تمتد بعيدًا وراء وعينا"، ويمضي أبعد بالقول أن هذا البعد اللاواعي للروح هو "عقل" لا يستطيع العقل الواعي إختزاله[2]. لا يمكن أن نتتبع هنا تطور التأمل النظري في أعمال يونغ اللاحقة. يمكن مع ذلك أن نلخص موقف يونغ الناضج حول طبيعة بنية اللاوعي، وحول طبيعة علاقة اللاوعي بالوعي في هذه المواقف الخمس: أ - اللاوعي هو بنية عقلانية تتجاوز الشخصية. ب - تسمح البنية اللاواعية العقلانية للتناقضات أن تتواءم ولذا لا تختزل في الوعي الذي "يميز" بحسب يونغ. جـ - الوعي (الأنا) والبنية اللاواعية، حين لا يكون أحدهما مختزلاً للآخر، يعتمد كلاهما على الآخر. د - حتى عندما يكون الوعي (الأنا) والبنية اللاواعية في حالة توافق، يحافظ اللاوعي على أولوية بالنسبة للوعي، فاللاوعي حين يعلِّق يستطيع أن يفتن الأنا ويستحوذ عليها. هـ - حتى عندما يحافظ اللاوعي على أولوية على الوعي، يبقى الوعي هو الوسيط الوحيد الذي" يدرك" عبره اللاوعي نفسه "كحقيقة"[3].
مارتن هايدغر واضح أنه، من منظور هايدغر، يجب أن نبتعد عن أي كلام عن "بنىً" للـ"أنا" كموضوع مستقل. مع ذلك، ثمة توازٍ بين موقف يونغ من الاعتماد المتبادل بين البنية اللاواعية والأنا وبين فهم هايدغر للعلاقة المشتركة بين الوجود والكينونة. بداية، إن فهم يونغ للاوعي كبنية غير قابلة للاختزال قد يكون مرتبطًا بفكرة هايدغر حول الوجود كعملية حضور وكشف شأنها شأن النمو physis "عملية بزوغ، ظهور من الخفي الذي يبقى خفيًا"[4]. صاغ ويليام ريتشاردسون في مناقشته لفكرة اللاوعي ضمن سياق آخر الأمر على هذا النحو: تسمح لنا قراءة هايدغر لمبدأ الحركية عند أرسطو أن نفكر بالآخر (اللاوعي) في البعد الوجودي دون تجسيده hypostasizing، خلقه ontifying، أو إطلاقه absolutizing بأي شكل من الأشكال، لأنه يقترح أولاً و أخيرًا طريقة لاعتبار اللاوعي عملية كشف . إذا "وجد" اللاوعي على الإطلاق، فإنه انكشاف للإنسان،...[5] ربما تكون مناقشة الأنا اليونغية ضمن إطار هايدغري شأنًا أكثر إشكالاً بسبب استبعاد هايدغر الواضح لفكرة "اللاوعي" في حديثه عن البعد الأنطولوجي للكينونة. مع ذلك، لا أعتقد أن هايدغر انفصل تمامًا عن عرف فلسفة للوعي، فالبعد الأنطولوجي للكينونة مفهوم بالتأكيد حسب الوعي، بالطبع، شريطة ألا يُفهم الوعي على أنه مادة أو شيء موجود. بكلمات أخرى، لنعيد صياغة تعليق ريتشاردسون، يسمح لنا هايدغر أن نفكر بالوعي في البعد الوجودي دون تجسيده، خلقه، أو إطلاقه بأي شكل. قد نقول عندها أنه كان مهتمًا أساسًا بتسليط الضوء على البعد اللامادي للوعي والذي قد يسمى، باستعمال مصطلحه، بالبعد الأنطولوجي للوعي[6]. 2 ثمة أساس نصي في عمل هايدغر لفكرة البعد الأنطولوجي للوعي. بدا في كتابه الوجود والزمن مهتمًا بشكل أساسي بإعادة العمل على نظرية الوعي، وليس باستبعادها. فهو يؤكد في القسم العاشر مثلاً على أن تحليلاتنا تطرح المسألة الأنطولوجية للوجود الـ(كلي). وفي القسم الرابع والستين يقول لأنه إذا كانت الذات تنتمي إلى الخواص الأساسية للكينونة بينما أصل الكينونة يكمن في الوجود، يجب إذًا أن نتخيل الـ "أنا"نية والذاتوية بصورة وجودية[7]. ربما يجب الاعتراف أنه لم ينزع في أعماله اللاحقة إلى مناقشة البعد الأنطولوجي للكينونة بأساليب أكثر إبداعًا- أو غرابة- أبدًا. رغم ذلك، لا أعتقد أنه تخلى تمامًا عن مساره السابق في الوجود والزمن. يثبت نصان متعلقان بالموضوع، مُنحا القليل من الاهتمام، هذا الرأي. يلاحظ هايدغر في تأمله الموجز ضمن مقالة مقولة بروتاغوراس - 1940: يقول بروتاغوراس بشكل لا لبس فيه أن "كل" الوجود مرتبط بالكائن البشري كأنا ego (أنا I)، وأن الكائن البشري هو مقياس وجود الكائنات. ولكن ما هي طبيعة علاقة الكائنات بالأنا، مسلِّمين أنه بتفكيرنا الاستعادي للمقولة فإنّا نفكر بطريقة إغريقية ولا نقحم، خطأ، تصوراتنا للكائن البشري كـ "مادة" "فيها؟[8] يتابع ليناقش النفس البشرية باعتبارها "ديمومة" ضمن مجال ما لم يحتجب من الوجود "الهنا"، "حيث تتحدد ذات الكائن البشري كـ "أنا" تخصها، أي بتقيدها بنطاق ما لم ينحجب". ويستنتج[9]: بواسطة هذا التقيد، يغدو الكائن البشري ذاتًا (أنًا)، ولكن عبر تعريفات من قبيل الذي تتبجح فيه الأنا المزعومة بذاتها كمركز ومقياس لكل ما هو قابل للتمثيل."أنا" هو اسم ذاك الكائن البشري الذي يلزم نفسه بهذا التقيد وهكذا يصبح ذاته بذاته.[10] هايدغر مستعد هنا أن يتكلم عن البعد الأنطولوجي للكينونة كذات (أنا) ما دامت هذه الأنا لا تفهم وجوديًا على أنها موضوع "مثيلٍ للذات" مسؤول عن تجميع assembling وتكوين constitution الكائنات. عُدل التعليق على مقولة بروتاغوراس في الملحق رقم 8 من مقالة عمر صورة العالم - 1938. يشير هايدغر في هذا الملحق إلى طريقتين لفهم التعبير البروتاغوري "الكائن البشري كمقياس". يصر على أن الكائن البشري لا يشكل، انطلاقًا من أنوية I-ness منفصلة، مقياسًا يجب على كل شيء أن يوائم نفسه معه في وجوده. الكائن البشري الذي يمتلك العلاقة الإغريقية الأساسية مع ما هو مقياس بحيث يتقبل الكائن البشري التقيد بأفق الكشف المحدود بطبيعة الأنا.[11] بكلمات أخرى، الكينونة هي مقياس ما هو كائن، لدرجة أنه يتوجب على الكينونة أن تتجاوب مع الوجود وأن تبين ما تم قياسه بالكائن. لدرجة أن الكينونة هي مقياس لما هو موجود (وما ليس موجودًا). بهذا المعنى الأنطولوجي، إنها واعية بشكل ما، لأنه بحسب هايدغر، الكينونة كمقياس، بالمعنى الإغريقي الحقيقي "محدودة بحسب طبيعة الأنا". ويضيف: الكائن البشري هنا (بحسب المنظور الإغريقي للأشياء) هو كائن بشري محدد بالنتيجة (أنا وأنت وهو وهي). ولا يفترض أن تتماثل هذه الأنا مع الأنا المفكرة ego cogito عند ديكارت أبدًا.[12] مهما كان تقييمنا لقراءة هايدغر لمقولة بروتاغوراس، يبقى أن هذين النصين يقدمان أسسًا نصية تؤكد أن هايدغر لم يتخل عن فكرة الوعي في حديثه عن البعد الأنطولوجي للكينونة، كان همه أن يسلط الضوء على البعد اللاشخصي للأنا والذي يصفه في هذه النصوص بطريقته الفريدة على أنه "ديمومة" ضمن مجال الظاهر أو على أنه "مقياس" يقاس بحد ذاته بالوجود. 3
قراءة هايدغر بهذه الطريقة تسلط الضوء على تمييز ممتع قام به يونغ. يجهد يونغ،
في تأمل مبهم نوعًا ما في طبيعة الوعي، في نصه سيكولوجيا التحول، في
توضيح بعدين مختلفين للوعي[13].
يحاول أن يميز بين الوعي كـ يتضح الفصل بين الوجود والإنسان- الموجود في انتمائهما لبعضهما[15]. 2. حتى عندما يكون الوجود والكينونة مترابطين فان الوجود، المهيمن، يحافظ على أولوية بالنسبة إلى الهناك Thereخاصته: يبحر الحكيم في خضم النظام المهيمن، يمزقه و يشرِّعه و يدفع الوجود بعنف نحو وجود ما، إلا أن هذا الوجود المهيمن لا يمكن استحواذه[16]. 3. حتى عندما يحكم الكائن سيطرته على الهناك التي تخصه، يحتاج الوجود إلى الكينونة كمكان لكشفه: الكائن البشري مكره على "وجود هناك" كهذا، مندفعًا بالحاجة إلى الوجود، لأن طغيانًا كهذا، ولكي يظهر في سلطته، يتطلب مكانًا، مشهدَ كشف. ينفتح جوهر الوجود الإنساني أمامنا فقط عندما يفهم عبر هذه الحاجة التي يفرضها الوجود نفسه[17]. 4 نصل الآن إلى النقطة الأساسية في هذه المقالة. يؤكد يونغ على أن اللاوعي هو بنية "عقلانية" غير خاضعة للوعي، واقتراحي هو أن فهم هايدغر للكائن على أنه المنطق البدائي يساعد في توضيح موقف يونغ. من وجهة نظر هايدغر، يقترح المصطلح "عقلاني" اعتبارات وجودية، فالعقلانية تحيل إلى كل نهج ناقش به التقليد الميتافيزيقي توافق العارف مع المعروف (الفاعل والمفعول به). بالنسبة إلى هايدغر، اشتُقَّ هذا التوافق وأُسِّس على الانفتاح الأكثر جوهرية للكينونة على الوجود (الذي منحه الوجود أولاً للكينونة)، تفكر الكينونة وفقًا له بالوجود كعملية حضور تظهر به كل الكائنات إلى الوجود (بما فيها الكينونة). يشكل هذا التفكير الأنطولوجي أو التأسيسي foundational الأرضيةَ لكل التوافق الوجودي ontic "العقلاني" بين العارف والمعروف بما في ذلك كل "النشاطات" العقلانية كمثل تجريد الجواهر والمحاكمة العقلية. بالنسبة لهايدغر إذًا، خاطِرُ التفكر الأصلي في الوجود سابقٌ على العقلاني.
كارل غ. يونغ بقول هذا، يتضح أنه ليس من السهل أن نوازي بين فهم هايدغر للوجود على أنه عقل logos وفهم يونغ للاوعي على أنه "عقلاني"، رغم ذلك، إذا اعتبرنا بدقة ما كان في ذهن يونغ حين فكر باللاوعي كعقلانية، يمكن القيام بموازاة مدهشة. يناقش يونغ، في مقطع معنون بـ أفكار شيلر حول مشكلة الأنماط ضمن كتابه الأنماط النفسية - 1921، أن اللاوعي لا يقدر أن يحفظ الأضداد في وحدتها الأصلية لأن جوهر الوعي هو التمييز، التفريق بين الأنا واللاأنا، الفاعل عن المفعول به، الإيجابي عن السلبي، وهكذا"[18]. "يجب"، يجادل، أن نلجأ إلى سلطة أخرى، حيث الأضداد لم تنفصل بوضوح بعد (بالتأمل الواعي)، بل لا تزال محتفظة بوحدتها الأصلية. هذه "السلطة" هي اللاوعي: حيث تعم الحياة اللاواعية الغريزية النقية، لا يوجد تأمل (واع)، لا مع ولا ضد، لا انشقاق، لا يحدث إلا البسيط،.... حيث كل ما هو منقسم ومتعارض في الوعي ينساب معًا نحو التجمع والترتيب[19]. ما يعنيه بدقة بـ "تمييز" ليس واضحًا تمامًا. إلا أن قصده يبدو أن النشاط المعرفي المركزي للوعي هو المحاكمة. قد يتذكر المرء أنه بالنسبة لأرسطو أسسُ المحاكمة المميزة (الكليات والطبائع) التي يحوزها الفهم مجتمعةٌ ومنفصلةٌ في مقولةٍ ما، والمقولة إما أن تُؤكَّد أو تُنكر. لذا، على سبيل المثال، بصدد فهم "الزوجي" وفهم "الفردي"، تُصاغ مقولة "الزوجي ليس فرديًا" وتُحاكم على أنها صحيحة. لكن يونغ يضيف مقترحًا أن النشاطَ العقلي الواعي للتمييز (المحاكمة) اشتقاقيٌّ. نحن ندرك، في مستوىً من الوعي أعمقْ، أن اللاوعي يجمع مثلما يناقض. يسمح اللاوعي لما هو منفصل أو متناقض في "المحاكمة" أن يجتمع، بالإضافة إلى أن هذا الجمع نمذجة، لأنه وكما يلاحظ يونغ، يبدو أن اللاوعي ينمذج المتناقضات في "تجميعات وترتيبات". نمذجة المتناقضات هذه تدل، جزئيًا على الأقل، إلى موقف يونغ القائل أن اللاوعي عقلاني. أو بصياغة أخرى، بالنسبة إلى يونغ، يُشتق المنطق الأساسي من الوعي العقلاني (المحاكمة) ويقوم على منطق اللاوعي الذي يترك التناقضات تجتمع ويبقيها في توتر. فقط لأن اللاوعي يجمع مثلما يناقض، تستطيع التناقضات أن تمتاز في الوعي (المحاكمة). 5 هكذا يُقرِّب هذا الفهم للعقلاني بين فهم يونغ للاوعي وفهم هايدغر للوجود على أنه عقل أو منطق logos. يجادل هايدغر في كتابه مقدمة للميتافيزيقيا أن الإغريق الأوائل استخدموا المنطق logos في تسمية الوجود بـ "مبدأ الجمع الأولي" أو "وحدة التوحيد الأصلية لما ينزع إلى الانفصال"[20]. ويضيف أنه مثلما قال هيراقليطس في الشذرة الثامنة: تتحرك المتناقضات، جيئة وذهابًا، أحدها صوب الآخر، من ذاتِها، تجمع ذاتَها. صراعُ المتناقضات جمعٌ، متجذرٌ في الاجتماع، إنه المنطق logos [21]. ويلاحظ في مقطع آخر، لذا الوجودُ، المنطقُ، كجمعٍ وانسجامٍ..... هو ليس مجردُ الانسجام الذي يسوِّي، يدمر التوتر، ويسطِّح[22]. علاوة على أن الوجود كمنطق لا يدع ما يحمله في سلطته يتبدد إلى حرية خالية من التناقض، ولكنه بتوحيد المتناقضات يحافظ على كامل حدة توترها[23]. ولذا فالوجود بالنسبة لهايدغر، كمنطق بدائي، يجمع ويوفق بين الكائنات في تناقضها المتبادل. يترك الوجودُ المتناقضاتِ "تحدث". ولهذا يمكن أن تحدد استجابة هايدغرية مميزة للموقف الأرسطي التقليدي على هذا النحو: في الـ "لا" في القضية "الزوجي هو اللافردي" يتوارى "لا شيء"، لا- شيء، الوجود، المنطق البدائي الذي يجعل الفردي والزوجي حاضرين كنقيضين. فقط لأن حضورات الوجود تتمثل كتناقضات يمكن فصل التناقضات بالمحاكمة. مهمة الوعي إذًا، هي التفكير في الوجود، ليس بشكل وجودي بدايةً (التجريد والمحاكمة) ولكن بشكل أنطولوجي، كالمنطق، كاللاشيء، الذي يرتب التناقضات ويجمعها معًا. كما يلاحظ لاهيًا نوعًا ما في مقالة العدمية محددة بتاريخ الوجود: الارتقاء ضد الانحطاط، الزيادة ضد النقصان، التمجيد ضد الإذلال، البناء ضد الهدم، كلها تلعب أدوارها كظواهر متضادة counter-phenomena في عالم الكائنات... ينطبق الوجود على جوهر العدمية، ذاك أن الوجود نفسه أملى ألا يخصَّ شيءٌ في التاريخ الوجودَ نفسَه[24]. يناقش في مقدمة للميتافيزيقيا أيضًا بطريقة أخرى أن الوجود يحضر كتناقضات. يؤكد أن الفهم الأرسطي التقليدي للوحدة كـ "تماثل مع الذات self-sameness" مشتق من الفهم الأكثر بدائية للوجود كمثل الواحد hen الذي يسمح لكل الكائنات بالوجود: في حديثنا عن الوجود، يجب أن تُفهم الوحدة كما فهم بارمينيدس كلمة الواحد hen. نعلم أن هذه الوحدة ليست تشابهًا خاويًا، ليست تماثلاً بمعنى التطابق. الوحدة هي انتماء المتنافرات إلى بعضها. هذه هي الوحدة الأصيلة[25]. يتوسع هايدغر في هذا الموضوع في مقالته العقل logos - هيراقليطس، 50 قبل الميلاد. يمنح تفسيرًا جديدًا للغاية للتعبير الإغريقي hen-panta، الواحد والعديد. "Hen-panta هي ليست ما يعلنه العقل"، يقول، "بل هي تسمي الطريقة التي يكشف بها العقل"[26]. بكلمات أخرى، تسمي hen-panta الوجود كعملية متناهية، مؤقِّتة، محضِرة: hen تسمى الواحد شأن الوجود، شأن العملية نفسها التي تسمح بوجود الكائنات كلها، وpanta تسمى تجمع الكائنات التي وجدت عن طريق الواحد كعملية توحيد وجمع. يتم الوصول إلى النقطة الحاسمة حين يلاحظ هايدغر أن حضورات الواحد مع العديد هي تناقضات. يجادل بطريقة حادة خاصة - وشعرية - أنه بإمكاننا أن نرى في العقل logos كيف يظهر "الواحد" موحِّدًا... تجتمع العدة أمامنا في أشياء حاضرة واحدة، هي عادة منفصلة عن، ومناقضة واحدتها للأخرى، كمثل النهار والليل، الشتاء والصيف، السلم والحرب، اليقظة والنوم، ديونيسيوس وهادس. تدَع تناقضات كهذه، محمولة عبر المسافة الأبعد بين الحضور والغياب، الاختلافَ diaphe romenon، تدَع الترتيبَ الذي يجمَع يمتد أمامنا بكامل معناه. ترتيب الأشياء ذاته ينجزها بالبرهنة عليها. الواحدُ ذاته تنفيذٌ[27]. وهكذا، أساسيٌّ في فكر هايدغر موقفُه القائل بأن الوجود بوصفه العقل البدائي يجمع ويوفق الكائنات في تناقضها الخاص. هذا هو الموقف الذي يساعد في توضيح فهم يونغ للاوعي باعتباره بنية "عقلانية" غير قابلة للاختزال في الوعي. يلاحظ هايدغر في مقاله حول منطق هيراقليطس أنه أن توفِّق هو أيضًا أن تجمع (تقرأ) ويضيف: القراءة المعروفة لدينا أكثر من غيرها، أي قراءة شيء مكتوب، تبقى نوعًا واحدًا فقط من الجمع، بمعنى الجمع بالترتيب أمامنا، رغم أنها بالطبع النوع السائد[28]. عبر هذه السطور بالذات ربما نفهم موقف يونغ القائل بأن اللاوعي"عقلاني". أي أن الوعي اليونغي قابل للفهم بحسب القراءة العقلانية intelligere (من الكلمة اللاتينية legere، القراءة) كقراءة توفق وتجمع الكائنات في تناقضها المتبادل، وليس بحسب القراءة العقلانية للتقليد الميتافيزيقي والتي هي قراءة للكائنات، أي تغلغلٌ في جوهر الأشياء وصياغةٌ للأحكام. ربما وضح آكويناس هذا الفهم الميتافيزيقي للقراءة العقلانية حين قال في دي فيريتات: أن نفهم القراءة العقلانية يعني أن نقرأ ما هو داخل الشيء. العقل وحده يتغلغل في الداخل و في جوهر الشيء[29]. أخيرًا، إذًا، تتضح لنا أهمية الموقف الخامس والأخير من مواقف يونغ المذكورة في بداية المقال. "يدرك" اللاوعي نفسه "كحقيقة"، بحسب يونغ، عبر "وسيط" من الوعي. كيف يمكن أن يقال أن الوعي "حقيقة" يصبح محل تدقيق: يكشف اللاوعي نفسه للوعي كعملية تدع التناقضات "تحدث". هذه هي "الحقيقة" التي "تدرَك" عبر الوعي. مع ذلك، عند هذه النقطة، لا يستطيع يونغ أن يقودنا أبعد، ولكن نستطيع بالعودة إلى هايدغر أن نحدد الدلالة الكاملة لموقف يونغ هذا، أي أنا قادرون على أن نفهم أكثر كلام يونغ حول عملية اللاوعي التي تدع التناقضات تحدث- "عقل" اللاوعي- كحقيقة للاوعي. هكذا، في المقالة حول العقل، يفكر هايدغر في أن الوجود كعقل بدائي يسمى أيضًا "الحقيقة aletheia": لأن العقل يجمع أمامنا ما يقع أمامنا هكذا، إنه يكشف ما هو حاضر في حضوره. لكن الكشف حقيقة. الحقيقة والعقل متماثلان. خيار Legein يترك الحقيقة، مكشوفة هكذا، تمتد أمامنا[30]. 6 كعالم نفس، كان يونغ مهتمًا بشكل أساسي بالعلاج. إلا أن فهمه لجوهر العلاج اختلف تمامًا عن فهم فرويد. من وجهة نظر يونغ، بعيدًا تمامًا عن نتيجة الصراعات الشخصية اللاواعية، التي كانت محل اهتمام فرويد، الشفاء، أي الشفاء الجذري، يأتي مع تعرف الأنا على البنية "المهيمنة"، "المقدسة" للاوعي والتي هي "الحقيقة" أيضًا. كثيرًا ما أصر يونغ على وجود بعد ديني للعلاج، ولكنه عنى بهذا بدءًا أن العلاج كان شأنًا دينيًا، تدينًا، إعادة ربط الوعي بالعملية اللاواعية، إعادة اعتبار يقوم بها الوعي لعملية اللاوعي "المهيمنة"، "المقدسة"[31]. رغم أن هَمَّ هايدغر الأساسي لم يكن نفسانيًا، إلا أن ملاحظاته حول "الشفاء" تحوي انسجامًا لافتًا مع ملاحظات يونغ. يسمي يونغ عملية اللاوعي "مقدسة" وهايدغر، خاصة في تعليقه على شعر هولدرلن، يتأمل الوجود على أنه "المقدس". الوجود كالمقدس هو عملية الحضور اللانهائية المخيفة، ولكن أيضًا المجدية، والكينونة التي تقيم قرب المقدس تكتمل، تُشفى[32]. بشفاء كهذا، يضيف هايدغر، تأتي البهجة، إلا أن البهجة التي يتحدث عنها ليست البهجة التي تناقض الأسى، بل هي البهجة المقيمة قرب الحضور المخيف للتناقضات- البهجة والأسى، السكينة والاضطراب، الحياة والموت- التي هي نمو، عقل، وجود. بكلمات هايدغر، الكلمات التي تصف أيضًا الجوهرَ الأساسي لفهم يونغ لعلاقة الوعي باللاوعي، الجوهر الأساسي للسعادة هو عملية الإقامة بالقرب من الينبوع[33]. ترجمة: نوح ابراهيم *** *** ***
[1] نشرت هذه المقالة في مجلة علم النفس الوجودي والطب النفسي، 1993، العدد، 21: 1-3، الصفحات من 50-59. [2] من محاضرات زوفينجيا، نشرت كجزء تكميلي آ من الأعمال المختارة لكارل غوستاف يونغ (فيما بعد ستظهر مختصرة إلى CW)، ترجمة يان فان هيورك (برينستون: منشورات جامعة برينستون، 1983). المقاطع الهامة هي المقاطع 95، 96، 117، 118. [3] للمقطع الأكثر توضيحًا، انظر CW 16، المقطع 502. [4] مارتن هايدغر، مقدمة للميتافيزيقا، ترجمة رالف مانهايم (نيو هافن: منشورات جامعة ييل، 1959)، الصفحات 14- 15، ستظهر فيما بعد مختصرة إلى IM. [5] ويليام جي. ريتشاردسون، التحليل النفسي ومسألة الوجود في شرح لاكان، طبعة جوزيف هـ.سميث وويليام كيريغان، الجزء السادس في سلسلة الطب النفسي والعلوم الإنسانية (نيو هافن: منشورات جامعة ييل، 1983)، الصفحة 147. [6] عرض ويليام جي. ريتشاردسون في مقالته المؤثرة مكان اللاوعي لدى هايدغر فكرة "الذات المتتبعة للوعي onto-conscious self" والتي تحمل، أخيرًا، شبهًا ظاهريًا فقط بطرحي هنا. يجعل المشكلة أن "الذات المتتبعة للوعي هي "ليست الوعي"، بينما أنا أفترض أننا نتكلم بدقة عن البعد الأنطولوجي للوعي. مجلة علم النفس الوجودي والطب النفسي، 5، خريف 1965، الصفحات 279-280. أعيد طبعها في طبعة كيث هولر، هايدغر وعلم النفس (اتلانتيك هايلاندز، ن.ج: منشورات العلوم الانسانية، 1993). [7] مارتن هايدغر، الوجود والزمن، ترجمة جي. ماكواير وأي. روبينسون (نيويورك: هاربر وروو، 1962)، الصفحات 72 و365 خاصة، التي ركز عليها هايدغر. [8] مارتن هايدغر، نيتشه، الجزء الرابع، العدمية، ترجمة فرانك أي. كابوزي (نيويورك: هاربر وروو، 1982)، الصفحة 93، التي ركز عليها هايدغر. قد قمت باستبدال ترجمة كابوزي لكلمة der Mensch إلى "إنسان" بـ "كائن بشري". [9] نفس المصدر، محوَّرًا قليلاً. [10] نفس المصدر، الصفحة 94. النص الألماني للسطر الأخير هو: Name für den Menschen،Ich’ ist der sich in diese Beschränkung fügt and so bei sich selbst er selbst ist. (شدد هايدغر على هذا المقطع). تستعصي الجملة على الترجمة الى لغةٍ الجنسُ فيها حياديٌّ كالانكليزية. [11] مارتن هايدغر، المسألة المتعلقة بالتقنية ومقالات أخرى، ترجمة ويليام لوفيت (نيويورك: هاربر وروو، 1977)، أركز على الصفحات 145- 146. ترجم لوفيت أيضًا der Mensch إلى "إنسان" وقد قمت بالاستبدال ذاته. [12] نفس المصدر، الصفحة 144. [13] CW 16، المقطع 474. [14] IM الصفحة 144، وانظر أيضًا الصفحة 140. [15] نفس المصدر، الصفحة 141، محوَّرة قليلاً. [16] نفس المصدر، الصفحة 161، محوَّرة قليلاً. [17] نفس المصدر، الصفحة 163، محوَّرة قليلاً. ركز عليها هايدغر. [18] CW 6، المقطع 179. [19] نفس المصدر، المقاطع 179، 181. [20] IM الصفحات 128 و131 خاصةً. [21] نفس المصدر، الصفحة 131. [22] نفس المصدر، الصفحة 133. [23] نفس المصدر، الصفحة 134. [24] هايدغر ونيتشه، الجزء الرابع، العدمية، الصفحة 222. [25] IM الصفحة 138، أشدِّد عليها أنا. [26] مارتن هايدغر، العقل (هيراقليطس، الشذرة ب 50)، في الفكر الاغريقي المبكر، ترجمة ديفيد فارل كريل وفرانك أي. كابوزي (نيويورك: هاربر وروو، 1984)، الصفحة 70 محوَّرةً، ركز عليها هايدغر. [27] نفس المصدر، الصفحة 71. [28] نفس المصدر، الصفحة 61. [29] توماس أكويناس، دي فيريتات، المقولة الأولى آ 12. [30] هايدغر، العقل، الصفحات 70-71. [31] انظر مثلاً CW 11، المقاطع 8 و982. [32] أشار ويليام جي. ريتشاردسون بدايةً إلى جدل هايدغر حول هذه النقطة في مقالة الظاهراتية والتحليل النفسي، مجلة علم النفس الظاهراتي، 11، العدد 2 (1980)، الصفحة 19. [33] مارتن هايدغر، ذكرى الشاعر، في كتاب الوجود والزمن، طبعة فيرنر بروك (شيكاغو: هنري ريجني، 1968)، الصفحة 261، محوَّرةً قليلاً.
|
|
|