|
مـن المـخِّ إلى التـربيـة العـصبيَّـة
حوار مع پول شوشار
ولد الدكتور پول شوشار (1912-2003) في باريس. كان والداه اختصاصيين في الفسيولوجيا العصبية. حاز شوشار في العام 1929 في باريس على دكتوراه في الطب وفي العلوم. قام بأبحاثه الأولى في حقل علم المحيطات إبان الأعوام 1930-1932. عمل في مختبر الفسيولوجيا العصبية في "المدرسة التطبيقية للدراسات العليا" EPHÉ التي صار فيما بعد مديرها الفخري. تناولت أبحاثُه المخبرية دراسة التوازن العصبي من خلال التحليل القياسي للكروناكسيا chronaxie (قياس زمن استجابة عضو حي للتنبيه الكهربائي) ونشر حوالى 600 دراسة في الموضوع. درَّس شوشار الفسيولوجيا العصبية في "مدرسة الممارسين لعلم النفس" (1957-1973) وفي قسم التربية التابع للمعهد الكاثوليكي. كما اهتمَّ بطريقة ڤيتوز وبالضبط النفسي للسلوك البشري (الأخلاق الطبيعية) ودرَّسهما وكتب فيهما العديد من المقالات والكتب. وضع حوالى ثمانين كتابًا شملت التبسيط العلمي والبحث والتأمل الفلسفي. وقد تُرجِمَ العديدُ من كتبه إلى مختلف لغات العالم، ومنها العربية. جاب شوشار العالم محاضرًا، وشارك في مؤتمرات دولية عدة، حتى أقعدتْه الشيخوخة عن ذلك. ترأس "جمعية تِلار دُه شاردان" حتى وفاته. سمير كوسا * * *
سمير كوسا: أود أن نبدأ حديثنا باستعراض تاريخيٍّ إجماليٍّ للأبحاث التي آلت بالعلماء إلى الاستنتاج بأن المخ هو مقر الوعي. پول شوشار: جرت العادة، تقليديًّا، على المعارضة بين الوعي والمخ، على اعتبار أن المخ مصنوع من المادة، حتى إن الماديين في بداية القرن [العشرين] كانوا يضعون كلَّ شيء في خانة المخ: فالوعي، في نظرهم، لم يكن موجودًا، بل كان "ظاهرة عارضة"، كما كان يقال وقتذاك. في المقابل، كان من البديهي، في نظر أصحاب المذهب الروحي، ألا يحوي المخُّ الوعي، بما أن الوعي من طبيعة "روحية". كان الروسي پاڤلوڤ رائدَ الفسيولوجيا الحديثة ومؤسِّسها الكبير، وإليه يرجع الفضلُ في تأسيس الفسيولوجيا العصبية أيضًا. والطريف في الأمر أن پاڤلوڤ أراد الاقتصار على الفسيولوجيا العصبية وحسب، ولم يُرِدْ أن يهتم لعلم النفس؛ لكن دراسته للمخ بواسطة مناهج المنعكَسات الشرطية كانت من الجودة بحيث أفضت به إلى اكتشاف الميكانزمات المخِّية للوعي. وفي ما بعد، تمَّ تطوير تخطيط الدماغ الكهربائي، بما مكَّن العلماء من معرفة الفارق بين المخ النائم والمخ اليقظ. أما الحدث الثوري حقًّا فكان الإفادة من عدم إحساس المخ بالألم، مما أتاح وضع إلكترودات – وهي أسلاك معدنية موصولة بالنشاط الكهربائي المخِّي – في نقاط بعينها من مخِّ كائن حيٍّ منوَّم، حيواني أو بشري؛ وبالطبع لا تتم التجربة على إنسان صحيح – إذ ليس من سبب يدعو إلى ثقب جمجمته! –، بل على شخص مريض مصاب، مثلاً، بورم في المخ. وقد أتاح ذلك، إذا كانت التجربة تتم على إنسان، رؤيةَ ما يجري في المخ في أثناء سلوك بعينه، أو كذلك إطلاقَ سلوك ما بواسطة التحريض الكهربائي. بيد أنه ليس من المستطاع أن نسأل حيوانًا حرضناه على الغضب إذا كان غاضبًا حقًّا؛ أما إذا حرَّضنا المنطقة الحركية عند إنسان واعٍ مستيقظ، فيمكن لنا أن نسأله عن سبب تحريكه لأصابعه، فيكون جوابه، مثلاً، أن الحركة أفلتت منه وأنه لم يكن ينتويها حقًّا. بذا نرى أن الحاجز الفاصل بين الموضوعي والذاتي قد انهار نوعًا ما في هذه التجارب. أما المرحلة التالية فكانت اكتشاف حالة الحلم والنوم، وذلك بدراسة حالة الوعي من منظار الفسيولوجيا العصبية. سابقًا كان يقال إن هناك حالتين: حالة الفرد "اليقظ" وحالة الفرد "النائم". تتميَّز حالةُ الحلم بحالة خاصة للمخ تُترجَم إلى موجات سريعة، كما لو أن النائم يقظ، في حين أنه في الواقع مستغرق في نوم عميق، وكذلك بضروب متنوعة من العلامات، كحركات العينين السريعة. عند ذاك، طفق العلماء يقولون بأنه لا توجد اليقظة والنوم وحسب، بل طائفة كاملة من حالات الوعي. بذا صارت الحالات الصوفية هي الأخرى موضع أبحاث. ويجوز لنا أن نقول إن الفسيولوجيا العصبية صارت الفسيولوجيا العصبية للوعي. وأما الثورة الأخيرة التي غيَّرت وجه الوعي فهي ما نتج عن أبحاث روجر سپيري وعن إعادة الاعتبار للمخ الأيمن: فقد كان من المعروف أن الوعي المنعكس [وعي الوعي] أو الروحي مرتبط باللغة، بالنطق، وبالتالي بالمخ الأيسر لدى المرء الأيمن؛ أما اليوم فقد تبيَّن وجودُ وعي بشري حيواني النمط، لكنه حيواني مطوَّر، وعي حسي خالص، هو وعي المخ الأيمن. س.ك.: لنعدْ قليلاً إلى الوراء. هناك مشكلة التموضُعات التي مازالت قائمة إلى اليوم. فقد كان يُظَن أن لكلِّ شيء موضعه في المخ، وقد تمَّ فعلاً تعيين نواحٍ تخص كلَّ وظيفة، والكلام اليوم يجري على نصفَي كرة المخ (أو المخَّين). فما الارتباط بين هذا كلِّه وكيف تطوَّرت الأبحاث؟ پ.ش.: تركَّز الاهتمام، أولاً، على التنظيم المقابل للتموضُعات البسيطة، الحركية والحسية، فتبيَّن أن التنظيم موجود في نصفَي الكرة كليهما: هكذا يتصل الجانب الأيمن من الجسم بالمخ الأيسر، والعكس بالعكس. أما حين كان المقصود هي النفسانية والوعي، فكان يُظَن أن المخ الأيسر وحده هو المعني؛ ويرجع ذلك إلى التمسك بفكرة عزيزة على قلوب بعض الفلاسفة، ومُفادها أنه لا يوجد وعيٌ سوى الوعي المنعكس [الفكري] البشري. بذا تكلَّم ديكارت، مثلاً، على "الحيوان–الآلة". المطلوب، إذن، هو أن نعرف ما نسمِّيه بـ"الوعي". يعيد العلم الحديث، مع الأفكار التطورية، تنصيب الإنسان سيدًا على السلسلة الحيوانية. يوجد فينا، إذن، مستوى وعي أعلى، هو وعي المخ الأيسر، المنعكس والمنطوق؛ كما يوجد أيضًا مستوى وعي أدنى، هو وعي المخ الأيمن الذي سميته، منذ زمن طويل، بـ"الوعي الحيوي" كي أبيِّن أن هذا الوعي مرتبط بالكائنات الحية. س.ك.: إذًا في نظرك ينتج الوعيُ عن أداء المخ؟ پ.ش.: نعم، الوعي في نظري هو خاصية من خاصيات المخ. وإذا كان للإنسان وعيٌ أعلى ومنعكس، فذلك بالدقة من فضل هذا النمط الجديد من أداء المخ، ألا وهو مخ اللغة الأيسر. س.ك.: لدينا، إذن، حاليًّا نظرية المخَّين هذه. إنما لا بدَّ من الإشارة إلى أن تصورنا عن هذين المخَّين كان في البداية جامدًا، بل كاريكاتوري: كأن يُعتقَد بأن نصف مخِّ بعينه يحتكر تلك الوظيفة أو ذاك النوع من الإدراك دون النصف الآخر... پ.ش.: نعم، كان هذا من قبيل المبالغة تمامًا! دونك، مثلاً، المخ الأيسر الذي، على الرغم من اختصاصه باللغة، يستضيف صورًا غير لفظية، إلخ، كما في المخ الآخر. من ناحية أخرى، يرتبط الوعي أساسًا بتأليف لكل المدرَكات الواردة من الجسم التي تعيِّن موقعنا في المكان: يجري ذلك في المخَّين كليهما، ثم تتم الترجمةُ لاحقًا إلى ألفاظ في المخ الأيسر. س.ك.: هناك نظريات وتصورات أخرى للمخ، كنظرية ماكلين، مثلاً، عن الأمخاخ الثلاثة، التي قام آرثر كوستلر بتبسيطها للجمهور. ترى هذه الأطروحة مخَّ الإنسان مركبًا من ثلاث طبقات، هي على التوالي: مخ الزواحف، مخ الثدييات، والمخ المميِّز للإنسان أخيرًا. وقد قام ماكلين مؤخرًا بمراجعة نظريته وتدقيقها. كان رأي كوستلر أنه لا يوجد تنسيقٌ منسجمٌ بين هذه الأمخاخ الثلاثة، وعن هذا ينجم العنف والتناقض الذي ينخر في عالمنا. وأضاف أنه، ربما، قد تستطيع وسيلة علمية – جراحية أو غير ذلك – أن تتدارك هذا العيب يومًا ما. فما رأيك في هذه الأطروحة بالذات، وفي آراء كوستلر؟ پ.ش.: يمكن لنا أن نقول بأن نظرية الأمخاخ الثلاثة هذه دقيقة؛ إذ إنها تصف الإتقان التطوري المتدرِّج. لكن، بالطبع، ليس فينا مخ "زاحف"، لأن كلَّ شيء فينا مؤنسَن؛ ومن ثمَّ فإن مخنا البدائي، الأدنى، المكافئ لمخ الزواحف، متفوِّق جدًّا على نظيره لدى الزاحف، وإن تكن له وظائف مناظرة. غير أن ما يبدو لي خطيرًا في هذه الأطروحة هو الميل، من ثمَّ، إلى الكلام على المستوى الأخير، المستوى البشري، كما لو أنه يكاد أن يكون من طبيعة مغايرة. أمر آخر هو أننا نغفل، لدى الكلام على المخ البشري الأعلى أو قشرة المخ الحديثة، المخَّ الحقيقي الأعلى، الذي يكاد أن يختلف عند كلِّ فرد، وهي المناطق ما قبل الجبهية التي يختص بها الإنسانُ نوعيًّا والمسئولة عن المستوى الأعلى كلِّه: ضبط النفس، الإرادة، إلخ. أما فيما يخص الجانب العملي، فلو نظرنا إلى ماهية البشر إحصائيًّا، لأجمعنا على أن كلَّ شيء يحدث كما لو أنهم سيئو الجِبِلَّة؛ والأحرى أنهم ليسوا كذلك، بل هم سيئو التربية. تربَّينا في دور الحضانة حيث علَّمونا أن الإحساسات والنشاطات إلخ هي أهم ما في الحياة؛ ثم في المدرسة والجامعة، يحاولون تلقيننا ثقافةً فكريةً منقطعةً عن العالم، أي جَعْلَنا، بعبارة أخرى، "مخيِّين". والإنسان "المخِّي"، في نظري، هو مَن لا يجيد استعمال مخِّه. وإذن، في نظري، بما أن الإنسان سيئ التربية، لا يجوز أن نلتفت إلى الطب والجراحة لتغييره، بل يجب بالحري أن نلتفت إلى الطرق المسماة بـالتربية العصبية ونتعلم منها حُسن استعمال المخ. ونذكر في عداد هذه التربيات العصبية الهيپنوصوفرولوجيا [تنويم خفيف] الذي أسيء فهمه كلَّ الإساءة. فالتنويم [المغناطيسي]، كما برهن على ذلك پاڤلوڤ، ليس حالة من حالات النوم – إذ إننا لم نقع فيه على الموجات [المخية] البطيئة المميِّزة للنوم –، بل هو حالة يقظة. فعندما نضع شخصًا ثائر الأعصاب ومتعبًا في وضع استرخاء يستعيد المخ حسنَ أدائه. وأنا على خلاف مع ديكارت الذي قال: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وعلى خلاف أيضًا مع سارتر الذي كتب في الكلمات أنه، منذ طفولته، كره الطبيعة وكان ينزوي في مكتبة ليقرأ ويفكر ويكتب. من منظار التربية العصبية، يمكن لنا أن نقول: "أنا أشعر إذن أنا موجود، أنا أعمل إذن أنا موجود، أنا أتخيل إذن أنا موجود، أنا أرغب إذن أنا موجود، إلخ" – وتنطوي الـ"أنية" التي تظهر في هذه الجمل على ضبط المخ لهذا كلِّه. وما الضبط المخي إلا الإرادة في حقيقة الأمر. لكن القوم لم يعودوا يجسرون على الكلام على "الإرادة"، لأنهم حوَّلوا الإرادة إلى "إرادويَّة" volontarisme هي أشبه بقوة روحية وظيفتها قهر الجسد! ولما كانت الإرادة وظيفة من وظائف المخ، فلا بدَّ بالتالي من إحلال الهدوء في النفس. تناقشت ذات مرة مع الدكتور برجيه لإيجاد كلمة أخرى تغنينا عن "الإرادوية" وغيرها مما شابه، فقال إن الأفضل هو الكلام على "قيادة النفس"، لأن السفينة، مثلاً، تحتاج إلى طاقة كبيرة لتسييرها، في حين أن قيادة دفة السفينة لا تحتاج إلى شيء من ذلك، وهي العنصر الأهم. اهتممت، إذن، بالطرق [الرياضات] كلِّها، غربيِّها وشرقيِّها، وبالأخص بطريقة أود التعريف بها في كلِّ مكان. إنها في الواقع أكثر من طريقة؛ إنها فن حياة كان ابتكره الطبيب السويسري ڤيتوز المتوفى في العام 1925. وضع ڤيتوز تمارين تسمح بأن نحيا ملء الإحساس، في اللحظة الحاضرة، وأن نحيا بمخيِّلة منضبطة. نجد الاهتمام ذاته لدى كويه الذي كان ينصح بترديد تسبيح عَلماني: "اليوم ستجري الأمور أفضل من البارحة...". يهزأ الناس من هذا، والواقع أنهم يفعلون عكسه، فيقولون: "اليوم يوم مريع، عندي موعد سيفشل حتمًا"، إلخ – إنهم يفعلون عكس كويه بالتمام!
س.ك.: هناك وصف آخر للمخ تقدِّمه لنا الأطروحة المسماة بأطروحة "الواحدة القياسية" modulaire. هل لك أن تشرح لنا المقصود منها؟ پ.ش.: إن شانجو هو الذي توسع في هذا الوصف في أبحاثه، ثم في كتابه. وهو يبيِّن أن لدينا من الخارج، من قمة المخ إلى القاعدة في المادة السنجابية [الرمادية]، أعمدةً من النورونات [الخلايا العصبية] حسنة التنظيم وأن ما يصنع الفارق في عدد الخلايا بين الشمپانزي، مثلاً، وبين إنسان لا يتأتَّى من فارق في بنيان الواحدات القياسية، بل بالحري من وجودها بأعداد أكبر بكثير لدى الإنسان؛ أي أن المساحة هي التي تزداد إذن. وقد بتنا اليوم أقدر على تعيين عدد النورونات في مكان بعينه تعيينًا أفضل. قديمًا كان يُعتقَد أن لدينا 14 مليار خلية عصبية، فيما تشير الأبحاثُ الحديثةُ إلى وجود 25 أو 30 مليارًا، وقد لا يقيَّض لنا أبدًا أن نعرف العدد الدقيق. أما الدراسات على النورونات وما يجري فيها كهربائيًّا وكيميائيًّا فهي تتقدم في سرعة مطَّردة. س.ك.: هناك نموذج آخر أود أن نتطرق إليه هو النموذج "الهولوغرافي" للوعي أو للذاكرة. فكيف تمَّ التوصلُ إليه، وما قولك فيه؟ پ.ش.: إنها، عمقيًّا، مشكلة الذاكرة برمَّتها. فلنعلم أن الفرضيات المطروحة عديدة، لكن الذاكرة تبقى مجهولة تمامًا من منظار الفسيولوجيا العصبية. ولقد نشب، منذ مدة، خلافٌ عقيمٌ بين أنصار وجود دارَّات للذاكرة – أي أن الذاكرة تعمل في دارَّات – وبين القائلين بوجود "جزئيات ذاكرة"، بانين اعتقادهم هذا على أبحاث أُجريت على ديدان الپلاناريا الصغيرة، ثم على تجارب أونغَر على الجرذان – الأمر الذي حدا ببعض الصحافيين إلى التعليق الساخر على "جزئيات الذاكرة" فقالوا: "غدًا لن نعود في حاجة إلى متابعة الدروس، فحسبنا أن نأكل المدرِّسين!" أما الواقع فهو بعيد كلَّ البعد عن هذا. الذاكرة ليست مرتبطة بنشاط مخي: إذ لما تمَّ خفضُ حرارة مخ شمپانزي إلى درجة أدنى من الصفر ثم جرى إنعاشُه، فإن القرد لم ينسَ بتاتًا أن [الضغط على] الزر الأحمر يعطي موزة وأن [الزر] الأخضر لا يعطي شيئًا. وإذن فالذاكرة باقية، حتى في مخٍّ واقف عن النشاط. ثمة حتمًا قاعدة كيميائية [للذاكرة] ترتبط، أغلب الظن، بتعديل في خصائص نقاط التشابك العصبية synapses. تقوم النظرية الهولوغرافية على التجارب العديدة التي تبيِّن أن الذاكرة غير متموضعة في نقطة بعينها من المخ وتقول بأن تسجيل الذاكرة أشبه بالتصوير الهولوغرافي، حيث يوجد كل شيء في آنٍ معًا، وحتى إذا كسرنا اللوحة الفوتوغرافية أمكن لكلِّ جزء أن يعيد تشكيل الصورة كلها. هذه الفرضية مهمة، وهي تتلاقى مع النظريات الهولوغرافية للكون؛ لكننا لا نستطيع القول، في الوقت الحاضر، إنها مبرهَنة. س.ك.: لنعد الآن إلى الصلة القائمة بين الوعي والمخ. تقول الفرضية الهولوغرافية وغيرها من النظريات بأنه حتى إذا أُتلِفَ قسمٌ كبيرٌ من المخ يمكن للشخص أن يستمر في الأداء وكأنَّ شيئًا لم يكن. لقد درستَ طويلاً، في كتاب بات قديمًا، "الميكانزمات المخية للاستيعاء"؛ فكيف تنعقد الصلةُ بين المخ والوعي؟ پ.ش.: من المؤكد، في خصوص النفسانية والوعي، أنه لا يوجد أي تموضُع، كما بيَّن پاڤلوڤ، بل إن كلَّ شيء يتوقف على عمل المخ الإجمالي؛ وحدها الوظائف الحسية والحركية الأولية تتموضع في نقاط محددة. فالاختلاف الكبير بين الحيوان والإنسان هو في ما دُعِيَ سابقًا بـ"المناطق المحايدة" و"مناطق الترابط" zones d'associations. إذ تكاد المناطق المحايدة والحسية أن تشغل مخَّ الحيوان برمَّته، في حين أن سعة منطقة الترابط العليا – وهي ما قبل الجبهي le préfrontal – أكبر لدى الإنسان. س.ك.: يصر بعض القوم، مثل شانجو، على أن الوظائف النفسية كلَّها هي نتاج للمخ. وهم يستخدمون، إسنادًا لهذا الإصرار، النظريات الحديثة في التنظيم الذاتي ونظريات المنظومات، فيقولون بأن الوعي حاصل إجمالي للمخ، وليس لكلِّ قسم منه على حدة. في نظري، تتذرع هذه المحاولةُ بمظهر الشمولية المزعوم هذا لتستر دومًا الاختزالية التي تعتقد بأن الأعقد ينبثق من الأبسط. فما رأيك في ذلك؟ پ.ش.: إني متفق مع ما قيل. إلا أن ذلك يتوقف أيضًا على الآليات rouages، وهذه تعني هنا أنه في كل خلية يوجد وعي خلوي. وإذن، لو كانت نوروناتنا قِطَعًا ميكانيكية خاملة لما كان هناك وعي. ومن ثمَّ فإن تكامُل هذه المجموعة ككل هو مُولِّد الوعي الأعلى، بمستوييه المختلفين: الحيواني والبشري. فالمشكلة، قبل كلِّ شيء، مشكلة جودة التفكر الفلسفي. وتراني لا أتردد في القول، على نحو قد يصدم الفيلسوفَ الروحانيَّ المذهب، بأن النفسانية والوعي برمته خاصيتان من خاصيات خلايا المخ. الأمر، إذن، ظاهرة كهركيميائية. سيقول الفيلسوف إني بذلك أشتق الأكثرَ من الأقل والروحيَّ من المادي. وأرد على الفيلسوف أنه مُحِقٌّ حين ينصدم، ولكن لا يقولنَّ لي إن كلامي غلط، لأن كلامي صحيح، وما عليه إلا أن يتدبَّر أمره كي يفسِّر كيف يمكن للتنظيم المخِّي توليد الظواهر النفسانية والروحية. كان جان برنار موضوعيًّا جدًّا في كتابه "وماذا عن الروح؟"، سألتْ بريجيت، إذ قال بوجود المذهبين الروحي والمادي، ومن حقِّ بريجيت أن تختار بينهما من دون حجَّة علمية. غير أن ثمة عبر التاريخ أشكالاً مختلفة من المذاهب الروحية: وهكذا من أفلاطون إلى ديكارت إلخ نجد الثنويين القائلين بأن النفس منفصلة عن الجسم، مثلما نجد أيضًا مذهب أرسطوطاليس وأتباعه [مثل ابن رشد وتوما الأكويني] القائلين بأن "النفس صورة الجسم". لكننا أمام التكاثُر المطَّرد للنظريات العلمية في المعلومات، حيث تظهر المعلومة ماديةً في مبناها، كما في المخ، وفي الآن نفسه، روحيةً في معناها [مضمونها]، ترانا اليوم في حاجة إلى فلسفة للمعلومات، وأظن أن "النفس صورة الجسم" تمثل فلسفة مناسِبة تمامًا. يقال اليوم: بما أن كلَّ شيء منحصر في المخ، فإن كلَّ شيء سوف يختفي باختفائه، ولن يتبقَّى شيء بعد الموت. إنها لمحاكمة فلسفية رديئة. صحيح أن من قبيل الحُمق الإصرارَ على البرهان على خلود النفس بواسطة الفسيولوجيا العصبية، لكن ما من سبب علميٍّ للقول بأن كلَّ شيء سوف يختفي بعد الموت! س.ك.: هناك أطروحة أخرى، تلك التي يتبنَّاها بعض العاملين في السيبرنتيكا وفي حقل الذكاء الصنعي. ففي نظرهم، يمكن للكمپيوتر أن يكتسب الوعي ذات يوم. وهكذا، يعتقد بعضهم أن ما يعيق الكومپيوتر عن ذلك متأتٍّ من أن وحدة المعالجة فيه – ولنقل "خليته العصبية" – ليس لها سوى مدخل واحد ومخرج واحد، في حين أن نورونات المخ [خلاياه العصبية] ترتبط فيما بينها بمئات الروابط. وقد أُجريت محاولاتٌ لمحاكاة شبكة المخ الخلوية هذه، فجُمِعَتْ واحداتُ معالجة صغيرة ورُبِطَ بعضُها ببعض بواسطة العديد من المداخل والمخارج، ثم أُغلِقَت المنظومةُ على ذاتها بحيث صار لها مدخل ومخرج إجماليين للمنظومة كلِّها. (ولنقل إن المدخل يمثل للحواس فيما يمثل المخرج لاستجابة المنظومة.) وهكذا، من بعد أن تمَّ جمعُ عدد معيَّن من هذه الواحدات القياسية، لوحظ أن انقطاعًا أو عطلاً في واحدة من واحدات المنظومة لا يبدل من الاستجابة الإجمالية للمنظومة ولا يُخِلُّ بها، بما يشبه ما يحصل في المخ. لذا يعتقد هؤلاء القوم أن المخ يشتغل في صورةٍ مناظِرة، ويعتقدون أنهم سيتوصلون في المآل إلى خلق إنسان صنعي واعٍ. فما رأيك؟ پ.ش.: هو ذا نموذج ميكانيكي للمخ مهم للغاية. فبفضل السيبرنتيكا والبيوإلكترونيات bionics إلخ، شهدنا تقدُّم تصميم الآلات ومعرفتنا للمخ في آنٍ معًا. ويمكن لنا، بديهيًّا، أن نمضي إلى أبعد بكثير، فنجد أنه لا داعي لوضع حدود. لكن ما يستحق، في نظري، تسمية "الوعي" لن يظهر في هذه المحاولات، لأننا يجب ألا ننسى المَعْلَم الحسي، الوجداني، إلخ. وأنا ساخط على أناس، على غرار ديكارت ومالبرانش، لا يبالون إذا ركلوا حيوانهم الأليف لأنه كالآلة لا يتوجع – عدا المال الذي قد يكلِّفنا ذلك! لن يزعجني ركلُ كمپيوتر، حتى إذا كان مبرمَجًا على الصراخ في هذه الحالة! يبدو لي هذا كله نسخة ميكانيكية لا تمت إلى أساس الوعي بصلة. س.ك.: أتفق معك، لكن هؤلاء الباحثين يقولون بأن من المنظومة ستنبثق خاصيةٌ جديدةٌ لم تكن موجودةً في كلِّ واحدة على حدة؟ پ.ش.: نعم، وهذا يشبه ما يجري في المخ. ولكن، في نظري، هذا لا يُبرهَن عليه لأنه أدخَل في باب الفلسفة منه في باب العلم. المهم هو أن قِطَعَ المخ ذات تعقيد لا يمكن سبره؛ وبالتالي، فنحن أبعد ما نكون عن يوم نرى فيه كائنًا حيًّا مصنوعًا في المختبر – ڤيروس صغير حتى – وليس من المؤكد أن نتوصل إلى ذلك يومًا ما. لكن لنفرض، جدلاً، أننا سننجح ذات يوم في صنع إنسان بتجميع خلايا حية، إذ ذاك، قد يجوز أن يظهر وعي. لكني أظن أن هناك فارقًا كبيرًا مع القطع الجامدة. س.ك.: تكلمتَ قليلاً عن الأخلاق وعن التربية، وأود أن نختم حديثنا بالعودة إلى مشكلة تربية المخ. يقول بعضهم إننا لا نستعمل سوى حوالى 10% من قدرات المخ... پ.ش.: هذا قابل للجدل. لنأخذ مثالاً: إذا كنت أجيد لغةً واحدةً فإنني أستعمل مخِّي أقل مما لو كنت أتكلم لغات عدة. بالمثل، عندما أتعلم طريقة ضبط النفس، لا يمكن القول إن هناك مناطق كانت عاطلة تمامًا عن العمل، بل الأصح إنه يتم استعمال المخ المتعب والمتوتر استعمالاً أفضل... س.ك.: فكيف "نربِّي" المخ، إذن؟ پ.ش.: تتيح لنا التربية العصبية القوانين الصحية في أداء المخ؛ وهي ما أسمِّيه، بحسب مصطلحات پاڤلوڤ، بـ"الإشراطات المحرِّرة". لقد رُفِضَت ورقةٌ تقدمتُ بها في أحد مؤتمرات علم النفس الدولية طارحًا فيها مفهوم "الإشراط المحرِّر" هذا، لأنه ليس مسموحًا لرجل العلم أن يتكلم على الحرية! فما الحرية، في نظري، سوى مجرد حتمية دماغية عليا. س.ك.: ومن أين تأتي هذه الحتمية؟
غلاف كتاب شوشار رسائل حواسنا، سلسلة "ماذا أعرف؟" (138)، عن المطبوعات الجامعية الفرنسية. پ.ش.: المخ هو ما يتيح لنا أن نكون حاضرين في ما نشعر به، نفكر فيه، نفعله، إلخ – وتلك هي الإرادة. ولكي نكون حاضرين لا بدَّ لجميع حواس قاعدة المخ أن تكون هادئة. يجب أن نضع أنفسنا في حالة جلاء وهدوء وحضور. دونك الوجدان. ليس لدينا هاهنا غير طريقتين عامتين للعمل: إما أن نتبع الأخلاقية التقليدية، وبذلك نصير مكبوتين؛ لكن بما أن فرويد علَّمنا أن الكبت خطير، ترانا نرفض الكبت فنطلق مكبوتاتنا على عواهنها! وليس أي من هذين الحلَّين منبعًا للحرية. لم يقل فرويد بتاتًا أن التلقائية غير المهذَّبة هي الحرية. إننا نتجاهل القانون الأساسي تمامًا. إن قوانين البيولوجيا ووظائف المخ هي قانون الاعتدال الأمثل. وهذا يعني أن الإفراط والتفريط متكافئان! ويصح ما سبق على حالة الانتباه: إذا بذلت جهدًا كبيرًا لأكون متنبهًا لن أفلح في هذا؛ لكني، على العكس، – بما أن القيام بهذا خطير، – إذا أقلعتُ عن الانتباه، لن أصل إلى أيِّ حل. الحل هو في الهدوء. فالمسألة دومًا هي تحقيق التوازن. لهذا السبب، توسَّعت في الجانب الأخلاقي واسترجعت أطروحة "الخطايا السبع المميتة" (لا يهم عددُها كثيرًا) الكلاسيكية الشهيرة؛ فهذه "الخطايا" تشمل ميادين الحياة المهمة: الكينونة، الملكيَّة، التغذية، الجنس، إلخ. فلقد حرَّمت الكنيسة هذه الخطايا السبع وتغافلت عن أن تقول الأمر الواحد الذي ينبغي لنا عملُه: أنسنتها. يقال لنا، مثلاً، إن الشراهة سيئة جدًّا، وبذلك نكفُّ عن تناول المأكولات اللذيذة! لكن المأكولات اللذيذة جزء من فن الطبخ، ذلك الاختراع البشري الرائع! أقول بأن النموذج الأولي للحكمة والتوازن هو أن يكون المرء ذواقة: فالذوَّاقة هو مَن يضبط دوافعه ضبطًا جيدًا ويعرف، في الوقت ذاته، التلذذ بالأشياء حقًّا. بالمثل، أُدينَ الجنسُ بوصفه فسقًا، ومن جراء ذلك، ذهب القوم إلى القول بأن الفضيلة هي الزهد في كلِّ علاقة جنسية، متناسين تمامًا سائر الأبعاد الاجتماعية والفردية للجنس. فالغدد الجنسية ليست وظيفتها تزويدنا بالخلايا الجنسية وحسب، بل أيضًا بهرمونات تحفظ التوازن وتضمن التمييز بين الرجل والمرأة. بالمثل، من المُخِلِّ تمامًا بالتوازن أن يكون المرء مغرورًا – فهذا أشبه ما يكون بحالة بعض المرضى الذهنيين المصابين بشلل معمَّم –، لكن هذا لا يعني ضرورة رضوخه للتذلل التام، لأن كلَّ إنسان مختلف، وهو يحتاج إلى قبول نفسه آخذًا الآخرين في الحسبان. أقول بأن القاعدة الأساسية لصحَّة المخ في العلاقات الاجتماعية هي محبة القريب محبتنا لأنفسنا. فالأنانية ليست مُخِلَّةً بتوازن الآخرين فحسب، بل وبتوازن النفس أيضًا. بالمثل، فإن الغيريَّة المطلقة التي تلغي وجودَنا مُخِلَّةٌ بالتوازن هي الأخرى. يصدم هذا التفكيرُ الأخلاقي العديدَ من الناس الذين يعتقدون بأنه "لا علاقة للعلم بالأخلاق". أقول إن هذا من قبيل الحمق المُطْبَق! فلا يجوز لنا أن نقول، على سبيل المثال، إن الإدمان على الكحول أمر سوي، إذ لا تؤدي كبدُ المدمن وظيفتها جيدًا. تلك هي دومًا مأساة الإنسان الحديث: القطيعة بين المادة والروح. وهكذا صار التأمل ضربًا من اللغو الفكري المنمَّق حول كتاب بعينه إلخ، في حين أن التأمل الحقيقي هو، قبل كلِّ شيء، إحلال الصمت في النفس والانفتاح على السر، إذا جاز القول. وفي هذا المجال، فإن الفنون والرياضات الروحية المشرقية، كاليوغا والزِنْ إلخ، دقيقة تمامًا. لكن المشكلة تكمن في إساءة فهمها إساءةً فادحة. يمتلك الغربيون، بالمثل، فنونًا ورياضات مشابهة، مثل صلاة آباء الصحراء والفيلوكاليا ["عشق الجميل"] والسكينية إلخ.
رجائي هو أن أرى التربية العصبية تترعرع حول المناهج التي ذكرتُها، وبدلاً من أن يكون كلُّ واحد مستأثرًا بطريقته، أن نشهد ظهورَ تأليف متناغم. *** *** ***
حاوَرَه وترجم الحوار: سمير كوسا
من مؤلَّفات پول شوشار 17 كتابًا في سلسلة "ماذا أعرف"؟ Que sais-je ?، عن المطبوعات الجامعية الفرنسية PUF، بالإضافة إلى مئات المقالات المختلفة. من كتبه: L'accueil (Éd. Universitaires). Apprendre à vivre et à penser avec Vittoz (Levain). Biologie et morale (Mame). Le cerveau et la conscience (Seuil). Le combat de la vie et de la mort (St. Paul). Connaissance et maîtrise de la mémoire (Retz). Le désir de la drogue (Mame). La foi du savant chrétien (Aubier). Force et sagesse du désir (Fayard). L'homme normal (éd. ouvrières). La maîtrise de soi (Dessart). La maîtrise du comportement (PUF). Les mécanismes cérébraux de la prise de conscience (Masson). Le message de Freud (Salvator). Une morale des médicaments (Fayard). Notre corps, ce mystère (Beauchesne). La pensée scientifique de Teilhard (Éd. Universitaires). Précis de biologie humaine (PUF). Le savoir-vivre humain (Levain). Travail et loisirs (Mame). Vieillir à deux (Éd. Universitaires). Volonté et sexualité (Salvator). Zen et cerveau (le Courrier du Livre).
|
|
|