French

english

 ســيـفُ مـحـمَّـد

أوري أڤنيري[1]

 

طرأ الكثيرُ من التقلبات على العلاقات بين الأباطرة الرومان ورؤوس الكنيسة منذ الأزمنة التي كان يلقي فيها الأباطرةُ بالمسيحيين فرائس للأسود في حلبات المصارعة.

لكن قسطنطينوس الكبير، الذي أصبح إمبراطورًا في العام 306 – قبل 1700 سنة بالضبط – شجع على اعتناق الدين المسيحي في أرجاء الإمبراطورية كافة، بما فيها فلسطين. وبعد ذلك بقرون، انشقت الكنيسةُ المسيحيةُ إلى كنيستين: شرقية (أرثوذكسية) وغربية (كاثوليكية). وفي الغرب، طالب أسقفُ روما، الذي فاز فيما بعد بلقب البابوية، الإمبراطورَ بأن يقبل بتفوقه.

وقد كان للصراع بين الأباطرة والبابوات دورٌ محوري في تاريخ أوروبا، أدى إلى تقسيم شعوبها، حيث شهد هذا الصراعُ تقلباتٍ كثيرة: أباطرة يُقدِمون على عزل بابا أو نفيه، وبابوات يقيلون إمبراطورًا أو يقيمون عليه الحُرُم. فالإمبراطور هينريش الرابع "سار إلى كانوسا"[2]، واقفًا طوال ثلاثة أيام أمام قلعة البابا، حافي القدمين في الثلج، إلى أن منَّ عليه الحَبْرُ الأعظم بإبطال الحُرُم الكنسي المُقام عليه.

لكن هذا لا ينفي أن الأباطرة والبابوات قد عاشوا متسالمين في بعض الفترات. ونحن نشهد اليوم مثل هذه الفترة، حيث إن الانسجام القائم بين البابا بنديكتوس السادس عشر وبين الإمبراطور الحالي جورج بوش الثاني مدهش حقًّا. فخطاب البابا، الأسبوع الماضي، الذي أثار عاصفةً عالمية، يتوافق تمامًا مع حملة بوش الصليبية ضد "الفاشية الإسلامية" في سياق "صِدام الحضارات".

ففي محاضرته التي ألقاها في جامعة ريگنسبورغ الألمانية، وصف البابا الخامس والستون بعد المائتين ما يراه اختلافًا هائلاً بين المسيحية والإسلام: ففي حين أن المسيحية تقوم على أساس العقل، فإن الإسلام ينكر العقل؛ وفي حين أن المسيحيين متبصِّرون بمنطق أعمال الإله، ينكر المسلمون وجود أيِّ منطق من هذا النوع في أعمال الله.

وبصفتي يهوديًّا ملحدًا، لا أنوي الانجرار إلى معمعة هذا السجال؛ إذ إن فهم منطق البابا يفوق بكثير قدراتي المتواضعة. لكنني لا أستطيع التغاضي عن فقرة وردتْ في خطابه، تخصني أنا الآخر، كإسرائيلي يعيش على مقربة من خندق "حرب الحضارات" هذه.

لإثبات ضعف الاحتكام إلى العقل في الإسلام، يجزم البابا أن النبي محمد أمر أنصاره بنشر دينهم بحدِّ السيف؛ وهذا، وفقًا للبابا، مُنافٍ للعقل، لأن الإيمان يولد من الروح، لا من الجسد. فكيف يمكن للسيف أن يؤثر على الروح؟

ولدعم مقولته، استشهد البابا – دون سائر الناس – إمبراطورًا بيزنطيًّا (ينتمي، بطبيعة الحال، إلى الكنيسة الشرقية المنافسة لكنيسته). ففي أواخر القرن الرابع عشر، روى الإمبراطور عمانوئيل الثاني پاليولوغوس أمر جدل دار – على حدِّ قوله (وهو أمر مشكوك في حدوثه) – بينه وبين فقيه فارسيٍّ مسلم لم يذكر اسمه. ومع احتدام النقاش، ألقى الإمبراطور (بحسب روايته) في وجه خصمه بالعبارات التالية:

أرني بالضبط ما الجديد الذي أتى به محمد، ولن تجد فيه إلا ما هو شرير وغير إنساني، كأمره بنشر الدين الذي بُعِثَ به بحدِّ السيف.

يثير هذا المقبوس ثلاثة تساؤلات:

1.     لماذا قال الإمبراطور ما قال؟

2.     ما مدى صحة ما قال؟

3.     لماذا استشهد البابا الحالي بما قال؟

عندما دوَّن عمانوئيل الثاني مقالته، كان يسوس إمبراطوريةً على وشك الأفول. لقد تبوأ العرش في العام 1391، يوم لم تكن قد تبقَّتْ من إمبراطوريةٍ طبَّقتْ شهرتُها الآفاق يومًا إلا بضعة ولايات، كانت واقعة هي الأخرى تحت التهديد التركي.

آنذاك، كان الأتراك العثمانيون قد بلغوا ضفاف نهر الدانوب، فاتحين بلغاريا وشمال اليونان، هازمين مرتين الجيوشَ التي أرسلتْها أوروبا لنجدة الإمبراطورية الشرقية. وفي التاسع من أيار من العام 1453، ولم يكن قد مضى على وفاة عمانوئيل إلا بضع سنوات، سقطتْ عاصمتُه القسطنطينية (اسطنبول الحالية) بيد الأتراك، بما وضع حدًّا لإمبراطورية دامت أكثر من ألف عام.

إبان عهده، جاب عمانوئيل عواصم أوروبا التماسًا للدعم، واعدًا بإعادة توحيد الكنيسة. وما من شك في أنه كتب مقالته الدينية المذكورة تحريضًا للبلدان المسيحية على الأتراك وإقناعًا لها بشنِّ حملة صليبية جديدة. لقد كان هدفُه هدفًا عمليًّا، وعلم اللاهوت كان مسخَّرًا للسياسة.

بهذا المعنى، يخدم المقبوس عن عمانوئيل مآربَ الإمبراطور الحالي جورج بوش الثاني، الذي يريد، هو الآخر، توحيد العالم المسيحي ضد "محور الشر"، المسلم في غالبيته. يُضاف إلى ذلك أن الأتراك يعاودون طرق أبواب أوروبا، وإنْ سلميًّا هذه المرة؛ ومن المعروف جيدًا أن البابا يؤيد القوى المعارضة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

فما مقدار الصحة في حجة عمانوئيل؟

البابا نفسه قد احتاط لرأيه بعبارة. فهو، بوصفه فقيهًا لاهوتيًّا رصينًا ومشهورًا، ما كان بوسعه الإقدام على تزوير نصوص مكتوبة. لذا اعترف بأن القرآن حرَّم صراحةً نشر الدين بالقوة، مستشهدًا بالآية 256 من سورة البقرة (عجبًا لعدم عصمته، كبابا، إذ قصد بها الآية 257) التي تقول: "لا إكراه في الدين"[3].

كيف يمكن للمرء تجاهُلُ إعلان كهذا لا لبس فيه؟ فالبابا يجادل في بساطة بأن النبي جاء بهذه الوصية وهو ما يزال في بدء بعثته، ضعيفًا أعزل، لكنه فيما بعد أمر بشهر السيف جهادًا في سبيل الله. لكن مثل هذا الأمر غير وارد في القرآن. ولئن صحَّ أن محمدًا دعا، وهو في طور إنشاء دولته في الجزيرة العربية، إلى شهر السيف في حربه على القبائل المناوئة له – المسيحية واليهودية وغيرها –، كان ذلك فعلاً سياسيًّا، وليس دينيًّا: صراعًا على الأرض أساسًا، وليس في سبيل نشر الدين.

قال المسيح: "من ثمارهم تعرفونهم". لذا يجب الحُكم على معاملة الإسلام للأديان الأخرى من خلال محكٍّ بسيط: كيف كان سلوك الحكام المسلمين إبان ما يزيد عن الألف عام، حين كانوا يمتلكون قوة "نشر الدين بالسيف"؟

أجل، هم في بساطة لم ينشروا الدين بالسيف.

لقد حكم المسلمون اليونان طوال عدة قرون. فهل صار اليونانيون مسلمين؟ هل حاول أحدٌ مجرد إرغامهم على اعتناق الإسلام؟ على العكس، لقد تبوأ اليونانيون المسيحيون أعلى المناصب في الإدارة العثمانية. كما عاش البلغار والصرب والرومان والمجر وشعوب أوروبية أخرى، في بعض الفترات، تحت حكم العثمانيين متمسكين بدينهم المسيحي. لم يرغمهم أحد على التحول إلى الدين الإسلامي، وبقوا جميعًا مسيحيين أتقياء.

صحيح أن الألبان تحولوا إلى الإسلام، وكذلك البوشناق؛ لكن ما من أحد يدَّعي أنهم فعلوا ذلك تحت الترهيب. لقد اعتنقوا الإسلام لنيل حظوة لدى السلطان وللتنعم بخيراته.

وفي العام 1099، فتح الصليبيون القدس، وأعملوا في سكانها جَزْرًا وتنكيلاً، مسلمين ويهودًا على حدٍّ سواء، تحت راية المسيح الرقيق. آنذاك، وقد مضت 400 سنة على احتلال المسلمين لفلسطين، كان المسيحيون هم الأغلبية في البلاد. فطوال تلك الفترة، لم يُبذَل أي جهد لفرض الإسلام دينًا عليهم. لكن فقط بعد أن تم طرد الصليبيين من البلاد أخذت أغلبية السكان تتبنى اللغة العربية وتعتنق الإسلام – وهؤلاء هم أسلاف معظم فلسطينيي اليوم.

كذلك ليس هناك من دليل مطلقًا على أية محاولة لفرض الإسلام على اليهود. فكما هو معروف جيدًا، نَعِمَ يهودُ إسبانيا في ظل الحكم الإسلامي بفترة ازدهار لم ينعم بها قط غيرُهم من اليهود في أيِّ مكان آخر حتى وقتنا هذا تقريبًا. فقد نَظَمَ شعراء يهود من أمثال أبي الحسن اللاوي بالعربية، ناهيكم بموسى بن ميمون العظيم. وكان في الأندلس وزراء وشعراء وعلماء يهود. لقد اشتغل العلماء المسيحيون واليهود والمسلمون جنبًا إلى جنب في طليطلة المسلمة، مترجمين أمهات المصنفات الفلسفية والعلمية اليونانية القديمة. ذلك كان عصرًا ذهبيًّا بحق. فهل كان لهذا أن يحدث لو أن النبي قد سَنَّ فعلاً "نشر الدين بالسيف"؟

وما حدث بعد ذلك فهو أشد بلاغة. فحين استرد الكاثوليك إسبانيا من أيدي المسلمين، أسسوا عهدًا من الإرهاب الديني، إذ خُيِّر اليهود والمسلمون بين ثلاثة مصائر أهونها مرٌّ: إما التنصر وإما الذبح وإما النزوح. فإلى أين فرَّ مئات آلاف اليهود ممَّن أبوا التخلي عن دينهم؟ لقد استُقبِلَ معظمُهم في البلدان الإسلامية بحفاوة، واستقر يهود السفرديم ("الإسبان") في أرجاء العالم الإسلامي كافة، من المغرب غربًا إلى العراق شرقًا، ومن بلغاريا (الواقعة آنذاك تحت الحكم العثماني) شمالاً إلى السودان جنوبًا. لم يُضطهَدوا في أيٍّ من هذه البلدان؛ لم يعانوا ما عاناه أبناءُ جلدتهم من تعذيب في محاكم التفتيش، ومحارق الزنادقة، والمجازر المدبَّرة، وعمليات التشريد الجماعي المروعة التي حصلت في معظم البلدان المسيحية، وصولاً إلى الهولوكوست.

لماذا؟ لأن الإسلام حرَّم صراحةً أي اضطهاد لـ"أهل الكتاب". ففي المجتمع الإسلامي، كان اليهود والمسيحيون يتمتعون بمنزلة خاصة. صحيح أنهم لم يتمتعوا بحقوق مساوية تمامًا لحقوق المسلمين، لكنها كادت أن تساويها. كان عليهم أداء الجزية، لكنهم أُعفوا من الخدمة في الجيش – وهي مقايضة رحَّب بها كثير من اليهود ترحيبًا حارًّا. ومما كان يُشاع أن الحكام المسلمين كانوا يمتعضون من محاولة هداية اليهود إلى الإسلام، حتى بالتي هي أحسن، لأن هذا يستتبع خسارةَ الجزية المفروضة عليهم.

لا يمكن لأيِّ يهودي صادق، عارف بتاريخ شعبه، إلا أن يُكِنَّ امتنانًا عميقًا للإسلام الذي ظل حاميًا لليهود طوال خمسين جيلاً، في حين كان العالم المسيحي يضطهد اليهود، وقد حاول مرارًا "بحد السيف" إكراههم على التخلِّي عن دينهم.

ما يُشاع عن "نشر الدين بالسيف" أسطورة تُبطن شرًّا؛ إنها واحدة من الأساطير التي شاعت في أوروبا في أثناء الحروب الكبرى على المسلمين – استرداد المسيحيين إسبانيا، الحروب الصليبية، وصد الأتراك الذين كادوا أن يستولوا على فيينا. وإني لأحسب أن البابا الألماني، هو الآخر، يؤمن صراحةً بهذه الخرافات. وذلك يعني أن زعيم العالم الكاثوليكي – وهو فقيه لاهوتي مسيحي عن جدارة – لم يبذل جهدًا لدراسة تاريخ الأديان الأخرى.

لماذا فاه البابا بهذه العبارات على الملأ؟ ولماذا الآن؟

لا مفرَّ من النظر فيها على خلفية الحملة الصليبية الجديدة التي تجنَّد لها بوش ومؤيدوه من الإنجيليين، بشعاراته عن "الفاشية الإسلامية" و"الحرب العالمية على الإرهاب" – إذ أمسى مصطلح "إرهابي" مرادفًا للمسلم. هي، في نظر محرِّضي بوش، محاولة لا تتورع عن شيء لتسويغ السيطرة على منابع النفط في العالم. وهذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي تتقنَّع فيها المصالحُ الاقتصاديةُ السافرة بقناع ديني؛ ليست المرة الأولى التي تتلبَّس فيها غارةُ لصوص لبوسَ حملة صليبية.

خطاب البابا يندرج في هذا المسعى. لكن من ذا يستطيع التنبؤ بالعواقب المريعة؟

27 أيلول، 2006

*** *** ***

ترجمة: غياث جازي


horizontal rule

[1] كاتب ومحلِّل سياسي إسرائيلي كبير، مناضل لا يلين في "كتلة السلام".

[2] كانوسا قرية إيطالية، أقر فيها الإمبراطور الجرماني هينريش الرابع بذنبه أمام البابا غريغوريوس السابع إبان التنازع على التنصيبات (28 كانون الثاني 1077)، فصار "سيرُه إلى كانوسا" مضربًا للمثل على كلِّ مَن يُذِل نفسه طوعًا أمام خصمه. (المحرِّر)

[3] الآية التي وردت فيها "لا إكراه في الدين" هي فعلاً الآية 256 من سورة البقرة، وهي آية مدنية، وليست مكية تعود إلى بدء البعثة المحمدية، كما يفترض البابا. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود