وحدة في التنوُّع

الانفتاح على الآخر جوهرًا و"رؤيا نبيلة"

 

ربيعة أبي فاضل

 

أديب صعب في رباعيَّته[1] – بعد المعلِّم بطرس البستاني في نفير سوريا (1860) وأنطون سعادة في الإسلام في رسالتيه (1940) – من الذين ترهَّبوا للتأمل في مسائل الفكر الديني وفي الطروحات الموضوعية والإنسانية واللاهوتية لحلِّ المشكلات وإنقاذ الحياة. فكيف تصدَّى لهذه الأزمة الكيانية في كتابه الأخير – وحدة في التنوع[2]؟

استمرارًا للخطِّ العقلاني، مع أغسطينوس ويوحنا الدمشقي وتوما الأكويني، ومع هيغل وبرديايِف، ومع الرواقيين والمعتزلة والأشاعرة والجاحظ، لاحظ أديب صعب أن الدين يحتاج إلى مدافعين أشداء في مرحلة تتسم بالبؤس وبالسطحية على نطاق واسع في مجال الفكر الديني. كما رأى أن مؤمنين كثرًا يجهلون أمور الدين، مما يوقعهم في خرافات أو انحرافات أو شكليات تخون قضية الدين، خاصةً لدى تحوُّلها إلى ممارسات مخطئة. ثم وجد أن ثمة مشكلات عميقة تؤثر سلبيًّا في حياة الناس، أبرزها عدم فهم حقيقة النص وإدخال مآرب شخصية إلى تفسيره، مما أعطاه معنى سلبيًّا وسمح بالكره والإكراه والظلم والعداء. لذا، وبما أن الدين محبة وتسامح وعدل، حمَّل صعب نفسَه والمفكرين الدينيين ومعلِّمي الدين والمؤمنين المتنوِّرين مسؤوليةَ تفسير النصوص التي تحتمل التأويل لكي تنسجم مع جوهر الدين وروحه.

قضيتا التسامح الديني والتأويل الصائب – تفاديًا للدولة الدينية القائمة على التغلب والسيطرة والعنف – كانتا الشغل الشاغل للمعلِّم بطرس البستاني، حقنًا لدماء 1860، ولأنطون سعادة، ارتقاءً بالفكر الديني بعد تفاقُم فساد التأويلات وتخريب الدين والأمة. في هذا الخطِّ عينه، وضع أديب صعب تمييزات عشرة لكي نتأملها معه:

1.     تمييز حيِّز الدين من حيِّز المبادئ الأخلاقية والإصلاح الاجتماعي.

2.     تمييز الحُكم الديني من الحُكم السياسي.

3.     تمييز التأويل الآخِذ بكلِّية النص من التأويل الذي يستلُّ قطعًا من النص ويفسده.

4.     تمييز العَلمانية "اللينة المنفتحة" من العَلمانية "القاسية المنغلقة".

5.     تمييز الدولة الدينية "الفعلية" من الدولة الدينية "الاسمية".

6.     تمييز الإيمان من الإلحاد.

7.     تمييز المعجِز من الخرافة.

8.     تمييز الأصالة المتسامحة المتجددة من أصولية التطرف والجمود.

9.     تمييز الدين الإلهي الموحى به من الإنسانية دينًا.

10.تمييز الدين من العلم.

لم يدع صعب مصدرًا دينيًّا أو فلسفيًّا أو علميًّا ضروريًّا إلا واستعان به بالمنطق العاقل وبالقلب العارف وبـ"الرؤيا النبيلة" (والتعبير له)، ليُظهِر صحة مذهبه ورقيَّ طريقه، فبرهن عن ثقافة عميقة تناولتْ ما لدى الغربيين والشرقيين والعرب في حقول الفلسفة والدين. ولعب لعبة المحامي والناقد والمفكر والفيلسوف واللاهوتي والأديب الرصين والمؤمن الرزين والمنفتح النموذجي، قائلاً: "كثيرًا ما وجدتُ راعيًا لي، بالمعنى الروحي أو الديني العميق، في صاحب خطاب نيِّر من غير ديني". فكيف فهم صعب هذا "الدين العميق"؟

حاول أديب صعب، في كتاباته كلِّها، التعبير عن مفهومه للدين من حيث هو جوهر، قبل أن يكون اسمًا، وخبرة تتجدد بتجدد الحياة، وإيمان بالنعيم الآتي عِبْرَ محاولة تحويل العالم هذا إلى فردوس يشبه النعيم، فلا تبقى الطبيعةُ مجرد تراب وحجارة، بل تتحول مرآةً للقداسة. والدين اختبار القداسة في الوجود كونه مجالاً للتجلِّي الإلهي؛ وهو الوقوف موقف شكر وإجلال وتسبيح من خالق الإعجاز وناظمه. والدين يصنع عالم الفكر والسلوك في أية حضارة كما لا يصنعه أي عامل آخر. وهو يشمل حياتَنا كلَّها.

بناءً على هذا المفهوم الواسع والعميق، شاء صعب من المؤمن، مهما يكن دينُه، أن ينظر إلى الآخر على أنه غير مختلف عنه جوهرًا، وإن اختلف مظهرًا؛ فالأديان تلتقي في الجوهر هذا، مما يعني أن ثمة هوية دينية مشتركة يجب الحرص عليها. وهناك "لاهوت وحدة في التنوع"، يسمِّيه المؤلِّف أيضًا "لاهوت الملكوت" تمييزًا للدين عن الأخلاق والإصلاح الاجتماعي اللذين يمكن لهما أن يحصلا في معزل عن أيِّ إيمان بالألوهة.

وثمة أمر مهم جدًّا في كلام صعب على الإنسان وخلاصه يتجلَّى من خلال فكرتين:

1.     "إذا لم يعلن الله عن وجوده لكلِّ شخص، فلا نفع من أيِّ إعلان يأتي عن طريق الأنبياء"؛

2.     الدين سعي إلى "تحقيق القداسة في الذات الفردية اقتداءً بمؤسِّسي الأديان ومعلِّميها وأخيارها" وإلى تحويل الذات "نورًا صامتًا أفصح من كلِّ كلام".

والحق أن طرح أديب صعب للمسألة الإيمانية على هذا النحو يجعله يتجاوز موقف الباحث الأكاديمي في موضوعات تندرج ضمن فلسفة الدين، ليغدو مثال المفكر الملتزم الذي أوصلتْه المحبةُ إلى ملكوتها، فاتخذ من الكتابة طريقًا رسوليًّا لتحقيق كمال الآخرين وخلاصهم. وهو طريق صعب، لكنه ليس مستحيلاً على التوَّاقين العاشقين الذين مارسوا الزهد وحاولوا رفع الأرض إلى مقام السماء.

يردِّد صعب مع ديفيد هيوم أن ثمة عدوين للدين الصحيح: الجهل والتعصب. وأضاف أن قتل الأبرياء وتدمير الممتلكات وتشريد الناس وإبادة الجماعات باسم الدين ليست من جوهر الدين في شيء. وهو يحسب التعصب نقيضًا للتفاهم والتسامح؛ وهذا يتجسد في عصرنا عِبْر "الأصولية" التي تأخذ بحرف الدين من غير نفاذ إلى الجوهر: هكذا يغدو التلاقي بين الأديان مستحيلاً لأن ظاهر النصوص الدينية يعارض بعضُه بعضًا. ويلاحظ المؤلِّف أن العودة إلى الأصول والجذور لا تنفع مع الممارسات القائمة على العنف والإرهاب وإلغاء شرعية الإيمان الآخر باسم الدين. وهذا ما تحدَّث عنه ناصيف نصار في كتابه التفكير والهجرة[3]، إذ قال:

الأصولية تفهم مبدأ الأصالة من خلال تفسير أحادي ورجعي يُفرِغه، في النهاية، من قيمه الراهنة أو الممكنة. والأصالة بالنسبة إلى الأصولية هي الاتجاه نحو الأصول الماضية وحدها، المقرَّرة في العقيدة، والإعراض عن كلِّ ما طرأ على جماعة العقيدة وما وَفَدَ إليها، والتمسك المطلق بالأصول. [...] وذلك يعني انسحابًا من الزمن الحاضر، وهربًا والتجاءً إلى زمن غابر، ثم تمنِّي عودة الأصول في هذا العصر إلى المرتبة والدور اللذين كانا لهما في عصر التأسيس.

وطالب نصار بأصول جديدة تُضاف إلى المتفَّق عليها حتى تستجيب لمتطلبات الحاضر والمستقبل. لكن لا شك في أن القضاء على التطرف وإبداع "أصول جديدة" للتفكير والسلوك يحتاجان إلى حوار. فهل يستطيع الحوار أن ينقلنا من الاتباع إلى الإبداع ومن التكفير إلى الانصهار في مجتمع متماسك؟

أديب صعب رفض نموذج الحوار الذي هو إعلاء لدين معيَّن على دين آخر. كما رفض الحوار الذي يتلافى المسائل الدينية ليركِّز على شؤون الأخلاق. وأكد موقفه القائل بأن هدف الحوار هو اكتشاف الجوهر الذي يجمعنا، لكنْ من دون إغفال نقاط الاختلاف، بحيث يعترف الواحد بالآخر كمختلف عنه، فيعملان معًا على تأسيس نوع من التفاهم، أو قلْ من الوحدة بين الأديان؛ وهي، كما يسمِّيها المؤلِّف، "وحدة ضمن التعدد والتنوع": متى عرف معتنقو دين معيَّن حقيقة ما يؤمن به المختلفون عنهم واكتشفوا اللقاء العميق في الجوهر الواحد، زال عنهم التعصب والدافع إلى شن الحروب إرضاءً لله – وهو سلام ومحبة. من هنا دعا في كتبه إلى انتهاج الرحمة ونبذ العنف وإلى السماحة بدلاً من الإكراه. وفي هذا الصدد يقول المؤلِّف:

إذا استطعنا أن يكون لنا دينُنا من غير ازدراء الأديان الأخرى أو النظر إلى الآخر على أنه ليس أهلاً للخلاص، فإننا نصيب هدفًا ثقافيًّا وتربويًّا ودينيًّا عظيمًا، هو تحقيق التسامح في ذواتنا وتحقيق السلام النفسي والاجتماعي والعالمي.

وهو ينصح بمخاطبة الآخر عبر عقله وضميره، أي مخاطبة صورة الله فيه، على أساس أنها المدخل إلى الفهم المشترك أو التفاهم أو الحوار. فهدف الحوار، في النهاية، فهم الآخر في العمق انطلاقًا من الجوهر الواحد الجامع، والعمل معًا من أجل إعادة الذات وإعادة النظام المخلوق كلِّه إلى الحقيقة. إن محاولة أديب صعب نقل الفرد والمجتمع من الأصولية الجاهلة إلى الأصالة العارفة، ومن التكفير الرجعي إلى التفكير المستقبلي، هي محاولة صادقة ومسؤولة. لكن الأسئلة ستظل تطرح نفسها: بين محاولة بطرس البستاني نشر ديانة التسامح والوطنية ومحاولة أنطون سعادة تغيير طرائق فهم النصوص الدينية والحرص على التأويل الصحيح: ثمانون سنة؛ وبين دعوات أنطون سعادة واجتهاداته وإبداعات أديب صعب وتجلِّياته: أربع وستون سنة. فما الذي تغير؟ وهل استطاعت الفلسفة – ومعها الأدب والصحافة والاتجاهات النهضوية – أن توقف منطق إلغاء الآخر وتسخير النصوص المنزَلة للنفوس النازلة؟! وكيف تصير "الدولة الدينية الفعلية" التي اقترحها صعب قابلةً للحياة؟

إنه حقًّا لطريق شاق ذلك الذي اختطَّه أديب صعب، ولاسيما بنظر المعتمدين على "أعجوبة المعرفة"، بحسب تعبير أمين معلوف في روايته الأصول[4]، من أجل إحداث تغيير إيجابي في الذهنيات المتحجِّرة. لكن هذا الخط النضالي، على صعوبته، غير مستحيل. وبعد، فيقول أنطون سعادة:

ليست العِبرة في النص والكلام. إن الحروف والكلمات هي واسطة للتعبير عن مقاصد الروح الكبرى. فإذا صارت الكلماتُ هي مقصدَ الحياة فَقَدَ الإنسانُ معنى حياته الصحيح.

فمتى تصبح الكلمات طريقًا إلى الحياة بدلاً من أن تبقى محرضًا على نشر الرعب والموت؟! متى تصبح في خدمة "الروح الكبرى"؟!

نعرف تمامًا – أديب صعب وأنا – أن الأمة تحتاج إلى قديسين قبل حاجتها إلى سياسيين ومنظِّرين، وتحتاج إلى مَن يحافظ على حياة الإنسان وبقاء المجتمع وسعادته قبل التشدق بالانتماء إلى مسيحية وإسلام. وفي هذا المناخ، اسمحوا لي أن أشهد أن أديب صعب، ابن وليم صعب، كتب ما كتب لأنه هكذا يحيا، في منتهى النبل والرقيِّ، دائم الحرص على كرامة الفرد وسعادة المجتمع. فكلامه حياة، وحياته حضورٌ حي في الإلهي؛ وهو ليس بعيدًا عن هذا "النور الصامت اللطيف" الذي تحدَّث عنه.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] تتألف هذه "الرباعية" من: الدين والمجتمع: رؤية مستقبلية (1983)، الأديان الحية: نشوؤها وتطورها (1993)، المقدمة في فلسفة الدين (1994)، وحدة في التنوع: مَحاور وحِوارات في الفكر الديني (2003). راجع في معابر (إصدار تموز 2005، باب "كتب وقراءات") حوار حسين نصر الله مع د. أديب صعب حول كتبه على الوصلة التالية: http://maaber.50megs.com/issue_july05/books_and_readings4.htm. (المحرِّر)

[2] أديب صعب، وحدة في التنوع: مَحاور وحِوارات في الفكر الديني، دار النهار، بيروت 2003.

[3] ناصيف نصار، التفكير والهجرة: من التراث إلى النهضة العربية الثانية، دار النهار، بيروت 1997.

[4] أمين معلوف، بدايات، بترجمة نهلة بيضون، دار الفارابي، بيروت 2004.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود