|
وحدة في التنوع الدراسات الدينية في الجامعات العربية شبه منعدمة اليوم فهم الأديان في العمق يحقِّق التسامح ويعزِّز القيم الإنسانية
باتت الدراساتُ الدينية وفلسفةُ الدين في ثقافتنا العربية المعاصرة مرتبطةً إلى حدٍّ كبير باسم د. أديب صعب عِبْرَ كتبه الأربعة: الدين والمجتمع: رؤية مستقبلية (1983)، الأديان الحية: نشوؤها وتطورها (1993)، المقدمة في فلسفة الدين (1994)، وحدة في التنوع: مَحاور وحِوارات في الفكر الديني (2003) – وكلها صادر عن دار النهار. هذه الصفحة التي حاوَرَتْ أديب صعب مرارًا، لا من حيث كونُه فيلسوفًا فحسب، بل من حيث كونُه شاعرًا طليعيًّا أيضًا، تنطلق من كتابه الفلسفي الأخير، لتُحاوِرَه حول وضع الدراسات الدينية الراهن على الصعيد العربي. وقد أتى كتابُ وحدة في التنوع تتمةً لكتب أديب صعب الثلاثة السابقة في الفكر الديني، كأنما هو "رابع الثلاثية". ويقع هذا الكتاب في ثلاثة أقسام، يدور أولُها على المَحاور أو المسائل الآتية: فلسفة الدين، الأديان الأخرى والحوار، التعصب والتسامح، الدين والدولة، الدولة الدينية الفعلية، الإيمان والإلحاد، العلم والدين، نطاق الإعجاز، الإنسانية كدين، تعليم الدين، الرعاية، لاهوت التنوع ولاهوت الوحدة.
غلاف وحدة في التنوع القسم الثاني يحوي عددًا من الحوارات الصحفية التي تناولت الثلاثية. وإلى جانب أهميتها التوثيقية، تلقي هذه الحواراتُ ضوءًا على فكر المؤلِّف الديني، سواء في كُتُبه السابقة أو في القسم الأول من كتابه الرابع، ويمكن قراءة كلٍّ منها كما لو كان بحثًا أو مقالاً إضافيًّا. القسم الثالث توثيقي هو الآخر، يعرض مجموعة من الدراسات والآراء حول "الثلاثية"، قُدِّم بعضُها في ندوات ونُشِرَ بعضُها الآخر في صحف؛ وفيها إجماع من ممثلين متنوِّرين لأديان ومذاهب مختلفة ومن باحثين في الفكر الديني على تقديم المؤلِّف موضوع الدراسات الدينية وإبراز أهميته، وعلى ريادته فلسفة الدين في الثقافة العربية المعاصرة.
د. أديب صعب لعل "وحدة في التنوع" خير شعار يلخِّص فكر أديب صعب الديني. والحق أن كلاً من المسائل التي يعالجها الكتاب تنطلق من هذا المفهوم وتؤدي إليه. وتبقى كل مسألة موضوعًا لأكثر من كتاب أو رسالة جامعية في فلسفة الدين، كما في تاريخ الأديان وعلمي النفس والاجتماع الدينيين. ***
تمارس فلسفة الدين، كما تقول، ضمن الفلسفة والدراسات الدينية. فما هي الدراسات الدينية؟ وما هو واقعها عربيًّا؟ – ولنبدأ على صعيد الجامعات. أهم الدراسات الدينية، كما أوضحت في كتابي الدين والمجتمع (1983)، هي: تاريخ الأديان، فلسفة الدين، علم النفس الديني، علم الاجتماع الديني. وفي الغرب دوائر جامعية ومراكز أبحاث وجمعيات تتولَّى هذه الدراسات؛ كما يتولاها بعض المعاهد اللاهوتية، لأنها بالغة الأهمية، ليس على صعيد الثقافة الدينية فحسب، بل وعلى صعيد الرعاية الفردية والاجتماعية أيضًا. فالرعاية الدينية لا تحصل عبر اللاهوت النظري والعملي فقط، بل يحتاج "الراعي" إلى ثقافة واسعة وعميقة في الدراسات الدينية التي ذكرناها. وهي مهمة أيضًا لكلِّ مَن يعمل على الصعيد الاجتماعي، خصوصًا في جانبه السياسي.
غلاف الدين والمجتمع واقع هذه الدراسات في الجامعات العربية هزيل جدًّا. في لبنان، قبل الحرب، كانت هناك دائرة مستقلة للدراسات الدينية في الجامعة الأمريكية؛ لكنها لم تعمِّر طويلاً، واندثر ذكرُها إبان الحرب الأهلية، وحتى قبلها، وفي أعقابها. ولا شك في أن الحساسيات الدينية والتقاتل الطائفي والجهل والسطحية من أسباب عدم إقدام الجامعات العربية على فتح دوائر من هذا النوع وتعزيزها. لكن في جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت دائرةً تغطي بعض هذه الدراسات، وهي مستمرة منذ زمن. وتحاول المؤسَّسات الدينية، أي معاهد اللاهوت المسيحية ومعاهد العلوم الإسلامية، تعويض هذا النقص إلى حدٍّ معيَّن؛ لكنها، في الغالب، تقتصر على الناحيتين التاريخية والفلسفية، ولا تتعداهما إلى الناحية السلوكية، أي علم النفس وعلم الاجتماع، كما تعمد عمومًا إلى وضع التاريخ والفلسفة تحت رقابة العقيدة الدينية. عندما أدخلتُ مادةَ فلسفة الدين إلى معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي (الأرثوذكسي) الجامعي في البلمند، الذي انبثقت منه جامعةُ البلمند لاحقًا، كان المعهد في سنته الثالثة وأنا في منتصف العشرينيات من عمري، وكان ذلك قبل نحو ثلاثة عقود. ولنعترف أن هذه الدراسات أنكلوسكسونية على وجه العموم. وأنا كنت تخرجت يومذاك لتوِّي من جامعة لندن على يد أحد أعلامها الكبار، هايويل ديفيد لويس، ولمست أهميتها، وكنت متحمسًا لنشرها في ثقافتنا العربية. لذلك حرصت على تدريس المواد الفلسفية كلِّها في البلمند – وهي الفلسفة القديمة والوسيطة والحديثة وفلسفة الدين – باللغة العربية؛ كما حرصت على كتابة دراساتي الفلسفية بالعربية أيضًا. وقد جاءت، بحسب شهادة العلامة السيد محمد حسن الأمين، مثالاً على "الحيوية والرشاقة في العرض والتعبير"، الأمر الذي يضفي عليها متعة "تقلِّل كثيرًا من جفاف الفلسفة وصرامة التجريد". كما أطرى المطران جورج خضر أسلوب الكتابة "الجزل، الصافي حتى البلورية". وقال الأستاذ محمد السماك إن "اللمسة الشعرية أضفتْ طراوةً على الأسلوب الأكاديمي، فجاء واضحًا، على عكس ما نراه في الكتابة الأكاديمية التي تعالج موضوعات جادة مثل هذا الموضوع". ما أود قوله، على أية حال، هو أن حريتي الأكاديمية في البلمند كانت تامة غير منقوصة. وبذلك أتيح لطلاب اللاهوت هناك الاطِّلاعُ على الأفكار الفلسفية المتعلقة بالإلهيات والدين عمومًا من أفضل مصادرها. وكنت أتابع تكويني الثقافي مع طلابي وأنا في مثل سنِّهم – وبعضهم يتجاوزني سنًّا. وأنا متأكد من أن هؤلاء – وبعضهم رجال دين في مواقع قيادية وحساسة – باتوا يعرفون أن يدافعوا دفاعًا أفضل عن وجهة النظر الدينية في وجه الهجوم المتعدد الأطراف الذي تتعرض له على الدوام. ومما يثلج صدري حقًّا أن يكون معهد اللاهوت في البلمند عوَّض، من الناحية الفلسفية، بعض هذا النقص الفادح في الجامعات. هل لهذه الدراسات أي وجود في المدارس اللبنانية؟ – وخصوصًا في المرحلة السابقة للجامعة. هناك شبه غياب لهذه الدراسات على صعيد المدارس أيضًا، باستثناء مدارس قليلة تتَّبع برامج غربية. إلاَّ أن البرنامج اللبناني للتعليم الثانوي أوجَدَ في الآونة الأخيرة مكانًا لتاريخ الأديان ضمن مادة تعليمية تُسمَّى "الحضارات"؛ وربما حصل هذا انسجامًا مع النظرة التربوية الرسمية قبل نحو أربعين سنة، التي تحث المعلِّم (ليس معلِّم الدين طبعًا!) على أن "يتحاشى النقاش في الموضوعات الدينية أو الفلسفية"، مع التركيز على "الواجبات التي تقرِّب بين الناس، لا على العقائد التي لا تقرِّب بينهم" – علمًا أن هذه النظرة الرسمية عينها كانت تفرض التعليم الديني في المدارس لكلِّ طائفة وفقًا لعقائدها؛ وكان ذلك يحصل بِفَصْل تلاميذ الصف الواحد بعضهم عن بعض وإعطاء كلِّ فئة تعليمها الديني على يد شخص تنتدبه طائفتُه لهذا الغرض. إن تصنيف الدين تحت "الحضارة" يخذل قضية الدين لأنه قد يوحي بنزع المصدر الإلهي عنه ويرده إلى مصادر محض "اجتماعية". لقد أعطيت نظرة بديلة إلى التعليم الديني في كتابي الدين والمجتمع، قيل عنها، لدى صدوره، إنها "الحل الوحيد الأخلاقي"؛ واليوم أجدني متمسكًا بها أكثر من أيِّ وقت مضى. تذهب هذه النظرة إلى التخلِّي عن التعليم الديني العقائدي في المدارس العامة وإلى إحالته على مؤسَّسات تعليمية تفتتحها الطوائف المختلفة لهذا الغرض، في حين تتبنَّى المدرسةُ التعليم "الوصفي" أو "الموضوعي" (ومن ضمنه العقائد طبعًا) للأديان السائدة في مجتمعنا وفي العالم. والهدف من هذا التعليم ليس أن يختار المرءُ دينَه، لأن المرء يَرِثُ دينَه عادة ولا يختاره، بل أن يفهم دينه والأديان الأخرى فهمًا أفضل، في جوٍّ من المودة والتسامح. النظرة البديلة هذه وضعتْ التعليم الديني الوصفي في إطار الدراسات الدينية، أي تاريخ الأديان وفلسفة الدين وعلمي النفس والاجتماع الدينيين. وأظن أن الدراسات الدينية، كما عُرِضَتْ في الدين والمجتمع قبل عقدين من الزمن بالتحديد، كانت تُعرَض للمرة الأولى في ثقافتنا العربية. لذلك أود أن يؤخَذ الدين والمجتمع لا كمجرد نظرة بديلة إلى التعليم الديني، بل كعرضٍ للدراسات الدينية وإبرازٍ لأهميتها وحثٍّ عليها. الصحيفة والكتاب هل أخذتْ هذه الدراساتُ طريقَها إلى التأليف والنشر على الصعيد العربي؟ – ولنبدأ بالصحافة المتخصِّصة. بدأت تظهر في الآونة الأخيرة في اللغة العربية كتاباتٌ متخصِّصة حول هذه الدراسات وأهميتها؛ ويكاد معظمُها أن يأتي من الحوزات العلمية العالمية في إيران. وقد وُضِعَ بعضُ هذه الكتابات في اللغة العربية، فيما تُرجِمَ بعضُها الآخر إلى العربية؛ وهي تجد طريقها إلى بعض المجلات المتخصِّصة، وإن كان عددها قليلاً. وهنا أخص بالتحية الأستاذ عبد الجبار الرفاعي لإصداره مجلة قضايا إسلامية معاصرة، والشيخ شفيق جرادي لإصداره مجلة المحجَّة وتأسيسه "معهد الدراسات الإسلامي للمعارف الحكمية". كما تصدر عن بعض معاهد اللاهوت العربية، خصوصًا الإنجيلية (البروتستانتية)، مجلاتٌ علمية قد تحمل بين طياتها أحيانًا مقالاً في حقل أو آخر من الدراسات الدينية، علمًا أن هذه الدراسات تشهد ازدهارًا كبيرًا في المعاهد الإنجيلية الغربية، وقد يحيد إليها بعض طلاب هذه المعاهد عن اللاهوت التقليدي. ولعل وضع رجال الدين في الإسلام كعلماء دين، أي مختصين في العلوم الدينية، يجعل الأوساط الإسلامية أكثر قبولاً لهذه الدراسات من بعض الأوساط المسيحية التي لا تزال تتلمَّس طريقها نحوها في حذر غير مبرَّر، ظنًّا أن الاسترسال فيها قد يهدِّد، على نحو أو آخر، العقائدَ الموروثة. ماذا عن وضع هذه الدراسات في الصحافة غير المتخصِّصة؟ في الصحافة العربية اليوم تكثر صفحات "الرأي" – وهي تلك التي تحوي أبحاثًا ودراساتٍ ومقالاتٍ يكتبها عمومًا مثقفون وأساتذة جامعيون وأصحاب قرار. ويفضِّل بعض الباحثين في مجالات الدين نَشْرَ أبحاثهم في هذه الصحف لكي تصل إلى أكبر عدد ممكن من القراء، في حين أن النشر في مجلة متخصِّصة يَقْصِر قراءةَ البحث على فئة محدودة جدًّا من المختصين والمهتمين. طبعًا، الدراسات الدينية تنتمي إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية التي لا تخاطب ذوي الاختصاص الصارم وحدهم، بل جمهور المثقفين وطلاب الثقافة أيضًا؛ لذا تجد طريقها في سهولة إلى الجريدة اليومية، فيما لا تستطيع دراسةٌ علمية في الفيزياء أو الرياضيات أو الكيمياء أن تجد مكانًا لها هناك. والواقع أن الصحيفة اليومية يمكن أن تقوم، إلى حدٍّ ما، بعمل المجلة العلمية المتخصِّصة، في حين أن هذا لا يُدخِل في عداد وظائفها تدوينَ الأحداث اليومية العادية التي تظهر في الصحافة اليومية. خبرتي الشخصية كانت غنية جدًّا مع الصحيفة اليومية والأسبوعية، لا لغياب المجلات المتخصِّصة في الدراسات الدينية فحسب، بل لأن الصحافة المذكورة أبدت اهتمامًا كبيرًا بكتبي وكتاباتي في هذا الحقل، فطلبت مني دراساتٍ للنشر، وأجرت معي أحاديث متنورة جدًّا حول كتبي؛ وقد أدرجتُ بعض هذه الأحاديث في كتابي الأخير لأهميتها ولتسهيل العودة إليها – ففي النهاية، لا يبقى غير الكتاب؛ وبين هذه الأحاديث اثنان أجرتْهما الكفاح العربي معي. ما هو واقع الكتاب العربي في هذه الموضوعات؟ الكتاب يصنعه كاتب. وفي غياب الاختصاص في هذه الموضوعات – وأعني تاريخ الأديان وفلسفة الدين وعلم النفس وعلم الاجتماع الدينيين – من أين نأتي بالكاتب الرصين؟ حتى الكتاب المترجَم في هذه الحقول لا يجوز أن ينجزه سوى مترجِم مختص في حقله. بدعة دوائر الترجمة في الجامعات اليوم لا تلبِّي الحاجة إلى مترجمين في مختلف حقول الدراسات الإنسانية، وإنْ خرَّجتْ مترجمين قانونيين أو مترجمين فوريين. ترجمة كتب في الأدب والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع لا يجوز أن يتولاها غير أشخاص مختصين في هذه الحقول. ولعل أفضل حلٍّ لمأزق الترجمة (خارج الأُطُر القانونية والترفيهية والفورية) هو إتاحة الإعداد لنيل دبلوم أو ماجستير في الترجمة الأدبية والفلسفية والنفسية والاجتماعية وسواها من الإنسانيات، تلي البكالوريوس أو الليسانس في هذه الاختصاصات. لكن لا يحق أبدًا لخريج الترجمة، كما تدرِّسها الجامعات اليوم، أن يتنطح لأيٍّ من الدراسات الإنسانية ما لم يكن متخرجًا فيها أيضًا. المؤسف أننا بتنا نشهد ما يُسمَّى "موسوعات"، يطالعنا بها بعضُ دور النشر المحلِّية في حقل أو آخر متعلق بالدين؛ وهي تفتقر إلى شروط التأليف العلمي. ولعل بعضها وُضِعَ تلبيةً لحاجة الشاشات المنزلية إلى برامج المباريات الترفيهية التي تقفز أسئلتها من عدد أرجل التمساح إلى سنة وفاة الإسكندر المقدوني إلى شرح كلمة في أحد الكتب المقدسة! إن كتبي في فلسفة الدين تقف في عداد عدد نادر جدًّا من الكتب العربية التي وضعها باحثون مختصون في هذا الحقل، في حين أن هناك غيابًا كليًّا للكتب العربية الموضوعة في علم النفس الديني وعلم الاجتماع الديني والقائمة على دراسات إحصائية في مجتمعاتنا العربية بالذات. خوف غير مبرَّر إلامَ تعزو هذا الغياب؟ أعزوه – جزئيًّا – إلى ارتباط علم النفس والاجتماع في الأذهان – وخصوصًا في أذهان اللاهوتيين وعلماء الدين التقليديين – بالتنظيرات الماركسية–الفرويدية–الدوركهايمية التي بات أصحابُ الخطِّ السلوكي الحديث في هذه العلوم يضعونها خارج نطاق العلم، في ركن أو آخر من الميتافيزيقا؛ وهي تنظيرات غير ودية عمومًا بالنسبة إلى الدين. أما الأبحاث السلوكية–الإحصائية التي تطالعنا بها اليوم المجلاتُ والكتبُ الغربية في علمي النفس والاجتماع الدينيين فهي، إذا تركنا جانبًا ما هو سلبي منها، ذات فائدة تصحيحية وعملية جلَّى في مجال الفكر والرعاية الدينيين. كما أعزو هذا الغياب إلى انعدام الرؤيا لدى القائمين على المعاهد الدينية والجامعات، وإلى خوفهم وخوف الباحثين من الأوساط غير المتنوِّرة في المجتمع – وهذا الخوف، أحيانًا كثيرة، غير مبرَّر. كما أن الجامعة لا يجوز أن تكون مرآة لمساوئ المجتمع، بل يجب أن تكون منارة لمجتمعها. طبعًا، لهذا الخوف أحيانًا ما يبرِّره: فمَن ذا الذي يجرؤ على إجراء دراسة سلوكية–إحصائية اليوم حول موضوع مثل "الإيمان الديني بين طلاب الجامعات العربية"؟ الإيمان أمر مفروغ منه في نظر القائمين على الأديان، ولا يجوز أن يكون موضع شكٍّ – مع أن الكتب المقدسة نفسها تذهب إلى أن أكثر الناس (حتى بين الذين يعترفون لفظيًّا بالإيمان) لا يؤمنون! والحق أن في إمكان دراسات كهذه تعزيز وضع الدين والفكر الديني والرعاية الدينية. ثم إن الجامعة، كما قلت، إما أن تكون منارة وإما أن لا تكون ذات شأن على الإطلاق. تشير في مقدمة وحدة في التنوع إلى كتاب ألَّفه الفيلسوف البريطاني برتراند رصِّل في العام 1912 وطُبِعَ أكثر من ثلاثين مرة إبان حياته، أي حتى العام 1970. لِمَ لا نشهد شيئًا من هذا القبيل في لغتنا؟ سوق الكتاب العربي الرصين غير مزدهرة. واللوم في هذا الواقع المتردِّي يقع على بعض الجمعيات الأهلية، وفي الدرجة الأولى على المدارس والجامعات – وهي المسؤول الأكبر عن تأسيس عادة القراءة وتعزيزها. الكثير مما يُنشَر حاليًّا يتوزع على موضوعات الطبخ والسياحة والتسلية والمعلومات العامة السطحية الصادرة أحيانًا في ما يسمى "موسوعات"! وإذا كانت وسائل الإعلام والاتصال الحديثة جعلت الكتاب يفقد الكثير من دوره، لا على الصعيد العربي فحسب بل وعلى الصعيد العالمي، فأزمة الكتاب في العالم العربي لا تزال أقوى منها في بقية أنحاء العالم – وهي أزمة مزمنة. يضاف إلى هذا أن كتب التأليف العلمي قليلة في اللغة العربية، والمؤهَّلون لتأليف هذه الكتب – وهم أساتذة الجامعات عمومًا – إما يستعيضون عن نَشْرِ الكتاب الحقيقي، الذي يؤسِّس لنقطة أو لنقاط معينة ويدافع عنها في فصول يلي بعضُها بعضًا، بمجموعة مقالات متفرقة، يغيب عنها البحثُ العلمي أحيانًا، ويطغى عليها طابعُ المقال الصحفي. وربما يعمدون إلى ترجمة كتب غربية في حقولهم يعتمدونها للتدريس، من غير أن يذكروا بالضرورة أنها مترجَمة؛ والكثير من هذه الكتب، خصوصًا في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ذات لغة ومصطلحات سيئة جدًّا. قرأت ذات مرة عن صدور كتاب بالعربية حول "مصطلح النقد"، ففرحت وقلت: "أخيرًا! أخيرًا ظهر مَن يؤلِّف للمكتبة العربية كتابًا ضروريًّا كهذا." لكن ما أن أخذت الكتاب في شغف بين يدي حتى تبيَّن لي – ويا للخيبة! – أنه مترجَم عن الإنكليزية! أذكِّر هاهنا بأن مصطلح النقد شهد ازدهارًا كبيرًا في لغتنا العربية حتى العصر العباسي؛ فكان أحرى بالمترجم أن يبدأ من تراثنا العربي، وبعد ذلك يراجع التراث الغربي الحديث في خصوص مصطلح النقد؛ أي كان أحرى به أن يؤلِّف، لا أن يترجم، كتابًا في هذا الموضوع، ولعلَّه يجد في تراثنا ما هو أقرب إلى الذوق العربي المعاصر من ذاك الذي نَقَلَه عن الآخرين. لا أنكر أن الكتاب الديني مطلوب اليوم على الصعيد العربي، وسوقه مزدهرة جدًّا؛ لكن معظم ما يصدر على هذا الصعيد كتبُ تفسير تقليدية. وأظن أن غياب الكتَّاب المختصين، كما قلت، سببٌ كبير من أسباب غياب الكتاب المطلوب. وإذا تذكَّرنا أن كتبي في الفكر الديني – وهي تقع في حقل الدراسات الدينية الحديثة، لا في حقول الدفاع والتفسير التقليدية – نُشِرَتْ في طبعات عدة، لَتَأكَّد لدينا إقبالُ عدد كبير من القراء العرب على كتب من هذا النوع. أزمة الإعلام المرئي تطرَّقنا إلى المؤسَّسات العلمية والإعلامية في مواكبتها موضوع الدراسات الدينية. ماذا عن وسائل الإعلام الشعبية – أي المسموعة والمرئية – في تغطية هذا الموضوع؟ من خبرتي الشخصية أقول إن ندواتٍ إذاعية ومقابلاتٍ تلفزيونية كثيرة عُقِدَتْ حول كتبي أو حول موضوعات متعلقة بهذه الكتب. وإذ أشكر هذه الوسائل على اهتمامها، أقول إنها لم تبلغ بعد المستوى المنشود: فهي لا تخصِّص للموضوعات الثقافية الوقتَ الكافي الذي تخصِّصه للسياسة مثلاً، خصوصًا لتلك الموضوعات السياسية التي يغلب عليها طابعُ الإثارة. لذلك يجد المثقف نفسه، في ندوة تلفزيونية، مضطرًا إلى قول أكثر ما يستطيع في أقصر وقت ممكن! يضاف إلى هذا أن الوسائل المذكورة تطلب معالجة موضوعات دقيقة جدًّا معالجةً سطحية لكي "تصل إلى الجمهور"! وهنا أعترف بأن العديد من الأكاديميين لا يستطيعون مخاطبة جمهور المشاهدين أو المستمعين مخاطبةً مبسَّطة وجذابة، من دون إثارة الملل. ولو كَتَبَ هؤلاء لجاءت طريقتُهم، في الغالب، معقدةً تعقيدَ خطابهم. لذلك نجد أن الكثير من الكتب الأكاديمية – حتى في حقول الإنسانيات، التي لا يقتصر خطابُها على المختصين، بل يتعداهم إلى المثقفين وطلاب الثقافة عمومًا – لا تشكِّل قراءتُها متعةً لمعظم القراء، مما يسلب هذه الكتب الكثيرَ من فائدتها. أظن أن الوسائل المرئية تغالي جدًّا في نظرتها الوضيعة إلى الجمهور، إذ تتجنب الموضوعات أو طُرُق المعالجة الرصينة، وتسعى وراء السطحي والسريع؛ وفي خيارها هذا، ربما تجد الوسائل المرئية نفسها مضطرةً إلى مسايرة شركات الإعلان لكي تضمن التمويل والاستمرار. المقولة التي تذهب إلى أن جمهور المشاهدين لا تهمه البرامج الثقافية الرصينة قد تكون موضوعية إلى حدٍّ ما، لكنني أقدِّر أنها مستندة، على الصعيد العربي، إلى مبالغة (أتمنى ألا تكون مقصودة ومنهجية) تؤدي إلى تجهيل الجمهور العربي وإلى مفاقمة جهله. والمضحك أن لدى بعض هذه الوسائل برامج تسميها "ثقافية"؛ لكنها، في أحسن حالاتها، سطحية هي الأخرى، تشجِّع الابتذال إلى حدٍّ بعيد، من غير أن تحتضن أيَّ إبداع أصيل. على الصعيد الاجتماعي العام، هل باتت الدراسات الدينية مقبولة أكثر من الماضي؟ الواقع أنني لم أقم بإحصاءات؛ لكن المراقبة تثبت لي أن تطورًا كبيرًا حصل في هذا المجال. فعندما صدرتْ الطبعةُ الأولى من الدين والمجتمع (1983) – وهو، بحسب إجماع الأوساط الثقافية، الكتاب الذي يستهل الدراسات الدينية في اللغة العربية اليوم – جاء ذلك في خضم الحرب الأهلية اللبنانية التي شهدت صراعًا عنيفًا بين فئات تنتمي إلى أديان ومذاهب مختلفة، يدَّعي كلٌّ منها الحرصَ على مواقعها ومصالحها "الدينية"! والكتاب، على جرأته، صَدَرَ في حذر، لأنه يتبنَّى موقفًا توحيديًّا ينطلق من قيم مثل السلام والمحبة وكرامة الإنسان؛ وهي مواقف كانت مرفوضة آنذاك – إلا، كلاميًّا، داخل الخط الواحد الذي يدَّعي الاستئثارَ بها! لكن الكتاب، حتى في تلك الظروف، استُقبِل في حفاوة، وظل الطلبُ على طبعة جديدة منه كبيرًا، إلى أن استكملتُ رسالتي الأساسية في الفكر الديني بكتابين آخرين هما الأديان الحية (1993) والمقدمة في فلسفة الدين (1994)؛ وقد لقي الكتابان رواجًا كبيرًا، فأعيد طبع الكتب الثلاثة معًا في العام 1995. ومنذ ذلك الحين حتى اليوم، شاركتُ في مؤتمرات كثيرة في لبنان والمنطقة، كما ألقيت عددًا من المحاضرات حول مسائل مختلفة تنتمي إلى فلسفة الدين خصوصًا وإلى الدراسات الدينية عمومًا.
لكن من الطبيعي أن تشهد هذه الدراسات أنواعًا من الاعتراض، خصوصًا من جانب أوساط دينية تقليدية وأوساط شعبية مرتبطة بها. وللمثال على هذا، أذكر أن أحد كبار القادة الدينين اتصل بي بعد صدور الأديان الحية سائلاً: "أصحيح، كما قيل لي، أنك جعلت في البوذية رهبنة؟ ماذا تركت، يا أستاذ أديب، للمسيحية؟" غني عن القول إن هذا الكلام يدين صاحبه وينطوي على أخطاء فادحة: فالقائد المسؤول يقرأ بنفسه، ولا يُقرَأ له أو يقبل تبنِّي "قلاقل" تُنقَل إليه – ومن أهم شروط القيادة المسؤولة الثقافة، التي تمكِّن القائد من أن يعرف، على الأقل، أن في البوذية رهبنة، لعلها السمة الأساسية لتلك "الديانة" الآسيوية العظيمة. ناهيك عن أن الدفاع عن المسيحية، أو سواها، لا يكون عِبْرَ هذا المنطق الضعيف. وفي إحدى محاضراتي، أظهرتُ موقفًا توحيديًّا بين الأديان، مركِّزًا الدين الصحيح على القيم التي ذكرتُها قبل قليل، – ومنها السلام والمحبة وكرامة الإنسان، – وقلت إن فهم كلِّ دين في العمق من شأنه تحقيق التسامح وتعزيز هذه القيم. وإذ هلَّل معظم المستمعين لهذا الكلام، انبرى واحدٌ من صفوف الجمهور قائلاً إن دينه وحده – وحده فقط! – ينطوي على القيم المذكورة، في حين أن الأديان الأخرى تفتقر إليها! ولكي أختصر مناقشة طويلة لم يكن هناك مكانُها، واجهتُ السائل بهذا السؤال: "لقد جرَّب غلاةُ اللبنانيين ما تقوله إبان القرنين التاسع عشر والعشرين، فأدى بهم ذلك على الدوام إلى حروب أهلية. ترى ما الذي تريده أنت: التسامح أم الحرب الأهلية؟" فأجاب حرفيًّا: "الحرب الأهلية"! إن موقفي الراسخ هو أنه إذا تصوَّر بعضُهم صراعًا بين الدين، من ناحية، وبين المحبة والسلام وكرامة الإنسان، من ناحية أخرى (وهذا مستحيل موضوعيًّا)، فأنا أختار هذه القيم الثلاث، من دون تردد، وأسميها دينًا. لكنْ تجدر الإشارة إلى أن الدراسات الدينية، كما أفهمها وأمارسها أنا على الأقل، لا تفضي إلى عقيدة دينية ولا تهدِّد العقائد – وإن كانت تحث على الفحص عن العقائد دائمًا، مع إيضاحها وتعديلها حيثما يتحتم ذلك. إنني أنسج فلسفة عامة للدين، لا لدين بعينه أو لديني أنا بالذات. أنا أمارس اختصاصي الذي أعتبره ضروريًّا ومهمًّا جدًّا؛ ولسواي أن يمارس اختصاصه. ولكم أكون سعيدًا عندما أرى فريقًا متكاملاً يعمل كلٌّ من أفراده في حقل معيَّن من هذه الدراسات. أخيرًا، أود تلخيص جوابي عن هذا السؤال بأن الدراسات الدينية، بالتأكيد وعلى الرغم من التحفظات التي أتيت عليها، باتت مقبولة أكثر من ذي قبل على صعيد المجتمع. فمثلاً، بين أساتذة بعض الحوزات العليا في إيران اليوم مَن يذهب إلى ضرورة تأسيس "علم كلام جديد"، أي إلى إعادة صياغة لعلم الكلام (اللاهوت) في ضوء الدراسات الدينية، وخصوصًا فلسفة الدين. وكانت بعض الأوساط الغربية دَعَتْ إلى "لاهوت جديد" يستلهم هذه الدراسات. وهنا لا أعني أبدًا أن كلَّ ما يصدر تحت اسم "الدراسات الدينية" سيكون خاليًا من الأخطاء والعيوب؛ فهي، ككلِّ علم، تتخلَّلها الهفوات، ويتحكَّم بها الهوى أحيانًا، وقد تشكِّل أخطارًا على الصعيد الديني. لذلك، على ذوي الفكر الديني أن يأخذوا منها الجيد ويطرحوا الرديء؛ لكن عليهم، في أية حال، ألا ينغلقوا عليها، لأنهم سيخسرون إذ ذاك إيحاءات رحبة لعملهم. نحن لا نزال في بداية طريق طويل وشاق. وفي الدراسات الدينية، كما في كلِّ حقل آخر، سيكون هناك، على الدوام، الجيد والرديء. لكن لا بدَّ من التعاون البنَّاء بين الحقول المختلفة من أجل ذاك الذي وُجِدَ الدينُ والعلمُ والمعرفةُ لخيره وتحقيق ذاته في الحق، ألا وهو الإنسان. ومجالات التعاون بين الدراسات الدينية العامة واللاهوت، أو علم الكلام، المتعلق بدين معيَّن كبيرة جدًّا وضرورية جدًّا. *** *** *** عن الكفاح العربي، 21-22/1/2004
|
|
|