english arabic

فقاعة التفوّق الأمريكي

 

جورج سوروس

 

خبير مالي مرموق يحاجِج بأن الإصرار غير المحتشم على القوة الأمريكية في العالم أشبه ما يكون بفقاعة وبأن ساعة الحقيقة ربما تكون قد حانت

 

من المتَّفَق عليه عمومًا أن هجمات 11 سبتمبر 2001 قد غيَّرتْ مجرى التاريخ. لكن هذا لا يُعفينا من سؤال أنفسنا لماذا أخذت الأمور هذا المنحى، وكيف يمكن أن يكون لحدث مفرد، حتى وإن أسفر عن مقتل 3000 مدني، مثل تلك الآثار البعيدة المدى؟ الإجابة لا تكمن في الحدث في حدِّ ذاته بمقدار ما تكمن في الطريقة التي تجاوبتْ بها الولايات المتحدة، بقيادة رئيسها جورج دبليو بوش، مع الأمر.

لا بدَّ من الاعتراف بأن هذا الحدث كان تاريخيًّا في حدِّ ذاته. فالقيام بخطف طائرات تنوء بالوقود واستعمالها كقنابل انتحارية كان فكرة جريئة؛ كما أن تنفيذ مثل هذه العملية لم يكن بالإمكان أن يكون أكثر مشهديةً، لأن تدمير البرجين التوأمين لمركز التجارة العالمي قد أرسل رسالة رمزية تَصَادَتْ في مختلف أنحاء العالم؛ ناهيكم أن كون الناس استطاعوا مشاهدة الحدث على شاشات تلفازهم أضفى عليه تأثيرًا معنويًّا لم يحققه أيُّ حدث إرهابي من قبل. وبما أن هدف الإرهاب هو الترويع، فقد حققتْ هجمات 11 سبتمبر هدفها بالكامل.

ولكن رغم هذا، لم يكن للـ11 من سبتمبر أن يغيِّر مجرى التاريخ إلى هذا الحدِّ لو لم يتجاوب معه الرئيس بوش بالطريقة التي فعل. فقد أعلنها حربًا على الإرهاب، و نفَّذ تحت هذا الغطاء برنامج سياسة خارجية كانت مبادئُها قد وُضِعَتْ قبل حصول المأساة. ويمكن تلخيص هذه المبادئ بما يلي: أولاً، العلاقات الدولية هي علاقات قوة وليست علاقات قانون؛ لذلك فإن القوة تسود والقانون يشرِّع ما يسود. ثانيًا، الولايات المتحدة هي بلا منازع القوة السائدة في عالم ما بعد الحرب الباردة؛ لذا فهي في وضع يؤهِّلها أن تفرض رؤيتها ومصالحها وقيمها، خاصة وأن العالم سيستفيد من اعتماد هذه القيم، لأن النموذج الأمريكي قد برهن على تفوقه. ثالثًا، بما أن إدارة كلنتون وإدارة بوش الأب فشلتا في استعمال كامل إمكانات القوة الأمريكية فإنه يجب تصحيح الأمر؛ وعلى الولايات المتحدة أن تجد طريقة تؤكِّد بها تفوقها في العالم.

وتُعتبَر هذه السياسة الخارجية جزءًا من إيديولوجيا شاملة يُطلَق عليها عادة اسم التيار المحافظ الجديد، وإن كنت أفضِّل وصفها بكونها شكلاً فظًّا من الداروِنية الاجتماعية. وقد نعتُّه بالفظاظة لأنه يتجاهل دور التعاون في بقاء الأنسب، مشدِّدًا تشديدًا كاملاً على التنافس. ففي الشؤون الاقتصادية يكون التنافس تنافسًا بين شركات؛ أما في العلاقات الخارجية فيكون التنافس بين دول. وتتخذ هذه الداروِنية الاجتماعية في المجال الاقتصادي صورة أصولية سوق؛ كما هي تسعى الآن في مجال العلاقات الخارجية إلى تحقيق هدف التفوق الأمريكي.

وطبعًا، لا يؤيد جميع أعضاء إدارة بوش هذه الإيديولوجيا، لكن المحافظين الجدد يشكِّلون في داخلها دائرة نفوذ مؤثرة. فهم الذين دعوا علانية منذ العام 1998 إلى غزو العراق؛ وأفكارهم نبتتْ في أيام الحرب الباردة، ثم نمت وترعرعت في الحقبة التي تلتْها. ونلاحظ أنه قبل الـ11 من سبتمبر كان هناك عاملان رئيسيان يمنعان هؤلاء الإيديولوجيين من تطبيق أفكارهم على أرض الواقع، ألا وهما: كون الرئيس جورج دبليو بوش لا يمتلك التفويض الكافي (فهو صار رئيسًا بفضل صوت واحد في المحكمة العليا)، وواقع أن أمريكا لم تكن قد حدَّدتْ بعد عدوًّا واضح المعالم بحيث تبرِّر زيادة درامية في إنفاقها العسكري.

وقد أزالت أحداث الـ11 من سبتمبر هذين العائقين. عندئذٍ أعلن الرئيس بوش الحرب على الإرهاب، واصطفَّتْ الأمَّة وراء رئيسها. ثم قامت إدارة بوش باستغلال الهجوم الإرهابي لتحقيق مآربها الخاصة، فصعَّدتْ شعور الخوف الذي استبدَّ بالبلاد، بحيث تبقى الأمة متحدة خلف رئيسها، واستعملت الحرب على الإرهاب لتنفيذ أجِنْدَة التفوق الأمريكية. وهكذا غيَّرتْ أحداث الـ11 من سبتمبر مجرى التاريخ.

ليس استخدام حدث من أجل تمرير أجِنْدَة معينة أمرًا يستحق الشجب في حدِّ ذاته، لأن من واجب الرئيس تأمين القيادة؛ كما أنه من الطبيعي أن يناور السياسيون أو يستغلوا الأحداث ويتلاعبوا بها لتمرير سياساتهم. لكن ما يدعو إلى القلق يكمن في تلك السياسات التي ينتهجها بوش، وفي الأساليب التي يعتمدها لفرضها على الولايات المتحدة وعلى العالم. إنه يقودنا في منحى خطير للغاية.

وتتعارض الإيديولوجيا التفوقية لإدارة بوش مع مبادئ المجتمع المفتوح، تلك المبادئ التي تقرُّ بأن للناس آراءً مختلفة وبأن لا أحد يمتلك الحقيقة النهائية. غير أن هذه الإيديولوجيا التفوقية تسلِّم أننا، بحكم كوننا أقوى من الآخرين، نعرف مصلحتهم أكثر منهم ونملك الحق إلى جانبنا. وهذا ما عبَّرتْ عنه العبارة الأولى من إستراتيجية سبتمبر 2002 للأمن القومي (وهي تلك التي يقدِّمها الرئيس سنويًّا للكونغرس، وتتعلق بالإستراتيجية الأمنية للبلاد)، حيث جاء: "لقد انتهت المعارك الكبرى للقرن العشرين بين الحرية والتوتاليتارية إلى انتصار حاسم لقوى الحرية – وإلى نموذج مُستَدام واحد للنجاح القومي، قوامُه الحرية والديموقراطية والمؤسَّسة التجارية الحرة."

إن الافتراضات التي تضمَّنتْها هذه العبارة زائفة من جانبين: أولاً، لأنه لا يوجد نموذج مُستَدام واحد للنجاح الوطني؛ وثانيًا، لأن النموذج الأمريكي، الذي كان ناجحًا فعلاً، ليس بمتناوَل الآخرين؛ إذ إن نجاحنا يعتمد اعتمادًا كبيرًا على موقعنا المتسيِّد في قلب النظام الرأسمالي العالمي، ونحن لا ننوي التنازل عن هذا الموقع لأحد.

إن عقيدة بوش، التي تمَّ الإعلان عنها لأول مرة في خطاب رئاسي ألقاه في ويست بوينت في حزيران 2002، والتي أُدرِجَتْ من بعدُ بعد ثلاث أشهر من تاريخه في إستراتيجية الأمن القومي، تستند إلى مرتكَزين أساسيين هما: أولاً، إن الولايات المتحدة ستبذل كلَّ ما في وسعها للحفاظ على تفوقها العسكري غير المشكوك فيه؛ وثانيًا، إنها تحتفظ لنفسها بحقِّ ممارسة الفعل الوقائي. وقد حددت هذه العقيدة على أرض الواقع مستويين من السيادة: يتعلق المستوى الأول بسيادة الولايات المتحدة التي تعلو على جميع الاتفاقات والالتزامات الدولية؛ ويشمل المستوى الثاني سيادة جميع الدول الأخرى، الخاضعة لإرادة الولايات المتحدة. وهذا ما يذكِّرنا بمقولة قصة جورج أورويل مزرعة الحيوانات التي تقول: جميع الحيوانات متساوية، لكن بعضها متساوٍ أكثر من الآخرين!

إن عقيدة بوش غير معبَّر عنها بهذه الحدة قطعًا، إنما يجري تغليفها بنوع من الخطاب المزدوج؛ إذ إن هذه الازدواجية ضرورية بسبب التناقض بين مفهوم إدارة بوش للحرية والديموقراطية وبين المبادئ والمتطلبات الفعلية للحرية والديموقراطية. فلئن صحَّ أن الكلام على نشر الديموقراطية يبدو جليًّا في إستراتيجية الأمن القومي، إلاَّ أنه عندما يقول الرئيس بأن الحرية ستنتصر، على ما يردِّد مرارًا، فإن ما يعنيه هو أن أمريكا ستنتصر. بيد أن المفترَض في مجتمع مفتوح وديموقراطي أن يقرِّر الناس بأنفسهم ما يقصدون بالحرية والديموقراطية، وليس أن يسيروا على خطى أمريكا. وهذا التناقض يظهر بشكل جلِّي في حالة العراق، لأن احتلاله أدى إلى طرح القضية داخليًّا، حيث المفترَض أننا جئنا كمحرِّرين، حاملين معنا الحرية والديموقراطية. لكن واقع الحال يقول إن قسمًا كبيرًا من السكان لا ينظرون إلينا بهذه المثابة.

من المثير فعلاً للسخرية أن تكون حكومة أكثر مجتمعات العالم المفتوحة نجاحًا قد وقعتْ في أيدي أناس يجهلون المبادئ الأولية للمجتمع المفتوح. ففي الوطن استخدم الوكيل العام جون أشكروفت ذريعة الحرب على الإرهاب لتقليص الحريات المدنية؛ وفي الخارج تحاول الولايات المتحدة فرض وجهات نظرها ومصالحها من خلال استعمال القوة العسكرية. لقد كان غزو العراق أول تطبيق عملي لعقيدة بوش؛ وقد تبيَّن أنها غير فعالة. فقد اتسعت الشقَّة بين الولايات المتحدة وبين باقي العالم.

وحجم هذه الشقَّة مؤثر فعلاً. ففي 12 سبتمبر 2001، رُجِعَ في اجتماع خاص لمجلس شمال الأطلسي، للمرة الأولى في تاريخ الناتو، إلى المادة 5 من ميثاق التحالف لدعوة جميع الدول الأعضاء إلى اعتبار الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة وكأنه هجوم على أراضيها جميعًا. وسرعان ما تبنَّتْ الأمم المتحدة العمل التأديبي للولايات المتحدة ضد القاعدة في أفغانستان. وبعد عام ونيِّف على هذا، لم تستطع الولايات المتحدة تأمين مجرَّد قرار من الأمم المتحدة يؤيِّد غزوها للعراق. وقد أعيد في ألمانيا انتخاب غرهارد شرودر لمجرِّد أنه رفض التعامل مع الولايات المتحدة بهذا الخصوص. وفي كوريا الجنوبية، فاز مرشح لم يكن له أيُّ حظٍّ في الفوز في الانتخابات الرئاسية لمجرَّد أنه كان أقل المرشحين ودًّا للولايات المتحدة؛ ففي كوريا الجنوبية يعتبر الكثيرون أن الولايات المتحدة تمثِّل على أمن بلدهم خطرًا يفوق ذاك الذي تمثِّله كوريا الشمالية. وقد عارضت غالبية ساحقة في العالم الحرب على العراق.

كما أحدث الـ11 من سبتمبر انقطاعًا في السياسة الخارجية الأمريكية؛ وأحدث خرقًا في المعايير، بحيث أضحت السلوكيات، التي يُنظَر إليها وكأنها مثيرة للاعتراض في الأوقات العادية، مقبولة في الظروف الجديدة. وبذلك أعيد تعريف ما هو شاذ وجذري ومتطرِّف باعتباره سويًّا. لقد تراجع دور دُعاة الاستمرارية إلى المؤخرة منذ ذلك الحين.

لشرح أهمية النقلة الحاصلة سأقدِّم مثالاً عليه استقيتُه من خبرتي في أسواق المال. غالبًا ما تُبرِز هذه الأسواق من خلال سياقها ما يبدو وكأنه طفرة، أو لنقل فقاعة. والفقاعات، كما هو معلوم، لا تنمو من تلقاء نفسها، حيث إن لها أساسها على أرض الواقع – وإن كان في هذه الحال واقعًا مشوَّهًا من جراء نظرة خاطئة. في الظروف السوية تصحِّح النظرات الخاطئة نفسها بنفسها، بحيث تنزع الأسواق نحو نوع من التوازن. لكنه قد يحدث أحيانًا أن تدعم هذه النظرةَ الخاطئة نزعةٌ سائدة على أرض الواقع؛ وهذا يحدث عندما يبرز سياق الطفرة أو الفقاعة. وفي المآل، عندما تصير الفجوة بين الواقع وبين تفسيره الخاطئ كبيرةً إلى حدٍّ لا يطاق تنفجر الفقاعة.

ولتحديد دقيق للوقت الذي يدخل فيه سياق الطفرة مرحلة عدم التوازن، يجب مراجعة ما حصل من أحداث. ففي مرحلة التشكُّل، يجد المشاركون أنفسهم تحت تأثير التحيُّز السائد، حيث يبدو لهم وكأن الأحداث تؤكِّد وجهات نظرهم، الأمر الذي يعزِّز نظرتهم الخاطئة. وهذا يعمِّق الفجوة ويهيِّئ المسرح لمرحلة مواجهة الحقيقة، وبالتالي لضرورة عكس المسار. لكنْ حين يحصل مثل هذا العكس في المسار فإن النتائج غالبًا ما تكون مدمرة. ورغم أنه يبدو وكأن مسار الأحداث هذا حتمي وغير ممكن التجنُّب، إلاَّ أنه يبقى من الممكن دائمًا، في أيِّ شوط، إجهاض سياق تشكُّل الفقاعة والتخفيف من نتائجه السلبية، وحتى تجنُّبها كلِّية. قليلة هي الفقاعات التي بلغَتْ حدِّها الأقصى في ظلِّ طفرة التكنولوجيا المعلوماتية التي انتهت عام 2000. وبمقدار ما نسرع في إجهاض هذه العملية يكون الأمر أفضل.

والسعي الأمريكي للتفوق يمكن وصفه بالفقاعة، حيث يمكن اعتبار الموقع المهيمن الذي تشغله الولايات في العالم وكأنه عنصر الواقع الذي يشوَّه. وبالتالي فإن الاعتقاد القائل بأن الولايات المتحدة ستكون في وضع أفضل لو استعملت موقعها من أجل فرض قيمها ومصالحها في كلِّ مكان هو اعتقاد خاطئ؛ إذ إن عدم غلوِّها في استعمال هذه القوة هو تحديدًا الذي أوصل أمريكا إلى المكانة التي هي عليها.

لكن أين نحن الآن من سياق هذه العملية التي يمكن تسميتها بالطفرة؟ إن تدهور الأوضاع في العراق يمكن أن يكون إما لحظة حقيقة أو مجرد اختبار، إن تم تجاوزه بنجاح، فهو سيدعم هذا الاتجاه.

أية كانت تسويغات إطاحة صدام حسين، فمما لا شك فيه أننا غزونا العراق استنادًا إلى مزاعم كاذبة. فسواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد، خدع الرئيس بوش الجمهور الأمريكي والكونغرس، وداس بأسفل نعله على وجهات نظر حلفائنا. فالفجوة بين توقعات الإدارة وبين واقع الحال لا يمكن أن تكون أعمق مما هي عليه الآن؛ إذ إنه من الصعب تصوُّر انحراف عملية عسكرية حديثة إلى هذا الحدِّ من الخطأ. لقد أُجبِرَ جنودُنا على القيام بدور الشرطي وهم في كامل عدَّتهم القتالية، وهم ما انفكوا يُقتَلون. لقد عرَّضنا للخطر ليس فقط حياة جنودنا وإنما أيضًا الفعالية القتالية لقواتنا المسلحة. لقد تلفت معنوياتها، ولم نعد في موقع يجيز لنا إظهار هذه القوة على النحو اللائق؛ خاصة وأن هناك أماكن أكثر من أيِّ يوم مضى قد نضطر فيها شرعًا لإظهار تلك القوة. فمازالت كوريا الشمالية تبني علنًا ترسانة نووية، ومازالت إيران تفعل الشيء نفسه سرًّا، كما يقوم الطالبان في أفغانستان بإعادة تجميع صفوفهم. إن نفقات الاحتلال وأفق حرب دائمة باتت تثقل بقوة على كاهل اقتصادنا، وقد فشلنا في معالجة العديد من المشكلات المتفاقمة، المحلِّية والعالمية. فإن كنَّا في حاجة إلى برهان على سوء تصور حلم التفوق الأمريكي فليس من برهان نقدِّمه أفضل من احتلال العراق. وإذا فشلنا في الاعتراف بما هو واضح فإننا سندفع ثمنًا أبهظ في المستقبل.

في غضون ذلك، وإلى حدٍّ كبير بسبب انشغالنا بالتفوق، ارتكبنا خطأً أساسيًّا في حربنا على الإرهاب؛ إذ إن الحرب هي حقًّا كناية زائفة في هذا السياق. فلئن صحَّ أن الإرهابيين يشكِّلون تهديدًا لأمننا القومي والشخصي، وأنه يجب أن ندفع عن أنفسنا – والعديد من الإجراءات التي اتخذناها ضرورية وسليمة، حتى إنه يمكن المجادلة في أنها ليست كافية لتوقِّي هجمات أخرى في المستقبل – إلا أن الحرب التي تُشَنُّ لا تمتُّ بصلة تُذكَر إلى إنهاء الإرهاب أو تعزيز أمننا الوطني؛ بل بالعكس، هي تعرِّض أمننا للخطر بتوليدها حلقة مفرغة من العنف المتصاعد.

لقد كان بالإمكان التعامل مع الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة على أنه جريمة ضدَّ الإنسانية عوضًا عن التعامل معه كحالة حرب. فتعامُلنا معه كجريمة أكثر مناسَبة، لأن التعامُل مع الجرائم يتطلَّب عملاً بوليسيًّا وليس عسكريًّا. والوقاية من الإرهاب تتطلَّب إجراءات احترازية، ويقظة، وجمع معلومات استخباراتية – وهي جميعها أمور تعتمد في النهاية على دعم الوسط السكاني حيث يعمل الإرهابيون. فلنتخيَّل إذن لبرهة ماذا كان سيحصل لو أننا تعاملنا مع الـ11 من سبتمبر كجريمة: لو فعلنا هذا لما اجتحنا العراق، ولما كان جنودنا الآن يعملون كرجال شرطة ويتعرَّضون بالتالي للرصاص.

لكن إعلان الحرب على الإرهاب كان الأكثر ملاءمة لأهداف إدارة بوش، لأنها تستدعي استعمال القوة العسكرية؛ لكنها طريقة خاطئة في التعامل مع المشكلة. فالعمل العسكري يتطلب هدفًا محددًا، يُفضَّل أن يكون دولة. فكانت النتيجة أنْ تحوَّلتْ الحرب على الإرهاب إلى حرب ضدَّ تلك الدول التي تؤوي الإرهابيين. غير أن الإرهابيين، بالتعريف، عمَّال لا ينضوون تحت كنف دول، وإنْ كانوا كثيرًا ما يتلقون دعمًا من دول.

الانتصار في الحرب التي تشنها إدارة الرئيس بوش متعذرة الكسب؛ بل من شأنها، بالعكس، أن تولِّد حالاً من الحرب الدائمة. فالإرهابيون لن يختفوا بالمطلق؛ إذ سيشكلون دائمًا مبررًا لمتابعة هدف التفوق الأمريكي. والسعي إلى هذا الهدف، بدوره، سوف يستمر في توليد المقاومة. إضافة إلى ذلك، فإننا، حين نحوِّل عملية مطاردة الإرهابيين إلى حرب، لا بدَّ من وقوع ضحايا بريئة. وبازدياد عدد الضحايا البريئة تزداد النقمة، ويزداد احتمال أن يتحول بعض هؤلاء الضحايا إلى مجرمين.

لذا يجب النظر إلى الخطر الإرهابي من منظوره الصحيح. فالإرهاب ليس بالأمر الجديد. لقد كان عاملاً مهمًّا في روسيا في القرن التاسع عشر، وكان له تأثير كبير على طبيعة النظام القيصري في حينه، الأمر الذي أدى إلى زيادة أهمية البوليس السرِّي وتسويغ قيام سلطة مستبدة. وأيضًا، في مرحلة أقرب إلينا، كان على العديد من الدول الأوروبية – كإيطاليا، وألمانيا، وبريطانيا – أن تكافح عصابات إرهابية، وقد استغرق الأمر هذه الدول عقدًا من الزمن أو أكثر لاستئصالها. لكن هذه الدول لم تعشْ خلال كلِّ تلك الفترة تحت هاجس الإرهاب. ورغم أن استعمال الطائرات المخطوفة في عمليات انتحارية هو شيء جديد، وكذلك احتمال استعمال الإرهابيين لأسلحة الدمار الشامل، ورغم أن مواجهة مثل هذه التهديدات قد يتطلَّب بعض التكيُّف، إلا أنه لا يجوز السماح لهذه التهديدات بأن تهيمن على حياتنا. فالمبالغة في تقدير حجمها قد تجعلها أسوأ فحسب. إن أقوى دولة في العالم لا يجوز لها أن ينهكها الخوف. لذا فإن جعلنا الحربَ على الإرهاب محورًا يدور حوله أمننا القومي هو بمثابة نزول عن مسؤولياتنا كأمة قائدة في هذا العالم. لا بل أكثر من هذا، فإننا حين نجيز للإرهاب أن يصير شاغلنا الرئيسي، نتحول إلى ألعوبة بين أيدي الإرهابيين، الذين يحددون لنا أولوياتنا.

لقد نشر مجلس العلاقات الخارجية مؤخرًا ثلاثة بدائل لإستراتيجيات الأمن القومي: البديل الأول يدعو إلى الاستمرار في التفوق الأمريكي من خلال عقيدة بوش في العمل العسكري الوقائي؛ وهو ما ينافح عنه المحافظون الجدد. والبديل الثاني يطالب باستمرار سياساتنا السابقة في الردع والاحتواء؛ وهو ما ينافح عنه كولن باول ومعتدلون آخرون ربما ينتمون إلى كلا الحزبين. والبديل الثالث يود أن يرى الولايات المتحدة تقود جهدًا تعاونيًّا من أجل تحسين أوضاع العالم بالانخراط في أعمال وقائية ذات طبيعة بنَّاءة؛ وهذه السياسة لا ينافح عنها أي مركز قوة يُذكَر، رغم أن الرئيس بوش يتظاهر لفظيًّا بتأييدها. وهذه السياسة هي التي أنافح عنها.

تبيِّن الوقائع أن الخيار الأول شديد الخطورة؛ وأعتقد أن الخيار الثاني لم يعد عمليًّا. فقد بلغت إدارة بوش من الإساءة إلى مكانتنا في العالم حدًّا لم يعد يسمح لنا بالعودة إلى الأمر الواقع، فضلاً أنه قد تبيَّن أن السياسات التي مورست قبل الـ11 من سبتمبر غير ملائمة للتعامل مع مشكلات العولمة، لأن هذه المشكلات تتطلب عملاً مشتركًا؛ والولايات المتحدة هي وحدها المهيأة لقيادة هذه الجهود. فلئن لم يكن بمقدورنا أن نتصرف كما نشاء، كما يبيِّن الوضع العراقي، ليس بالإمكان، بالمقابل، فيما يتعلق بالتعاون الدولي، فعلُ الكثير دون قيادة – أو لنقل دون مساهمة – الولايات المتحدة.

لقد جعلت العولمةُ عالمَنا مترابطًا ترابُطًا متزايدًا، لكن السياسات الخارجية مازالت قائمة على سيادة الدول. إن ما يجري ضمن أية دولة مفردة يمكن أن يكون له تأثير حيوي على باقي العالم، لكن مبدأ السيادة يعارِض مبدأ التدخل في الشؤون الداخلية. وبالتالي فإن المشكلة الرئيسية التي تواجهنا اليوم والتي لم نجد لها حلاً بعدُ هي: كيف ينبغي التعامُل مع دول ساقطة وأنظمة قمعية فاسدة وغير صالحة؟ كيف يمكن التخلص من أمثال صدام؟ إن أمثال هذه الأنظمة أكثر من أن نشنَّ الحرب ضدها الواحد تلو الأخر.

لذلك فإني أقترح استبدال عمل وقائي ذي طبيعة بنَّاءة وإيجابية بعقيدة بوش الداعية إلى العمل العسكري الوقائي. إن زيادة المعونات الخارجية وسنَّ قواعد تجارية أفضل وأكثر إنصافًا، مثلاً، أمران لا يمسَّان سيادة الدول المعنية. أما العمل العسكري فيُحتفَظ به كخيار أخير. الولايات المتحدة مشغولة حاليًّا بقضايا أمنية؛ وهي محقَّة في هذا. لكن الإطار الذي يجب أن نفكر ضمنه في أمننا يجب أن يكون جماعيًّا؛ إذ إنه لا يمكن التعامل بنجاح مع انتشار الأسلحة النووية والإرهاب الدولي دون تعاون دولي. إن العالم يتطلَّع إلى قيادتنا. وقد أدَّينا هذا الدور في الماضي؛ لكن السبب الرئيسي للمشاعر القوية المعادية لأمريكا في العالم اليوم هو أننا لا نؤديه في الحاضر على ما ينبغي.

*** *** ***

عن وجهات نظر، يناير 2004

ترجمة: شيرين محمد فهمي

مراجعة: أكرم أنطاكي

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود