|
الحقيقة في منظور العلم لماذا اختُرِع مصطلحُ الحقيقة؟ لا شكَّ أنه
اختراع مذهل! إن السبب الكامن وراء اختراع
المصطلح يتجاوز في أهمِّيته المصطلحَ في حدِّ
ذاته. يرتبط مصطلح الحقيقة بالتفسير. فهل
التفسير ضروري؟ إننا جميعًا ننزع إلى
التفسير، لكن الطبيعة لا تعطي أيَّ تفسير.
فعندما نجرِّب تكتفي الطبيعة بإعطائنا
الإجابة دون أية زيادة. يقول
الأداتيون Instrumentalists إن التنبؤات والنتائج التجريبية وحدها
هي المهمة؛ أما ما تبقى فهو مجرَّد تخيُّل.
نجد عند الوضعيين Positivists
حالة أكثر تطرفًا. فوفق هؤلاء، تفتقر كلُّ
العبارات التي تتجاوز التوصيف أو التنبؤ إلى
المعنى، وهي فائض معلوماتي في حقيقتها. إذا
قوَّمنا هذه العبارة وفق مضمونها، ألا نجد
أنها فائض معلوماتي؟! إذا قبلنا بأن قصد
الاكتشاف هو التنبؤ، نكون كمن يخلط الواسطة
بالهدف. فهل يُعقَل أن يتحدَّد الغرض من مركبة
الفضاء بحرق الوقود؟! إن التفسير ضروري
للوضعيين وللأداتيين، إن لم يكن لسبب فلأن
التفسير يرتِّب التنبؤات. يصرُّ أصحاب هاتين
المدرستين على أن نجاح أية نظرية يتوقف على
النجاح المقابل للتجربة، وليس على التفسير
الذي تقدِّمه النظرية – إن كان هناك أيُّ
تفسير – ذلك أن النظرية، في النهاية، مجرَّدة
من التفسير. يضيف هؤلاء أننا لسنا نحن
المسؤولين عن تجريد النظرية من التفسير. إن
التفسير والتمثُّل أو الفهم صنوان لا يفترقان.
فما الذي ينطوي عليه الفهم؟ إنه يحدِّد الأنا.
يتجسَّد ذلك التحديد بالحلم. الحلم تقطُّع في
أثناء النوم، واستمرارية إبان اليقظة. إن
الحلم والحياة الواعية من طبيعة واحدة:
فاليقظة عينية إدراكية، والحلم عينية
تذهُّنية. وهنا لا بدَّ من أن نركِّز على
الحلم لأن الحلم تأكيد لاستمرار حالة الوعي.
يحاول النوم – وهو موت مؤقت – تغييب حالة
الوعي، لكن المنظومة العصبية تُطلِق في أثناء
النوم نبضات متكررة، وكأن كلَّ نبضة منها
تقول: أنا موجود! الحلم،
باختصار، تأكيد على ضرورة الفهم. يتحاشى
الحلم الاستغراق في التفاصيل، وإن بدا
تفصيليًّا؛ إنه يتناول حالة بمجملها. من هنا
كان الحلم تأكيدًا على ضرورة الفهم. فما هو
شأن الحياة الواعية يا تُرى في هذا السياق؟ لا
يحدث الفهم على خلفية التنبؤ، بل يرتكز على
التفسير. ولنا في النسبية العامة خير مثال:
صحيح أن النسبية العامة توفِّر فيضًا من
التنبؤات – وهي كلها تنبؤات رائعة! – لكنها
تقدِّم تفسيرًا لآلية الجذب الثقالي Gravity.
وفق النسبية العامة، ينجم الجذب الثقالي عن
الانحناء الطارئ الذي يطال التكوين الهندسي
للزمان والمكان والذي يسبِّبه الوجود
الفيزيائي للكتلة. فهل نستطيع مقارنة التفسير
بالتعرُّف. التفسير: لماذا؟ والتعرُّف: ماذا؟
الفرق بين التفسير والتعرُّف هو الفرق بين
البساطة والأناقة والتماسك والإحكام، من جهة
(لماذا؟)، وبين التعقيد والاختيارية والشواش
والأطروحات غير المبرَّرة، من جهة أخرى (ماذا؟).
لذلك لا يرغب في التفسير إلا الذهن الخلاق. إن
توفر الهامش الواسع من الحرية هو الاشتراط
الرئيسي في عملية الخلق. لذا كانت ساحة الحلم
أوسع في توليد الأفكار، بينما تقيِّد الحياة
اليومية – وبشكل كامل أحيانًا – انبثاقات
الأفكار. نضرب مثالاً على ذلك الأرقام
الرومانية التي تحوَّلتْ إلى مصادرة أوقفتْ
بشكل كامل تطور الرياضيات إبان عهد الدولة
الرومانية؛ فعلى الرغم من أن الأرقام
المذكورة توفِّر هامشًا مقبولاً للتنبؤ، لكن
التفسير الذي تؤدِّيه هزيل للغاية. إن
التفسير، بالضرورة، هو وليد التنبؤ. عندما
انتصب الكائن على قدمين لم يكن لديه وعي
بالمعنى المألوف. رفع رأسه ونظر إلى السماء؛
رأى نجمًا وفق مفاهيمنا المعاصرة؛ تكرَّرتْ
الرؤية في أيام وأشهر وسنوات وتواترات عبر
أجيال؛ استطاع أحد الكائنات بعد ذلك أن يتصور
موضوع الرؤية بدون أن ينظر إلى السماء. كانت
تلك بداية التنبؤ. ومن التنبؤ تمَّتْ صياغةُ
مفهوم المستقبل. أتى التفسير متأخرًا على يد
غاليلي عندما قرَّر أن سبب الرؤية هو دوران
الأرض حول نفسها. لقد التمعت النبوءة في ظلمة
الليل، وبعثتْها إلى الحياة النجومُ
المتلألئة المنتشرة على صفحة السماء. من هنا
كان النشيد الكوني الجبراني: أنت
ظلام يُرينا أنوار السماء [يقصد
جبران عملية الخلق التي يقوم بها الذهن]،
والنهار نور يغمرنا بظلمة الأرض. أنت أمل يفتح
بصائرنا أمام هيبة اللانهاية، والنهار غرور
يوقفنا كالعميان في عالم المقاييس والكمية.
في ظلالك تدبُّ عواطف الشعراء، وعلى منكبيك
تستفيق قلوب الأنبياء، وبين ثنايا ضفائرك
ترتعش قرائح المفكِّرين. فأنت ملقِّن الشعراء
والموحي إلى الأنبياء والموعز إلى
المفكِّرين والمتأمِّلين. أنا مثلك يا ليل!
أنا ليل مسترسل منبسط هادئ مضطرب، وليس
لظلمتي بدء ولا لأعماقي نهاية. نعود
إلى قيود حياة اليقظة: إنها تفرض على
المفكِّر، في النهاية، أن يحلِّل حالات كثيرة
ويستعرضها، بينما يتطلب التفسير عملية
التركيب. لا يعني ذلك انفصال صناعة الحلم عن
صناعة اليقظة. إن كلَّ صناعة منهما إبداع وخلق
لدى المفكر. والحق نقول إن النظريات ليست آلات
للتنبؤ، بل هي آليات للتفسير. إن استجرار
التفسير ليس عملية ميكانيكية؛ فقد يحتاج
التفسير إلى عدة نظريات تالية للنظرية
المفسِّرة، كما يقضي تفسيرُ بعض الظواهر
الكونية في ضوء النسبية العامة. ندعو نظريات كبرى
تلك النظريات التي توفِّر تفسيرًا لما تطرحه
النظريات الأصغر. إن النسبية العامة نظرية
كبرى؛ والنظريات التالية الضرورية للتفسير
نظريات أصغر. تزداد النظريات الكبرى الآن
كبرًا وعمقًا؛ وهي تتحدث عن الظواهر بلغة
الرياضيات. وتتسم النظريات الأفقية
الأداتية بأنها أصعب وأعقد، ولا تقدم إلاَّ
النزر اليسير من التفسير؛ أما النظريات الشاقولية
فهي أعمق وأبسط، وتوفِّر فيضًا من التفسير. لا
يعني التفسيرُ التَمَذْهُبَ أو الإيديولوجيا.
إن مؤشرات التَمَذْهُبِ أو الإيديولوجيا
بدورها خطأ. علينا ألاَّ ننسى أننا مكوَّنون
من ذرات، في كلِّ الأحوال، خاصة عندما يحتاج
أحدنا إلى معالجة طبية. هكذا تكون
الكلِّيانية Holism خطأ. لكن الذرَّانية
Atomism
بدورها خطأ: ماذا لو رأى أحدنا حقيقة الآخر –
أنه مكوَّن من ذرات تهتز وتتطاير وتندثر
وتجتمع بدون توقف؟ المنظر غير مريح، ولا شك.
نرتكب خطأ آخر إن نحن طرحنا التساؤل التالي:
هل تنجم قوانين الفيزياء عن البيولوجيا، أو
أن البيولوجيا هي التي تترتب على قوانين
الفيزياء؟ من هنا لا نستطيع على الإطلاق أن
نهمل الصفات الكلِّية التي تبرز عند سوية
معينة، على خلفية التكوين الذري لكلِّ
الكائنات. هل
يعني التفسير أن نقبل بكلِّ الأفكار، كما
يحدث في سياق الأحلام، حيث تجري سلسلة من
تداعيات غير منطقية. نلاحظ هنا أن الحلم حرٌّ،
لا يناور ولا يجادل ولا يتردد. على الرغم من
ذلك، لا نستطيع أن نقبل الأضداد التي يحاول
الحلمُ إقناعَنا بها، ولا أن نذهب إلى حدِّ
الإيمان بتفسيرات متناقضة خاصة بالحلم. فعلى
الرغم مما تقدَّم، علينا أن نبحث عن الحقيقة
في الحلم، كما نبحث، في نفس الوقت، عن حقيقة
الحلم. نتوقف هنا قليلاً عند مصطلح حقيقة
الحلم. إننا نفترض أننا نستطيع فهم كلِّ شيء
يمكن فهمه، ولن نفهم أبدًا ما لا يمكن فهمه.
الأصح أن نقول إن ما يمكن فهمه هو كلُّ شيء.
يسعى العلماء الآن إلى صياغة نظرية إجمالية
لكلِّ التفاصيل ولكلِّ الموجودات، يدعونها
"نظرية كلِّ شيء" a
theory of everything، ويقولون إن ظهور مثل هذه النظرية سيلغي
الحاجة إلى أية نظرية لاحقة، وإن عليهم بعد
ذلك التحول إلى أعمال مختلفة. لن تكون "نظرية
كلِّ شيء" نهائية؛ إذ لا بدَّ أن يعقبها
انزياح في وجهة النظر إلى علم جديد. نورد
المثال التالي عن الإنسان والضفدع لتأكيد ما
تقدَّم: فعالَم الضفدع ليس عالَم الإنسان.
يتابع الإنسان الخفوت التدريجي للضوء إلى أن
تحلَّ الظلمة، بينما يرى الضفدع أضواء متقطعة
بنفس الشدة لا تخفت أبدًا. إذا تصورنا ضفادع
متحضِّرة، بصرف النظر عن المعنى الحقيقي
لمعنى التحضُّر، فإن نظريات تلك الضفادع عن
العالم وتفسيراتها ستكون مختلفة، ولا شك. يظن
كثيرون أن الاستقراء يبرِّر النتيجة. إن هذا
الأمر غير صحيح على الإطلاق. نتصور مربيًا
للدجاج، وقد حدَّد ساعة معينة لتقديم الطعام
إلى الدجاج. يقرِّر الدجاج بعد مدة صحة
القانون التالي: عندما تحين الساعة المحددة
يأتي المربِّي بالطعام. لكن يحدث أن المربِّي
يأتي في أحد الأيام عند الساعة المحددة،
وبيده سكين لقطع أعناق الدجاج! إن الاستنتاج
في عالم المجرَّدات، بدوره، لا يبرِّر
النتيجة. وخير مثال على ذلك أن العدد المربع
يكون موجبًا على الدوام؛ وعلى الرغم من ذلك،
يبحث الرياضيون عن الجذر التربيعي للعدد
السالب. إن الاستقرائية هي هيكلية مبنية على
التسلسل التاريخي، بينما قد يكون التاريخ
مجرَّد متتالية من المشاكل، تحلُّ كلَّ مشكلة
منها خوارزميةٌ مستقلة. إن التاريخ بهذا
المعنى "لاتاريخي"؛ بكلمات أخرى، يمكن
أن يفسَّر التاريخ تفسيرًا لاتاريخيًّا. لا
يعني هذا أن نأخذ بمبدأ الأنانة Egocentricity: إنه المبدأ الذي يقول بأن لا
وجود لشيء غير الأنا. إذا آمن شخصان بالأنانة
ينهار المبدأ انهيارًا كليًّا. لو كانت
الأنانة صحيحة لما كانت علاقة الملاحظة
بالتنبؤ صحيحة (نقصد هنا الملاحظة والتنبؤ
المرتبطين بالأنانة). الأنانة، في جوهرها،
محاولة للهروب من التفسير. تنكر الأنانة
الداخل ولا تأبه به ولا تعلِّق أية أهمية
عليه، لأن الأنانة ترى أن الداخل هو الخارج.
لا يعني رفضُ الأنانة نفيَ أن المكان والزمان
خاصان؛ فلكلِّ هباءة كونية زمانُها ومكانُها.
على الرغم من ذلك، فإن المكان والزمان في
العلم هما زمان ومكان الآخر. ماذا كانت حال
المكان والزمان لو كان هناك كائن واحد فقط في
الكون؟ لقد
تقدم العلم النظري تقدُّمًا عاصفًا، إلى حدِّ
أن التجربة الفيزيائية العيانية التي تستهدف
اختبار أطروحات هذا العلم باتت مستحيلة. إننا
عاجزون عن بناء معجِّل قُسَيْمي بحجم
المجموعة الشمسية للتحقق من بعض النماذج
الخاصة ببداية الكون. من هنا كان لجوء العلماء
إلى التجارب العقلية. إن التجربة العقلية هي
حلم نوعي؛ وهي، ككلِّ الأحلام الأخرى،
متحرِّرة من قيود المكان والزمان. إنها إبداع
جديد، ولا شك. الدهشة
هي مفعِّل الحلم وهي مفعِّل الإبداع. أين تقع
جذور الدهشة؟ هل يمكن أن تكون دفينة في وجودٍ
مُبرمَج برمجة مسبقة. لو كان الوجود
مُبرمَجًا برمجة مسبقة لاستنفدتْه الكشوفُ
العقلية ولاستحالتِ الدهشة: ذلك أن المكتشِف
يستطيع أن يتنبأ، بعد عدد منتهٍ من الخطوات،
بما ستكون عليه الخطوة التالية. إن الوجود غير
المُبرمَج هو وحده الكفيل بإحداث الدهشة: ففي
مثل هذا الوجود يعجز أيُّ كائن عن تصور الطور
التالي. برهن العالم الرياضي كورت غودل على
استحالة المعرفة في عدد منتهٍ من الخطوات؛
بكلمات أخرى، فإن المعرفة مرهونة بعدد لا
نهاية له من الخطوات. يمثِّل الوعيُ الكمونَ
المتميِّز لهذه اللانهاية، على الرغم من
البنيوية المنتهية لأدواته، كالاختبار
والشرح والاستبدال والانتقاء وسواها. إن
قبولنا بالعدد اللانهائي من الخطوات يرتكز
على حقيقة الطبيعة غير المتوقَّعة للخطوة
التالية أو الطور اللاحق. إن الطور اللاحق،
مثله كمثل الخطوة التالية، حادث؛ والحادث،
وفق هذه الرؤية، ينحدر من مُعينٍ لانهائي. لذا
كانت النسبية العامة في حينها لحظةَ خَلْقٍ
غير متوقَّعة، استُلَّتْ من مخزون اللانهاية. نلجأ
هنا إلى الميكانيكا الكوانتية لتعليل
مقولاتنا. يُدهِشنا عالم الصغائر بمحيِّراته.
عندما ينتقل إلكترون من مدار إلى آخر حول نواة
الذرة، أو وفق المصطلح الكوانتي، من سوية
طاقة إلى سوية طاقة أخرى، فإنه يختفي كلِّية
من الوجود عند السوية الأولى، ليعود فيظهر في
السوية الثانية. يستطيع إلكترون واحد أن
يمرَّ من ثقبين متجاورين في نفس اللحظة،
ليحقق تَداخُلاً مع نفسه أشبه بتَداخُل
موجتَيْ ضوء أو موجتَيْ ماء. يعمد العلماء، في
تجربة مثيرة، إلى إحداث شقَّين بالغي الضآلة
في حاجز، المسافة بينهما 0.2 مم، ثم يُسقِطون
فوتونًا ضوئيًا واحدًا فقط على الشقَّين.
يلاحظ العلماء وميضًا على شاشة قريبة من
الحاجز يُثبِت عبور الفوتون. وعندما يضاعف
العلماء عدد الشقوق إلى أربعة، ويكرِّرون
التجربة باستخدام فوتون ضوئي واحد، تكون
النتيجة مدهشة: تبقى الشاشة القريبة مظلمة،
بما يؤكد عدم وصول الفوتون إليها. لو وُجِدَ
فوتون آخر لسَهُلَ التفسير على أساس ظاهرة
التَداخُل المألوفة في الضوء؛ أما في حالة
الفوتون الوحيد فيبدو أن هناك فوتونًا–ظلاً
يعبر أحد الثقوب ويتداخل مع الفوتون الوحيد
تَداخُلاً هدَّامًا، بما يؤدي إلى إظلام
الشاشة. يدعو
العلماء الفوتون الوحيد فوتونًا واقعيًّا؛
إذ إن بمقدورهم تحسُّس وجود هذا الفوتون
بواسطة التجريب البسيط. بالمقابل، لا يستطيع
العلماء الكشف عن وجود الفوتون–الظل بواسطة
التجربة؛ والطريقة الوحيدة للتعرُّف إليه هي
الطريقة غير المباشرة المتمثِّلة بمتابعة
آثار تَداخُله مع الفوتون الواقعي. كنَّا قد
أشرنا إلى الإلكترون الواحد الذي يمرُّ من
ثقبين. وفق وجهة النظر الأخيرة هذه، يمرُّ
الإلكترون الواحد من أحد الثقبين، ويمرُّ
إلكترون–ظل من الثقب الآخر. تنسحب
هذه الآثار على سائر القُسَيْمات الأولية،
ولا تقتصر على الفوتونات والإلكترونات فقط.
تشكل القُسَيْمات الواقعية بمجموعها الكون؛
أما القُسَيْمات–الظلال فتجتمع في أكوان
موازية تتداخَل، الآن وهنا، مع الكون. تكون القُسَيْمات–الظلال
قُسَيْمات واقعية في أكوانها، بينما تكون
القُسَيْمات الواقعية في الكون قُسَيْمات–ظلال
في تلك الأكوان. إن تفسير الميكانيكا
الكوانتية بالاستناد إلى مفهوم الأكوان
المتوازية Parallel Universes هو التفسير الأصح الذي يتبناه
العلماء اليوم. يُدعَّم
العلماء نموذج الأكوان المتوازية بالتجربة
التالية: يأتون بمرآة نصف مفضَّضة (أي أنها
تعكس الضوء، كما تسمح بنفاذه). يضعون هذه
المرآة مائلة بزاوية نصف قائمة، ثم يضعون
أمامها، على مسافة أفقية محددة، مرآة أخرى
مفضَّضة (أي أنها تعكس الضوء ولا تسمح بنفاذه).
يضعون كذلك مرآة ثالثة مفضَّضة تحت المرآة
الأولى، على نفس مسافة المرآة الثانية. ولكي
تكون التجربة مستكمَلة لا بدَّ من أن توازي
المرآتان الثانية والثالثة المرآةَ الأولى.
أخيرًا، يضع العلماء مرآة رابعة نصف مفضَّضة
موازية للمرايا الثلاث عند النقطة التي تكمل
مواضع المرايا إلى مربع. تبدأ
التجربة بإطلاق فوتون ضوئي وحيد نحو المرآة
نصف المفضَّضة الأولى. قبل أن يصطدم الفوتون
بهذه المرآة تتحرك معه الفوتونات–الظلال على
نفس المسار؛ بكلمات أخرى، تكون الأكوان
المتوازية عند هذه المرحلة متماثلة. عندما
يبلغ الفوتون الفعلي المرآة تنفصل هذه
الأكوان بعضها عن بعض: ففي نصف هذه الأكوان
تتحرك الفوتونات نحو المرآة المفضَّضة
السفلية. وبعد اصطدام الفوتونات بالمرآتين
المفضَّضتين العلوية والسفلية تهرع لكي
تلتقي عند المرآة نصف المفضَّضة السفلية.
نذكِّر مرة أخرى أننا لم نطلق في كوننا إلا
فوتونًا واحدًا فقط، هو الفوتون الفعلي.
ولحظة بدء التجربة تمَّ نَسْخُ نسخة كاملة عن
المرايا في كلِّ كون موازٍ. يتحرك فوتون–ظل
في كلِّ كون نحو المرآة المفضَّضة العليا
طبعًا في النصف من هذه الأكوان الموازية وفي
النصف الآخر من الأكوان؛ ويتحرك الفوتون–الظل
في كلِّ كون نحو المرآة المفضَّضة السفلى.
وتتداخل الفوتونات–الظلال مع الفوتون
الفعلي عند المرآة نصف المفضَّضة السفلى.
تتوقف نتيجة التَداخُل على هندسة الشكل الذي
تكوِّنه المرايا. تدعم
هذه التجربة وجودَ الأكوان المتوازية، ولا
سيما أن نتيجة التجربة لا تتسق أبدًا مع إحدى
الحالتين اللتين يسلك الفوتون الفعلي فيهما
أحد المسارين، الأفقي نحو المرآة الثانية أو
الشاقولي نحو المرآة الثالثة. إذا أسقطنا
فوتونًا صوب اليمين على امتداد المسار
الشاقولي فقد ينفذ من المرآة نصف المفضَّضة
الأولى، وقد يرتحل مباشرة نحو الأسفل؛
بالمثل، إذا أطلقنا فوتونًا على امتداد
المسار الأيمن فقد يتحرك نحو اليمين، وقد
يسلك المسار الشاقولي. باختصار، فإن نتائج
التجربة تكون عشوائية بصورة عامة. تغدو
التجربة مقرَّرة لدى حدوث التَداخُل. يعني
ذلك أنه لا بدَّ في هذه الحالة من وجود شيء آخر
يتداخل معه الفوتون الفعلي. إن هذا الشيء
الآخر هو الذي يلغي الطبيعة العشوائية
للتجربة: إذا تحرك الفوتون الفعلي على المسار
الأفقي يهبط هذا الشيء الآخر على امتداد
المسار الشاقولي. إن هذا الشيء الآخر هو
الفوتون–الظل. نعود
إلى الدماغ ومسألة تخزين المعلومات فيه. لو
قبلنا بأن كلَّ معلومة تُمثَّل بذرَّة من
ذرات الدماغ لما وَسِعَ الدماغُ كلَّ
المعلومات الهائلة الخاصة بإنسان معين.
لنتذكر أن الدماغ يُعنى بصيرورة كلِّ جزيء في
كلِّ خلية. وفق نموذج الأكوان المتوازية هناك
نُسَخٌ من كلٍّ منَّا في كلِّ كون؛ وكلُّ نسخة
في كونها هي كائن فعلي، وفي كلِّ كون من
الأكوان الأخرى هي كائن–ظل. قد يكون الآن
القارئ–الظل لهذه الأسطر في أحد الأكوان
الموازية يرشف فنجان قهوة في أثناء القراءة
بينما يكتفي القارئ الفعلي في كوننا بالقراءة
فقط! إن
هذه الأكوان تتواجد معًا، الآن وهنا، لكنها
لا تتكاشف. إن أحدًا منا لن يستشعر أبدًا وجود
إحدى نسخه–الظلال. أما المفيد في هذا الأمر
فهو استعادة معلومة ضرورية لشخص ما في كوننا
من دماغ إحدى نسخه في كون موازٍ لكوننا، عبر
آلية تَداخُل شبيهة بتجربة المرايا، ودون أن
يتحسَّس لا الأصل ولا الظل عملية التداخل
التي تستهدف استجرار المعلومة. لهذا تبدو
المعلومة في كوننا وكأنها خُلِقَتْ من عدم.
ولأن الفوتونات هي الأكثر غزارة في الكون فهي
أكثر غزارة في الأكوان الموازية؛ وهي تسهم،
تبعًا لذلك، في بناء المعلومة في أيِّ دماغ،
سواء كان فعليًّا أم ظلاً. لعلَّ
هذا هو السبب بالذات الذي يجعل دماغنا
بصريًّا. إن العينين هما استطالتان من الدماغ
توجَّهتا نحو الخارج لجمع المعلومات البصرية.
والدماغ الأقدر هو الدماغ الذي يستطيع أن
يتصور أكثر. نؤيد قولنا بأن كلَّ فوتون يوجد
عند نفس اللحظة في كلِّ المواقع الجغرافية في
الكون. من هنا كانت قوة الفوتون في تمثيل
المعلومات وصناعتها. يبقى دماغُ أيٍّ منا على
بنيته الفيزيائية نفسها عند تبدُّل الأحوال،
لكن المعلومات تتغير. إن تبدل المعلومات هذا
على نفس الخلفية الفيزيائية يدعم نموذج
الأكوان المتوازية. نقصد هنا بـ"البنية
الفيزيائية" التكوينَ الفيزيائي والهندسي
لخلايا الدماغ. ونذكر
على الهامش أن الحَوْسَبَة الكوانتية Quantum
Computing، التي هي الآن في طريقها إلى التحقق،
تعتمد الأكوان المتوازية. يستطيع الحاسوب
الكوانتي أن يحلَّ آنيًّا أية مسألة قد
تستغرق الحواسيبَ التقليدية ملايين السنوات.
فما الذي يفعله الحاسوب الكوانتي؟ إنه يزيد
من عدد الأكوان، بحسب الضرورة، وينسخ في كلِّ
كون حاسوبًا–ظلاً له. تعطي كلُّ الحواسب–الظلال،
مع الحاسوب الفعلي، كلَّ الحالات الممكنة
للمسألة. وما يهم بالطبع هي حالة واحدة وحسب؛
وهذه الحالة تكون جاهزة ومتوفرة. يحاول
الدماغ الإنساني دائمًا دفع نماذجه نحو
الكمال. يعني هذا خَلْقَ المزيد من الأكوان
الموازية لاستيعاب المزيد من عناصر النموذج.
على أية حال، لن يكون النموذج كاملاً أبدًا،
نظرًا لاستحالة أن تنزلق الأنا إلى
اللانهاية، رغم أن الأنا هي كمون اللانهايات،
كما سبق وأسلفنا. لا
تترتب الأكوان المتوازية على الأنانة، ولا
تنجم عن الاستقراء أو الإيديولوجيا؛ إذ تنطوي
الإيديولوجيا على خطة محكمة تُمليها علاقات
خالدة. إن هذا غير صحيح أبدًا، مادامت هناك
أكوان تتوالد توالدًا مستمرًّا لتستوعب
مزيدًا من المعلومات المخلَّقة. تُصدِر
الإيديولوجيا حُكمًا بالنفي والإبعاد؛ إلا
أن هذا لا يُعتبَر نفيًا للبرهان، ولا سيما أن
البرهان محلِّي الطابع، أي يعتمد عددًا من
الأكوان المتوفِّرة عند صياغة البرهان. كذلك
هو شأن المدرسة السلوكية في علم النفس: ليست
هناك برمجيات جاهزة منتهية؛ كما أن تخليق كون
موازٍ تالٍ يغيِّر، ولا شك، من السلوك اللاحق. إذا
شئنا أن نلقي بعض الضوء على القانون الحراري
الثاني الذي ينصُّ على ضرورة الازدياد
التدريجي للفوضى (التي تقاس بالإنتروبيا Entropy)،
نقول إن هذا الانحدار إلى الفوضى ما هو إلا
تعبير أو تجسيد للبدائل–الظلال الكثيرة في
الأكوان الأخرى لحَدَثٍ ما في الكون الفعلي.
نفسِّر حلم النوم بأنه ناجم عن تَماسٍ أو
تَداخُل مع كون أو أكثر من الأكوان الموازية.
من هنا كانت الطبيعة الغريبة للحلم. وحتى إنْ
تَناوَل الحلمُ موضوعًا يوميًّا فإن محيط
الموضوع ومضامينه تكون غير مألوفة. إن الحلم
بصري. ونعلِّل ذلك بما قدَّمناه عن خصائص
الفوتون الفعلي والفوتونات–الظلال. إن الحلم
تَداخُل أكوان؛ من هنا كان القول المأثور: "لا
يخطر ذلك ولا حتى في الحلم!" إن القول تعبير
عن تَداخُل مفاجئ للأكوان. يتم الحوار في
الحلم بدون كلام لأن تَداخُل الأكوان يرتكز
بشكل رئيسي على تَداخُل الفوتونات. أما عن
الإسقاط في علم النفس، سواء كان إسقاطًا
داخليًّا أو خارجيًّا، فلا يحدث إلا في ذروة
تَداخُل الأكوان. إن المعلومات أو النماذج في
مختلف الأكوان قريبة بعضها من بعض، والفروق
بينها ضئيلة؛ لذا يترافق التَداخُل بما يظهر
أنه تخليق للمعلومة: ذلك أن التَداخُل يحدث
بين كينوناتٍ الفروقُ بينها طفيفة. نستطيع أن
نقول، مُجمِلين ما تقدَّم، إن العالم هيولي،
وإن ارتطام العالم بالوعي يخلق العالم،
أي يخلق الأكوان المتوازية. لا
يمكن للإبداع أن يتحقق في أسْرِ القيود
الاجتماعية، أي قيود الآخر. وعادة ما يتطبَّع
الإنسان بتلك القيود؛ لذا يستنكر مادة أحلامه
في معظم الأحيان. نذكِّر مرة أخرى باستقلالية
الحلم، وبما يلجأ إليه الحلم أحيانًا من
إعادة صياغة واقع متحرِّر من القيود. يصاغ
الحلم في الذهن؛ وتبعًا لما تقدَّم، فإنه
يُنحَت حيال الآخر في مصطلحات اتفاقية، على
الرغم من أن معطيات الحلم ليست اتفاقية.
نذكِّر بالخافية الجمعية Collective Unconscious للعالم كارل يونغ، التي تمثل
الوعي المجرَّد أو الحالة التجريدية
التذهُّنية للوعي: إنها الأكوان الموازية.
إذا اعتبرنا أن الحلم مونولوج كوني، فعلينا
أن نبحث عن المعاني، لكن ليس في سياق
المصطلحات والمعاني الاتفاقية. إنها معضلة
كبرى حقًّا. فعلى الرغم من أننا نرى في بعض
الأحلام أشخاصًا وأمكنة من الحياة اليومية،
فلا بدَّ من أن نفهمها بمعزل عن المصطلحات
والمعاني الاتفاقية. إنهم أشخاص وأمكنة–ظلال
قادمون من أكوان موازية. بدوره،
يصنَّف تداعي الأفكار بأنه تسلسل كوني
للأفكار. من هنا كانت الأحلام – كالموسيقى –
صعبة، بل مستحيلة التفسير في المصطلحات
المتداولة. يجب أن نتعامل مع الحلم ونقبله
كمعطيات جديدة. لا أدل على ذلك من أن بعض
المبدعين كانت الخواطر تتوارد عليهم في أثناء
النوم – طبعًا من الأكوان الأخرى. تسهم
الأحلام في تحقيق الذات بتوفيرها المزيد من
الأكوان غير المقيدة. بذا قد يكون الحلم
مؤشرًا بهذا المعنى لأحوال تالية في الكون
الفعلي (حلم استباقي) بسبب سبق زمني ضئيل في
بعض الأكوان الموازية. إذا
شئنا أن نصوغ ما تقدَّم بعبارات أكثر
تماسكًا، نقول إن قِطاعًا من العضوية يتحول
إلى الاستبصار Clairvoyance في أثناء النوم بسبب
التماس مع الأكوان الأخرى. إن الحلم، في حدِّ
ذاته، دليل قاطع على أننا نخلق العالم في
أثناء اليقظة. وما شعورنا بأن الحلم دخيلٌ
علينا إلا إثبات أنه خلق جديد. إن اتصال
الأفكار في اليقظة والتطبُّع بها هو المسؤول
عن تغييب حقيقة أن الفكرة دخيلة علينا. من هنا
كانت مشكلة التطبُّع الذي يجعل الأمور
مألوفة، فيُحجِم الفكر، إذ ذاك، عن البحث عن
خلفياتها. هل
هناك معيار للحقيقة؟ كي لا نعود إلى الأنانة،
نقرُّ بأن كلَّ ما يؤثر في الأنا موجود فعلاً.
الأكوان المتعددة موجودة عندما تتأثر الأنا
بالحسابات الرياضية المعقدة، على سبيل
المثال وليس الحصر، بالحسابات الخاصة بكسوف
الشمس. ويعني ذلك أن الكسوف حقيقة. نعرِّج
هنا على مسألة الحقيقة الافتراضية Virtual
Reality. يُنقَل الشخص إلى محيط الحقيقة
الافتراضية بواسطة مجموعة من الأدوات
المعقدة التي تديرها وتقودها حواسيب
مُبرمَجة تؤثر في بعض حواس ذلك الشخص أو
كلِّها. نحتاج هنا إلى تكنولوجيا لكلِّ شخص؛
ذلك أن كلَّ جهاز عصبي مختلف، وله عتبة إحساس
مختلفة؛ بالتالي، يكون العالم الصنعي
المخلَّق خصيصًا له مختلفًا تمامًا. العالم
الصنعي هو الحقيقة الافتراضية. إن هذا هو شأن
العالم الطبيعي الذي يتعامل معه الجهازُ
العصبي. يبرز فارقٌ أساسي عند الحديث عن
العالم الصنعي. فهذا العالم متقطِّع ومنتهٍ؛
إذ يستحيل أن ينطوي على ذخيرة غير منتهية من
الإثارات، كما في حالة الإثارات التي
توفِّرها الطبيعة. إن هذه الإثارات غير
منتهية، لسبب بسيط هو أن الإثارة التالية غير
مُبرمَجة؛ وهي، بالتالي، غير متوقَّعة. بهذا
المعنى – وبهذا المعنى فقط – تُستَلُّ
الإثارةُ التالية في الطبيعة من مخزون لا
نهاية له. إن
العالم الصنعي مُبرمَج ومنتظم، بعكس العالم
الطبيعي. قد يظن من يبحر في محيط الحقيقة
الافتراضية أن دقائق قليلة قد مرَّتْ، بينما
قد يكون الزمن المنقضي في حدود عدة سنوات.
يُعزى ذلك إلى بطء الحاسوب في تقدير ردود
الأفعال وتقويمها. وحيث تطول حسابات الحاسوب،
يستطيع الجهاز العصبي التعامُل مع العالم
الطبيعي بسرعة كبيرة ودقة وإحكام. لا يُمكن
لحالة انعدام الوزن، مثلاً، أن تمثَّل في
العالم الصنعي المرتكز على الحقيقة
الافتراضية؛ إذ لا بدَّ هنا من القيام بتجربة
انعدام الوزن بشكل فعلي. بعيدًا عن وسائط
الحقيقة الافتراضية، إذا تمَّ التدخل في
الجهاز العصبي مباشرة، فقد يؤدي ذلك إلى خلق
الإحساس بانعدام الوزن وخلق عالم كامل. نخلص
مما تقدَّم إلى نتيجة مفادها أن القطاع من
الخبرات الذي تغطيه الحقيقة الافتراضية هو
قطاع ضيق. إن هذه الخبرات هي، من حيث المبدأ،
خبرات خارجية. توفِّر الحقيقة الافتراضية، في
هذا السياق، الخبرات الخاصة بمحيط فيزيائي
محدَّد وممكن، كالمحيط الخاص بقيادة طائرة؛
وقد تمتد الحقيقة الافتراضية إلى حيِّز
الخبرات المرتبطة بمحيط فيزيائي معيَّن،
لكنه مستحيل، كالانطلاق بسرعة أكبر من سرعة
الضوء. لكنْ تقف الحقيقة الافتراضية عاجزة
حيال الخبرات الخارجية المستحيلة منطقيًّا،
كمحاولة تحليل عدد أوَّلي إلى عوامله الأولية.
إن الخبرات الداخلية بعيدة كلَّ البعد عن
متناول الحقيقة الافتراضية. ونسوق أمثلة على
ذلك: -
الخبرة
الداخلية ذات المحيط الفيزيائي الممكن: شعور
الإنسان بالزهو لأنه تمثَّل كلَّ التفاصيل
الخاصة بقيادة الطائرات. -
الخبرة الداخلية ذات المحيط
الفيزيائي المستحيل: استشعار الألوان خارج
قطاع الموجة المرئية. -
الخبرة
الداخلية ذات المحيط المنطقي المستحيل:
اللاوعي أو الخافية. يفيدنا
فصل الحقيقة الافتراضية في صياغة استنتاج
بالغ الأهمية: يتحول الإنسان إلى العالم
الصنعي بسهولة، وسرعان ما يتطبَّع بالحقيقة
الافتراضية. إن العالم الصنعي، وفق هذا
المنظور، هو تشكيل تبنيه الحواس. نعمِّم
فنقول: على الرغم من وجود بنيوية موضوعية، فإن
ما نتعامل معه حقيقةٌ افتراضية تصنعها
حواسنا، بما في ذلك التفكير المجرَّد؛
والرياضيات كلُّها أنماط لحقائق افتراضية.
نذكِّر بأن هذه الحقائق الافتراضية غير
منتهية في تعدادها؛ إنها مستحيلة في العالم
الصنعي. فمثلاً إن استجرار الأعداد بين الصفر
والواحد إلى العالم الصنعي مستحيل ببساطة،
لأننا لا نستطيع عدَّها، كما نفعل في حالة
حَصْرِ الخطوات المتتالية لبرنامج حاسوبي. تخضع
الحَوْسَبَة والمعلوماتية بصورة عامة إلى
مبدأ تويرِنغ الذي ينصُّ على ما يلي: إذا
اعتبرنا كلَّ الحواسيب المجرَّدة التي تحاكي
الكينونات الفيزيائية، نقبل بالضرورة بوجود
حاسوب عام مجرَّد، يضم مخزونُه كلَّ التفاصيل
الخاصة بأية عملية حَوْسَبَة ينجزها أيُّ
تشكيل فيزيائي. يفيدنا مبدأ تويرِنغ بإمكانية
بناء مولِّد للحقائق الافتراضية يستطيع
محاكاة كلِّ محيط فيزيائي ممكن. يعني ذلك أنه
لا بدَّ لقوانين الفيزياء والكون من أن تكون
متضمَّنة بالضرورة في منظومة فيزيائية أخرى.
بكلمات أخرى، يجب على قوانين المنظومات
الفيزيائية أن تكون معروفة من قِبَل
المنظومات الفيزيائية نفسها. يوفِّر العلم
مناخًا ملائمًا لخلق هذه المعرفة: إنه يقبل
بالأفكار الحرة المتناقضة. ونظرًا لأن العلم
لا يفرِّق بين المنظومات الفيزيائية فإن كلَّ
منظومة تحاكي كلَّ منظومة أخرى. تصل
بنا المناقشة السابقة إلى المبدأ الأساسي
الذي سعينا إلى استشفافه: لا توجد فيزياء خاصة
بالحياة؛ إذ إن الفيزياء العادية هي فيزياء
الحياة. ولما كانت المنظومة الفيزيائية عارفة
ومعروفة في آن، فما يهم، إذن، هو بقاء المعرفة.
إنْ كانت النظريات البيولوجية قد طرحت
التلاؤم والاتساق كضرورة لبقاء النوع ولبقاء
المعرفة، فالمهم هو بقاء المحيط والبيئة
كضمانة لديمومة المعرفة وبقائها. هكذا
تكون الحياةُ العاملَ المستقبلي الأهم؛
فالنظريات الفيزيائية لا تكفي. تتلمَّس
الحياة الشِّعاب الكونية في البدء؛ ثم تتدخل
لتغيير البنى وإعادة تشكيلها. أوَليست الحياة
هي المسؤولة عن خلق البُنى الرياضية؟ وهل
ينطبق ما سبق أن قدَّمناه على الرياضيات؟
بكلمات أخرى، هل يتجسَّد تأثُّر الإنسان
بالرياضيات بردِّ فعل هو البرهان مثلاً؟ لكن
علينا أن نتساءل أولاً: هل الكائنات الرياضية
موجودة فعلاً؟ إنْ كانت موجودة فأين مكان
وجودها؟ هل نتحسَّسها بسبب الفعل وردِّ
الفعل؟ هل صحيح أن الرياضيات تقدِّم كلَّ ما
هو أكيد؟ برهن غودل على استحالة برهان صحة
كلِّ النظريات الصحيحة ضمن بنية رياضية
موضوعاتية معينة، وعلى أنه لا بدَّ من توسيع
البنية الموضوعاتية لفعل ذلك. لكن ذلك
التوسُّع يفضي إلى نظريات صحيحة يستحيل
برهانها بدون توسيع لاحق. وهكذا تستمر عمليات
التوسيع إلى ما لانهاية. إن أيَّ توسيع جديد
غير مُبرمَج، ولا تفضي إليه خوارزمية معينة.
هكذا تكون عشوائية الوجود ضمانة لاستمرار
الرياضيات. إن
كنَّا في صدد البحث عن الحقيقة، فالحقيقة
ليست موضوعًا منفصلاً. إنها انفعال من
انفعالات المعرفة، شأنها شأن أيِّ انفعال
آخر، كانفعال التجربة أو انفعال التأمل.
الصحيح، بدوره، ليس هدفًا أو مطمحًا؛ إنه
مجرد انفعال. لا توجد مرجعية للانفعال إلاَّ
مرجعية الآن–هنا؛ ونغدق المعنى على الآن–هنا
باستمرار التفسير. على أن الآن–هنا يكرِّر
ذاته رغم تقدُّمه؛ وإن ما يلوِّنه هو التجديد
والتحديث: فعلينا أن ننتقل من تفسير إلى تفسير
لدى انتقالنا من آن إلى آن. إننا جميعًا نعيش
الآن–هنا، ونتفق ضمنًا على الآن–هنا، دون
الخوض في أية تفاصيل. إنْ بَدَتْ هذه الأفكار
غير مألوفة فلأن الفطرة السليمة لا تتسق معها.
تلحُّ الفطرة السليمة على الصياغة المباشرة؛
وتعجز هذه الصياغة، كما يقول أينشتاين، عن
تحقيق الرضا الداخلي الذي ينشده الباحث في
سعيه إلى التفسير. تعلَّل
الطبيعة الاحتمالية للميكانيكا الكوانتية،
في ضوء الأكوان المتوازية، بفقدان الإمكانية
لأيِّ تحديد دقيق ممكن للنسبة من الأكوان
التي تجسِّد ظاهرة معينة. تتمخض الطبيعة
الاحتمالية عن التَداخُل المستمر للأكوان.
إذا بدأنا بقطعة نقد محددة في كوننا، وأخذنا
بقذفها دون توقف، تكاثرت الأكوان بدورها دون
حدود لاستيعاب الأحوال المتتالية لقطعة
النقد. يقودنا الاستغراق في العملية إلى حالة
من عدم التعيين؛ ذلك أن فصم الأكوان يفضي إلى
إضاعة المعلومات. إن النسبية والتقريرية
وهميتان. تتخلَّق السببية – ومعها التقريرية
– بإجراء قَطْعٍ وحيد الاتجاه في الأكوان
المتوازية. تنساب السببية على منحى القطع،
بينما تُهمَل كافة المحتويات الأخرى لكلِّ
للأكوان. قد تؤدي أنماط معينة من القُطوع إلى
تناقضات، حتى على السوية المحلِّية، كعكس
السيالة الزمنية، مثلاً، في جوار للراصد ضيق. يقول
أينشتاين: إن المكان والزمان نمطان من أنماط
الإلهام الذي لا ينفصل عن الإدراك. لم يكن
هناك زمن قبل ولادة الكون. وبعد ظهور المادة
تخصَّصت كلُّ هباءة مادية بزمن ذاتي خاص بها.
تَرافَق بروز القوى الكونية بانبثاق زمن
لكلِّ قوة. غدا زمن كلِّ قوة بمثابة ترجمة
للأزمنة المتباينة للهباءات المتكاثرة. تطال
هذه الرؤية الكون الفعلي، أي كوننا. ذكرنا
أن الأكوان المتوازية يفترق بعضها عن بعض
بإزاحات طفيفة. نتخيل معًا إسقاطًا من كون إلى
كون آخر: تنتهي عملية الإسقاط عند لحظة في
الكون الآخر أكثر تقدُّمًا أو أكثر تخلُّفًا.
وتتجسَّد عملية الإسقاط في الكون الأول
بتغيير طارئ ينقل الراصد في الكون الأول من
زمن إلى زمن آخر. وفق هذه الرؤية، يتحول
الارتحال عبر الزمن من الخيال العلمي إلى
الواقع الفعلي. إن الذين يقضون عدة ساعات في
عملية جراحية أو يعانون من غيبوبة لمدة طويلة
يرتحلون في الواقع عبر الزمن؛ إذ يقضون فترات
قصيرة جدًّا بدلاً من الساعات أو المدة
الطويلة التي يعيشها الآخرون. إن
كانت الحقيقة انفعالاً فلن يدوم رضا داخلي
يحقِّقه تفسيرٌ معيَّن؛ ذلك أن التفسير لقطة
ضيقة في كون بعينه. أما التكاثر الدائم
للأكوان فيكفل بقاء حالة قلق المعرفة – ولا
استمرار بدون هذا القلق. *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة
|
|
|