|
انعدام
الأمن القومي
فريتيوف
كابرا
تماماً كما يفكر
الأطباء التقليديون خطاً في الصحة باعتبارها
غياب المرض، كذلك يفكر الستراتيجيون
العسكريون في السلام باعتباره غياباً للحرب. في هذا المقال نعرض
للقضية وندعو إلى إعادة نظر جذرية في خرافة
الأمن القومي. إن
نذير الحرب النووية لمن أشد الأعراض مأساوية
لأزمة عالمية شاملة، متعدِّدة الوجوه، لها
مساس بكل جانب من جوانب حياتنا، وصحتنا،
ومعيشتنا، ونوعية بيئتنا، وعلاقاتنا
الاجتماعية، واقتصادنا، وتكنولوجيتنا،
وسياستنا – لا بل تمس بقاءنا نفسه على هذا
الكوكب. لم
يعد الساسة التقليديون يعلمون إلى أين يلجأون
للحد من الضرر. وهم يجادلون حول الأولويات
وحول المزايا النسبية لـ"الثوابت"
الاقتصادية والتكنولوجية قصيرة المدى، بدون
أن يدركوا بأن معضلات زماننا الكبرى إنْ هي
إلا وجوه مختلفة لأزمة منظمة واحدة. وهذه
الوجوه وثيقة التواصل والتكافل ولايمكن أن
تُفهم عبر المقاربات المبعِّضة التي تجدّ
وراءها مناهجنا الأكاديمية ووكالاتنا
الحكومية. فعوضاً عن حل أي من المصاعب،
تكتفي مقاربات كهذه بزحزحتها ضمن النسيج
المعقَّد للعلاقات الاجتماعية والإيكولوجية.
أما الحل فيتعذر العثور عليه إلا بتغيير بنية
النسيج نفسه؛ ولسوف ينطوي هذا على انقلابات
عميقة في مؤسساتنا وقيمنا وأفكارنا
الاجتماعية والسياسية. وعندي أن الخطوة الأولى في
التغلب على الأزمة هي الإقرار بأن الانقلاب
الثقافي العميق قد بدأ، في الواقع، يتم. ولهذا
الانقلاب سمات عدة؛ وفي صميمه نقلة نوعية في
النظرات إلى العالم؛ نقلة من رؤية آلتية mechanistic
للواقع إلى رؤية كلانية holistic
وإيكولوجية. لقد هيمن النموذج الذي بدأ
بالانحسار على ثقافاتنا عدة مئات من السنين،
أثَّر طوالها على نحو بالغ الشأن على بقية
العالم. وتتألف هذا النظرة إلى العالم من عدد
من الأفكار والقيم، من بينها الاعتقاد بأن
الكون منظومة آلية مكوَّنة من لبنات بناء
أولية، والنظرة إلى الجسم البشري كآلة،
والنظرة إلى الحياة في المجتمع كصراع تنافسي
من أجل الوجود، والاعتقاد بالتقدم المادي غير
المحدود الواجب إحرازه عبر النمو الاقتصادي
والتكنولوجي، والاعتقاد بأن مجتمعاً تكون
فيه الأنثى خاضعة في كل مكان للذكر مجتمع
يمتثل لقانون أساسي في الطبيعة. لقد تبيَّن
إبان العقود الأخيرة أن جميع هذه الافتراضات
شديدة المحدودية وتحتاج إلى إعادة نظر جذرية. لقد صاغ غاليليو، وديكارت،
ونيوتن، وبيكون، وآخرون سواهم، النظرة
الآلتية إلى العالم على نحو شديد الإيجاز في
علم القرن السابع عشر ولاقت في الثلاثمئة سنة
التالية نجاحاً عظيماً، وهيمنت على الفكر
العلمي كلِّه. أما اليوم، فقد غدت
محدوديَّتها بادية للعيان، وسيكون على
العلماء وغير العلماء على حد سواء أن يغيروا
الفلسفات التي يقوم عليها فكرهم تغييراً
عميقاً لكي يشاركوا في الانقلاب الثقافي
الراهن. يطيب
لي أن أبين محدودية التفكير الديكارتي–النيوتوني
بمثالين – الصحة والسلام –؛ وهما مثالان سوف
يتضح أنهما يبديان متوازيات تستوقف الانتباه.
لاتزال النظرة الآلتية إلى الصحة تهيمن على
مؤسساتنا الطبية، كما لاتزال النظرة الآلتية
إلى السلام تهيمن على تفكير ساستنا
وعسكرانيينا. وفي كلا الحالين علينا أن ندرك،
بالطبع، أن النظرة الآلتية و"المقاربة
الهندسية" engineering approach،
كما سأدعوها، هما ذواتا قيمة عظيمة، لكنهما
محدودتان وينبغي إدراجهما في إطار كلاني أوسع. لقد
شبَّه ديكارت المتعضِّية organism
البشرية بآلية الساعة، فكتب: "إني أعتبر
الجسم البشري كالآلة. وفكري يقارن الإنسان
المريض والساعة الرديئة الصنع بفكرتي عن
إنسان صحيح وساعة جيدة الصنع." وبالوسع
اقتفاء أثر العديد من خصائص التنظير
والممارسة الطبيين الراهنين حتى هذا الصورة
الديكارتية. فالصحة غالباً ما يُعرَّف بها
بوصفها غياب المرض، وينظر إلى المرض باعتباره
خللاً في عمل الآليات البيولوجية التي تُدرَس
من وجهتي نظر البيولوجيا الخلوية
والبيولوجيا الجزيئية. ويتمثل دور الطبيب في
التدخل، مستخدماً التكنولوجيا الطبية،
لتصويب الخلل في عمل آلية معينة، بحيث تعالج
اختصاصيون مختلفون الأجزاء مختلفة من الجسم. وكما يعرِّف علماء الطب
بالصحة بوصفها غياب المرض، كذلك يُعرِّف
الستراتيجيون العسكريون بالسلام باعتباره
غياب الحرب. وللمقاربة الهندسية إلى الصحة
نظيرتها في المقاربة الهندسية إلى السلام، إذ
ينزع ساستنا وعساكرنا إلى إدراك كل قضايا
الدفاع كقضايا تكنولوجية. وإن فكرة أن
الاعتبارات الاجتماعية والنفسية – ناهيك عن
الفلسفة أو الشعر – قد تناسب المقام أيضاً لا
يُنظَر في أمرها. وعلاوة على ذلك، فإن شؤون
الأمن والدفاع تُحلَّل على الأغلب باللغة
النيوتونية – "كتل النفوذ" power blocks،
"الفعل ورد الفعل"، "الخلاء السياسي"
political
vacuum، وهلمَّ جراً. وفي الرعاية الصحية
المعاصرة تُعزَل المنظومة البشرية عموماً عن
البيئة الطبيعية والاجتماعية التي تتوطد
فيها، وتُختزَل الشبكة الواسعة من الظاهرات
التي تؤثر في الصحة إلى سماتها الفيزيولوجية
والبيوكيميائية. وعلى نحو شديد الشبه،
تُختزَل المقاربة التقليدية إلى الدفاع
الشبكة الواسعة من الظاهرات التي تؤثر في
السلام إلى سماتها الستراتيجية والتكنولوجية.
وحتى هذه السمات تعاني مزيداً من الاختزال
عندما يواصل الساسة والعسكريون التحدث عن
الأمن القومي بدون الاعتراف بالترَّهة
الخطيرة لهذا المفهوم الساذج المبعَّض fragmented.
ولاتزال غالبية ساستنا الساحقة تبدو وكأنها
تظن أن بوسعنا أن نزيد من أمننا بأن نجعل
الآخرين يحسون بعدم الأمن. ولما كانت
التهديدات التي تقوم بها أسلحة اليوم النووية
تنذر بإبادة الحياة على الكوكب، فإن التفكير
الجديد حول السلام يجب أن يكون بالضرورة
تفكيراً شاملاً. لقد ولَّى زمان مفهوم الأمن
القومي برمَّته في العصر النووي، ولم يعد في
الوسع الآن القبول بأقل من الأمن العالمي. وفي التفكير الطبي
التقليدي، تنطوي المعالجة على المداخلة
التكنولوجية. أما الكمون الذاتي التنظيم
والذاتي الشفاء للمريض فلا يُؤخَذ بالحسبان.
وعلى نحو مشابه، فإن التفكير العسكري
التقليدي بأن خير حل للنزاعات يتمثل في
التدخل التكنولوجي ولا يأخذ بالحسبان الكمون
الذاتي التنظيم للناس والأمم – أنظر العراق،
فلسطين/إسرائيل، البوسنة، كوسوفو، مقدونيا،
وأمثلة أخرى عديدة. هذا وإن المسألة المفهومية
في صميم الرعاية الصحية المعاصرة لهي الخلط
بين سيرورات المرض وعلل المرض. فبدلاً من
السؤال عن سبب وقوع الداء ومحاولة إزالة
الشروط التي تقود إليه، يحاول البحاثة
الطبيون فهم الآليات التي يعمل من خلالها
المرض لكي يتمكنوا من التدخل فيها. وكثيراً ما
يتوجه بحثهم بفكرة آلية وحيدة تهيمن على جميع
الآليات الأخرى وبأن بالوسع تصويبها
بالمداخلة التكنولوجية. شبيه بذلك نزوع
السياسيين إلى التغاضي عن علل النزاع
والتركيز بدلاً من ذلك على السيرورات
الخارجية؛ على الأفعال المرئية للعنف
الفردي، مثلاً، بدلاً من العنف المؤسَّسي institutional
المنظَّم الخفي. ولقد تُمِّمت النظرة
الآلتية إلى العالم بمنظومة قيم أقدم بكثير
من العلم الديكارتي–النيوتوني. فأنماط القيم
والمواقف والسلوك التي تهيمن على ثقافتنا
والمندرجة في مؤسساتنا إنما هي صفات نموذجية
للثقافة الأبوية patriarchal.
ومجتمعنا، ككل المجتمعات الأبوية، ينزع إلى
تجنيد التوكيد على الذات على التكامل،
والتحليل analysis
على التأليف synthesis،
والمعرفة العقلانية على الحكمة الحدسية،
والتنافس على التعاون، والتوسع على الصيانة. ما من قيمة من هذه القيم
وموقف من هذه المواقف جيد أو سيء بحكم طبيعته،
لكن الخلل في التوازن الذي يتصف به مجتمعنا
اليوم غير صحي وخطير. وإن من أقسى عواقب هذا
الخلل في التوازن خطر الحرب النووية
المتصاعد، الناجم عن إفراط في التشديد على
توكيد الذات والسيطرة والنفوذ، والتنافس
المفرط، والهوس المرضي بـ"الانتصار" في
وضع فقد فيه مفهوم الانتصار برمته معناه، لأن
الحرب النووية لا منتصر فيها. ثمة الآن أدبيات نسوية feminist
غنية حول جذور العسكرانية والحرب في القيم
الأبوية والتفكير الأبوي. فالأبوية، كما يشير
هؤلاء المؤلفون، تعمل ضمن سياق الهيمنة/الخضوع.
وبذا لا يكفي التكافؤ في الأسلحة النووية في
أعين الجنرالات الأمريكيين؛ فهم يريدون
التفوُّق. وهذا التنافس "الفحولي" في
سباق التسلُّح يمتد ليشمل حجم الصواريخ. ففي
عهد إحدى الإدارات، أقنعت جماعات الضغط
العسكرية الساسة بإنفاق المزيد من المال على
الدفاع بأن عرضوا عليهم نماذج منتصبة من
الصواريخ السوفييتية والأمريكية، كانت فيها
الصواريخ السوفييتية أضخم، مع أنه من المعلوم
أن الصواريخ الأضخم أدنى تقنياً. وإن الهيئة
القضيبية phallic
لهذه الصواريخ لتجلو المعنى الضمني الجنسي
لهذا التنافس في حجم الصواريخ. فالأبوية
تعادل العدوان والهيمنة مع الذكورة، والحرب
تُعتبَر البيعة initiation
النهائية في الرجولة الحقة. وفي ختام بسطي للمتوازيات
بين مفاهيم الصحة ومفاهيم السلام ضمن المثال
القديم، عليَّ أن أذكر بأن النظرات الآلتية،
في كلا المجالين، لا يجترحها العلماء والساسة
والجنرالات وحسب، بل – وربما بقوّة أكبر –
الصناعات الدوائية والعسكرية التي استُثمِرت
بغزارة في الأنموذج القديم. فالملأ العلمي
وكتلة المجتمع يلائم واحدهما الآخر كل
الملائمة، بما أن النظرة الديكارتية البالية
إلى العالم تبطِّن كلا الإطار النظري للأول
والتكنولوجيات والبواعث الاقتصادية للثاني.
وإن تغيير هذا الوضع أمر مطلق الحيوية الآن من
أجل حسن حالنا ونجاتنا؛ والتغيير ممكن إن
تمكَّنا، كمجتمع، من تحقيق النقلة إلى
النماذج الكلانية والإيكولوجية الجديدة. ويبدو أن النظرة المنظومية systemic
للمتعضِّيات الحية تأتي بقاعدة
مثلى لمقاربة كلانية إلى الصحة، مقاربة
إيكولوجية بعمق، وبذا تتناغم مع العرف
الهيبوقراطي الذي يكمن في جذور الطب الغربي.
وفي الوقت نفسه، يكمن المضي قدماً
بالمتوازيات بين الصحة والسلام. فثمة أيضاً
نظرة منظومية إلى السلام تقابل النظرة
المنظومية إلى الصحة. وفي لب النظرة المنظومية
إلى الصحة يكمن مفهوم التوازن الديناميّ.
فالصحة هي تجربة حسن حال تنجم عن توازن دينامي
ينطوي على السمات الفيزيائية والنفسية
لمتعضِّية ما، كما وعلى تفاعلاتها مع بيئتها
الطبيعية والاجتماعية. ويشتمل التوازن
الطبيعي للمتعضِّيات الحية، على وجه الخصوص،
على التوازن بين ميولها إلى توكيد الذات
وميولها التكاملية. فعلى المتعضِّية، لكي
تكون صحيحة، أن تصون استقلالها الفردي، لكن
عليها في الوقت ذاته أن تتمكن من الاندراج
بصورة متناغمة في منظومات أوسع. فالخلل في
التوازن يتجلى في البَرَح stress،
والبَرَح المفرط مؤذٍ، وكثيراً ما يؤدي إلى
المرض. ولسوف
تقوم المقاربة الكلانية إلى السلام إلى حد
كبير على إيجاد طرق صحية، غير عنيفة، لحل
النزاعات. وسوف يعني هذا، أول ما يعني، تنمية
نظرة كلانية إلى شبكة النماذج الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية التي تنشأ عنها
النزاعات. وحالما يتم فهم هذه النماذج، يصبح
بالوسع استعمال مدى واسع من المناهج لحل هذه
النزاعات. لقد أمضى علماء النفس الإنسانيون،
ومعالجو الأسر، والعاملون الاجتماعيون
العقود الثلاثة الأخيرة يدرسون ديناميَّة
الجماعة، وطوَّروا طيفاً كاملاً من تقنيات
التعامل مع البَرَح وحل النزاع. ولقد آن
الأوان لتطبيق هذه التقنيات على المستوى
السياسي – قومياً، بين الأمم، وعلى نحو عالمي
شامل. ***
*** *** |
|
|