|
حوار
مع أفلاطون
حول
الإيديولوجيا والطبيعة
هنريك
سكوليموفسكي
[هذا
النص مختلف عما أكتب عادة. فبدلاً من أن
أكلِّم نفسي، أجزت لنفسي أن أدعو أفلاطون إلى
ندوة. إذ عندما أواجه مصاعب في استنباط الجذر
الأساسي للمشكلة، إذا صحَّ القول، أستحضر
أحياناً روح أفلاطون وأسأله ببساطة: "هيا،
يا أفلاطون، قل لي ما هو لبُّ المسألة."
فيجيبني، في أغلب الأحيان، بكثير من
الأريحيَّة. لذا سأستنجد بأفلاطون في خطابي
حول الإيديولوجيا والطبيعة.] *** أفلاطون:
ليس لمشكلة الإيديولوجيا في مقابل الطبيعة
متاتٌ يُذكَر لا بالإيديولوجية ولا بالطبيعة.
إنها بالحري تمتُّ إلى ضياع الناس. [أشكل
عليَّ هذا التفسير. سألته:] هنريك:
ماذا تعني بـضياع الناس يا أفلاطون؟ أفلاطون:
ذلك بسيط [أجاب]. أنتم، أهل الغرب، ضائعون.
أضعتم أولاً نفسكم، ومن بعد أضعتم مقدرتكم
على التفكير المتكامل: بذهنكم وقلبكم معاً.
أضعتم كذلك طلاقة أجسامكم: أجسامكم كثيراً ما
تبدو أشبه بكيس البطاطا. وفي غضون ذلك أضعتم
الصلة بين بعضكم بعضاً. وأخيراً أضعتم
الطبيعة – العلاقة الحميمة والمقوِّتة
بالمملكة الحيَّة من حولكم. وبطريقتكم
المتحذلقة تتكلمون على الاستلاب alienation.
غير أن الوضع أبسط وأعمق في آن معاً. لم توفروا
جهداً في تبذير الميراث الروحي للإنسانية.
ضياع النفس يعني ضياع الحساسيات المقابلة بين
الآخرين، وضياع القدرة على الرؤية رؤية
أوسع طيفاً مما يمكن لأدواتكم الفيزيائية أن
تعترف به. إن توسلاتكم مؤخراً إلى الطبيعة ما
هي إلا محاولة متلمِّسة لإعادة توازنكم
المختل إلى نصابه. لقد أضعتم المركز وذهنكم
مشوش. هنريك:
أنت في حكمك هذا تعميمي وغير منصف نوعاً ما يا
أفلاطون. هل تمانع أن نفحص الأمر ببطء أكثر
قليلاً ونحلل بشيء من التفصيل مزاعمك بحيث
نتمكن من اقتفاء الصلات والروابط السببية؟ أفلاطون:
أنتم
وتحليلاتكم، وتفاصيلكم، وصلاتكم وروابطكم
السببية! ألا تدركون أنكم ما لم تحسنوا
الإحاطة بالصورة كلِّها لن تستطيعوا تصحيح
تفاصيلكم. لقد حاولت أن أقدم لك الصورة
الكلِّية. طيب جداً. سأعطيك بعض التفاصيل. منذ
القرن الثامن عشر وأنتم واقفون على السفح
المنحدِر، تصوُّر التقدم المادي برمَّته هذا، الذي لم
يعنِ سوى التحسين في المعايير
المادية للمعيشة... هنريك:
لم أنت بهذه اللذوع بخصوص التقدم المادي. لقد
كان الناس يقاسون الجوع والفاقة وكان الفقر
المدقع يطوِّقهم. لقد تحسَّن مصيرهم! أفلاطون:
ربما تحسَّن بمعنى ما، أجل. إنما في الواقع
الفعلي استبدلوا بشكل من أشكال البؤس شكلاً
آخر. أُنظر إليهم الآن، في مصيرهم "المُحَسَّن".
حياتهم حياة قحط روحي وجزع اقتصادي... فكما كنت
أقول، كنتم منذ القرن الثامن عشر واقفين على
درب الانحدار. لقد كان روسُّو حكيماً، لكنه لم
يكن يتمتع بما يكفي من الاستقامة الشخصية. لقد
كان محقاً في أن الإنسان يولد حراً وحيثما
نظرنا نجده يرسف في الأغلال. كان محقاً أيضاً
في أن المدنية وحاجاتها المفتعلة تشوِّه
الناس وتسجنهم؛ تسلبهم استقلاليَّتهم. كذلك،
منذ نهاية القرن الثامن عشر، أضعتم الطبيعة –
حِسَّ الوحدة مع بقية الكوسموس. ثم في القرن
التاسع عشر اخترعتم الإيديولوجيا كبديل عن
وحدتكم الضائعة مع الكوسموس. لقد تمَّت عندئذٍ عملية تزوير للوعي هائلة. وأنتم
حرفياً تقدِّسون التكنولوجيا والاقتصاد
بوصفهما معبودَيْن. وهذا، بمعنى ما، قابل
للفهم، لكنه يستحق الرثاء أيضاً: كان عليكم أن
تملئوا الخلاء الناجم عن انهيار الدين، وكذلك
الفلسفة. القرن التاسع عشر ليس عصر العلم، أو
التقدم، أو الثورة الصناعية، بقدر ما هو عصر
الإيديولوجيا التي تسعى جارية: فسواء أخذت
الإيديولوجيا الماركسية، أو إيديولوجيا
العلموية Scientism،
أو إيديولوجيا الرأسمالية، بوصفها ترسخت في
المؤسسات الغربية، بما فيها مؤسسات التعليم،
فإنها جميعاً تخدم قضية الدهرية secularism.
كلُّها يخاطب الكائن البشري المستلَب،
المغترب، المجتث من جذوره أصلاً. هنريك:
أنت، يا أفلاطون، شديد التعميم ومراوغ نوعاً
ما. سألتك عن العلاقة بين الطبيعة
والإيديولوجيا، فإذا بك تستطرد حول الاستلاب
وحول واقع أن الإيديولوجيا، في القرن التاسع
عشر، حلَّت محلَّ الدين وأخذت على عاتقها
القيام بدور المسيح المخلِّص. أفلاطون:
أنا، لو أذنت لي، لست أستطرد. قلت لك في
البداية إن حقيقية المسألة هي أن الناس
أضاعوا أنفسهم. إن تجريدات من نحو "الإيديولوجيا"
و"الطبيعة" لهي محاولات يائسة من
الإنسان الحديث لكي يجد سِمات وجودية جديدة.
لنكن واضحين بهذا الخصوص. هذان التصوران –
"الإيديولوجيا" و"الطبيعة" –
تجريدان من تجريدات الذهن الحديث. لم تكن
لدينا فكرة الطبيعة في الفلسفة اليونانية.
كنَّا واحداً مع الطبيعة. لماذا أمسى الناس
اليوم في الغرب بهذا اليأس بخصوص الطبيعة؟ لأنه أمسوا يائسين من أنفسهم. إن
تصميمكم العظيم – التصور الآلتي للكون – صار
اليوم يباباً. وتصميماتكم الإيديولوجية –
ميراث ماركس وغيره من الإيديولوجيين من هيغل
إلى مركوزي – كلَّها حاولت أن تنجز الخلاص
على دواليب النشوريات eschatology.
وفي كل حالة على حدة يُواجِهنا شكلٌ من أشكال
النشوريات الدهرية. وباختصار، فإن كل هذه
التصميمات الإيديولوجية هي عبارة عن أفيون
خبيث للجماهير؛ أفيون لا يقل خبثاً عن أي دين
مضى. والأنكى أنه ما من واحدة من هذه
الإيديولوجيات بوسعها أن تزوِّد بقوت كان
بوسع العديد من الأديان الماضية أن تزوِّد به. هنريك:
دعني أتبيَّن مقصدك يا أفلاطون. أنت تقول
بأننا أضعنا الطبيعة في القرن الثامن عشر
وبأننا استعضنا عنها بالإيديولوجيا في القرن
التاسع عشر. ثم في القرن العشرين اكتشفنا بأن
الإيديولوجيا أفلست هي الأخرى؛ وبخاصة
بوصفها نشوريات بديلة. والآن نحن ننظر تائقين
إلى الطبيعة، وبمعنى ما، نحاول بعث الطبيعة
من جديد، من أجل أن نعثر فيها على جذورنا
الضائعة، وكذلك من أجل أن نجد في الطبيعة
مسالكنا الروحية. أفلاطون:
هذا قريب من الصحة، لكنه مع ذلك، من حيث
الأساس، ليس بريئاً من الغلط في التأويل. هنريك:
ماذا تعني بـ"الغلط في التأويل"؟ أفلاطون:
أعني، ببساطة، أنك في حين تحاول تجاوز
محدودية تفكيرك الذرَّاني atomist،
وبذلك تسترجع نفْسَك وكلِّيتك، تنزلق مرة
أخرى في التفكير الذرَّاني وفي تلك الأساليب
المُمَوْضَعة objectivized
للتعقُّل. فما هو سبب قصور استراتيجيَّتك؟ هو
كونك تُلبِس تفكيرك إطاراً، أو بالحري،
تكتِّفه تكتيفاً إذ تقول: دعنا نتكلَّم على
"الإيديولوجيا" و"الطبيعة". أنت
تتناول هاتين المقولتين تناولاً بوصفهما
متمايزتين، منفصلتين عن الكل، كشيئين بحدِّ
ذاتهما. وفي الوقت نفسه، تفترض أن هذه العملية
سوف تتمخَّض عن تعليلات ذات بال تمكِّنك من
الإحاطة بالحاضر إحاطة أفضل وتزوِّدك بأعنان
ذات معنى عن المستقبل. فماذا تريد أن تنال؟
فهماً معمَّقاً أم إمعاناً تحليلياً آخر
لمفهومين ممتعين؟ أُنظر إلى هذا الكوم من
تحليلات المفاهيم التي قام بها أولئك
الفنِّيون الذين يدعون أنفسهم "فلاسفة
تحليليين". هل ساعد هذا الجبل من التحليلات
على فهم حقيقي للعالم وعلى سيرورة العيش؟ لا.
فما قصدك إذن؟ أفترض أن قصدك هو الفهم
المعمَّق. فلنعِ،
إذن، أنك، بالنظر إلى الواقع وإلى مصيرنا من
خلال إطارَيْ مفهومَيْ "الإيديولوجيا" و"الطبيعة"
اللذين هما، إذا جاز القول، نافذتينا
المفهوميَّتين، تريد أن تتميَّز دروباً
جديدة؛ أنك تأمل أيضاً الحصول على نظرة أوضح
إلى المشهد المألوف. هذا مبرَّر، لكنْ حذارِ.
فهاتان النافذتان، اللتان هما إطاراك، هما،
بحد ذاتهما، عدستان مشوِّهتان، إذا جازت
العبارة. كل الإيديولوجيات منحازة. فحظ أي
مفهوم إيديولوجي من الانحياز لصالح
إيديولوجيا معيَّنة أكبر بكثير من حظِّه من
عدم الانحياز. مفهوم الطبيعة نفسه هو الآخر
ليس بريئاً. إنه مفهوم منحاز. دقِّق فيه من
خلال مرجعيَّة آلتيَّة، تصل إلى نتيجة؛ دقِّق
فيه من خلال مرجعيَّة روسويَّة، تصل إلى
نتيجة أخرى؛ دقِّق فيه من خلال إنسانويَّتك
الإيكولوجية، تصل إلى نتيجة أخرى أيضاً. هنريك:
أشكرك يا أفلاطون على تذكيري بفكرة الطبيعة
كما عبَّرتُ عنها في مقالة قديمة لي بعنوان الإنسانويَّة
الإيكولوجية. لقد قلت فيها (وفي كتابي الفلسفة
الإيكولوجية*
لاحقاً) بأن الإنسانويَّة الإيكولوجية تبشر
بالعودة إلى النظرة التوحيدية التي يكون فيها
كلٌّ من فلسفة الإنسان وفلسفة الطبيعة مظهراً
للأخرى. أفلاطون:
هذه الوحدة التي تتحدث عنها – كلُّها موجود
في فلسفتي.
لا حاجة لك إلى توحيد فلسفة
الطبيعة وفلسفة الإنسان، على أن تكون لديك
كوسمولوجيا توحيدية يشغل فيها الإنسان
ونفْسُه المَنْزِلة التي يستحقانها في مخطط
الكوسموس؛ بعبارة أخرى، على ألا يُختزَل
الكوسموس إلى ذلك القوام الجامد الغبي، بل
يُتَصوَّر، عوضاً عن ذلك، بوصفه واسعاً كلَّ
شيء، سخياً، قابلاً للإنسان بوصفه مكوِّنه
الأساسي. هنريك:
ذلك بالدقة هو المقصود. لقد كان أسهل عليك،
أفلاطون، أن تنسج هاتيك الكوسمولوجيات
التوحيدية وأنت تحيا بين ظهراني مجتمعات
الماضي البدائية تلك. أفلاطون:
مجتمعات الماضي البدائية؟! أنت يا صاحبي ضحية
أوهام مرعبة. كانت لدينا الثقافة والاحترام
للإنسان الكلِّي. أنتم برابرة بالقياس إلينا. هنريك:
أستميحك العذر، لكني لم أستعمل كلمة "بدائية"
بمعناها الانحطاطي، بل بالحري بمعناها
الزمني. فلأعد إلى حُجَّتي: ما إن تحصل على
العلم الذي فرض مخطَّطه الاختزالي على
الجميع، لا يعود من السهولة بمكان المحافظة
على المخططات الكوسمولوجية التوحيدية
القديمة العهد... "كل شيء تكسَّر، وكل اتساق
ضاع..." لذا ينبغي أن نعيد توحيد الأشياء
على مستوى جديد، ونتيمَّن بطالع جديد. ولقد
حاولت أن أنجز إعادة التوحيد هذه ضمن المنظور
الإيكولوجي الجديد. أفلاطون:
هذا حسن. إنما دعني أقول بأنك لا تقدِّم
منظوراً إيكولوجياً بقدر ما تقدِّم بالحري
منظوراً دينياً جديداً. على أني أوافقك أن
منظورك ليس منظوراً دينياً تقليدياً –
وبخاصة من النوعية المسيحية. هنريك:
قد تكون محقاً في هذا. لكني أفضل تسميته
منظوراً إجلالياً reverential
بدلاً من منظور ديني بحدَّ ذاته. لأقل ذلك
بطريقة أخرى: إن المنظور الإيكولوجي، كما هو
متجسِّم في الإيكولوجيا الإنسانويَّة، يتخلَّله الموقف الإجلالي
الذي يتاخم الموقف الديني. أفلاطون:
ماذا تفعل بالإيديولوجيا ضمن هذا المنظور؟ هنريك:
وظيفة الإيديولوجيا ضمن الإنسانويَّة
الإيكولوجية هي إيجاد بنى اجتماعية وسياسية
ووجودية تضمن صلاحية فكرة أن الكون مقامٌ
للإنسان؛ بعبارة أخرى، تضمن أن يصبح الكون
الإجلالي حقيقة واقعة. لقد
كان ماركس والماركسيون الجدد هم
الإيديولوجيين بالنيابة عن المجتمع؛ وبوسعنا
أن نضيف: بالنيابة عن المجتمع "الطيِّب".
بيد أن مخططهم برمَّته فَسُد منذ مستهلِّه؛
إذ افترضوا المجتمعَ مناوئاً بالضرورة،
تأسيساً على فكرة الصراع الطبقي. وعبر الحرب
الطبقية، كان يُفترَض في التقدُّم أن يتمَّ
بحيث يتم الوصول أخيراً إلى المجتمع اللاطبقي.
لكن التصوُّر نفسه لمجتمع مُحْتَرِب بلا
هوادة يُبطِل فكرة المجتمع الطيب. هذه
نقطة هامة ينبغي أن نشدِّد عليها. وبما أن
التناوئ والاحتراب الطبقي مبنيَّان في
صميم بنية المجتمع الحديث، فإن تفكيرنا
ومواقفنا، تقودها وتوجِّهها الإيديولوجيات
القائمة على الصراع والتناوئ، تمتلئ بالسمِّ
والريبة والكره، بحيث لا يبقى في هذه
الإيديولوجيات من متَّسع للإجلال والتعاطف.
إن ارتياب واحدنا في الآخر ومواقفنا الدفاعية
المناوئة تفرضها علينا، إلى حدٍّ كبير،
إيديولوجياتُ الاحتراب الطبقي. في مخطط
الأشياء هذا ليس بوسعنا أن نوجد الكون الذي هو
مقام للإنسان، ليس بوسعنا أن نوجد التناغم. أفلاطون:
أما ينبغي عليك أن تنتبه إلى أن
الإيديولوجيا، منذ ماركس، كادت ألا تهتم بغير
البنية الفوقية الاجتماعية–السياسية. وهذه
البنية الفوقية لا تألو جهداً في تبديد
الغموض عن الاحتيال والاستغلال المستترَيْن
في المجتمعات الرأسمالية. إن الإيديولوجيا في
الإطار المرجعي الماركسي تفيد أداةً لتبديد
الغموض، ما في ذلك ريب. لكنها أيضاً تفيد
أداةً لترسيخ الغموض، وبخاصة عندما
تُستَخدَم كسلاح سياسي للصراع الطبقي.
الإيديولوجيا، إجمالاً، ليست قوة للمصالحة،
بل هي أداة للاحتراب الطبقي. هنريك:
هذا صحيح تماماً، لكنه لا يصح على
الإنسانويَّة الإيكولوجية التي تتصور نفسها
أساساً ليس كبنية فوقية اجتماعية–سياسية، بل
بالحري كـبنية كوسمية. بذا فإننا نوسِّع
المدى وننقل المركز – من المجتمع، وكأنه
مستقل عن بقية الكوسموس – إلى تصور للإنسان
في الكوسموس بأسره. فإذا قبلنا هذا فإن الباب
عندئذٍ ينفتح على فكرة جديدة أصْطَلِح على
تسميتها بـالكوسموقراطية. أفلاطون:
م م م... الكوسموقراطية. هل لك أن تشرحها لي
قليلاً؟ هنريك:
دعني أبدأ ببعض التعليقات الاصطلاحية التي
تخص معنى الكوسموقراطية Cosmocracy.
الديموقراطية عند روسو، كما تعلم، نظام من
الكمال بحيث إنه "لو وُجِد مجتمع من
الآلهة، فإن حكومته سوف تكون ديموقراطية. إن
حكومة بمثل هذا الكمال لا تليق بالبشر." (العقد
الاجتماعي، الفصل الرابع). قد يكون روسو على
حق في اعتقاده بأننا لسنا من النضج بما يكفي
للديموقراطية. لهذا السبب (ولأسباب أخرى
عديدة) فإن الديموقراطية كشكل للحكم
وكإيديولوجيا اجتماعية دُكَّتْ حتى التقويض
في القرن العشرين. ففي الاتحاد السوفييتي
استعيض عنها بالديموقراطية الاشتراكية
المزعومة التي هي اسم آخر لديكتاتورية
البروليتاريا، النائية عن الديموقراطية نأي
الحَمَل عن الذئب. أما في الولايات المتحدة
الأمريكية فإن صورة الديموقراطية ماتزال
تراوح مكانها، إنما أفسدها شكل آخر من
دكتاتورية البروليتاريا التي يرمز إليها "السيد
مستهلك". في الواقع استُبدِلت
بالديموقراطية في الولايات المتحدة الطفولوقراطية.
إن فجاجة النظام السياسي الأمريكي برمَّته
ناشئ من إيديولوجيَّتها الاستهلاكية الضحلة
التي توصَف كأحسن ما يكون الوصف
بـالطفولوقراطية Infantocracy. أفلاطون:
أنت محق كل الحق. فالعالم الغربي برمَّته
يتحوَّل إلى الطفولوقراطية. ويلوح أنك لا
تستطيع أن تفعل من أجله إلا النزر اليسير، بما
في ذلك فكرتك عن الإنسانويَّة الإيكولوجية. هنريك:
لعل الأمر ليس على ما تقول. فالإنسانويَّة
الإيكولوجية تريد نقل التشديد من المجتمع،
ومن حاجاته الآنية، إلى الكوسموس. الإنسان في
الكوسموس، متصوَّراً كقاطن صاحب حق فيه،
وقوَّاماً على الكوسموس (بالمعنى الذي نوقش
قبلاً)، يستدعي إيديولوجيا جديدة، أدعوها الكوسموقراطية.
لكن هذه الإيديولوجيا من الاختلاف عن
الإيديولوجيات الموجودة بحيث إننا ينبغي،
ربما، ألا نستعمل المصطلح. أفلاطون:
الآن مفهومك عن الكوسموقراطية يبدو لي
صحيحاً، وبخاصة لأنه يحاول أن يعيد نسج
الكائن الإنساني في سجادة الكون. ولاشك أنك في
غضون ذلك سوف تودُّ أن تَرُدَّ إلى الشخص
البشري الصفات الإنسانية التي انتًزِعت منه/منها
في العملية التي تدعوها تحويل المعقولات إلى
محسوسات reification.
هذا ربما أسهل قولاً منه فعلاً. إنك تسلِِّّم
بصحة هذه الوحدة الكوسمولوجية الجديدة التي
سوف توفر الأساس للاتِّساق الوجودي للإنسان
ولكلِّيته. لكنك تصمت عن السيرورة،
السيرورة المضنية الكلِّية الأهمية التي
ستتطلَّبها كوسمولوجياك. هنريك:
ماذا تعني بالسيرورة المضنية التي تتطلَّبها
كوسمولوجياي الجديدة. أفلاطون:
حالات الكينونة لا تأتي من تلقاء ذاتها. إنها
تتطلب سيرورة عسيرة ومنظَّمة، بها نحوِّل
أنفسنا بالعمل على أنفسنا. الفلسفات والأديان
الشرقية كانت على علم جيد بذلك. إنها تسمِّيه يوغا
– السيرورة التي بواسطتها تستطيع أن تحوِّل
جسمك الجامح ودماغك المشتَّت غالباً وقلبك
الضامر إلى شعلة صريحة من الرحمة؛ وبها أيضاً
تحوِّل ذهنك إلى وسيط للفهم يقوم على
الكلِّية واالانعطاف empathy.
دعني أذكر في هذا السياق أنكم إبان القرنين
المنصرمين، وبخاصة إبان العقود الأخيرة،
خضعتم للسيرورة العكسية، سيروة تحويل
المعقولات إلى محسوسات – التي بواسطتها، عبر
المؤسسات غير المتجاوبة وغير المسؤولة
غالباً (كما والعلاقات الاجتماعية التي تخدم
هذه المؤسسات العديمة الروح) ـ التي تحوِّلكم
ببطء إلى أشياء. ومع الضياع المقابل للكلِّية
وغيرها من الصفات التي تضفي عليكم الصفة
الإنسانية المميَّزة، تعرَّيتم، جُرِّدتم من
ينابيع كيانكم الخصبة، تماماً مثلما يحدث
كثيراً أن تُعرَّى تربة السطح وتُجرَف
مجرَّدة من مغذِّياتها من جراء التدبير
المهمِل غير المسؤول. لعل هيدغر، بهذا
المعنى، كان على حق عندما قال إن المروِّع
قد وقع وانتهى الأمر. أنتم الآن تأملون في
حصول معجزة. تريدون أن تمضوا في الاتجاه
المعاكس: من تحويل المعقولات إلى محسوسات إلى
التعالي transcendence
الذي به سوف تعيدون بناء نفوسكم وتعيدون
امتصاص القوت الذي وحده يمكن أن يقيت الكائن
الإنساني في مسعاه إلى المعنى. أنتم حيارى في
كيفية المبادرة في هذه السيرورة. لقد سبق أن
فقدتم الدين أولاً. ثم فقدتم الطبيعة في فترة
أقرب إلينا. وبطريقة التفافية، بإعادة
اكتشافكم للطبيعة – وأنتم كجزء منها –
تريدون أن تعيدوا ترسيخ أنفسكم كمخلوق من
الطبيعة وككائن روحي. هذا عمل حسن، لكنه
متوانٍ وجبان بعض الشيء، وعلى كل حال غير
ملائم حقاً. هنريك:
لماذا
هو متوانٍ وجبان وغير ملائم حقاً؟ أفلاطون:
ببساطة لأنكم تتلمِّسون دربكم نحو الألوهة،
تريدون استرجاع القداسة إلى نفوسكم المحطمة.
إنما ليس لديكم ما يكفي من الشجاعة. لقد قمت
ببحثي عن الألوهة بدون أي تهرُّب أو أعذار.
وبالفعل، فإن فلسفتي برمَّتها ما هي إلا رحلة
بحثاً عن الألوهة. أنتم مازلتم مشوشين
وتنقصكم الجسارة. أنتم تذكرون الطبيعة بطريقة
ملغوزة، وتريدون أن تَخْلَصوا من خلال
الطبيعة وتتجددوا بها. ينبغي عليكم أن
تتحلُّوا بالمزيد من الشجاعة وتنظروا أعمق في
نفوسكم وتسألوا أنفسكم عمَّا هو المطلوب
لإصلاح نفوسكم وجعلها تغني من جديد. إذا كان
هيدغر على حق في قوله إن المروِّع قد وقع
وانتهى الأمر، فإن ما أنتم بحاجة إليه
وتأملونه سراً هو أن يتجلَّى الرائع.
والرائع لا يتجلَّى بتعازيم الحنين إلى
الماضي. من الممكن أن يتجلَّى، إنما من خلال
إعادة بناء داخلية عميقة. وهذا لن يكون بالأمر
السهل، بما أنكم تفتقرون إلى فلسفات ملائمة
للمهمة، فلسفات تزوِّد بإشارات دالَّة وبدعم
ضروري. هنريك:
ماذا تعني بقولك إننا مفتقرون إلى فلسفات
ملائمة للمهمة، وإن إيديولوجياتنا لا تساعد
في الأمر؟ أفلاطون:
مركوزي، أدورنو، هابرماس، وجملة
الإيديولوجيين المحدثين برمَّتها، ليسوا
فلاسفة. فهم مشلولون تماماً، عاجزون عن تصور
تصاميم فلسفية جديدة. إن هاجسهم تسويغ
ولاءاتهم المشايِعة؛ وبمعنى ما، هاجسهم هو
صَغارُهم. ففي تحليلهم لأدواء زماننا ليس
لديهم دواء شافٍ. إنهم فقط يضيفون بعض التوابل
إلى الثريد المسموم. وحده
هيدغر يقف كامرئ منفرد، ومن شواهقه الأولمبية
يتحلَّى بالشجاعة على الكلام بالنيابة عن
الإنسانية جمعاء، بالنيابة عن الكينونة، وعن
مشاركتنا في الكينونة، الأمر الذي يعني،
بعبارة أبسط، المشاركة في كلِّيتنا بينما
نفسنا حيَّة وتغني. هنريك:
لقد نسيتَ عدداً من الأسماء يا أفلاطون. نسيت
وايتهد وبخاصة تِيَّار دُهْ شاردان. فالأخير
أيضاً يقف كامرئ منفرد؛ امرئ يتحلَّى
بالشجاعة على الكلام بالنيابة عن التطور، وعن
الحياة بأسرها: ماضيها، حاضرها، ومستقبلها.
عليَّ، أفلاطون، أن أقول لك إن كليكما، أنت
وهيدغر، يجب أن يعيد النظر في موقفه عن الكينونة.
كلاكما يضفي الغموض على الكينونة. إن القصة
الحقيقية للحياة، للتطور، وللروح (ما تدعوه
أنت النفس) هي قصة الصيرورة. إن السعي وراء
الألوهة لم يبدأ مع أول أميبا. لقد تمخَّضت
عنه أفعال تعالٍ لا عدَّ لها. التعالي هو جوهر
الصيرورة. كيانك بدون صيرورة كوم لا حياة فيه
من أشكال الحياة المتحجِّرة. إن سيرورة تحويل
المعقولات إلى محسوسات لم تحصل نتيجة للسقوط
من النعمة – بل إن السقوط من النعمة كان
ناتجاً عَرَضياً؛ ففي أصل السيرورة العميق –
كيف أعبِّر عنه؟ – يقبع انعطاف غير موفَّق
على لولب الصيرورة. لقد اندفعنا في مسعى لا
طائل فيه. إن لولب الصيرورة هو ما يجب أن نوليه
اهتمامنا، فنتخطَّى الطريق المسدود، ونبدأ
دورة جديدة، ونعود حقاً إلى اللولب الذي
يتطابق مع التطور. ولعل الطريق إلى الشفاء لا
يمرُّ عبر الإصلاح الذاتي البطولي، بل عبر
السيرورة التطورية التي يخلِّف بها النوع
البشري وراءه، فيما هو يتجاوز نفسه، جلداً
آخر أيضاً. هناك شيء من السرِّ يكتنف كيفية
القيام بهذا. لكن الحيَّات تخلع جلدها القديم
خلعاً دورياً. ولعل هذا هو ما ننوي القيام به
كجنس بشري في الوقت الحاضر. أفلاطون:
طيب، أجل. أوافقك على صحة تِيَّار. بكل أسف لم
تكن كتاباته بحوزتي يوم كنت أصوغ فلسفتي...
لكني أتساءل عمَّا إذا كانت فكرته عن التعالي
وفلسفة صيرورته برمَّتها تشكِّل أرضية صلبة
بما يكفي لسعينا إلى الديمومة. علينا أن
نتجذَّّر... علينا أن ننتمي... هنريك:
أوافقك. ولكن فلنجتنب الانحباس في الأشكال
القديمة. علينا أن نعيد النظر فيما نسميه "ديمومة"،
"انتماء"، "تجذُّر". فإذا كانت
رحلتنا رحلة صيرورة متواصلة، فإن ما نحتاج
إليه ليس مرساة دائمة، صدئة، بل سفينة فضائية
طافية موثوقة. ما هي الآن، أفلاطون،
مستخلصاتنا فيما يخص الإيديولوجيا والطبيعة؟ أفلاطون:
كما قلت لك منذ البداية، إذا كان لنقاشنا حول
الإيديولوجيا والطبيعة أن يتصف بشيء من
المغزى العميق، يجب أن يتناول كلِّية كياننا.
في هذا السياق، ما حصل في القرن العشرين تحت
اسم الإيديولوجيا ما هو إلا فلسفة فاسدة،
فلسفة مُقْعَدة من حيث مداها، ومُقْعِدة لنا
من جراء اهتماماتها الحسيرة. هنريك:
وبذكرنا مؤخراً للطبيعة، نحاول وَجِلين أن
نبني سُلَّماً جديداً إلى السماء، مع أننا
مازلنا مفتقرين للشجاعة لندعو السماء باسمها. أفلاطون:
هذا يكاد يكون صحيحاً. الشجاعة هي أخيراً ما
سيتعيَّن عليكم أن تتحلَّوا به. إذ بدون
الشجاعة على الكينونة والشجاعة على الصيرورة
سوف تبقون سُذَّجاً من العصر الباليوليثي. هنريك:
لا تقسُ، يا أفلاطون، على أهل العصر
الباليوليثي كل هذه القسوة. فقد كانوا على
كثير من سلامة الخلق. أفلاطون:
أجل، أعلم. لكنْ لم يكن بمستطاعهم اللعب
بالرموز. لم يكن فيهم ما يكفي من النجوم وكان
فيهم الكثير من الطين. يجب علينا ألا نحسدهم.
وعليكم ألا تشفقوا على أنفسكم. فإن الشرط
الإنساني شرط نبالة وشجاعة على بلوغ النجوم. هنريك:
ماذا تظن أنه سيحدث لنا في غضون القرن المقبل؟ أفلاطون:
لا أريد أن أكون نذير شؤم. لكنكم أغلب الظن سوف
تفجِّرون أنفسكم مزقاً. لديكم من هذه المادة
النووية القاتلة، المطروحة هنا وهناك، أكثر
مما ينبغي. ولكنْ... لا. سوف تسيرون خبط
عشواء، لكن إرادة النوع سوف تسود. أنتم
تجتازون بقعة سيئة جداً، لكنها، على السلَّم
التطوري، مجرَّد تمويجة ضئيلة. إن تلك
الانتقالات من دورة تطورية إلى دورة أخرى
مضنية للغاية. فالمستقبل لا ينبثق أبداً من
تصاميم بسيطة، إذ إنه كالحياة والتطور في
تعقيده. لقد كان دأب تنبُّئكم التكنولوجي أن
يخطئ. وعلى كل حال فإن المستقبل المنبثق منه
هو من أحادية الجانب والتبسيط بحيث إنه لا
يستحق الحصول عليه. عليكم أن تستخدموا
مخيِّلاتكم أكثر ولا تكونوا شديدي الهوس
بأوجاعكم. ففي فترات انتقال كهذه يجب علينا
ألا نمعن في النظر كثيراً في أرجلنا المرتجفة.
فلتَقُدْكُم النجوم. هنريك:
لم ننتهِ من مناقشتنا بعدُ يا أفلاطون. أعرف
أنك تريد أن تنهي بطريقة باتَّة وأنيقة. لكننا
يجب ألا نضحِّي بالمحتوى من أجل الأناقة.
علينا حقاً أن نقول بصراحة أكبر ما نقصده
بالطبيعة، ألا تظن ذلك؟ وحتى إذا لم نقدر أن
تقدم تعريفاً موجزاً للطبيعة – إذ إنها ذات
خاصية خارقة الغنى والتملُّص – علينا على
الأقل أن نحاول إجمال بعض خصائصها الجوهرية. أفلاطون:
تريد تعريفاً للطبيعة، أليس كذلك؟ إن الإتيان
بتعريف للفلسفة لم يكن بذلك الأمر الميسور
كما تتذكَّر من المائدة ومن نصوصي
الأخرى؛ لكن الطبيعة، كيف لي أن أعرِّفها؟
كيف يمكنني أن أعرِّف بجِلدي؟ أجل، إن
الطبيعة عندي هي جِلدي الآخر. هنريك:
هذا لا يزيدنا معلوماتٍ يا أفلاطون. فأصحاب
الميل الذهني إلى الحذلقة والتحليل قد يذهبون
حتى الاستهزاء برخاوة استعاراتك. أفلاطون:
طيب. حاول أنت. هنريك:
دعني أبدأ بقصة. منذ عدة سنوات كنت في جبال
تاترا – واحدة من أكثر سلاسل الجبال في
أوروبا دراميَّة. ذهب رهط من السيَّاح من
بحيرة سفلى إلى بحيرة أعلى مشهورة بجمالها
الخشن. ثم ما لبث شخص من هذا الرهط أن سُئِل
عما كان يراه أعلاه. أجاب: "لاشيء، كوم من
الصخور." كنت ساخطاً من الداخل على ما ظننته
ردة فعل من إنسان باليوليثي. وحده إنسان منزوع
الطبيعة، إنسان عديم الحسِّ يمكنه أن يرى هذا
المشهد البديع، الذي كانت تحوطك فيه
كاتدرائيات طبيعية، ككوم من الصخور. غير أني
لاحقاً اضطربت من جراء موقفي المستهجِن
وتساءلت عما إذا لم يكن هذا الرجل، الذي أدرك
البحيرة العليا كـ"لاشيء غير كوم من الصخور"،
يساويني صحة، أو على الأقل يساويني تسويغاً –
أنا الذي شاهد في تلك الجبال كاتدرائياتٍ
رائعة. أفلاطون:
أنت لست جاداً، أليس كذلك؟ أنت قطعاً لست تقول
بأن أي معتوه متجرِّد، نصف متعلِّم، أي نتاج
مؤسف من نتاجات مدنيَّتكم الصنعية، حَكَمٌ
ومدرِكٌ للطبيعة لا يقل جودة عن أولئك
الموهوبين حساسيات رفيعة ممَّن يبصرون
فعلاً عظمة الطبيعة كلَّها. لن أقبل هذا النوع
من النسبويَّة relativism
التي تعني انحراف المعايير، كما وانحطاط
الحساسية. نحن في العصور القديمة كنَّا خيراً
من ذلك. هنريك:
لقد بدأت تخرج عن طورك نوعاً ما يا أفلاطون! أفلاطون:
بالطبع أُستفَزُّ عندما يساء معاملة الجمال،
سواء عن قصد أو عن غفلة. بدون الجمال خير للمرء
أن يدفن نفسه حياً، بدون خبرة الجليل the
Sublime
يبقى المرء أشبه بالحشرة الزاحفة. هنريك:
كنتُ في الواقع أشير إلى اتجاه آخر. وأنا
أتفكَّر في خبرة هذا "النصف متعلِّم،
المعتوه"، كما تدعوه، وغيره من الناس كثير
ممَّن يرون أشياء غريبة في الطبيعة –
يختزلونها إلى مصادر اقتصادية؛ يدَّعون
أحياناً، كما فعل أحد رؤساء الولايات المتحدة
السابقين، بأنك في حال رأيت شجرة صنوبر واحدة
فقد رأيتها جميعاً – توصَّلتُ إلى أننا على
نحو ما يجب أن نكون قادرين على الحُكْم على
طيف منظورات الطبيعة بدون أن نخوِّل المعتوه
والجَشِع الحق في البتِّ في ماهية الطبيعة.
يمكننا أن نفعل ذلك بإنماء منظور جديد
للطبيعة، طريقة جديدة في النظر إليها. فبدلاً
من القول بأنها موضوع لاستغلالنا –
مقاربة أهل الاقتصاد والعلماء الفيزيائيين –
وفي حين نجتنب الأقصى الآخر، أي القول بأن
الطبيعة جزء من الذاتية subjectivity،
نستطيع، وأظننا يجب، أن نأخذ الموقف الوسط
بالقول بأن الطبيعة موضوع قصدي، بمعنى
القطع الفنية عينه. في إدراكنا للطبيعة، نضفي
سياقنا – سياقنا القصدي – للشهادة،
وما ندركه فيها ليس ببساطة ما هو موجود فيها
بل ما نستطيع أن نستنبط منها، وما نستطيع
أن نضفيه عليها. إن من شأن قدرة فعل حلِّنا
القصدي للرموز أن يجعل الطبيعة إما "كوماً
من الصخور" وإما خبرة نفيسة لا تنسى. أفلاطون:
إنك هنا تتوسَّع في فكرة مواطنك، الظواهري
رومان إنغاردن، الذي ادَّعى في كتابه الأعمال
الأدبية (أياً كان عنوانه فهو على كل حال
عمل ثاقب) أن كل الأعمال الفنية موضوعات قصدية. هنريك:
ربما كنت أتوسَّع في فكرة إنغاردن وأطبِّقها
على الطبيعة. أفلاطون:
لقد قال إنغاردن بأن لكل عمل فني عدة طبقات.
هناك الطبقة المادية – نتف الحبر الفيزيائية
الفعلية التي طُبِعت بها القصيدة، أو قطعة
الرخام الفعلية التي نُحِت فيها تمثال معيَّن.
ثم هناك الطبقة التالية، المعنى الحرفي
للكلمات ضمن قصيدة، أو الشكل المؤنث القابل
للتبيُّن الذي تصوِّره المنحوتة. وهناك أيضاً
الطبقة الرمزية، المعنى الأعمق للقصيدة، أو
من جهة أخرى، النعوت الرمزية للشكل المؤنث،
سواء مثَّل لأثينا أو لأفروديت. إن المظهر
الرمزي للعمل الفني يتعدَّى طبقاته السابقة
كلَّها. وفي هذا المظهر يأتي النشاط القصدي
الإنساني ليلعب الدور الأهم: نحن نحلُّ
قصدياً الرمزية المحتواة في المصنوعات
الفيزيائية. وهذه ماهية الثقافة – الرمزية
وكيفية لعبنا بها. أجل إن هذه المقاربة
الظواهرية للقطع الفنية صالحة تماماً لتفسير
الفن في القرن العشرين. بيد أني أقل يقيناً
مما إذا كانت تصلح بخصوص الفن الكلاسيِّ أو
التمثيلي representational.
وأنا مازلت أقل يقيناً أيضاً مما إذا كان
بالإمكان تطبيقها على الطبيعة في كلِّيتها. هنريك:
أظن أن بالإمكان ذلك وهذا هو ما يحدث فعلاً.
نحن في النهاية نتكلم على النشاط نفسه، نشاط
الذهن. كل نشاطات الذهن، بمعنى ما، قصدية.
فالعقل يضفي دوماً سياقه، مقاصده، على كل ما
يدرِك ويحل رموزه، إذ إنه يدرك ويحل الرموز
ضمن شبكته نفسها. إنه يستنبط أكثر مما يكتشف
أو يكتفي بالوصف. أفلاطون:
طيب. ولكن فلنعد إلى الطبيعة وإلى مقاربتك
الظواهرية أو القصدية لها. ألن تكون هذه
المقاربة شكلاً آخر من أشكال تسويغ
الذاتانيَّة subjectivism
والنسبويَّة؟ هنريك:
ليس حقاً، إذ إننا نستطيع أن نحلل محتوى أفعال
حلِّ الرموز هذا ونحدد بينذاتياً intersubjectively
أيَّهما فظ وبدائي وأيَّهما ليس كذلك ولماذا.
إن لبَّ الأمر ببساطة ليس في أحقِّية أي ساذج
في البت فيما هو جميل على أية حساسيات رفيعة
ومهذَّبة؛ إنه ببساطة ليس قضية تمرير كل شيء. أفلاطون:
أنت الآن تكرر بعض نظراتي المعبَّر عنها في
محاوراتي. هنريك:
ليس تماماً، يا أفلاطون، إذ إنك سلَّمت بوجود
مُثُل سرمدية ينشأ عنها كل شيء وتكمن فيها
ماهيَّات كل الأشياء. أما مقاربتي فهي تطورية.
علينا أن نعترف بأنه، مع تفتُّح التطور، على
المستويين البيولوجي والثقافي معاً، يتغير
منظورنا إلى الطبيعة. الطبيعة، بوصفها
موضوعاً لمقاصدنا، ليست معطاة لنا دفعة واحدة
في المثال أو الماهية نفسها (كما قد يخيَّل
إليك). أفعالنا القصدية لحل رموزها، بطرق
معينة وليس بطرق أخرى، مشروطة ثقافياً.
فالثقافات المختلفة تستنبط من الطبيعة مظاهر
مختلفة. وبالفعل تجد في الطبيعة أشياء لا
يتوافق بعضها مع بعض. ليس
هذا وحسب، بل إن فعل حل الرموز القصدي متجذِّر
في بنيتنا البيولوجية: لدينا استعدادات
بيولوجية محددة تجعلنا نتصل بالطبيعة بطرق
بشرية معيَّنة؛ ليس على طريقة الضفادع أو
الحمير، بل على طريقة البشر. كذلك فعل حل
الرموز القصدي متصل ببنياننا العاطفي
ومتجذِّر فيه. إن مظهراً هاماً من ثقافتنا ومن
قِوامنا العاطفي هو تجربتنا الجمالية.
والطبيعة ما فتئت مصدراً لا ينضب للإلهام
الجمالي – لأننا استطعنا أن نقرأ فيها الكثير
الكثير. بذا
فإن الطبيعة موضوع قصدي بمعانٍ عديدة: عقلي،
جمالي، عاطفي، بل وبالمعنى الصوفي أيضاً –
بوصفها رَحْم وأصل كل شيء. أجل إن بوسعنا أن
نرى أن التنوع الهائل لتصورات الإنسان عن
الطبيعة هو نتيجة نشاطاتنا القصدية
المتنوعة، النشاط الذي يستنبط من الطبيعة ما
نحن قادرون على إعمال العقل فيه. وهذا النشاط
لا ينسحب فقط على أذهاننا، بل وعلى قلوبنا
وأحشائنا أيضاً. أفلاطون:
والآن بودِّك أن تقول إن تنوع النشاطات
القصدية التي يؤديها إنسان معين ما ينبغي أن
يًحكَم عليها من حيث موقعها في التراث
الإنساني ككل ومن حيث صلتها بتلك الإنجازات
العليا التي تجعل النوع حقيقاً باسم كائنات
إنسانية. لذا سوف نجد بعض المقاربات إلى
الطبيعة تحطُّ من شأن الشرط الإنساني،
وبالتالي تحطُّ من شأن الطبيعة. وهذا ليس
بالمخطط السيء على الإطلاق، خاصة وأن الطبيعة
في أحسن تأويلاتنا لها ستكون مجاورة لأعلى
متناولات روحانية الإنسان. وأخيراً، سوف تريد
أن تقول بأن كل فعل إدراك قصدي للطبيعة (حتى
عندما نتعامل مع الإدراك "الموضوعي"
المزعوم) هو فعل إيعازي normative. هنريك:
هذا كله صحيح. إن عقلنا دائم النشاط، يعيد
البناء بلا كلل، يعاود المشاركة في الخلق.
فحتى في الأفعال الموضوعية المزعومة، يواصل
العقل القَوْلَبَة ويعيد البناء، فيقدم
الأشياء بطريقة يتفرَّد بها البشر. إذ إن
موضوعيَّتنا ليست إلا موضوعية بشرية. نحن
لا نعلم ما قد تكون عليه موضوعية الإله. ضمن
العالم الإنساني، لو لم يكن ثمة عقل، لما كانت
هناك معرفة، ولا إدراك، ولا فعل قصدي من أي
نوع؛ ولما كان هناك أي تصور أو إدراك للطبيعة.
بيد أن العقل خلق تطوري. عقل السمكة يمكنه أن
يتصور أقل عن الطبيعة (بغنى وتنوع أقل على كل
حال) من عقل القرد... الذي هو بدوره أقل شمولاً
في قدرة تصوره – بعبارة أخرى، في قدرة نشاطه
القصدي – من العقل البشري، الذي قد يصير
بدوره في المستقبل أكثر فأكثر تطوراً، إذ
نمسك بزمام تطورنا ونصير التطور واعياً ذاته،
وبذلك نكدح كدحاً واعياً لتوسيع مدى
روحانيَّتنا والمدى الكلِّي لقدراتنا
الذهنية. أفلاطون:
ها أنتذا تستشهد صديقَنا تِيَّار مرة أخرى،
بيقينه في التفتُّح المحتَّم للتطور، ألست
تفعل؟ هنريك:
بلى، هذا صحيح. وعذري الأوحد هو أني أومن أن
تأثير تِيَّار سوف ينمو بمرور الزمن. فنحن
مازلنا في مستهل فهمنا لدورنا في الإفصاح عن
التطور. أما آن الوقت الآن، يا أفلاطون، لكي
نوضح مفهوم "الإيديولوجيا" كما فعلنا
بخصوص "الطبيعة"؟ أفلاطون:
لا، فهذا سيكون مملاً ولا طائل فيه.
الإيديولوجيا شيء خبيث. قلت لك في البداية إن
الإيديولوجيا تنشأ من فساد الفلسفة. عندما
تطوِّرون نوعاً سليماً من الفلسفة، يحيط بكل
شيء ويقيت روحياً، لن تكونوا في حاجة إلى أية
إيديولوجيا. حتى هيدغر كان على غلط: الفلسفة
لم تمت. ولسوف تنهض كالعنقاء لتلهم وتقود. ذلك
أن الفلسفة هي جناحانا اللذان بدونهما لا
نستطيع إلا أن نزحف. *** *** *** *
راجع: هنريك سكوليموفسكي، فلسفة البيئة،
بترجمة ديمتري أفييرينوس وتقديم فايز فوق
العادة، سلسلة أبجدية المعرفة 5، دمشق 1992.
جدير بالذكر أن نص المهندس فايز فوق العادة
المنشور في العدد الرابع من معابر
بعنوان "معرفة... لامعرفة، حياة أو موت"
نُشِر أصلاً كمقدمة لهذا الكتاب.
|
|
|